نداء الإمام الخميني إلى حجاج بيت الله الحرام عام 1406هـ

2007-08-27

نداء الإمام الخميني إلى حجاج بيت الله الحرام

1 ذي الحجة 1406 هـ ق

بسم الله الرّحمن الرّحيم

{وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أنّ الله بريء من المشركين ورسوله…}

صدق الله العلي العظيم        

الحمد لله وحده، والشّكر له على ما أنعم به من عناية خاصة فأوحى إلى أنبيائه العظام من آدم صفيّ الله حتى محمّد حبيب الله (عليهم صلوات الله وسلامه) ليعلّموا المجتمعات البشرية مناهج الحياة ويبيّنوا لها هدف الخلقة ومقاصدها.

وسلام غير منقطع على أولي العزم من الرسل مثل؛ إبراهيم مدمّر الأصنام وموسى محطّم الطواغيت، وعيسى المسيح الذي إن واتته الفرصة لسار على نهجهما، ومحمد مهشّم كل الأوثان ومعلن البراءة من كل المشركين والظالمين.

وسلام دائم على أئمة المسلمين من روّاد الكفاح ضدّ الظالمين المتلبّسين بلباس الإسلام، وضدّ الجبارين الغاصبين لحقوق الله وحقوق الناس، وضدّ المتزمّتين من ذوي الثفنات السود.

وسلام على إبراهيم خليل الله الذي قارع لوحده الأصنام وعبدة الأصنام غير مستوحش من الوحدة والنار، وعلى موسى كليم الله الذي نهض بعصا رعيه بوجه الفراعنة ولم يخش من الغربة.

وسلام على محمّد حبيب الله الذي نهض لوحده وحارب الكفّار الظالمين حتى آخر ساعات حياته، ولم يشك من قلة العُدّة والعِدّة.

وسلام على المسلمين الأوائل في صدر الإسلام الذين أغاروا بمعدّاتهم القليلة على السلاطين الظلمة في الروم وايران، ولم ترعبهم قلّة الأنصار.

وسلام دائم على علي بن أبي طالب الذي حارب الجلاّدين المتظاهرين بالإسلام، والمتزمّتين المتظاهرين بالتنسّك ممّن هم أسوأ من الكفار، دون أن يخشى في ذلك أية قوّة.

وسلام على الحسين بن علي الذي نهض مع العدد القليل من أصحابه للإطاحة بعروش الظالمين الغاصبين للخلافة، فلم تدفعه قلة العُدة والعدد إلى مداهنة الظالمين، جاعلاً كربلاء مصرعاً له ولأبنائه وأصحابه القلائل، ورافعاً صوته: "هيهات منّا الذلّة" ليوصله إلى أسماع طلاّب الحق.

وما صدر عن هؤلاء العظام من أولياء الله يحسبه القوميّون والملتصقون بالدنيا مخالفاً للعقل والشرع. هؤلاء يرون أنّ العقل لا يسمح للنهوض بدون معدّات كافية ولا يجيز الشرع ذلك، وهؤلاء يعتقدون أن التحرك من بلد إلى بلد يمتلك حكومة ونظاماً يخالف العقل ويتعارض مع روح القومية، ويتعارض أخيراً مع الموازين الشرعية والإلهية، وهؤلاء يذهبون إلى أن الصلح مع النمروديين والفراعنة والملحدين والظالمين ومداهنة المجرمين المتظاهرين بالإسلام والمتظاهرين بالزهد والتنسّك هو طريق الصواب والعقل والشرع، وانطلاقاً من هذا الدافع يرون الاستسلام أمام أمريكا الطامعة وأتباعها ومداهنتهم لازماً شرعاً وعقلاً، وعدم العمل بذلك مخالفاً للعقل والشرع!!

