بيان الحج لولي أمر المسلمين الإمام الخامنئي عام 1413 ﻫ ق

2008-11-18

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين والصلاة على رسوله النبي الأمين وعلى آله الميامين وأصحابه المنتجبين، والسلام على جميع عباد اللّه ‏الصالحين.

قال اللّه الحكيم:‏{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}.

شاءت الإرادة الإلهية النافذة أن تجمع المؤمنين مرة أخرى في منبثق التوحيد، ومشهد رحمة رب العالمين وفضله، وحول محور ‏كعبة القلوب، وفي ساحة قبلة أرواح المسلمين في العالم فتفوق النداء الملكوتي: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} على كل الفواصل ‏الطبيعية منها والمفتعلة المفروضة بين الأخوة المسلمين، ودفع مجاميع القلوب النابضة بالإيمان والحب والآمال المشتركة نحو مركز ‏التوحيد ووحدة الأمة. منذ سنوات طوال سعت يد الجهل والعناد إلى أن تفصل الأسرة الإسلامية الكبرى عن جذورها العقائدية، وان ‏تفصم في نفس الوقت الأواصر والروابط الإيمانية فيما بينها. ولكن فريضة الحج السنوية تؤدي دورها في تغذية الأسرة العريقة ‏الأصيلة بدرس التوحيد والوحدة... وفي كل سنة تتفتح أزاهير جديدة، تزيد عما مضي، مبشرة بعودة ربيع الإيمان، والحياة في ظل ‏الدين، والتآلف والتودد بين المسلمين... محبطة عمل الأعداء وما كانوا يأفكون. إنها لمعجزة الحج أن نرى الوشائج الفكرية ‏والعاطفية والإيمانية بين الشعوب المسلمة لمّا تنقطع أبداً وأن التفاعل بين هذه الشعوب يزداد باطراد رغم كل النزاعات والصراعات ‏التي تجابهت فيها مراراً حكومات المسلمين.

أسرار الحج ورموزه أكثر من أن يحتويها مقال، غير أن بينها ثلاث خصائص بارزة تستطيع كل عين مستقصية أن تعرفها في أول ‏نظرة:

الأولى: أنّ الحج هو الفريضة الوحيدة التي دعا رب العالمين إلى أدائها جميع أفراد المسلمين - من استطاع إليه سبيلا - من ‏جميع أرجاء العالم ومن خلوة البيوت ومحال العبادة، صوب نقطة واحدة، وفي أيامٍ معلومات، ليربط بينهم في ألوان من السعي ‏والحركة والسكون والقيام والقعود: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}

الثانية: أنّ الهدف الأسمى في هذا العمل الجماعي والعلني هو ذكر اللّه أي العمل القلبي والنفسي..

‏{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}.

الثالثة: أنّ الحج يعرض على شاشته المضيئة البينة تصويراً كاملاً لحياة الإنسان الموحِّد. وبعملٍ رمزي، يُلقِّن المسلمين درس ‏الحياة المتحركة الهادفة.

منذ ورود الميقات وحضور ساحة الإحرام والتلبية والترك حتى الطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة والوقوف في محشر ‏عرفات والمشعر وما فيه من ذكر وتضرع وتعارف، وحتى وصول منى وأضحيتها ورمي جمارها وحلقها، ثم العودة إلى الطواف ‏والسعي... يتلقى المسلم فيها جميعا دروساً واضحة بينة في الحركة الهادفة والجماعية والعارفة في ساحة التوحيد وعلى درب ‏الحياة وحول محور «اللّه» سبحانه.

الحياة في منهج الحج سير دائم بل صيرورة مستمرة نحو اللّه، والحج هو الدرس العملي الحي البنّاء الذي إن وعيناه يرسم لنا ‏طريق حياتنا في صورة عملية مشرقة.

ميعاد جماعي ينعقد كل عام كي يتعلم المسلمون في ذلك الجو المفعم بالوحدة والتفاهم، وفي ظلال الذكر الإلهي، درب الحياة ‏واتجاهها، ثم يعودون إلى أصقاعهم وأهلهم. وفي الأعوام التالية تَقدُم مجموعات أخرى وتعود، وتتعلم وتتزود، وتتكلم وتعمل، ‏وتسمع وتتدبر، لتصل الأمة جميعا في النهاية إلى ما أراده اللّه وعلمَّه الدين...

