بيان الحج لولي أمر المسلمين الإمام الخامنئي عام 1422 ﻫ ق
2008-11-20
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد البريّة محمد وآله الطاهرين وعلى صحبه المخلصين والسلام على عباد الله الصالحين.
قال الله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}[1]
مرّة اُخرى حلّ موسم الحج مهوى قلوب المتدينين ونعيم الذاكرين وفرصة الصالحين؛ وفي هذه الضيافة العامة يشارك جمع قَدِموا من كل فج عميق.
الإنغمار في ذلك الجو الوضّاء من العبادة والخشوع, واستحضار ذكريات الإسلام, والبحث عن معالم العزّة والفلاح التي تسطع بها تلك البقعة المباركة سطوع الشمس من أعماق التاريخ في مقدمة ما تناله هنا القلوب والعقول المتعطّشة الواعية.
هنا حيث يتحرر الإنسان ـ ولو لمدّة ـ من كل ما يغلّه ويدّنسه ويستغفله، مع تجرّده من ملبسه وزينته الجسدية، يغمر لباس الإحرام الموحّد الأبيض الأفئدة والأجسام بالطهر والصفاء والانسجام وينفتح السبيل لكل ما فيه الفلاح الأبدي من رؤية واستماع وفهم، وتتفتح براعم الصلاح والمعرفة والإخوة الإسلامية, وتتجلّى يد الهداية الإلهية.
هنا المجمع الكبير للأمة الإسلامية, حيث يتمرّن الأفراد على أن يكونوا مع الله ومع الناس، وحيث يكسرون أغلال "الأنا" الكاذبة المشركة، ويرتبطون بالذات الحقيقية والإلهية.
هنا منطلق البراءة من جنود الشيطان والإلتحاق بجنود الرحمن ومقر تجديد العهد مع {أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} والاستجابة لـ {أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}[2].
هنا ساحة تجلّي الاُمة الإسلامية الواحدة, ومظهر العزّة المعنوية والقدرة البشرية لجموع المسلمين.
هذه الخصائص قد تبلور معناها أكثر في أيامنا هذه, حيث بلغت المواجهة بين الحق والباطل وقوى الخير والشر مرحلة خطيرة وحساسة.
نداء نبي الرحمة يرتفع اليوم أوضح مما مضى, ودعوة الإسلام التي هي دعوة إلى العدالة والحرية والفلاح تعلو بصلابة أكثر من ذي قبل.
قطع الليل الإستكباري المظلم واستفحال الظلم والاستهتار من جهة, والجهل والخرافة والتضليل من جهة أخرى, كلها ظواهر جعلت البشرية محتاجة أكثر من أي وقت مضى إلى نور الفلاح, ومتعطّشة إلى العدل والسلام والإخوة.
نداء {تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ}[3]، وهو نداء الرفض لطواغيت القوة والثروة ونداء حشد الصفوف أمام الظلم والظالمين، يناغي آذان وقلوب المقهورين والمظلومين أكثر فأكثر. وبشرى {إِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}[4] تبعث فيهم الثقة والأمل. وأول المجموعات البشرية المخاطبة بهذا الوحي الإلهي الشعوب المسلمة.
الصحوة الإسلامية هزّت العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه, وأعادت إليه الإحساس بهويته وشخصيته، ورفّت راية العزة والعظمة الإسلامية في إيران.
والشعب الفلسطيني بتمسّكه بشعار الإسلام قد أنزل اليأس والهزيمة بالصهاينة، والشباب في البلدان الإسلامية دخلوا ساحة المطالبة بالأهداف الكبرى وشكّلوا أمام المعتدين والمستكبرين في العالم تهديداً كبيراً.
وعلى الرغم مما تعمد إليه مراكز الإعلام الصهيونية والإستكبارية من عمليات اتّهام وتحريف, تمارسها ضد الإسلام ودعاته الشجعان المضحّين؛ فإن الفكر الإسلامي المحمدي الأصيل يبرز وجهه الناصع إلى العالم بالتدريج.