هؤلاء يؤمنون بأن الدفاع عن الشعب العراقي المظلوم الذي يعاني ما يعاني من الجلادين ويذبّح علماؤه العظام الأبرار ممّن لا ملجأ لهم، أفواجاً أفواجاً، ويتلوّى نساؤه وأطفاله تحت سياط الظالمين ويموتون تحت وطأتها منادين يا للمسلمين… يعتقدون أن الدفاع عن هؤلاء مخالف للعقل والشرع. إنّها الأطر القومية الضيقة وعوامل الخلود إلى الأرض التي تدفع إلى نسيان مصالح المسلمين، وتجعل الدفاع عن هذه المصالح منحصراً بشعب خاص، وهذا رفض لما جاء في القرآن الكريم وأحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين (عليهم السلام). وسيرة الأنبياء العظام والأولياء الكرام (صلوات الله وسلامه عليهم) على مرّ التاريخ.

في تلك الأيام العصيبة المؤلمة حين هجم العدوّ المجرم بغتة، أرضاً وجواً وبحراً على بلدنا واحتل جزءً عظيماً منه، وحين عمد المجرمون الداخليون وكبار الطواغيت في الخارج وعملاؤهم إلى التخريب في كل البلاد وإلى القتل والنهب.. في تلك الأيام العصيبة استطاع الشعب الايراني الرسالي الغيور بجيش منفرط وبقوى مسلحة قليلة مبعثرة وبالاتكال على الله تعالى وقوة الإيمان أن يطرد العدو منهزماً صاغراً، فما ضعف وما وهن، بل رحّب بالشهادة ورفض المسالمة والمصالحة مع الأفعى المجروحة، اللّهم إلاّ شرذمة قليلة من ضعاف القلب أو من المجرمين الطالبين للدنيا والراحة من غير المهتمّين بمصالح الإسلام والمسلمين رفعت عقيرتها قلقة مضطربة بالصلح والمسالمة، متعمدة أو جاهلة أنّ الصلح مع هؤلاء المجرمين في أي وقت من الأوقات يؤدي إلى مصادرة كرامة الإسلام والدولة الإسلامية، وإلى تورّط بلدنا العزيز بشكل دائم في براثن القوى العظمى. واليوم، إذ يتمتع نظام الجمهورية الإسلامية ـ بفضل الله تبارك وتعالى وعناية بقيّة الله (روحي فداه) ـ بالاقتدار في كل النواحي، ويمتلك جيشاً قوياً وحرساً عظيماً مؤمناً باسلاً وقوى مسلحة مقتدرة وشعباً حاضراً في الساحة، وقد تمّ قصم ظهر العدوّ في الأبعاد المختلفة.. فهل يبقى للمداهنة وللصلح المفروض الذي هو أسوأ من الحرب معنىً لنا؟!

ومن الذي لا يعلم أن الصلح مع هذا الحزب هو اعتراف رسمي بشرعية حكومة البعث الذي يحكم على بلد إسلامي بالقتل والإجرام؟!

ومن الذي لا يعلم أنّ عملاً كهذا من أكبر الذنوب وأوضح الخيانات بالمسلمين؟!

شعبنا العزيز ـ انطلاقاً من التزامه بالإسلام ـ سيواصل الحرب حتّى الشهادة وحتى لقاء الله الذي هو من أعظم مطامح أولياء الله وأصحاب العرفان، وإن خال الغافلون هذا اللقاء فناءً، وحسبه الماديّون إبادةً.

والآن إذ يهاجر حجّاج بيت الله الحرام من بيت الجسد والدنيا إلى الله ورسوله وهو بيت الروح والقلب، ويعزفون عن كل شيء سوى المحبوب الحقيقي فلا يرون غيره في داخلهم وخارجهم.. عليهم أن يعلموا أن الحجّ الابراهيمي المحمّدي غريب مهجور منذ سنين على الصعيد المعنوي والعرفاني وكذلك على الصعيد السياسي والاجتماعي. وعلى الحجاج الأعزاء من جميع البلدان الإسلامية أن يزيلوا عن بيت الله غربته على كافة الأبعاد. لندع أسراره العرفانيّة والمعنوية إلى العرفاء الربانيين، ويهمّنا الآن بعده السياسي والاجتماعي وهو بعد نحن ـ بحقّ ـ بعيدون عنه منذ سنين. ونحن ملزمون أن نجبر ما فات. هذا المؤتمر المفعم بالسياسة يقام بدعوة إبراهيم ومحمد (صلوات الله عليهما وآلهما) ويجتمع فيه القادمون من كل فجّ عميق ومن أنحاء الأرض ليشهد الناس منافعهم وليقوموا بالقسط، وليواصلوا عمل إبراهيم ومحمد (صلوات الله عليهما وآلهما) في تحطيم الأصنام وعمل موسى في مقارعة الطواغيت وفرعون، وأي طاغوت من طواغيت التاريخ يبلغ ما بلغه الشياطين الكبار وطواغيت زماننا الطامعون الذين يدعون كل مستضعفي العالم إلى أن يسجدوا لهم ويثنوا عليهم، ويجعلون كل عباد الله الأحرار رقيقاً مطيعين لهم.

