إنكسار الشمس... مشهد من رحيل الإمام

2007-08-23

المؤلف: نسرين إدريس

جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

كانت إيران في الماضي تحتل نفس الموقع الجغرافي،  وكان لديها ذات الفقه والقرآن ونهج البلاغة، غير أننا في الواقع لم نملك شيئاً حتى إذا ظهر الإمام ونزل إلى ميدان الوجود اكتسبت الأشياء من حوله ماهيتها فإذا هو كالشمس يغمر الأشياء بالنور فتظهر جلية وإذا هو كالروح تدب في الجسد الخاوي فتهبه الحياة والحركة.

الإمام الخامنئي (دام ظله الوارف) 

لم تكن شرائط الشمس الذهبية في ذلك اليوم من حزيران لتمحو لمحة الحزن عن وجه الدنيا،  ولم يكن دفء حرارتها ليذيب مساحات الجليد التي بدأت تمتد في قلوب ما عادت تشعر إلا بطعم المرارة والفراق..

أجل.. لقد رحل الإمام الخميني...

فجأة امتطى صهوة الغياب ورحل عن هذه الدنيا بصمت ضج في نفوسنا باللوعة والأسى..

استيقظت وأختي زهراء باكراً في صباح ذلك اليوم، وبدأت أهيئ نفسي للذهاب وأصدقائي إلى مهرجان ´´وداع الإمام ´´.

وبينما أنا أسرح شعري، وقع بصري على صورة للإمام كتب عليها: "إنني أقدّم تعازي إليكم أنتم الأطفال الذين فقدتم من ظلم المجرمين آباءكم، ونحن نشارككم مآسيكم..´´ فانحدرت دمعة على خد ي وأدرت ناظري نحو صورة والد ي الشهيد..

عندما استشهد أبي خلال عملية للمقاومة الإسلامية على أحد مواقع العدو الإسرائيلي،  كان الناس غارقين في السعي وراء لقمة العيش والهرب من القذائف والحرمان، ولم نكن نعني لهذا المجتمع سوى أطفال أيتام لأبطال قدموا أرواحهم فداء لهذا الوطن،  كنا منسيين إلا من نظرات الشفقة التي يرمقنا بها الناس فيزيد ون جرحنا اتساع.. وان كان الحرمان المادي قد امتد على أعتاب بيتنا، إلا أن أصعب ما يمكن أن يشعر به الطفل هو غياب أبيه عنه. كنا نحتاج إلى يد تهدئ من روعنا. إلى من يؤازرنا في المحن التي تجتاح أيامنا.. إلى أن كانت ليلة شتاء باردة.  طرق باب بيتنا في وقت كنت ووالدتي وأختي الصغيرة نتدفأ على بقايا جمر ينازع الرماد. ودخل علينا بعد استئذان أطفال. كانوا يحملون هدايا كتب عليها : ´´هدية الإمام الخميني´´. فاستغربنا الأمر بادئ ذي بدء. إلا أنه ومع تكرار هذه الزيارة المرفقة بالخطابات والرسائل من الإمام الخميني إلى المستضعفين. هدأت قلوبنا الوجلة. وارتاحت النفس لأنه في مكان ما في هذا العالم. ثمة من يسأل عنا ويكترث لمعاناتنا مع الفراغ الكبير في غياب الأب... في هذا المكان المليء بالظلم والاضطهاد.. وفي زمن الفقر والحرمان. زرع الإمام الخميني بذرة التالف والحب بين المستضعفين. حتى أصبحوا أسرة واحدة..  أسرة متماسكة كان له الفضل في تضميد جراحاتها.

كان ذلك المشهد الأول لتعرفي إلى الإمام الخميني ومع مرور الأيام كانت صورته تتضح لي أكثر فأكثر، وان كان للقيادة الانعكاس القوي في حياته، فإن بقاءه قريباً من هموم الشعب واحتياجاتهم، صورا للعالم أجمع ميزة هذا الرجل العظيم، (وقد أولى الأطفال الذين كان يخاطبهم دوماً بـ "الأعزاء"، أهمية كبيرة وأوصى بهم المجتمع، وشدد على أنهم أمان الله في الأرض التي يجب الحفاظ عليها)..

