بيان الحج لولي أمر المسلمين الإمام الخامنئي عام 1421هـ
2008-11-20
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين.
قال الله الحكيم {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}.
يعود مرّة أخرى موسم الحج، ويعود معه المشهد العظيم المدهش والمفعم بالحركة والنشاط في قاعدة الوحي والنبوة.
أمواج بشرية من الشعوب الإسلامية تتحرّك من كل حدب وصوب؛ لتصبّ في البحر الكبير، ولتجسّد تعايش الاُمة الواحدة تحت لواء التوحيد والمشاعر المتجانسة التي تجمع هذه الكتل البشرية العظيمة وآلامها وتطلّعاتها وقدراتها.
الحج نداء للتوحيد والوحدة
ساحة الحج تستضيف الآن اُناساً من إيران والعراق، من فلسطين ولبنان، من شبه القارة الهندية وشمال أفريقيا، من تركيا والبوسنة، ومن أرجاء آسيا وأوربا، هذه الأفئدة المشتاقة تستطيع أن تتحدّث عما تحمله قلوب سائر الاُمة الإسلامية، وإنما وجد الحج؛ من أجل إيجاد هذا التقارب بين المسلمين في جميع أرجاء العالم.
الرباط المقدّس الذي يشدّ كل هذه القلوب هو ذلك النداء الذي انطلق لأول مرّة من هذه الأرض, واخترق العالم طولاً وعرضاً وامتدّ على كل مساحة التاريخ.. إنه نداء التوحيد والوحدة، توحيد الله ووحدة الاُمة.
التوحيد رفض إلوهية الطواغيت والمستكبرين وجبابرة الثروة والقوة، والوحدة مظهر عزّة المسلمين وقدرتهم.
الحج أصدق أنباء من كل خطاب مكتوب أو مسموع، يجدد كل عام هذا النداء الخالد عبر إجتماعه العظيم، ويبلغه إلى كل أجزاء العالم.
كل مسلم في كل بقعة من بقاع العالم يجب أن يستحضر في موسم الحج هذه الحقيقة، وهي: أنّ عزّة البلدان الإسلامية وتقدّمها ونموّها ونجاحها الشامل إنما يتحقق في ظل هذين العاملين: التوحيد بكل أبعاده الفردية والإجتماعية والسياسية، والوحدة بمفهومها الصحيح العملي المتناسب مع عالمنا المعايش.
في تجمّع الحج العظيم هذا العام يمكن الاستماع إلى ألوان الأحاديث الحلوة والمرّة من الوافدين على الأرض المقدسة.
كل حديث فيها يضيف مسؤولية على عاتق الجميع، ومجموع تلك الأحاديث تصوّر المشهد الحالي لواقع الاُمة الإسلامية الكبرى، حديث الشعب العراقي الذي أرهقه وأزال بهجة حياته وفرض عليه الهوان والضعف، الغازي بظلمه وتطاوله, والحاكم بدكتاتوريته وسوء تدبيره.
حديث الشعب الأفغاني الذي أحبط التعصّب وضيق الاُفق، أجر جهاده الطويل, وعرّض شعباً لعبث حفنة غافلة عنيدة.
حديث شعب البوسنة الذي تتعرّض هويته للخطر وسيادته الوطنية للإبادة بفعل سياسة استئصال الإسلام التي تمارسها أميركا ومن لفّ لفّها.
حديث الشعب الفلسطيني الذي يرفع عالياً لواء العزة في انتفاضته المجيدة, ويبطل بدمه مفعول سيف القسوة والظلم الصهيوني. حديث شعب لبنان الذي سخّر بمقاومته الباسلة من أسطورة عدم إمكان دحر الغاصبين المحتلّين, وأنزل بهم هزائم مخزية.
حديث شعوب آسيا الوسطى وشرق آسيا وأفريقيا والأقلّيات المسلمة في أوربا وأميركا، وكل منها يخبر عن آلام وأفراح ومصاعب ونجاحات.
وأخيراً حديث شعب إيران الإسلام الـذي يقدّم بكل عز وافتخار للمشتاقين فصولاً من المقاومة وحرارة الإيمان وتجاربه اليومية في مواجهة المؤامرات والأحقاد وعزمه الراسخ في تحقيق المجتمع الإسلامي الأمثل.
