بيان الحج لولي أمر المسلمين الإمام الخامنئي عام 1420 هـ ق

2008-11-19

 

بسم الله الرحمن الرحيم

>وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ<[1].

الأخوة المسلمون.. الأخوات المسلمات..

يا حجاج أمتّنا الإسلامية..

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

يوم كان منادي التوحيد الكبير إبراهيم وابنه إسماعيل (عليهما السلام) يضعان قواعد الكعبة بين وديان وجبال قاصية غير ذات زرع، لم تكن حتى أقدر العيون البشرية على رؤية البعيد بقادرة على رؤية ما ينتظر هذا البيت من مستقبل يجعل منه مركزاً يشعّ بالإيمان وأملاً وقبلة للقلوب والأجسام.

الكعبة اليوم هي المركز المعنوي لعالم الإسلام وأكبر مجمع سنوي للمسلمين؛ منبع يتدفّق بالعشق والرجاء، وبحر يزخر بالعظمة والاعتماد، ومصب تلتقي فيه أنهار القوميات والشعوب.

إخلاص المؤسسين وقبول الرب السميع العليم جعلا من تلك البذرة دوحة مثمرة باسقة.

واقع العالم الإسلامي اليوم

وهل تنال الاُمة الإسلامية حظّها اللائق من هذا النبع الفيّاض؟ جواب هذا السؤال مؤلم مثير.

العالم الإسلامي يعاني اليوم من آلام مزمنة، لعلّ أهم هذه الآلام المثيرة: النزاعات السياسية والطائفية.. هبوط المستوى الخلقي والإيماني..التخلّف العلمي والصناعي.. التبعية السياسية والإقتصادية.. الإسراف والبذخ والغرور إلى جانب الفقر والجوع والذلة.. ضعف الثقة بالنفس وضعف الأمل بالمستقبل بين الرؤساء.. إنزواء الدين وفصله عن ساحة السياسة والحياة.. ضمور روح إبتكار المفاهيم الجديدة التي يشكّل القرآن مصدرها اللامتناهي.. الاستسلام أمام الغزو الثقافي الغربي المفروض.. وأخيراً مصادرة عزّة الشعوب المسلمة بخضوع بعض الزعماء السياسيين للذل والأطماع الذاتية.

هذه الأمراض المولودة بعضها مع بعض، والتي ظهرت على مرّ الأيام نتيجة خيانة عناصر داخلية وجهلها واستبدادها وبسبب عداء الأجانب وظلمهم ومكرهم، قد أنزلت بالاُمة الإسلامية أوجع الضربات.

إنّ ثروات العالم الإسلامي اليوم عرضة للنهب، وكنوزه الثقافية والفكرية القيّمة تحجب عمداً تحت زبد إعلامي ينثره إعلام غزاة الثقافة، وتسرق الكفاءات والأدمغة المفكّرة الشابّة فيه، وتسحق الطاقات في النزاعات العسكرية والسياسية.

اللامبالاة والتحلّل الخلقي والعقائدي تتسرب مثل المياه العفنة عن طريق أحدث أجهزة الاتصالات إلى أجواء حياة الشباب وقاعات درسهم وملاعب رياضتهم، ونفط المسلمين يذهب لتكديس ثروة الشركات وخزائن أموال المستوردين الأجانب، وبدلاً من أن يثري أصحابه الأصليين يعمل على انتفاخ أعدائهم الأجانب.

وفي قلب العالم الإسلامي وفي قارات آسيا وأفريقيا وأوربا تنزل سياط ظلم الكافرين وغضبهم على جسد ملايين المسلمين وتحترق فلسطين ولبنان في نيران قسوة الصهاينة، وكل هذه الآلام والمصائب لا تدفع رجال الدين والمثقفين في الاُمة الإسلامية إلى التفكير في العلاج!

هذا في وقت تشهد الساحة وجود كل المقوّمات اللازمة لإقامة وضع جديد مشرق وتشهد بوضوح الآليات والدوافع اللازمة لتطوّر كل البلدان الإسلامية؛ ففي كل بلد إسلامي يشاهد بوضوح الشعور والاندفاع الإسلامي بين جيل الشباب والإيمان العميق بين معظم قطاعات الشعب، والقلق تجاه الوضع الموجود، والرجاء في مستقبل إسلامي.

والذي صَدّ هذه القطاعات عن التفعيل هو بالدرجة الأولى عدم انسجام القوة السياسية الحاكمة مع أماني الشعب وآماله، والحكومات في بعض الموارد غير قادرة نتيجة تبعيتها واستبدادها واستخفافها بالجماهير على المواءمة والمعاضدة مع الآمال الإسلامية الكبرى للأمة.

الحج تجسيد لفظة الإسلام

ومن جهة أخرى إنّ عظمة العالم الإسلامي وقدرته على التأثير على الأحداث العالمية خافية عن الأنظار؛ لذا فإن كل شعب مسلم يرى نفسه وحيداً أمام تحدّيات القوى الإستكبارية العالمية المناهضة للإسلام, ويرى استحالة مواجهة هجومها السياسي والإعلامي وهكذا العسكري.