 بلال: هل انتهيت ؟حان وقت الانطلاق...

جاءني صوت أمي ليوقظني من استغراقي بالتفكير في الإمام. نظرت إلى الساعة فعرفت أنه يجب أن نسرع الخطى لنصل إلى مكان التجمع للانطلاق إلى الاحتفال... - أجل يا أمي. أنا آت.. أمسكت بيد أختي، وكانت ترتد ي جلبابا اسودا صغيرا عُلقت على كتفه الأيسر صورة صغيرة للإمام، وقبل أن اخرج سألت أمي - هل ذهب الإمام إلى حيث سكن والدي يا أماه؟

- أجل يا عزيزي

- إذن فإنه لن يعود أبداً

نكَّسَت رأسها، وحاولت أن تخفف عني:

- إن من يذهب الى الجنة يا بلال، يطيب له البقاء هناك، ولا يعود أبداً،  بل ينتظر أن يذهب إليه أحباؤه، لهذا علينا أن نطيع الله ونصبر على البلاء حتى يأتي اليوم الذي نجتمع فيه مع والدي، والآن عليكما الإسراع وإلا تأخرتما، وليمسك الواحد منكما بيد الآخر، وانتبها لنفسيكما.. ثم طبعت على جبهة كل واحد منا قبلة مليئة بالحنان والحب.. بينما كنا نسير، أنا وزهراء، على جانبي الطريق التي ملئت بالرايات السود والكلمات التي تنعى الإمام، التقينا بـ "أحمد" و"علي"، وهما توأمان ولدا بعد استشهاد والدهما بشهر واحد، سلمنا عليهما وترافقنا إلى، أن وصلنا إلى مكان التجمع، وهناك وجدنا الجميع يرتدون الثياب السوداء، ويحملون صور الإمام، ولست أبالغ في القول : إنه كان من أكثر المشاهد تأثيرا في حياتي، فإن رحيل الإمام ترك في نفوسنا فراغا لا يمكن لأحد أن يسده..

صعدنا جميعا إلى الحافلة، ورافقنا "الحاج مالك" أحد الأخوة المجاهدين، بينما التحق الأخوة الآخرون بالحافلات الأخرى، وما أن بدأ المسير حتى علت الأصوات بالصلوات على محمد وال محمد...

بينما كانت الحافلة تشق طريقها، بدأ الحاج مالك يحدثنا عن عظيم فقد الإمام. كان الحزن يعتصر قلوبنا الصغيرة لرحيله، نحن الأطفال، الذين فقدناه أبا وسندا وعضدا بعد الوالد الذي غاب، وقائدا فذاً ونبراساً لطريق الحق..

وبين حديث وآخر عن وفاة الإمام، سألنا الحاج مالك سؤالاً أيقظ الفضول والتساؤلات في عقولنا،  سؤالاً فتح أمامنا الستائر المسدلة على الماضي..

الماضي الذي عاشه الإمام الخميني،  وأورثه لنا مستقبلاً يزهر في كل حين.

هل تعرفون من هو الإمام الخميني (قدس)؟

أجابه صديقي علي: هو روح الله الموسوي الخميني، مفجر الثورة الإسلامية في إيران.

الحاج مالك: وهل تعرف يا علي لماذا لقب بالخميني ؟

علي: نعم لأنه من مدينة خمين.

الحاج مالك : أحسنت يا علي،  ففي مدينة خمين التي تقع جنوب غربي طهران. ولد الإمام في 21/9/902ا ميلادي. وكان ذلك التاريخ موافقا للعشرين من جمادى الثانية من العام 1320  هجريا،  أي انه ولد في نفس اليوم الذي ولدت فيه سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (ع )..

بلال : سبحان الله..  نور على نور الحاج مالك: ولكن قبل الحديث عن حياة الإمام أريد أن ألفت نظركم إلى مسالة هامة جد. ألا وهي أن الإمام عاش يتيما..

