من أنوار العشق الخميني

2007-08-23

بقلم: الشيخ محمد المقداد

بسم الله الرحمن الرحيم

من النِّعم الإلهية الكبرى على الأمة الإسلامية في هذا الزمن أن وهبها الله سبحانه قائداً وثائراً حراً وعارفاً مجاهداً وعالماً فقيهاً استطاع أن يعيد البسمة المفقودة إلى شفاه أبناء الأمة، وأن يحيي الأمل من جديد في قلوب أجيالها، بعد عقود طويلة من الظلم والاضطهاد والتسلط الذي مارسه المستعمرون سابقاً والمستكبرون لاحقاً على هذه الأمة وكرامتها ومقدراتها، حيث دنَّسوا أرضها وغرَّبوا إنسانها ونهبوا ثرواتها وخرَّبوا حاضرها وضيَّعوا وحكَّموا فسَّاقها وجُهَّالها وقتلوا عُبَّادها وزهّادها.

إن تلك الشخصية الرائدة هي الإمام الخميني رضوان الله عليه، ذلك الإنسان الذي قرّب إلينا الصور الموغلة في بُعدِها التاريخي، صور حياة الأنبياء والأولياء، وصور حياة خاتم النبيين محمد (ص) وأمير المؤمنين (ع) وكل الأئمة الطاهرين (ع)، حيث كنا نقرأ السيرة قبل أن نعيش زمانه، ونتخيل أفعال المعصومين قبل أن نتحسس حياته، فمعه شعرنا أننا عدنا إلى حيث نبع الإيمان والتقى والورع، إلى الاصالة الإلهية الإسلامية التي لم تلمسها يد العابثين والمنحرفين، ومعه أحسسنا بالأمان والطمأنينة لثبات إيمانه ورسوخ توكله على ربه وثقته بشعبه وأمته، وفي ظل وجوده شعرنا بوقتنا وأحسسنا بقدرتنا ولمسنا مدى ضعف عدونا الذي سيطر على حياتنا بوهم قوته وخيال بأسه، فانكشف بحقيقته الإيمانية وعباداته الربانية ومجاهداته النفسانية كل غشاوات الباطل وكل وساوس الشيطان التي كانت قد سكنت قلوبنا وعشعشت في نفوسنا، فإذا معه نرى الأشياء كما هي ونتعامل معها بحجمها بل لا نقيم لها وزناً.

فقد كشف لنا الطريق وأزاح عن بصائرنا سُحُبَ الردى التي كانت توردنا المهالك، وقادنا إلى حيث نجاتنا وحريتنا، وسار بنا على حيث موطننا الأصلي ومسكننا الحقيقي، ننظر إليه بالقلوب الصافية التي فرغت إلا من التعلق بالله والشوق إليه والرغبة في لقائه، من خلال السعي لإحقاق الحق وإزهاق الباطل من دون أن نخاف في الله لومة لائم أو بأس ظالم أو جبروت مستكبر.

لقد علَّمنا أن الخوف من الله هو القوة الحقيقية، وأن العيش مع الله هو الحياة الحقيقية، وأن العمل في سبيل الله هو العبادة الحقيقية، وأن الجهاد في سبيل الله هو العزة الحقيقية، وأن النجاة عند الله يوم القيامة هو النصر الحقيقي.

به كبرنا وكبرنا جداً، حتى ان أمريكا وإسرائيل صارتا أمام أعيننا صغيرتين جداً فلا نكاد نراهما، لأن الكبير حقاً هو من كان مع الله، ومن كان مع الله فهو لا شك أنه معه، ومن كان مع غير الله فهو الصغير الحقير الذي لا قيمة له ولو كان كبيراً بنظر من هم مثلُه من أسيري الأوهام وطُعْمة التراب الذين يطأطأون له الرؤوس ويدينون له بالولاء خوفاً ورهبة من صنع خيالاتهم ووسوسات شياطينهم.