تطلع الفرد المسلم إلى ساحة حياة الأمة الإسلامية بكل ما فيها من عظمة تطلعاً يتسامى على القوميات والعنصريات والقبليات ‏والإقليميات، وتطلعه إلى أعماق وجوده، وتلقنه طريق الحياة واتجاهها وأسلوبها على نحو يليق بكرامته، كل ذلك يفعله في ظل ‏ذكر اللّه .

وهذا هو ينبوع المعرفة الذي يغدق كل عام في موسم الحج بعطائه الفياض الأبدي على الجموع البشرية المحتشدة في حرم ‏الآمن الإلهي، وكل من فتح وعاء ذهنه وقلبه فهو من زلال المعرفة هذا في ارتواء.

ثمة مساعٍ بذلت في الماضي وتبذل اليوم أيضاً لإضفاء الطابع الفردي على فريضة الحج أي أن كل حاج يعكف على عبادته وتضرعه ‏إلى اللّه سبحانه. دعونا عن أولئك الغافلين الذين يرون الحج تجارة وسفر سياحة، الحج بخصائصه البارزة التي لا تحتويها مجتمعة ‏أية فريضة إسلامية أخرى أسمى بكثير من هذا الفهم الضيق وهذه النظرة القاتمة الخاطئة.

أكبر شخصية - في عصرنا - أماطت ستار الأوهام عن الحج وأوضحت أسراره لدى جمع عظيم من المسلمين على المستوى ‏النظري والعملي إمامنا الراحل الكبير فقد رفع نداء الحج الإبراهيمي ودعا الخلق إلى هذا الحج، وابلغ أسماع الخافقين مرة أخرى ‏دعوة: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}.

الحج الإبراهيمي هو نفسه الحج المحمدي الذي تحتل فيه الحركة نحو التوحيد والاتحاد مكان الروح والصدارة في كل المناسك ‏والشعائر.

إنه حج يفيض بالبركة والهداية على الأمة الواحدة ويشكِّل دعامتها الأصلية في حياتها ونهوضها اللّه حج مفعم بالمنافع وطافح بذكر ‏اللّه.. حج تتحسس فيه الشعوب المسلمة بوجود الأمة المحمدية الكبرى وبإنتمائها إلى هذه الأمة، وتستشعر الشعوب روح الإخوة ‏والتقارب بينها فتنجو من كل إحساس بالضعف والعجز والخور والهزيمة.

الحج الإبراهيمي هو الذي فيه يتحرك المسلمون من التفرقة إلى التجمع ويطوفون حول الكعبة.. مبنى التوحيد الخالد ورمز البراءة ‏والنفرة من الشرك والوثنية.. عن معرفةٍ بمعناها الرمزي، ويصلون من ظاهر المناسك وهيكلها إلى باطنها وروحها، ويتزودون منها ‏لحياتهم وحياة امة الإسلام.

وها أنا ذا اغتنم فرصة التدبر في مناسك الحج، مؤملاً رحمة اللّه وهدايته وداعياً لكم أيها الأخوة والأخوات من جميع أرجاء العالم ‏الإسلامي، أن يكون حجكم مقبولاً معطاءً، مذكراً إياكم بأمور يعود الانتباه إليها بالنفع على كل أفراد المسلمين:

الموضوع الأول يرتبط بالتوحيد الذي يشكل روح الحج الأساسية ومضمون كثير من أعماله ومناسكه.

والتوحيد بمفهومه القرآني العميق يعني التوجه والحركة نحو اللّه ورفض الأصنام والقوى الشيطانية، أخطر هذه القوى في داخل ‏وجود الكائن البشري هي النفس الأمارة والأهواء المضللة الدنيئة.

وعلى ساحة المجتمع والعالم هي تلك القوى الإستكبارية المشاغبة المفسدة المسيطرة اليوم على حياة المسلمين والمهيمنة ‏بسياستها على جسم وروح كثير من الشعوب الإسلامية بأساليبها الشيطانية، مراسم البراءة في الحج إنما هي إعلان البراءة من ‏هذه القوى، كل عينٍ بصيرة ونظرة معتبرة تستطيع أن تشاهد في حياة المجتمعات الإسلامية مظاهر تسلط تلك القوى أو سعيها ‏للسيطرة على البلدان الإسلامية. في بعض هذه البلدان تخضع السياسية والاقتصاد والعلاقات الدولية والمواقف تجاه حوادث العالم ‏لتأثير القوى السلطوية وعلى رأسها أمريكا وتتماشى معها. استشراء الفساد وإسباغ الصفة الرسمية على الفحشاء والمحرمات ‏الشرعية في كثير من هذه البلدان إنما هو بتأثير ما تمارسه تلك القوى من سياسات شيطانية، الواجب الذي يفرضه الحج ‏ومناسكه وشعائره التوحيدية على المسلم الحاج هو إعلان البراءة من هذه كلها.. وهذه أول خطوة على طريق تجسيد الإرادة ‏الإسلامية في دحر هذه الظاهرة الشيطانية وإحلال حاكمية الإسلام والتوحيد في جميع المجتمعات الإسلامية.