زهراء هل استشهد والده مثل والدي ؟

الحاج مالك: أجل يا زهراء فلم يكد يبلغ من العمر ستة أشهر حتى قتل والده  السيد مصطفى الموسوي على أيدي رجال تدعمهم حكومة الشاه الظالمة..

 بلال : ومن قام بتربيته ؟

الحاج مالك: تعهدت والدته السيدة " هاجر" " وعمته الفاضلة " صاحبة هانم برعايته والاهتمام به،  وكانتا بالنسبة إليه الملجأ والحضن الحنون...

أحمد: ولم قتلت الشاه حكومة والد الإمام؟

الحاج مالك: لقد استشهد والد الإمام  للسبب ذاته الذي استشهد من أجله المجاهدين الأبرار،  فأينما حل الظلم يجب أن يثور الحق لينتصر عليه وإن كان  ثمن ذلك الشهادة،  ولأن والد الإمام رفض الانصياع للحكومة قتلوه غدراً...

زهراء: كما قتلت إسرائيل الشيخ راغب حرب وبعض قادة المقاومة،  بالغدر والحيلة...

الحاج مالك: إن الضعيف وحده هو الذي يستعمل الغدر والخيانة سبيلا للوصول إلى غاياته،  ولأن المقاومة تقوم بالجهاد من منطلق الحق فقد حيّر شبانها الذين يستقبلون الموت وهم يبتسمون " قادة العدو الصهيوني، لقد هزم الموت الجميل الذي يحلم به المقاومون الحياة التي أصبحت جحيماً للإسرائيليين الغاصبين،  ولهذا فإنّ الغدر وحده  هو سلاحهم...    

علي : وكيف كان شعورا لإمام لكونه نشأ وتربى بلا أب ؟

الحاج مالك: لقد تعلم الإمام من والدته وعمته الصبر. وما خفف عن قلبه ألم اليتم. إنه كان مدركا لأهمية القضية التي استشهد والده من أجله. ولكنه أيضا سرعان ما عانى من يتم الأم.  فقد توفيت والدته وهو في سن الخامسة عشرة. ولحقت بها عمته في فترة قصيرة جدا.  ولكن ذلك لم يكن ليقلل من عزيمته. فقدا تعلم أن يكون قويأ بحزنه. وجعل منه دافعأ للانتقام لأبيه وعربون وفاء لأمه وعمة جليلتين...

زهراء: وهل يكون الوفاء بالاستشهاد على نفس الطريق والنهج.....

الحاج مالك: طبعاً يا زهراء. عليكم أن لا تنسوا أنتم أيضا أنكم مسئولون كما المجتمع كله أمام دماء الشهداء وعليكم أن تكونوا أوفياء لهم...

علي: أخبرنا كيف أصبح الإمام عالم دين الحاج مالك: لقد درس الإمام الخميني في مدينة خمين حتى سن التاسعة عشرة، وتتلمذ على أساتذة معروفين،  ثم ما لبث أن هاجر إلى مدينة قم المقدسة لمواصلة دراسته الحوزوية، ولكنه إلى جانب ذلك، درس علم الرياضيات والفلسفة..  وقد تميز الإمام بذكائه وفطنته،  حتى إنه تغلب على بعض أساتذته في المراحل المتقدمة...

أحمد: وكم ولد رزق الإمام ؟

الحاج مالك: رزق الإمام بعد زواجه من كريمة المرحوم الحاج ميرزا محمد الثقفي الطهراني،  بثمانية أبناء، أكبرهم السيد مصطفى وأصغرهم السيد أحمد..  

بلال : لقد سمعنا الكثير عن جهاد السيدين مصطف وأحمد الخميني...

 الحاج مالك: لقد أدى السيد مصطفى الخميني إلى جوار والده في مراحل النهضة الإسلامية دورا مهما ومؤثرا. فقد كان يجمع الأخبار والمعلومات اللازمة. ويعمد إلى إيصال نداءات الإمام السرية إلى زعماء الفصائل السياسية والمجاهدين في إيران خلال نفي الإمام إلى خارج إيران..

علي: وهل نفي الإمام إلى خارج إيران ؟.