لقد غَرَفَ الإمام الخميني من نبع الإيمان الصافي، وشرب من ماء الحقيقية المحمدية، وارتوى من غدير الكشف العلوي، وتعمق من الإرادة الحسينية، ونَهَلَ من سيل العرفان السجادي، وصفا عقله من فيض الفقه الصادقي، ورشف الصبر من كظم الغيظ الموسوي، واغتذى بالزهد من مائدة السلطان الرضوي، وتعلَّم تحمُّل مرارة الأيام من الهاديين العسكريين، ثم ارتبط نياط قلبه وتعلقت روحه بالمنتظر المهدي (عج)، فسعى يُمهِّد له الأرض ويفرش له بساط الخروج بعشقٍ لا حدود له وَوَلهٍ لا مجال لوصفه واتصالٍ لا زوال له.

فحَملَ كلماتِ أجداده يهدُّ بها حصونَ الشرك وقلاعَه، ويقتل بها جحافل الكفر وأتباعه، من أنوارها الساطعة الوهاجة التي لا قدرة لكل قوى الأرض على إطفائها، وكيف تنطفئ وهي التي تستمد النور من خالق النور وواهب النور ونور النور. وانقشع الظلام وزال عتم الليل البهيم، فاستيقظ المسلمون من النوم العميق. لقد صنعت الكلمات النورانية ثورة، وأقامت دولة، وانتصرت الكلمة على السيف، وانتصر الحق على الباطل، والإيمان على الكفر، فعادت الحياة إلى الأمة بعد الموت، وعاد الأمل بعد اليأس، ورجعت القوة بعد الضعف، والتحمت الأمة بعد التمزق، وتوحدت بعد التشتت والتفرق، والفضل كله للكلمات النورانية التي لم يكن يليق بحملها إلا الخميني العظيم كما لم يكن يليق بالتبليغ عن جده الأعظم رسول الله (ص) إلا علي (ع).

وهنا تزلزل المستكبرون، وارتجف الظالمون، وارتعد الحكام الفاسقون، فتجمهروا وتجمعوا وتسلحوا بكيد الأبالسة والشياطين، وحشدوا أسلحتهم وكل آلات الفتك والقتل والدمار، لعلهم بذلك يُسْكتُون الكلمات ويطفئون الأنوار، فسيدهم الشيطان الأكبر الأرضي، والشيطان الجني الزعيم الأول في هرج ومرج، فحملاتهم وهجماتهم سوف تتكسر من الآن فصاعداً عند قوة الكلمات الأكثر قوة وقدرة من الجبال الراسيات، وتبددت أوهامهم وتفرقت جموعهم بعد ما يئسوا من إسقاط الكلمة من عليائها، ورجعوا يجرون أذيال الخيبة والندامة، فتسفَّهت أحلامهم وطفقوا يضربون وجوههم وأدبارهم، وكلٌ يلقي اللوم على الآخر، وما دروا أن للكلمات سحراً لا عهد لهم به، وأن لها طاقة لا قِبَلَ لهم بها، لأنها كلمات الهداية والحق التي لم تقدر عليها كل القوى منذ العهد الأول، ولم يقدر عليها أحد عبر التاريخ، فأنَّى للأقزام أن يرتقوا إلى علوِّ الكلمات وسمو المضامين.