وسيعلم الجميع تدريجاً أنّ الإسلام دين العدل والحرية والفلاح، دين العقل والفكر والعلم.
الإسلام دين الحياة، لكنه يرى أنّ حياةً خالية من الشرف والحرية والعزة هي الموت بعينه.
وهو دين العقلانية، لكنه يحارب تلك النفسانية التي تتظاهر بالعقلانية والتي ينطلق منها نفس اُولئك الذين وسموا أنبياء الله بالجنون.
وهو دين الإتحاد والإخوة والسلام العالمي؛ لكنه يرى اتحاد الظالم مع المظلوم والشد على يد الجلاّد ـ عند جنازة شهداء العدالة ـ خيانةً.
هو دين الواقعية واحتساب الاُمور، ولكنه يعتبر تبرير الظلم العالمي بإسم الواقعية ذنباً من الذنوب.
هو دين الشريعة الخالدة؛ لكنه يرفض الجمود والسطحية.
هو دين الإجتهاد وتطوّر الفكر؛ لكنه يرفض البدعة والالتقاط.
إنه دين الصفح والمسامحة؛ لكنه لا يسمح بالرضوخ للظلم والذل.
إنه دين الحضارة والمدنية والعلم؛ لكنه يعتبر العلم المستخدم لأسر الشعوب وقتلها, ويرى المدنية التي تستخدم لإهانة البشرية وإذلالها جهلاً وهمجية.
إنه دين الجهاد؛ لكنه لا يعتبر الحرب الهوجاء التوسّعية جهاداً.
إنه دين العزة والكرامة والمقدرة والحاكمية؛ لكن الوصول إلى ذلك لا يبرر التوسل بالطريقة غير الشريفة.
الإسلام حارس حرمة البشرية وحقوقها وضامن الأخلاق والفضيلة وناشد الأمن والاستقرار.
أفظع ألوان الدجل وأرذلها يمارسها اُولئك الذين يحاولون أن يصوّروا الإسلام بأنه خصم لحقوق الإنسان والأمن والمدنية؛ مستهدفين بذلك تبرير الممارسات التوسّعية الظالمة ضد الشعوب المسلمة.
أيتها الشعوب المسلمة، يا علماء الدين، أيها المثقفون، يا شباب العالم الإسلامي الغيارى: إنّ الاُمة الإسلامية اليوم هدف لأنواع التهديد والإهانة.
والإستكبار الهائج بقيادة النظام الأمريكي وبسمسرة واستثارة النظام الصهيوني يستغل كل الاستغلال تفكّك العالم الإسلامي وتفرّق الشعوب الإسلامية.
الثورة الدامية التي ينهض بها الشعب الفلسطيني, وراية الافتخار التي يرفعها هذا الشعب بانتفاضته؛ قد أثارت سخط الدوائر السياسية الإستكبارية, وبعثت فيهم الهلع والفزع؛ ودفعتهم إلى أن تسوّل لهم أنفسهم ارتكاب أعمال وقحة, والى استعراض جنوني لقوّتهم.
حوادث سبتمبر في نيويورك قد أصبحت ذريعة لتزايد غطرسة البيت الأبيض, ولترتكب دولة الصهاينة جرائم في فلسطين لم يسبق لها نظير.
وبعد العمليات المأساوية التي ارتكبتها أمريكا في أفغانستان فإن الطبيعة العسكرية الفظّة لحكومة أمريكا تعمد باستمرار إلى رفع وتيرة دفع الساحة العالمية إلى حالة من اللاأمن والمجازر والحروب.
مكافحة الإرهاب والدفاع عن السلام في الشرق الأوسط تبدّل إلى ذريعة للبطش والعربدة الأمريكية, وغطاء للتوسّع والهيمنة على المصالح والمصادر الحياتية للشعوب.