فريضة الحج التي هي تلبية لنداء الله وهجرة نحوه تعالى تقوم تأسّياً بإبراهيم ومحمد (صلوات الله عليهما وآلهما) على أساس رفض كل الأصنام والطواغيت والشياطين الكبار والصغار، وأي صنم أكبر من الشيطان الأكبر أمريكا الطامعة والاتحاد السوفيتي الملحد المعتدي؟! وأي طاغوت أكبر من طواغيت زماننا؟!

بتلبيتكم قولوا (لا) لكل الأصنام..

ارفضوا كل الطواغيت الصغار والكبار.

اجعلوا قلوبكم في الطواف حول بيت الله خالية من غير الله، فالطواف يرمز إلى عشق الله تعالى، ونزّهوا نفوسكم عن أن تخاف من غير الله تعالى، وبموازاة عشق الله، تبرّأوا من الأصنام الكبيرة والصغيرة ومن الطواغيت وأتباعهم، فالله تعالى وأولياؤه قد تبرّأوا منهم وكل أحرار العالم بريئون منهم..

وفي لمسكم للحجر الأسود بايعوا الله لأن تكونوا أعداءً لأعداء الله ورسوله والصالحين والأحرار، ورافضين لإطاعتهم وعبوديتهم، أيّاً كانوا، وأينما كانوا.

واقتلعوا جذور الخوف والضعف من قلوبكم، فإن كيد أعداء الله وعلى رأسهم الشيطان الأكبر كان ضعيفاً، مهما تفوّقوا في وسائل القتل والدمار والاجرام.

وفي السعي بين "الصفا" و"المروة" اسعوا بصدق وإخلاص لأن تجدوا المحبوب، فإن وجدتموه تنقطع كل الانشدادات الدنيوية وينقلع كل شك وتردد ويزول كل خوف ورجاء حيواني وتنفصم كل القيود المادية، فتتفتح براعم الحرية وتتحطم القيود التي كبّل بها الطواغيت عباد الله وأسروهم واستعبدهم.

واتّجهوا إلى "المشعر الحرام" و"عرفات" بشعور وعرفان، وزيدوا دوماً من ثقتكم بوعد الله وحكومة المستضعفين، وتفكّروا بآيات الله في سكوت وسكون، وفكّروا في إنقاذ المحرومين والمستضعفين من مخالب الاستكبار العالمي، واطلبوا انفتاح سبل النجاة في تلك المواقف الكريمة من الله تعالى.

بعد ذلك اذهبوا إلى "منى" واحصلوا فيها على الأماني الحقّة المتمثلة في تقديم أعزّ ما عندكم قرباناً على طريق المحبوب المطلق، واعلموا أنكم لا تصلون إلى المحبوب المطلق ما لم تجتازوا كل ما تحبونه وفي ذروته حبّ النفس وما يتبعه من حبّ الدنيا.

وفي هذه الحالة ارجموا الشيطان ليبتعد عنكم، وأعيدوا رجمه في مواضع مختلفة حسب الأوامر الإلهية كي يهرب الشيطان وجميع فراخه.