وهكذا خرست الألسنة عندما نطقت الكلمات وارتفع صوتها بالتحميد والتمجيد والتهليل والتكبير، وكلما وصل هذا التعظيم إلى الآذان تسرب منها إلى القلوب العطشى والنفوس الولهى، وإذا بتلك الكلمات تصنع القنابل البشرية لتمزق بها حجب الضلال وأستاره، وتكشف عن ذلة وصغار أولئك الذين لم يقتنعوا بعدُ بعجزهم عن قهر الكلمات، فانسلوا فارين هاربين مرعوبين وما زالوا إلى الآن يسمعون تلك الأصوات التي قضَّت مضاجعهم وآملتهم فيرجفون منها وتمتلئ قلوبهم رهبة وخوفاً لا حدود له، فخرجوا مدحورين تلاحقهم أطياف تلك القنابل التي صُنِعَتْ بهدي تلك الكلمات، ولم ينتهِ دورُها عند هذا الحد، بل تعاظم هذا الدور وتزايد، وتمكنت أن تصنع مقاومة ضد المغضوب عليهم بنص رب الكلمات ونورها وهداها الذين توهموا كأسيادهم أنهم انتصروا عليها، فإذا بالمقاومة الإسلامية المصنوعة بهدي الكلمات تدك حصونهم، وتهلك جنودهم، وتحاصرهم بدل أن يحاصروها، وتهزمهم بدل أن يهزموها، وتقتلعهم من قسم من الأرض المقدسة "أرض السائرين في الحياة بنور الكلمات"، وعلى أمل اقتلاعهم من كل الأرض التي أرادوا الانطلاق منها لمحاربة المؤمنين المهتدين بهديها.

ولم تقف الكلمات، بل أكملت سيرها يسبقها نورها لتضيء لأهل بيت المقدس وما حوله ومن حوله، فجذبهم ذلك النور المنبعث منها كجذب رحيق الزهر للنحل لصنع العسل الذي فيه شفاء من كل داء، فساروا على هدي ذلك النور ليشفوا من المرض الخبيث الذي حلَّ فيهم ويستأصلوه من جذوره وليرتاحوا منه إلى الأبد، وتكرر المشاهد نفسها والنتائج ذاتها والأساليب هي، لأنها جميعاً من إشراقة تلك الأنوار الربانية المنبعثة من نفس المصدر والسائرة نحو المقصد ذاته.

وهنا أيضاً يقف كل أولئك المعاندين للكلمات وكل المستكبرين في الأرض سكارى وما هم بسكارى، لكن أفعال المهتدين بالنور سكرتهم وجعلت حيارى لا يدرون ما يفعلون.

فأرسلو بطلب اللاهث والباحث عن النعيم الزائل (أطفئ الأنوار التي تضيء درب هؤلاء الذين سفَّهوا آلهتنا وأفسدوا علينا متعة أحلامنا وأقلقوا راحتنا)، فانبرى هذا بتوهم أنه يحمل الدواء لداء أولئك الذين استضاؤوا بالنور، وأنه بتراثه سوف يسيطر ويهيمن ويحقق الأمل الذي كان ينتظر ويقر عيون الذين تصدَّقوا عليه بما هو حق لشعبه وتراث لأمته، إلا أن المؤمنين المستنيرين لا يُلْدَغون من الحجر مرتين فكشفوا باطله، وفضحوا شيطنته، وأذلوا كبرياءه، وأظهروا عجزه، عن أن يكون قائداً لأمثالهم، وهم الذي أبدلوا الأوهام التي كانوا عليها بالحقيقة المطلقة.

وهكذا راح النور المنبعث الذي لا يمكن حصره ـ بل لا يقدر عليه أحد ـ يتمدد أكثر، ومع تمدده يكثر المستنيرون، فتحولوا إلى تيار هادر سوف يجرف في طريقه إن شاء رب الكلمات كل الباطل والكفر والفساد لتشرق الأرض من جديد بنور ربها، ولتكون كلمة الله هي العليا.

أيها الراحل الكبير، إنك لم ترحل ولم تغب، ما زلت فينا وبيننا تهدينا وتنير دربنا، أنت الذي حملت نور الكلمات في قلبك فأشرق فيه وانطلق منه ليضيء المساء المظلمة والأرض المعتمة.

لن يخبو ذلك النور، وإنما سيزداد لمعاناً وإشراقاً وقوة ليمحو الظلام كل الظلام على يد ولي الله الأعظم (عج) الذي مهدت لخروجه بثورتك وقيادتك.