الحاج مالك: أجل. فبعد أن قام الإمام في العام 1943 بطباعة ونشر كتابه كشف الأسرار الذي فضح من خلال سطوره جرائم فترة العشرين عاما من حكم رضا شاه. وبعد تركيزه خلال خطبه وكتاباته على أهمية فكرة الحكومة الإسلامية. صار يشكّل خطرا داهما على حكومة الشاه الذي أمر باعتقال الإمام..

علي: وهل كان الاعتقال ليسكت الإمام أو ليغير من مواقفه.  

الحاج مالك: لقد كان الإمام صلبا جد. فإن يقينه بالله تعالى جعله فوق مستوى التفكير بالعقوبات، فكان يفكر دوما بأن الأرض يرثها عباد الله الصالحون،  لهذا،  وبعد أن بدأ بالنضال العلني والمعارضة والخطابات التي فضح من خلالها مشاريع الشاه الاستكبارية.  وقد أيد المراجع هذه المواقف والخطابات – أمر الشاه جلاوزته باعتقال المجاهدين من أنصار الإمام وتعذيبهم، ومن أبرز المجاز التي ارتكبها الشاه بحق الشعب الإيراني هي مجزرة المدرسة الفيضية في مدينة قم،  في وقت كان الإمام قد أشار إلى العلاقات السرية القائمة بين الحكومة وإسرائيل وكيفية تنسيق مصالحهما المشتركة على حساب الشعبين الفلسطيني والإيراني...

أحمد: وهل سكت الشعب عن ذلك؟

 الحاج مالك: بالطبع لا، فما إن انتشر خبر اعتقال الإمام حتى امتلأت الشوارع منذ ساعات الفجر الأولى بالتظاهرات الحاشدة التي نددت بهذا الاعتقال وحاولت قوات الحكومة العسكرية قمع تلك التظاهرات بقتل العديد من الأبرياء،  وقد تناقلت وسائل الإعلام العالمية الأسلوب الوحشي الذي اعتمده الشاه في ذلك..

زهراء: وماذا حدث بعد ذلك ؟

الحاج مالك: رضخ الشاه إلى مطالب الشعب وأفرج عن الإمام، ولكن بعد إصدار قرار بنفيه عن إيران، وهكذا بدأت حياة الإمام في الغربة حيث أجبر على السفر إلى تركيا التي  فرضت عليه شرطاً لبقائه فيها عدم ممارسة أي نشاط سياسي أو اجتماعي، وكان ذلك في العام 196.

بلال: إن حياة الإمام فصول من القهر والإبعاد..

أحمد: وهل حرك العالم "المتحضر" ساكنا تجاه الإمام ونفيه، أو حتى تجاه الشعب الإيراني..

الحاج مالك: الاستكبار العالمي لا يفتأ يدعم الظلم والقتل إذا ما كانا يصبان في مصالحه، وكانت إيران مركزا استراتيجيا مهما لأميركا وأتباعه. والشاه مجرد أداة طيّعة لتنفيذ أوامره. وقد استغل النظام الشاهنشاهي فترة إبعاد الإمام للعمل على تصفية رموز المقاومة في إيران.

وتعرض المناضلون لأشد أنواع التعذيب على أيدي جهاز المخابرات "السافاك"

زهراء: وكيف كانت حياة الإمام في المنفى ؟

الحاج مالك: كعادته، لقد اتخذ من الجرح سلاحاً لمواجهة الواقع الذي فرض عليه،  ودوّن خلال وجوده في تركيا كتابه الذي يعتبر الرسالة العملية له "تحرير الوسيلة" متحدثاً من خلاله للمرة الأولى عن الأحكام المتعلقة بالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن الحكومة التركية، وبعد تنظيم مؤامرة مع حكومة الشاه لإجبار الإمام الخميني بالصمت عن فضائح الحكم، طلبوا إليه أن يغادر تركيا،  لتفتح صفحة جديدة في حياته من الإبعاد والمظلومية...