الموضوع التالي يرتبط باتحاد المسلمين وتوحدهم، وهو ما يشكِّل مضموناً بارزاً آخر في مناسك الحج، منذ أن دخل الاستعمار ‏الأوربي في البلدان الإسلامية كانت التفرقة بين المسلمين من المبادئ الحتمية في سياسة المستعمرين.. متوسلين بسلاح ‏الطائفية تارة وبالنعرات الإقليمية والقومية تارة، وبغيرها أحياناً. ومع كل نداءات المصحلين ودعاة الوحدة، فإن مُدية الأعداء هذه لا ‏تزال تُنزل بجسد الأمة الإسلامية مع الأسف بعض الضربات والجراحات. أثارة الاختلافات بين الشيعة والسنة، والعرب والعجم، ‏والآسيويين والأفارقة، وتضخيم القوميات العربية والطورانية والفارسية - وان ابتدأت على يد الأجانب - فهي اليوم تستمر مع الأسف ‏على يد أفراد من بيننا يُعبِّدون طريق العدو عن سوء فهم أو عن عمالةٍ للأجانب. هذا الانحراف يبلغ من الفظاعة أحياناً أنّ تُنفق ‏بعض حكومات المسلمين أموالاً للتفريق بين المذاهب الإسلامية أو الشعوب والأقوام المسلمة، أو أن يُعلن بعض أنصاف العلماء ‏بصراحة فتوى تكفير بعض الفرق الإسلامية ذات الماضي الوضيء في التاريخ الإسلامي. يجدر بالشعوب المسلمة أن تتعرف ‏الدوافع الخبيثة لهذه الأعمال؟ وأن ترى الأيدي التي رواءها .. يد الشيطان الأكبر وأيدي أذنابه، وان تتصدى لفضح الخائنين.

المسألة الهامة التي تستحق أن يتفهمها المسلمون وان يستشعروا مسؤولية مواجهتها هي ما يشهدة العالم اليوم في ‏جميع أرجائه تقريباً من هجمة تآمرية تشنها القوى الاستكبارية على الإسلام والمسلمين. هذه الهجمة ـ وان لم تكن بجديدة ‏وكان لها جذور معروفة في تاريخ الاستعمار الأوروبي ـ فإنه يمكن القول أن أساليبها المتنوعة، وصراحتها، وقسوتها الفظيعة في ‏بعض المواضع لم سيبق لها نظير، بل هي من ظواهر هذا العصر. لو ألقينا نظره على الأوضاع الراهنة للعالم الإسلامي لتبين لنا ‏سبب هذه الظاهرة أعني ظاهرة تصاعد الهجمة على الإسلام وصراحة الهجوم. السبب ليس إلا يقظة المسلمين. في الواقع أنّ ‏المسلمين في العقد الأخير أو العقدين الأخيرين بدؤوا بنهضة حقيقية عميقة في شرق العالم الإسلامي وغربه بل حتى في البلاد ‏غير الإسلامية وأجدر أن نسيمها نهضة «تجديد حياة الإسلام».

ها هو ذا جيل الشباب المتعلم المتحلي بمعارف العصر لم ينس إسلامه كما كان يتوقع المستعمرون بالأمس والمستكبرون اليوم ‏بل بالعكس من ذلك أتجه إلى الإسلام بإيمان متوقد، مستفيداً من تطور المعارف البشرية ليصبح أكثر نضجاً وعمقاً باحثا عن ضالته ‏في هذا الدين.

قيام الجمهورية الإسلامية في إيران وازديادها باستمرار استقراراً وثباتاً واقتدار يمثِّل قمة هذه النهضة الفتية العريقة، وكان له ‏بنفسه أكبر الدور في توسيع نطاق صحوة المسلمين.