إن شرط تحقق الآمال الفطرية والانسانية في كل المناسك والمواقف هو اجتماع كل المسلمين في هذه المراحل والمواقف ووحدة كلمة جميع الطوائف الإسلامية دون أن تفرق بينهم اللغة واللون والقبيلة والطائفة والوطن والعصبيات الجاهلية، وشرط ذلك النهوض المنسجم بوجه العدوّ المشترك.. وهو عدّو الإسلام العزيز، هذا العدو تلقى في عصرنا صفعة من الإسلام، ولذلك يرى الإسلام سداً أمام أطماعه، ويسعى عن طريق بث التفرقة والنفاق لأن يزيل هذا المانع المحسوس من طريقه، ويحرك عملاءه، وعلى رأسهم رجال الدين الحسّاد الدنيويون المتملّقون على أعتاب السلطان، كي ينفّذوا أهدافه في كل مكان وفي مختلف الأوقات وخاصة في موسم الحج والاجتماعات المقدسة.

على المسلمين المجتمعين في مواقف هذه العبادة الرامية إلى تجميع المسلمين من كل أرجاء الأرض ليشهدوا منافع لكل المستضعفين في العالم، وأيّ منافع أعظم من قطع يد الطامعين عن البلدان الإسلامية؟! عليهم أن يراقبوا بحذر الأعمال المعادية للإسلام والقرآن الصادرة من هؤلاء العملاء الخبثاء ورجال الدين المفرّقين، وعليهم أن يطردوا الذين لا يقبلون النصيحة منهم ولا يعيرون أهمية للإسلام ولمصالح المسلمين، فهؤلاء أفظع من الطواغيت وأخبث منهم.

وها أنا ذا أذكر بأمور حسب العادة سائلاً الله أن يوفق الجميع لما فيه خدمة الإسلام:

1 ـ أطلب من حجاج بيت الله الحرام ـ أيدهم الله تعالى ـ أن يتلقوا أعمال الحج ومناسكه بشكل دقيق من علماء الدين المحترمين في القوافل، وأن لا يقدموا على أي عمل بدون توجيههم، ومن الممكن أن يؤدي التساهل ـ لا سمح الله ـ إلى بطلان العمل وعدم إمكان جبرانه إلى الأبد، أو إلى أن تبقوا في الإحرام وتقعوا أنتم وذووكم في حرج عند العودة. وهذا تكليف شرعي لا تجوز الغفلة عنه.

وأوصي علماء الدين المحترمين أن يوضحوا المسائل لمجموعاتهم بحيث يفهمها الجميع في جلسات عديدة، وإضافة إلى ذلك عليهم أن يراقبوهم أثناء العمل ويوجهوهم.

2 ـ أذكّر الحجاج المحترمين أن لا يغفلوا في هذه المواقف المعظمة وخلال السفر إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة عن الاستئناس بالقرآن الكريم هذه الصحيفة الإلهية وكتاب الله الهادي، فكل ما عند المسلمين وما سيكون عندهم خلال عصور التاريخ الماضية والقادمة إنما هو من البركات المغدقة لهذا الكتاب المقدس، وبهذه المناسبة أطلب من كل العلماء الأعلام وأبناء القرآن والعلماء العظام أن لا يغفلوا عن هذا الكتاب المقدس الذي فيه تبيان كل شيء، وهو الصادر عن مقام الجمع الإلهي إلى قلب النور الأول فسطع ظهور جمع الجمع، وهو الصورة العينية المدونة لجميع الأسماء والصفات والآيات والبينات، ونحن قاصرون عن أبعاده الغيبية فلا يعلم أسرارها إلاّ جامع من خوطب به (عليه الصلاة والسلام). والأولياء العظام تعلّموا ما تعلّموا أخذاً عنه (صلى الله عليه وآله). والمخلصون من أهل المعرفة انتهلوا من ينبوعه بمقدار استعدادهم وسيرهم على طريق بذل الجهد والرياضات القلبية. والآن فإن الصورة المدونة لهذا الكتاب المأخوذ عن لسان الوحي بعد النزول قد وصلت إلى أيدينا كاملة دون زيادة حرف أو نقصان حرف، فالحذر الحذر من هجره لا سمح الله. نعم، الأبعاد المختلفة لهذا الكتاب بكل آفاقها ليست في متناول البشر العاديّين، لكن على أهل المعرفة والتحقيق في الفروع المختلفة أن ينهلوا بقدر علمهم ومعرفتهم وكفاءاتهم من هذا الكنز العرفاني الإلهي الفيّاض والبحر الموّاج النازل على محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم)، ويقدموه بتعبيرات مختلفة قريبة للأذهان إلى الآخرين.