بوادر الأزمة المادي في الغرب
الاُمة الإسلامية تقطع اليوم هذا الطريق اللاحب الطويل من النجاحات والإخفاقات، وإنّ الحكومات الإسلامية والشعوب الإسلامية تتحمّل مسؤولية كبرى تجاه هذا الواقع، والعالم الإسلامي يمّر بمرحلة حسّاسة من تاريخه. وبفهم طبيعة هذه المسؤولية وإتخاذ موقف ملتزم تجاهها يمكن تجاوز فصل من الضعف والنكد في كتاب تاريخ الإسلام، والانتقال إلى فصل آخر من فصول عزّة العالم الإسلامي وعظمته وسطوع نجمهالمادي والمعنوي.
أما الغرب الذي يقف وراء تركيز عوامل الضعف والتخلّف في البلاد الإسلامية، فيعاني اليوم من عقد مستعصية كبرى، وأنّ فساد المادية ونظام سلطة رؤوس الأموال يكشف بالتدريج عن توغّله إلى قواعد تلك الحضارة المادية، ويبرز رويداً رويداً تلك الأمراض المزمنة التي كانت مختفيّة تحت الوهج المبهر للتقدّم الصناعي, وينبّئهم بقرب الأزمة. العالم الإسلامي يحسّ بهبوب نسيم الصحوة الإسلامية على وجهه المرهق الملتهب, ويرى مظاهرها في كل بقاع العالم الإسلامي خاصة في إيران الصامدة والمجاهدة وكذلك في فلسطين ولبنان.
نور الأمل يملأ قلوب الشباب في كل مكان، وطلاسم تهكّم الغرب وإهانته وتحقيره قد انفضت، وهذه الفرصة لم تتوفّر مجاناً، بل بتضحية آلاف الأرواح الطاهرة على هذا الطريق. وما نستقبله من درب هو أيضاً صعب طويل، لكنه مفعم باليقين وخال من أي شك وترديد.
الشعب الفلسطيني أخذ على عاتقه اليوم القسط الأكبر من مسؤولية شقّ هذا الطريق والسير عليه، وعلى الجميع أن يعاضدوا هذا الشعب المظلوم والشجاع والمتيقّظ والشعوب الاُخرى تستطيع بمناصرتها الشعب الفلسطيني البطل أن تفي بحصتها في مواصلة هذا الطريق.
لجوء العدو المستكبر إلى الحرب الثقافية والنفسية
العدو المستكبر الذي يرى في الصحوة الإسلامية تهديداً لأطماعه ومصالحه العدوانية، عمد إلى أهم ما في يده من سلاح لمواجهة هذا المدّ المتصاعد, وهو سلاح الحرب النفسية, المتمثّل ببثّ اليأس والاستهانة بالهوية، واستعراض العضلات.
وسيشهد المستقبل ممارسة آلاف الوسائل الإعلامية الاُخرى.. كل ذلك من أجل بثّ اليأس في قلوب المسلمين إزاء مستقبلهم، ودعوتهم إلى مستقبل منسجم مع أهدافه الخبيثة.
هذه الحرب الثقافية والنفسية منذ بداية عصر الاستعمار حتى الآن كانت أمضى أسلحة الغرب في فرض سيطرته على البلدان الإسلامية، وكان هدف هذه السهام السامية بالدرجة الأولى النخبة والمثقفين ثم سائر الجماهير، ومواجهة هذه الدسيسة إنما تكون بالإعراض عن ثقافة الغرب المتغطرسة المتسلّطة. الثقافة الغربية يجب غربلتها بَيْدَ النخب والمثقفين، يؤخذ منها ما كان مفيداً، ويلفظ من الفكر والعمل ما كان منها مضرّاً ومخرّباً ومفسداً.
واجب العلماء والمثقفين
والمعيار في هذه الغربلة الكبرى، هو الثقافة الإسلامية وما يقدّمه القرآن والسنة من فكر معطاء وضّاء وموجّه. هذا فصل أساسي من النضال الشامل الواعد الذي ينهض به علماء الدين والمثقفون والنخب السياسية في جميع أرجاء العالم؛ على أمل أن يستطيع حج هذا العام ترسيخ وتقوية عزم الجميع على قطع هذا الطريق المبارك الكريم.
أسأل الله سبحانه وتعالى لكل حجاج بيت الله الحرام توفيق حج مقبول وعطاء ثرّ من بركة هذا الموسم الفريد. والتحيّات المباركة بسعة بركات الله وفضله ورحمته لحضرة بقية الله الأعظم (أرواحنا فداه وعجل الله تعالى فرجه)، الذي يحتمل حضوره المبارك في هذا الموسم السنوي، راجياً قبول دعائه المستجاب بحق الجميع.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
علي الحسيني الخامنئي
6 ذي الحجة 1421 هـ ق
12/12/1379 هـ ش
تعليقات الزوار