هذا هو الذي يدفع بجبهة الاستكبار العالمية، التي كانت تتحاشى دائما أن تتظاهر بمحاربة عقائد الشعوب ومقدساتها، إلى أن ‏تعلن الحرب على الإسلام، بكل السبل الممكنة، بل وبالقسوة والفظاظة أحياناً. في أمريكا والبلدان الأوروبية نرى رؤساء ‏وسياسيين كباراً عديدين صرحوا لمرة واحدة على الأقل بأنّ اتساع الإيمان الإسلامي يشكل خطراً كبيراً وأكدوا على ضرورة ‏محاربته كما ازداد اتجاه عامة الشباب المسلم إلى الإيمان والعمل الإسلامي اتساعاً ازدادت هذه التصريحات الدالة على الاضطراب ‏والعداء وضوحاً، وبلغ الأمر أنّ رؤساء وساسة بعض البلدان الإسلامية الذين كانوا يخفون دائماً عنادهم للإسلام تحت غطاء من ‏النفاق هم أيضاً قد احتذوا بأسيادهم الأمريكان والأوروبيين فراحوا يتحدثون علناً وصراحة عن خطر الإسلام، وخطر الإيمان المقدَّس ‏للشعب الذي يحكمونه.

محاربة الصحوة الإسلامية على الصعيد العالمي لها أشكال عديدة؛ ففي الجزائر تدلي الأكثرية الساحقة من الجماهير في انتخابات ‏حرة وديمقراطية تماماً برأيها لصالح الجبهة الإسلامية فيأتي انقلاب فظ يلغي الانتخابات ويلقي المنتخبين في السجون ويقمع ‏الجماهير. وعندها تتنفس الصعداء القوى المستكبرة الأمريكية والأوروبية معلنة دعمها الكامل للانقلابين مصرحةً بدورها التآمري. ‏في السودان تصل الجماعات الإسلامية بدعم الجماهير إلى سدة الحكم، فيبدأ الغرب بألوان الاستفزاز مهدداً هذا البلد من داخل ‏حدوده وخارجها باستمرار. وفي فلسطين ولبنان يُقمع الفلسطينيون المسلمون على يد الصهاينة الغاصبين بأبشع وجه، ويُنزل بهم ‏أشد ألوان العذاب، وفي الوقت ذاته تغدق أمريكا مساعداتها على أولئك القتلة الوحشيين الجلادين وتتهم أولئك المسلمين ‏المظلومين أو مدافعيهم اللبنانيين بأنهم إرهابيون. في جنوب العراق حيث انتهج قطاع كبير من الشعب العراقي الجهاد ضد النظام ‏البعثي بدوافع وشعارات إسلامية، يتعرض من قبل ذلك النظام لأبشع هجوم، والدوائر الأمريكية والغربية التي بيَّنت بوضوح دوافعها ‏في اتخاذ موقف مقتدر تجاه صدام في قضايا أخرى، تظهر هنا ساكتة سكوتاً ينم عن الرضا والتشجيع. وفي كشمير والهند، يعتدي ‏الهندوس عن تعصب أعمى جاهل والاستفادة من تجاهل الحكومة وأحياناً مساعدتها، على أعراض المسلمين وأرواحهم ‏ومقدساتهم فلا يرون من أمريكا والغرب إلاّ عدم الاكتراث وابتسامة اللامبالاة. في مصر يتعرض طلائع المثقفين المسلمين لمطاردةٍ ‏وحشية حاقدة من قبل النظام الفاسد، العديم الكفاءة، الحاكم في ذلك البلد والحكومة الذيلية الحقيرة المسيطرة على ذلك البلد ‏الكبير تحظى بتشجيع أميركي على الصعيدين المالي والأمني. وفي طاجيكستان تتعرض أكثرية الجماهير المسلمة المتطلعة إلى ‏حياة إسلامية لقمع حثالات النظام الشيوعي بشدة، فيتشرد جمع غفير منهم من بيته ومأواه، والغرب بكل هواجسه من عودة ‏الشيوعيين في الاتحاد السوفيتي السابق، يغتنم حركة هؤلاء ويقف مقارنا بين الإسلام والشيوعية. ويتخذ علناً جانب أعداء ‏الإسلام. في أمريكا وأوربا يتعرض المسلمون والجماعات الإسلامية للإهانات والتُهم، وُتحظر في مواضع مظاهر الالتزام الإسلامي ‏كحجاب النساء. إهانة الإسلام إهانةً سافرة في قالب كتاب محظور وبقلم كاتب مهدور الدم تلقَّى دعماً عليناً من زعماء الأنظمة ‏الأوروبية بل ويعمد النظام البريطاني متمثلا في زعيمه السييء السمعة ذي الملف الأسود إلى الاجتماع بذلك الكتاب الأجير ‏التافه.