على أهل الفلسفة والبرهان أن يدرسوا الرموز الخاصة بهذا الكتاب الإلهي وما فيه من إشارات إلى مسائل عميقة فيكتشفوا براهين الفلسفة الإلهية ويحلّوها، ويضعوها في متناول يد أهلها. والمهذبون من أصحاب الآداب والاخلاق عليهم أن يرتشفوا جرعة من عالم (أدّبني ربّي) ليقدّموها إلى عطاشى هذا الكوثر، وليؤدّبوهم بآداب الله إلى الحدّ الميسور. والمتقون التوّاقون إلى الهداية عليهم أن يحملوا بارقة ممّا أخذوه من نور التقوى عن هذا النبع الفيّاض بالهدى للمتقين إلى العشاق الوإلهين إلى الهداية الإلهية. وأخيراً على كل مجموعة من العلماء الأعلام والمفكرين العظام أن يشمّروا عن ساعد الجدّ لتناول بعد من الأبعاد الإلهية لهذا الكتاب المقدس، ويقدّموا بأقلامهم ما يحقق آمال عشاق القرآن. ولتنفقوا أوقاتكم في الأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والثقافية في القرآن، وما فيه من مسائل الحرب والسلم، ليتبين أن هذا الكتاب مصدر كل شيء من عرفان وفلسفة وأدب وسياسة، كي لا يقول الجاهلون إن العرفان والفلسفة ليست سوى نسج وخيال، ولكي لا توصم الرياضة والسلوك العرفاني بأنها دروشة، ولكي لا يدّعي مدّعٍ أن الإسلام لا علاقة له بأمور السياسة والحكم وإدارة شؤون المجتمع، وأن هذا الأمور خاصة بالسلاطين والرؤساء وأهل الدنيا، ولكي لا يذهب أحد إلى أن الإسلام دين صلح ومداهنة ومبرّأ من الحرب والجدال حتى مع الظالمين. وأخيراً.. حتى لا يمنى القرآن بما مني به دين المسيح العظيم على يد الكنيسة الجاهلة والسياسيين المتلاعبين.

فيا أيتها الحوزات العلمية والمحافل الدراسية الجامعية! انهضي وانقذي القرآن من شر الجاهلين المتنسّكين والعلماء المتهتّكين الذين يهتكون حرمة القرآن على عمد وجهل. وأقول عن جدّ لا عن مجاملة ـ إني آسف على ما فات من عمري في خطأ وجهل، وإنكم يا أبناء الإسلام الغيارى في الحوزات والجامعات، ابعثوا في الحوزات والجامعات يقظة تدفعها إلى الاهتمام بشؤون القرآن وأبعاده المختلفة الكثيرة. اجعلوا تدريس القرآن نصب أعينكم في جميع أبعاده، كي لا تندموا وتأسفوا لا سمح الله على ما فات من شبابكم حين يهجم عليكم ضعف الشيب في آخر العمر، مثل كاتب هذه السطور.

3 ـ علينا أن نعلم أن الحكمة في خلود القرآن الكريم هي أنه موجّه للبشرية على اختلاف ألوانها وقومياتها ومستوياتها حتى قيام الساعة، ومتضمن للمسائل الحياتية المهمة على الصعيدين المعنوي والمادي. ومسائل هذا الكتاب لا تختص بزمان أو مكان، ولا يظنّن أحد أن حج إبراهيم وموسى ومحمد (عليهم وعلى آلهم السلام) مقتصر على زمان معين.