ثم من ناحية أخرى فإن التجربة العملية والعينية لحاكمية الإسلام في العصر الراهن، وأعني الجمهورية الإسلامية الإيرانية، مغطّاة خلف غبار كثيف من الإعلام المعادي، ومئات وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمكتوبة وآلاف الأدمغة والأقلام العميلة تعكف كل يوم على قلب الحقائق وتهويل نقاط الضعف ومواضع الخطأ وإنكار ما حققته من نجاحات ومنجزات.

لو أنّ المسلمين عرفوا قدر الحج واستثمروا هذا الملتقى والمجمع السنوي بشكل صحيح لإنهدم القسم الأعظم من جدران اليأس التي تطوّق الشعوب.

موسم الحج يستطيع أن يجسد كل سنة أمام أنظار شعوب كل البلدان الإسلامية بشكل محسوس عظمة العالم الإسلامي وتنوّعه ومقدرته المعنوية والإنسانية، ويوثّق عرى الارتباط والتعارف والتفاهم بين عيّنات الشعوب الإسلامية؛ في الحج تستطيع كل الشعوب أن تطّلع على الحالة الواقعية لإخوتهم, وأن تمزّق حجب الإعلام المغرض لأعداء الإسلام، وأن تعد نفسها لحركة منسجمة مخلصة على طريق العودة إلى حاكمية الإسلام ونيل العزة والاستقلال, والسعي لتحويل أساسي في بلدانها.

ولادة حاكمية الإسلام في إيران كَسَر شوكة الأعداء والمستكبرين

إقامة حاكمية الله في البلدان الإسلامية ولادة مباركة، لكنها مسيرة على طريق ذات الشوكة والمرحلة الآتية المتمثلّة بصيانة الوليد, وتغذيته مادياً والاهتمام اليومي بنموه وتكامله هي مرحلة أكثر صعوبةً وأطول مجاهدةً.

في إيران الإسلام واجه هذا المولود أنواع الخصومات العلنية والخفيّة وهو الآن ـ ولله الحمد ـ في مرحلة الاستقلال والثبات والشموخ؛ طبعاً عواصف العداء لا تزال تحيط به منبعثةً من أخبث المراكز الإستكبارية والمعادية للإسلام.

هذا المشروع الحديث بسبب كونه أول نموذج في العالم المعاصر, وكونه قادراً على أن يكون قدوة لبقية البلدان, وأن يهدد مصالح أمريكا والصهيونية وكل الطامعين، يهددها في العالم الإسلامي بأجمعه، فقد تعرّض لعداء ساخط سافر من قِبَل كل مراكز الأطماع المالية؛ فإثارة النعرات القومية داخل بلادنا كانت أولى دسائس العدو، ثم تنشيط عملاء النظام البائد والتخطيط لإنقلاب عسكري، ودفع دولة جارة إلى الهجوم على حدود طولها ألف وثلاثمائة كيلومتر كانت الخطوات التالية التي تستطيع كل واحدة منها بمفردها أن تقتلع حكومة وطنية، لكن الجمهورية الإسلامية ما كانت حكومة وطنية فحسب، بل هي بناء, لَبَناته كل أفراد الشعب بإيمانهم ودوافعهم العقائدية العميقة؛ حرب ذلك الجار الخائن دامت ثماني سنوات، ومع أنّ مساعي أمريكا المغرضة استطاعت أن تجعلنا عرضة لهواجس وظنون بعض الجيران الآخرين, وأن تجعل هؤلاء الجيران يغدقون بمساعداتهم على المعتدي، لكنه في النهاية ارتدّ خاسئاً عن حدودنا وهو حسير.

توظيف الإعلام الإستكباري ضد الجمهورية الإسلامية

وفي كل الأعوام الواحد والعشرين من عمر الجمهورية الإسلامية وجّهت إمبراطورية الإعلام الإستكبارية سهامها ضدّنا باستمرار, ووظّفت طاقاتها كلها لتعبئة الرأي العام العالمي لمواجهة الحكومة الإسلامية.

السياسة الخارجية الأمريكية وجهاز الأمن الأمريكي بدعم من رؤوس الأموال الضخمة الصهيونية بذلت ما بوسعها لفرض محاصرة إقتصادية ومعارضة سياسة الجمهورية الإسلامية الخارجية في جميع أرجاء العالم؛ عشرات التنظيمات الإرهابية أو المجموعات الأجيرة السياسية من باعة الوطن الخونة تتغذّى بأموال الأعداء, ووعودهم ودعمهم لتنفيذ أعمال تخريبية.

ومئات الشهداء العظام الخالدين الذين ذهبوا ضحية جرائم هذه الحفنة الأجيرة قد دوّنوا في تاريخ ثورتنا صفحات بيضاء من المقاومة المظلومة.

وبعبارة موجزة: خلال أكثر من عشرين عاماً تبذل جبهة العدو وعلى رأسها أمريكا والصهيونية كل طاقاتها ومكرها وسعيها لتحارب وليد الثورة المباركة، أعني نظام الجمهورية الإسلامية.