وأفظع من ذلك كله مأساة إبادة المسلمين في البوسنة، بشكل لم يسبق له نظير. أكثر من عام والصرب العنصريون ـ وبالتعاون ‏مع الكرواتيين أخيراً يرتكبون أبشع وأفظع ألوان القتل والظلم والقسوة ضد المسلمين وهم أصحاب البوسنة والهرسك والأصليون ‏والغرب وأمريكا لم يمدوا إليهم يد المساعدة ولم يحولوا دون جرائم الصرب.

وليس هذا فحسب، بل إنهم بالاستفادة من إمكانات ‏مجلس الأمن يحولون دون وصول السلاح إلى المسلمين المظلومين، ثم أطبقوا عليهم الحصار بإرسال قوات الأمم المتحدة. على ‏المسلمين اليوم وفي المستقبل أن يعلموا أنّ أمريكا والدول الأوروبية الكبرى مقصِّرة ومسؤولة مباشرة في مأساة البوسنة. فيما ‏مضى عام من المذابح أطلِق ركام من الكلام الفارغ وأعطيت الوعود الكذبة، ولكن لم يحولوا دون مقتل واحد من آلاف من قتل ظلماً ‏من أهل تلك الديار، وأكثر من ذلك فقد مانعوا من أن يتزود هؤلاء بقدرة على الدفاع.

هذه صورة مقتضبة عن عداء الغرب وأمريكا للإسلام والمسلمين في عصرنا.

لا الاستعطاف ولا الاستسلام ولا المحادثات ولا أي طريق من الطرق التي يقترحها البعض عن بساطة على المسلمين تستطيع أن ‏تعالج الداء وتنقذ المسلمين العلاج يكمن في شيء واحد دون غيره: اتحاد المسلمين. والتمسك بالإسلام وقيمه ومبادئه، ‏والمقاومة أمام الضغوط وتضييق الساحة - في المدى البعيد - على الأعداء.

والعالم الإسلامي اليوم ينظر بعين الأمل إلى الشباب الغيارى المعبئين في جميع أرجاء العالم الإسلامي ليدافعوا عن كيان ‏الإسلام ويؤدوا دورهم التاريخي.

المسألة الهامة الأخرى التي تقتضي التأكد عليها، هي أنّ الاستكبار بكل تدابيره الشيطانية وبكل ما توسل به من قوة ‏والأعيب سياسية ودعاوات كاذبة لم يستطع، ولن يستطيع أبداً، أن يصدَّ تيار الصحوة الإسلامية المتنامي وحركة التوجه إلى ‏الإسلام، ما بذلته أمريكا وبقية الدول المستكبرة وعملائها المحليين من نشاط في مختلف الجوانب السياسية والأمنية وأكثر من ‏ذلك الإعلامية، ضد النهضة الإسلامية في البلدان المختلفة، ومن ذلك ضد النظام المقدس في الجمهورية الإسلامية في إيران، ‏خلال الأعوام الأخيرة، كان واسعا جداً لم يسبق له نظير. وفي هذا الخصم أدى النظام الصهيوني، كذيل أمريكا في المنطقة، دوره ‏كما كان متوقعا على أدنى مستويات الرذالة والخباثة، المحاسبات المادية العادية تقتضي أن تضعف النهضة الإسلامية في البلدان ‏الإسلامية أو تُقتلع من جذورها نتيجة هذه المساعي الواسعة المبذولة بدافعٍ استكباري وعن غضب وعناد. ولكن الأمر على ‏العكس من ذلك تماماً، فالكل يشهد أنّ هذه النهضة تزداد سعة وعمقاً باستمرار. يمكن وضع الإصبع الآن على العديد من البلدان ‏الإسلامية التي لو جرت فيها انتخابات كالتي جرت قبل عامين في الجزائر فإنّ الأحزاب أو العاملين الإسلاميين فيها سينالون أكثرية ‏آراء الجماهير، مع أنّ نشاط الجماعات الإسلامية محظور سياسياً وإعلامياً في أكثر هذه البلدان. في هذه السنوات بالذات نرى ‏داخل الأرض الفلسطينية المغتصبة تصاعد نضال الجماهير بشعارات إسلامية ومن مراكز المساجد، وهو يُضيِّق الخناق على ‏الصهاينة. في هذه السنوات بالذات نرى الجماعات المناضلة الإسلامية في لبنان تحقق نجاحاً باهراً حتى في الانتخابات البرلمانية ‏وكسب المواقع الشعبية. وفي هذه الفترة الزمنية ذاتها نرى الجمهورية الإسلامية، التي كان يتوقع بعض عن سذاجة أنها تصل إلى ‏طريق مسدود أو تتراجع عن مبادئها وأهدافها، تحث الخطى بسرعة أكثر من المتوقع نحو الأمام مع الإصرار على الالتزام التام ‏بمبادئها الثورية.