علي: إلى أين هذه المرة ؟

الحاج مالك : كانت المحطة التالية في غربة الإمام "العراق"،  حيث انتقل وابنه السيد مصطفى للسكن في النجف الأشرف في العام 1965،  حيث عمل على نشر نظرية  الحكومة الإسلامية تحت عنوان "ولاية الفقيه"،  أضف إلى ذلك إثارة القضية الفلسطينية حين أصدر فتواه "التاريخية" التي اعتبرت تقديم الدعم العسكري والاقتصادي للثورة الفلسطينية واجباً شرعياً..

زهراء: أي أن الإمام استطاع من خلال وجوده في العراق أن يوسع دائرة نشر المفاهيم الإسلامية الصحيحة. وتبيان الهدف من أهمية الثورة بوجه الظلم..

الحاج مالك: أجل، ولكن في خضم ذلك كله، وبعد سنوات من الغربة،  اغتيل السيد مصطفى الخميني في دروب العراق.  ملقياً مسؤولياته الكبيرة والمتشعبة على عاتق أخيه الأصغر السيد احمد الذي كان يتابع دراسته الحوزوية إلا أن هذا الأخير تحمل تلك المسؤوليات الجسيمة بجدارة..

علي: وكيف كان تأثير استشهاد السيد مصطفى على الإمام (قدس)؟

الحاج مالك: في الوقت الذي كانت فيه مراسم العزاء تقام في إيران إثر هذا الخبر المفجع. أثار الإمام الخميني دهشة العالم بصلابة تعبيره عن استشهاد ولده البكر إذ وصف الحادثة بأنها: "من الألطاف الإلهية الخفية "...  

أحمد : ماذا تعني الألطاف الإلهية الخفية ؟

الحاج مالك: هي الألطاف التي تبدو لأول وهلة بصورة البلاء ولكنها تخفي، في  ذاتها رحمة ونعمة إلهية عظيمة. فقد أيقظت شهادة السيد مصطفى الشعب الإيراني وجعلته يثور ضد نظام الشاه ولذلك كانت هذه الحادثة من النعم الإلهية.  ولكن الإمام. وبعد مكوث ثلاثة عشر عاما في النجف. تعرض لمضايقات النظام العراقي الذي رضخ لمطالب الحكومة الإيرانية بتوقيف الإمام عن ممارسة أعماله السياسية والاجتماعية.  فما كان منه.  إلا أنه واجه غربة بعد غربة بعد غربه، وتوجه إلى "نوفل لو شاتو" إحدى ضواحي باريس والتي أصبحت بوجود الإمام مكانا يضج بأهم الأخبار على الصعيد العالمي...

علي: وهل منعت الحكومة الفرنسية الإمام من مزاولة نشاطاته السياسية والفكرية ؟

 الحاج مالك: لقد طلب الرئيس الفرنسي آنذاك إلى الإمام توقيف نشاطاته السياسية.

زهراء: وماذا كان رد الإمام؟

الحاج مالك: أوضح الإمام له وللعالم أجمع أنه مستمر في هذه القضية حتى لو اضطر للتنقل من مطار إلى آخر. ومن منفى إلى منفى.

وكانت الفترة التي قضاها في باريس. سببا في تعرف العالم إلى تلك الشخصية التي حيرت العقول بشجاعتها وعزيمتها وإيمانها بالله تعالى والتوكل عليه. فقد كان مثال الإنسان المؤمن الصادق الذي يحترم عقيدة الآخرين،  فقد تفاجأ سكان "نوفل لو شاتو" المقيمين بجانب منزل الإمام ببطاقات  معايدة منه بمناسبة ولادة السيد المسيح ( ع ). وكان لهذه البادرة الأثر الطيب في نفوس المسيحيين من جيرانه...