وعلى الرغم من هؤلاء فإن نظام الجمهورية الإسلامية منذ أكثر من عشرين عاماً لم يتوقّف لحظة عن نموّه وشموخه وثباته، وهو اليوم أقوى من أي وقت مضى يرفع نداء الإسلام والوحدة الإسلامية والعزة الإسلامية بنفس الاندفاع الأول، وهذا هو مبعث كل فزع الأعداء وهلعهم.

واليوم، بعد أحد عشر عاماً من رحيل معمار هذا البناء ومؤسسه الإمام الخميني العظيم تتقدم الجمهورية الإسلامية تجاه نفس الهدف الذي رسمه وعلى نفس الطريق الذي اختطّه.

الفخر في هذا الثبات والقدرة يعود إلى ذات الإسلام وتعاليمه الداعية إلى التقدم والعزّة، ويعود ثانياً إلى الشعب الإيراني الذي سار على طريق الإسلام بثبات وقدّم التضحيات بإخلاص وصان معطيات الثورة بصبر وجلادة.

لولا ما صدر عنّا نحن مسؤولي نظام الجمهورية الإسلامية من ضعف وتقصير وغفلة مبررة وغير مبررة, لكانت الجمهورية الإسلامية اليوم ببركة أحكام الإسلام ومعارفه النيّرة قد اجتازت مراحل أكبر من العقبات, واقتربت أكثر من الهدف المنشود.

دسيسة الإعلام الإستكباري تصبّ اليوم ـ كما كانت في السابق ـ على محور ادّعاء إعراض الشعب الإيراني والحكومة الإسلامية عن أهدافه المنشودة؛ هذه الأحبولة الحقيرة هدفها بثّ اليأس في قلوب عشّاق حاكمية الإسلام في أرجاء العالم وإضعاف همّة الشباب داخل البلاد.

وفي إطار هذا المكر الإستكباري يعرب زعماء الإستكبار عن سرورهم لحضور ما يسمّونه بالديمقراطية في إيران, بعد الإنتخابات العامة الحادية والعشرين الأخيرة التي عيّنت أعضاء مجلس الشورى الإسلامي؛ لأنه يصعب عليهم أن يعترفوا بوجود الحضور الجماهيري في كل السنوات التي أعقبت الثورة حتى اليوم، يصعب عليهم أن يعترفوا بإجراء إنتخابات بنفس الحرارة والسعة قبل أربع سنوات لتشكيل الدورة السابقة للمجلس، وقبل ثلاث سنوات لإنتخاب رئيس الجمهورية.

هؤلاء يؤمّلون أنفسهم عباثاً أن يتولّى الحكم أعداء حاكمية الإسلام, والمشتاقون لإعادة سلطة الإستكبار على إيران، هذا هو الفهم المنحرف والأمل الواهي الذي دفع بأمريكا وعملائها إلى هزائم عديدة في صراعها مع قوة الإسلام العظيمة وإرادة الشعب الإيراني القوية.

وأنا، باتّكالي على الله العزيز الحكيم والاعتماد عليه, وبإيماني العميق الراسخ بأحكام الإسلام النيّرة التحررية, وبمعرفتي التامّة بالشعب العظيم الذي انبثقت منه, وقضيت عمري بينه ووصلت إلى سني آخر عمري أحمل عشقه، أطمئن الأصدقاء وهكذا الأعداء بأن هذا الشعب سوف يقطع طريق الإسلام حتى بلوغ الأهداف الكبرى، وسوف يثبت للجميع أنّ تحقق العزة والكرامة والنمو والتطور المادي والمعنوي رهين بالتطبيق الشامل للإسلام والقرآن.

أمريكا لا تؤمّل نفسها باستعادة إيران إلى دائرة سيطرتها لتقضي على صحوة المطالبة بحاكمية الإسلام في البلدان الإسلامية, وتقدم فلسطين دونما معارضة للصهاينة العنصريين السفّاكين, وتقف بوجه تصاعد الكراهية لها في العالم الإسلامي.

لو أنّ هذه النظرة عمّت حكومات المسلمين لإرتفعت راية عزّة الإسلام في العالم على النحو اللائق، ولأصبح الحج مركزاً للتضامن الحقيقي ومصدراً لقوة متدفّقة إسلامية، ولاستطاع المشروع الإسلامي التحرري أن يقدّم عطائه للبشرية جمعاء.

أسأل الله سبحانه أن يجعل ذلك اليوم قريباً، وأطلب منكم أيها الحجاج المحترمون أن تدعو الله أن يفرّج عن المسلمين أينما كانوا, وأن يكون عوناً للشعب الإيراني المجاهد، وأهيب بالحجاج الإيرانيين الأعزاء أن يسعوا لكسب المزيد من العطاء المعنوي ولحفظ الرزانة والوحدة والاشتراك في الجماعات والتزوّد بالقوة الروحية والأخلاقية.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

السيد علي الخامنئي

ــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] سورة البقرة، الآية: 127.