أتقدم إلى كل الإخوة والأخوات من أبناء الأمة الإسلامية في كل مكان مؤكدا أنّ خطة العدو الكبرى تقتضي بث اليأس وزرع التشاؤم بينكم تجاه المستقبل. ويكفي أن لا يدع أي مسلم واع لليأس طريقاً إلى قلبه، لا شيء يسمح لنا بالركون إلى اليأس. لو أنّ ‏العدو كان قادراً على إبادة هذه الحركة الإلهية لاستطاع على الأقل أن يحول دون تناميها. وكلكم ترون أنه لم يستطع ذلك. السنن ‏الإلهية والحقائق الملموسة الخارجية تبشِّر بغد مشرق للنهضة الإسلامية الحديثة. والقرآن يكرر مراراً: "والعاقبة للمتقين"

الإعلام الحديث ذو التغطية العالمية، هو دون شك أمضى أسلحة الاستكبار، عدد مراكز البث الصوتي والتصويري والصحفي ‏التي تكرس أكثر جهد لمعاداة الإسلام كثير، ويزداد باطراد. ثمة خبراء إجراء منهمكون فقط في تدبيج التعليقات والأخبار والتحليلات ‏من اجل تضليل أذهان مستمعيهم وإعطاء صورة محرَّفة ممسوخة عن النهضة الإسلامية والشخصيات الإسلامية الكبرى، ‏والجمهورية الإسلامية خلال الأعوام التي تلت انتصار الثورة الإسلامية حتى يومنا هذا تواجه باستمرار وبشكل متزايد مثل هذا ‏الإعلام المعادي. ولا بد من القول أنّ هذه الخطة التي اختطها العدو مقابل الحركة الإسلامية الأصيلة المنطلقة من الفطرة والحاجة ‏الإنسانية لم تحظ بكثير من النجاح ولم تحقق ما استهدفه العدو. ولا أدل على ذلك من تنامي أمواج الدعوة الثورية التي أطلقها ‏الإمام الراحل العظيم في أرجاء العالم الإسلامي، وانتشار فكره واسمه وتعاليمه وصورته ومعالمه في شرق العالم وغربه، رغم ‏كل الإعلام الكاذب والقول الباطل الذي أطلق ونُشِر للإساءة إلى هذا الوارث للأنبياء بشخصيته الملكوتية. ومع هذا لا بد من الإذعان ‏إلى أنّ العامل العام في حفظ سلامة الشعوب المسلمة وسداد فكرها هو ما ينهض به العلماء والمثقفون والكتَّاب والفنانون ‏والشباب العامل والواعي من نشاط في حقل التوعية. وفي هذا المجال يتحمل الجميع وخاصة علماء الدين الملتزمون مسؤوليات ‏كبري. العدو بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران حتى اليوم ألقى قائمة من الاتهامات على إيران الإسلام. ونرى توجيه نفس هذه ‏التهم اليوم لكل النهضات الإسلامية في جميع بقاع العالم.. تهمة التعصب والجمود الفكري التي يطلقون عليها اسم «الأصولية»... ‏تهمته الإرهاب.. تهمة نقص حقوق الإنسان... تهمة معادة الديمقراطية.. تهمة إهمال حقوق المرأة.. تهمة معادة السلام والنزوع ‏إلى الحرب.. وقليل من الإنصاف يكفي لأن يتضح لكل شخص كذب هذه التهم ووقاحة من يطلقها. إيران الإسلام تُتهم بمعارضة ‏الديمقراطية بينما هي بعد خمسين يوما على انتصار الثورة الإسلامية الكبرى وحتى أربعة عشر شهراً من ذلك التاريخ أجرت ‏استفتاءين شعبين عامين اختار الشعب في احدهما الجمهورية الإسلامية ونظاماً سياسياً لبلده، وفي الثاني صوت للدستور، كما ‏جرت ثلاثة انتخابات، انتخب الشعب فيها على الترتيب أعضاء مجلس الخبراء لتدوين الدستور ورئيس الجمهورية أعضاء مجلس ‏الشورى الإسلامي، والانتخابات الحرة تجري حتى اليوم باستمرار باشتراكٍ حماسي جماهيري لتعيين رئيس الجمهورية وأعضاء ‏المجلس في الموعد القانوني المقرر. وتهمة الإرهاب يطلقها على إيران الإسلام من تنال منهم الحكومة الإرهابية الصهيونية أكثر ‏الدعم، ومن احتضنوا في كنف حمايتهم المجموعات الإرهابية الإيرانية المعادية للثورة، ومن عمد أجراؤهم داخل إيران الإسلام مئات ‏المرات إلى تفجير القنابل وقتل الآلاف من الناس العاديين والعناصر الثورية والرجال والنساء والأطفال الأبرياء.