زهراء:  وكيف اندلعت شرارة الثورة في إيران ؟

الحاج مالك:  لقد التزم الشعب الإيراني المناضل بإرشادات الإمام وتوجيهاته. لأن فكرة الحكومة الإسلامية كانت شفاء لقلوبهم المتعطشة لنظام إسلامي يكون مصدرا للعدل والسلم الأهلي. فازدادت الاضطرابات في الشوارع. ولم تجد محاولات الشاه من تخفيف حدته. إلى أن قرر الهرب متذرعاً بالمرض عام 1979.  وتابع الشعب النضال. وما أوقد النار في عزيمته قرار الإمام بالعودة إلى ربوع الوطن بعد أربعة عشر عاما من الغربة المريرة. وعند سماع الشاه لهذا القرار أقفل كل مطارات البلاد. ولكن الشعب تصدى لذلك واضطر الشاه للرضوخ أمام مطالبهم وفتح مطار مهر آباد بطهران. حيث قدر عدد المستقبلين له ما بين أربعة إلى ستة ملايين شخص... وهكذا عاد الإمام ليكمل مسيرة كفاحه بين أهله وأبناء بلده. واستحق ـ عن حق ـ  الشعب الإيراني هذا الانتصار العظيم.  فقد واجه دبابات الشاه بالصدور والأيدي العارية. وانتصر على دباباته والمؤامرات المحاكة ضد الحكومة الإسلامية بالإيمان والعزيمة والتصميم.  وهنا تعود مشاهد كربلاء الإمام الحسين ( ع ). الثورة التي انتصر فيها الدم على السيف،  وقد عزّا الإمام الخميني (قدس) انتصارات الثورة الإسلامية إلى تلك الحقبة من التاريخ. فهو كان يقول دائما: (إن كل ما عندنا هو من بركة عاشوراء الحسين (ع )، وببركة دماء الشهداء المضحين والمخلصين سطعت شمس انتصار الثورة الإسلامية في الحادي عشر من شهر شباط من عام 1979 لتبقى مشرقة دائما مهما تلبدت السماء بالغيوم. وقد حاول البعض التقليل من حجم نوره. إلا أن وجودها حقيقة  واضحة لا يمكن لأحد أن ينكرها أبد...

بلال: وكيف كان صدى انتصار الثورة الإسلامية في إيران على العالم، خصوصا أنها الدولة الإسلامية الشيعية الأولى منذ تاريخ طويل ؟

الحاج مالك: لم يكن لمصلحة العالم المستكبر أن يكون للجمهورية الإسلامية أي وجود..  وقد دعا الإمام مباشرة. بعد رجوعه الشعب الإيراني للاستفتاء بشأن الجمهورية الإسلامية فكانت نسبة الأصوات المؤيدة للنظام الإسلامي 99 بالمئة وتلى ذلك إجراء انتخابات نزيهة عبّر من خلالها الشعب عن رأيه. ولم تستطع المؤامرات الخبيثة التي عمدت أميركا على حبكها بالتعاون مع رموز حكومة الشاه الهاربة إلى خارج البلاد والمؤيدين له بالدخول بين صفوف الشعب لإثارة الفتنة لأنه كان يقظ.

وباءت كل المحاولات بالفشل الذريع..

علي:  نلاحظ أن الإمام. على الرغم من مسؤولية القيادة. قام بإنشاء العديد من المؤسسات الإنسانية. والجمعيات الخيرية. فهل لك أن تخبرنا عن بعضها ؟

الحاج مالك : لقد كان في رأس أولويات الإمام العمل على تأمين حياة كريمة للمستضعفين والفقراء من أبناء الشعب. ونلاحظ مسألة في خطابات الإمام. إنه لم يأت يومأ على ذكر الشعب الإيراني إلا ووصفه بـ "العظيم". وقد أنشأ العديد من الجمعيات والمؤسسات التي أوكل إليها تنظيم شؤون البلاد وتيسير شؤون العباد.  

أحمد: إن لدينا شريحة عظيمة من الشعب الصامد والصابر. فقد ضحى الكثير من الناس بالطمأنينة بغية الصمود في منازلهم والبقاء في خطوط المواجهة ليؤازروا المجاهدين في جهادهم...

 علي: لقد استشهد العديد من الشباب الذين لا يزالون في ربيع عمرهم لأجل هذا الوطن. وكانت وصيتهم الحفاظ على خط الإمام الخميني ونهجه وحفظ هذه المقاومة العظيمة..