إنها لسخرية ما بعدها سخرية أن يدّعي مكافحة الإرهاب في العالم من كان له السهم الأوفى في ارتكاب الاغتيالات وتدبير المؤامرات وإنتاج أسلحة الدمار الأكثر فتكاً وحماية أخطر الإرهابيين.
وأنها لطعنة نجلاء في قلب الحقيقة حين يطلق اسم الدفاع عن السلام على قتل النساء والرجال والأطفال الفلسطينيين وهدم بيوتهم على رؤوسهم وإخراجهم من وطن آبائهم وأجدادهم.
إيران الإسلام يصفها طواغيت القصر الأبيض بأنها تعيق محاولات عملية السلام في الشرق الأوسط، غافلين عن أنّ العدوان الآثم على حقوق الشعب الفلسطيني واغتصاب أراضيه بإسم السلام الخادع هو كافٍ لفشل كل هذه المحاولات, ولا تحتاج إلى أن يعيقها شخص أو دولة.
هذه المسيرة الظالمة محكوم عليها ذاتياً بالفشل الذريع, ولا أدلّ على ذلك من تصاعد المواقف الواعية الغيورة المتفانية للشعب الفلسطيني.
إيران الإسلام لا تترك راية العزّة واليقظة والفلاح والتحرر جراء هذه التهديدات المتغطرسة الإستكبارية.
إيران الإسلام تعتبر الإرهاب عدو سعادة البشرية، وقد دفعت ثمناً غالياً لمكافحة الإرهابيين الذين تربّوا على يد أمريكا وإسرائيل.
إيران الإسلام لن تستسلم أمام القوة, ولن يرهبها الوجه الإستكباري العبوس.
إيران ـ شعباً وحكومةً ـ تعرف قيمة مواقفها الشجاعة المستقلّة المتعقلّة, التي تعلّمتها من دروس الإمام الخميني العظيم (قدس سره) وتدافع عنها.
المسيرات الضخمة الهائلة العامة للشعب الإيراني في ذكرى إنتصار ثورته هذا العام كانت ردّاً حاسماً ذكياً على تلك الأبواق الجوفاء, التي ظنّت باطلاً أنها قادرة عن طريق الإلقاء والإعلام على خلق فجوة بين الشعب ودولته الإسلامية أو بين الأجهزة الرئيسية في الدولة.
دولة إيران تدين التهديدات وعمليات إشعال نيران الحروب الأمريكية الدالة على الروح العدوانية والهمجية.
وهذا الاتجاه في الدائرة الأمريكية إلى ممارسة العنف يدّل على وجود ثغرات ضعف وتفكّك أساسي عميق في بنيان السلطة الظالمة الإستكبارية.
إيران ـ شعباً وحكومةً ـ تدعو الشعوب الشقيقة إلى الاتحاد وتمدّ لهم يد الأخوة.
على العلماء والمثقفين والسياسيين في العالم الإسلامي أن يكرروا الدروس في الوحدة والاستقامة والمعرفة, وأن يعدّوا الشباب الوثّاب في هذا الجيل لتحمّل مسؤولية مواجهة الأحداث الكبرى, وحمل الأمانة العظمى, ووضع أسس الاُمة المنسجمة الموحّدة.
الحج منطق عظيم ومصدر فيّاض لا ينضب لهذا الجهاد العظيم المبارك.
أسأل الله تعالى أن يعيدكم جميعاً إلى أوطانكم وأنتم مزوّدون بذخيرة ثرّة من المعنوية والمعرفة، وأن تحظى الاُمة الإسلامية بدعاء ولي الله الأعظم المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
السيد علي الخامنئي
الخامس من ذي الحجة الحرام عام 1422 هـ. ق
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة الانبياء، الآية: 92.
[2] سورة التوبة، الآية: 2.
[3] سورة آل عمران، الآية: 63.
[4] سورة الحج، الآية: 39.
تعليقات الزوار