معادة السلام ينسبها إلى الجمهورية الإسلامية من فرضوا على إيران ثمانية أعوام من الحرب بتشجيعهم النظام العراقي ودفعه، ‏مغدقين على ذلك النظام، الذي كان نظامهم المحبوب بسبب هجومه على إيران الإسلام، ألوان الدعم والمساعدات.

تهمة غمط حقوق المرأة يطلقها من لا يستسيغ أن يرى مكانة المرأة الإيرانية السامية حيث تشارك في أرقى نشاطات البلد مع ‏حفظ حجابها وحدِّها الشرعي، ويرون أنّ الوصفة المطلوبة لحياة المرأة الاجتماعية تنحصر في الابتذال المهيمن على علاقة المرأة ‏والرجل والاستثمار البشع للمرأة في المجتمعات الغربية.

تهمة نقض حقوق الإنسان تطلقها على إيران أنظمة ترتكب أفظع الانتهاكات وأكبرها بشأن حقوق الإنسان أو تمهِّد لارتكابها. هل ‏نُقِضت حقوق الإنسان في العالم الحديث كما نُقضِت في البوسنة؟ أليس نقض حقوق شعب بكامله مثل الشعب الفلسطيني ‏نقضاً لحقوق الإنسان؟ التهجير الجماعي لأكثر من أربعمائة مواطن فلسطيني من أرضهم وبيتهم ووطنهم أمام مرأى ومسمع ‏العالم الذي يدعي الدفاع عن حقوق الإنسان، كيف اعتبر قضية يمكن غض الطرف عنها؟ . إسقاط طائرة مدنية إيرانية بيد أمريكا ‏في سماء الخليج الفارسي، ظلم السود الأمريكيين، دعم الانقلاب في الجزائر، دعم النظام الفاسد المصري، الإحراق الجماعي ‏لمجموعة من الأمريكيين. أليست هذه وأمثالها استهانة بحرمة الإنسانية ونقض حقوقها؟. هل هذه الحكومات، التي تنتهك حقوق ‏الإنسان صراحة أو تنظر إلى المنتهكين ببرود ولا مبالاة بل بعين الرضا والتشجيع أحياناً، هي مستاءة حقاً مما تدعي أنه نقض ‏لحقوق الإنسان في إيران الإسلام؟. الحقيقة أنّ هؤلاء الذين يطقون التهم، ومن متزعميهم أميركا التي افتعلت أخيراً ضجة جديدة ‏مستندة إلى هذا السلاح الإعلامي المتصدي المتهرئ، يعلمون جيداً أنهم يطلقون كلامهم جزافا. إنّ الذي لا يستسيغونه من ‏الجمهورية الإسلامية ليس هذا، بل هو شيء آخر تقتضي مصلحتهم السياسية أن لا يعلنوه صراحةً، وان كانت تصريحات منظريهم ‏وكتابهم تنم لدى التدقيق عن ذلك.

في نظام الجمهورية الإسلامية ما يثير سخط أميركا وكل مستكبر آخر هو:

الأول - عدم انفصال الدين عن السياسة والأساس الإسلامي لنظام الجمهورية الإسلامية.

الثاني - الاستقلال السياسي لهذا النظام أي عدم استسلامه أمام التعنت المعروف لدى القوى الكبرى.

الثالث - إعلان طريق مشخص لحل مسألة فلسطين من قبل الجمهورية الإسلامية يتمثل في انحلال النظام الصهيوني الغاصب ‏وإقامة دولة فلسطين من الفلسطينيين أنفسهم والتعايش السلمي بين المسلمين والمسيحيين واليهود في فلسطين.

الرابع - الدعم المعنوي والسياسي لكل النهضات الإسلامية وإدانة كل إساءة إلى المسلمين في أية بقعة من العالم.

الخامس - الدفاع عن كرامة الإسلام والقرآن والنبي الأعظم صلى اللّه عليه وآله وسائر الأنبياء ومواجهة مؤامرة نشر الإهانه بهذه ‏المقدسات نظير ما حدث بشأن كاتب الآيات الشيطانية المهدور الدم.