بلال:  وبالطبع يكون ذلك بالتسليم بالولاية للولي الفقيه والالتزام بكافة الأوامر الصادرة عنه. خصوصأ وأن سماحة السيد علي الخامنئي (حفظه الله) كان خير خلف لخير سلف. وقد حذا حذو الإمام رضوان الله تعالى عليه في أغلب الميادين. وعلى الرغم من أعباء القيادة. فقد واظب على القيام بالزيارات الأسبوعية لعوائل الشهداء والسؤال عن أحوالهم..

زهراء: وبهذا الالتزام فقط نكون أوفياء للإمام الخميني (قدس)

الحاج مالك:  ويجب أن لا تنسوا أنكم أنتم أيضا مسؤولون أمام دماء الشهداء الأبرار. وهي أمانة بين أيديكم. فهم أحبونا عندما كانوا بيننا.

وأعطونا مطلق الحب عندما قدموا حياتهم في سبيل أن نعيش حياة كريمة حرة. فليس من السهل أن يفقد الإنسان القرار في حياته. وحريته في وطنه...

وتذكروا دوما أن الإمام الخميني  العظيم. قد جعل من المستحيل ممكن. وأنشأ دولة إسلامية تهابها كل الدول، وجعل من المسائل العبادية والمستحبات الدينية، ساترا يحمي هذه الدولة، وبقي حتى آخر لحظة من حياته الشريفة، يوصي بالمحافظة على هذه المسائل لأنها أساس الانتصار الكبير بلال: أجل، فقد سمعت أن أحد الصحافيين سأل الإمام بعد انتصار الثورة، عن الخطة الدفاعية التي ستستند عليها الجمهورية الإسلامية للحفاظ على هذا الانتصار، فأجاب الإمام إجابة حيرت ذاك الصحافي الذي توقع أن يكون الحديث عن ترسانة صواريخ،  أو جيش كبير،  إذ قال له: بالمحافظة على صلاة الليل يبقى الانتصار...

 الحاج مالك: إن الإمام الخميني، مدرسة الحياة، التي ننهل منها المعارف التي تتوق إليها قلوبنا، وبمعرفة هذا الرجل العظيم، وريث الأنبياء، نروي ظمأ قلوبنا إلى الحقيقة...

زهراء : ولكن الإمام قد أغلق عينيه بقلب هادئ ونفس مطمئنة، وعرج إلى السماء بروحه القدسية تاركا الدنيا يتيمة بعده..

الحاج مالك: أجل فقط توفي الإمام ، عن عمر يناهز الـ 87 عاماً،  بعد معاناته من مرض في جهازه الهضمي، وقد وافته المنية مساء يوم السبت في الثالث من حزيران من العام 1989، ليغلق بذلك الرحيل المفجع كتاب حياته الذي ملأ سطوره بأرقى وأعظم التضحيات..

وصلنا إلى مكان الاحتفال، حيث احتشدت جماهير غفيرة في باحة كبيرة لتودع الإمام الوداع الأخير.. وقفت أتأمل صورته الكبيرة، ووجهه يفيض هيبة وجلالا ؟ لقد عرفت الإمام الخميني (قدس) إنسانا حمل في خلجات حياته الصورة الأرقى لأسمى معاني الإنسانية..

 ورأيته قائدا خط نهج الانتصار بإيمان عميق ويقين بالله..  

وبكيته والدا على الرغم من أني لم أره في حياتي، ولكني كنت  أشعر به يعيش في  داخلي، وان كانت المسافات شاسعة ما بين إيران وبيروت، إلا أن وجوده في حياتنا حقيقة لا ننكرها، فوجود الإنسان بجسد ه في مكان ما، ليس دليلا على أنه موجود، وغيابه ليس بالضرورة رحيل...

ترك الإمام الخميني بعد رحيله عشرات الكتب والمصنفات القيمة في البحوث الأخلاقية والعرفانية والفقهية والأصولية والفلسفية والسياسية والاجتماعية ومما يؤسف له إن عددا من وسائل الإمام ومؤلفاته النفسية فقدت أثناء تنقلاته من منزل مستأجر إلى آخر، وخلال مداهمات أزلام السافاك المتكررة لمنزله ومكتبته الشخصية.