السادس - السعي لإتحاد الأمة الإسلامية وإقامة التعاون السياسي والاقتصادي بين الحكومات والبلدان الإسلامية والتحرك على ‏طريق ترسيخ اقتدار الشعوب المسلمة في إطار الأمة الإسلامية الكبرى.

السابع - رفض الثقافة الغربية المفروضة التي تسعى الحكومات الغربية عن تعصب وطني نظراً إلى إجبار كل شعوب العالم على ‏قبولها والإصرار على إحياء الثقافة الإسلامية في البلدان الإسلامية.

الثامن - مكافحة الفساد والتحلل الجنسي الذي اعترفت بعض ‏البلدان الغربية وخاصة أمريكا وبريطانيا أخيراً سيماً بأبشع ألوان انحرافه بكل وقاحة أو هي عازمة على هذا الاعتراف، والذي تخطط ‏وتسعي هذه البلدان منذ عشرات السنين إلى إدخال أشكال هذا الفساد إلى البلدان الإسلامية.

هذه هي التي تدفع أمريكا وبطانتها إلى عداء حاقد للجمهورية الإسلامية.

من الواضح أنّ هؤلاء لو أعلنوا صراحة سبب عدائهم وكشفوا عن سبب أحقادهم لزادوا من علو مكانة الجمهورية الإسلامية في ‏أنظار الشعوب الإسلامية التي تعشق هذه المبادئ. ومن هنا فإن هؤلاء في إعلامهم يتهمون إيران من جهة بأنها إرهابية وأمثال ‏ذلك، ومن جهة أخرى يوحون في تحليلاتهم الكاذبة وأخبارهم المختلقة بأنّ الجمهورية الإسلامية وكأنها قد تخلت عن مبادئها ‏واستسلمت لإرادة الأعداء.

كلا هاتين الفريتين ناشئتان عن طبيعة الاستكبار الماكرة. مبادئ الجمهورية الإسلامية التي هي ذاتها طريق الإمام والمبادئ ‏الإسلامية معتبرة في إيران الإسلام رغم انف الأعداء وتشكِّل أساس حياتنا السياسية والاجتماعية. حكومة إيران وشعبها حققوا ‏إقامة الحياة في ظل الإسلام الخالص المحمدي - صلى اللّه عليه وآله - بالتضحية وبذل اعز الأرواح، وسوف لا يتخلون عنها في أي ‏ظرف من الظروف. ومبادئ الإمام الخميني - رضوان اللّه تعالى عليه - وعلى رأسها مبدأ عدم انفصال الدين عن السياسة ‏والمقاومة أمام الضغوط المادية الحديثة لعزل الإسلام والقرآن سوف تبقى - بإذن اللّه - الأصول النابضة بالحياة المستمرة في ‏الجمهورية الإسلامية.

في الخاتمة أتقدم بتوصية الحجاج الأعزاء أن يغتنموا فرصة الحج أكثر ما يمكن للتعرف على أخوتهم للمسلمين وأوضاع العالم ‏الإسلامي من خلال أقوال المسلمين وأفعالهم، وان يتبادلوا التجارب والآمال والمنجزات والمهارات، وان يُقرِّبوا حجهم أكثر فأكثر من ‏الحج الذي أراده الإسلام. وأوصي إخواني وأخواتي من الإيرانيين الأعزاء أن يكونوا بلسانهم وعملهم دعاة ورسل ثورتهم العظمى ‏وبلدهم الكبيرة وشعبهم المقدام إلى إخوتهم من أبناء البلدان الأخرى. أوصيهم أن يغتنموا ويستثمروا فرصة المجاورة القصيرة لبيت ‏اللّه وحرم النبي الأعظم (صلى اللّه عليه وآله وسلم) مواقف الحج القيِّمة وأرض الحجاز المليئة بالذكرى لإحياء قلوبهم بذكر اللّه ‏ولتوثيق ارتباطهم المعنوي برسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله) وعترته الأطهار (عليهم السلام) وخاصة التوجه والتوسل بحضرة ولي اللّه ‏الأعظم الذي يشمل فيض حضوره المقدس في موسم الحج دون شك القلوب العامرة بالمعرفة، وللأنس بالقرآن وتدبر آياته البينات، ‏والدعاء والتضرع والتوسل وهو ما يقرب الفرد من اللّه سبحانه. وليدعوا اللّه سبحانه أن يزيل مشاكل المسلمين ويزيد في قوة ‏وعزة الإسلام والجمهورية الإسلامية، ويعلى درجات روح الإمام الراحل وأرواح الشهداء الأبرار.

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته

على الحسيني الخامنئي

‏24ذي القعدة 1413هـ.ق