الأذان بالبراءة من المشركين لا يختص بزمان. إنه دستور قرآني خالد، وإن انقرض مشركو الحجاز، وهكذا دور الكعبة في كونها (قياماً للناس) خالد أيضاً في كل زمان ومكان، والتجمع البشري العام حولها كل سنة من العبادات المهمة.

انطلاقاً من هذا المفهوم صدرت التوصيات المذكورة من المعصومين (عليهم السلام) في إقامة ذكر سيد الشهداء الحسين بن علي (عليه السلام) إلى الأبد، وفي إعلان مظلومية أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وظالمية اليزيديين عليهم لعنة الله. وعلى الرغم من انقراضهم فإن صرخة المظلوم بوجه الظالم يجب أن تبقى خالدة، وبركات هذا الخلود مشهودة ملموسة في إيران اليوم من خلال الحرب ضد اليزيديين.

على حجاج بيت الله الحرام في هذا التجمع البشريّ العام الموّاج أن يرفعوا أصواتهم أكثر بالبراءة من الظالمين، وأن يمدّوا يد الأخوة إلى بعضهم، وأن لا يقدّموا مصالح الإسلام السامية ومصالح الأمة الإسلامية المظلومة قرباناً على مذبح التفرقة الطائفية والقومية، وأن يحثوا إخوتهم المسلمين أكثر فأكثر على توحيد الكلمة وترك العصبيات الجاهلية التي لا ينتفع منها إلاّ الطامعون وأتباعهم. عندئذ ستشملهم نصرة الله تعالى ويتحق فيهم ـ إن شاء الله ـ وعده سبحانه. وإن انجرّوا ـ لا سمح الله ـ نحو ما يرسمه لهم الطامعون وعلى رأسهم رجال الدين المأجورون المفرقون، فقد ارتكبوا معصية كبرى وسيشملهم غضب القادر الجبار، وسيبقون في قيود القوى الكبرى والعياذ بالله.

4 ـ أطلب من الحجاج الايرانيين الكرام أن يفهموا أنهم من أي بلد يغادرون، وإلى من يتجهون. إنهم يغادرون بلداً نهض من أجل الإسلام العزيز، ومن أجل تطبيق الأحكام الإلهية لتحل محلّ أحكام الطاغوت، وضحّى فيه النساء والرجال والشيوخ والشباب بكل ما عندهم، وجاهد شبابه الذين لا يعرف منزلتهم إلاّ الله، فنالوا الشهادة أو أصيبوا في أجسامهم أو وقعوا في الأسر، واندفع شعبه بشوق ليبذل الروح والولد والمال والمتاع في سبيل الله متحملاً حرقة فقدان الأعزّة.

إنكم تتجهون إلى بلد يضم بيت الله تعالى وكعبة آمال الأنبياء العظام والأولياء الكرام، إنه محل الوحي ومهبط جبرائيل الأمين وملائكة الله. تذهبون إلى الله كي تكون كل حركاتكم وسكناتكم إلهية، تذهبون إلى مذبح إسماعيل العزيز حيث فيه دروس التضحية بكل شيء على طريقه سبحانه، وتذهبون إلى مدينة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كي تصبحوا محمديين وتتعلموا كيف تعيشون وكيف تجاهدون وكيف تسارعون صوب المعشوق، تذهبون إلى قبر الرسول الأعظم وقبور الأولياء العظام الذين لم يأبهوا لحظة بالدنيا وزخارفها ولم يفكروا بشيء سوى الله وأوامره، ولم يقطعوا خطوة إلاّ على طريق رضاه. كونوا ـ إذن ـ واعين من أين تغادرون وإلى أين تتجهون!!

مسؤوليتكم ثقيلة جداً وحركاتكم في حضور الله ومراقبة أولياء الله وملائكته، وهي إضافة إلى ذلك أمام أنظار الآلاف من حجاج البلدان الإسلامية وحجاج مختلف بقاع العالم. ومن الممكن أن يكون قسم من هؤلاء قد تأثر بما تشيعه وسائل الإعلام المعادية للإسلام وايران، فهذه الأبواق تبذل جهدها صباح مساء لبثّ الأكاذيب حول الإسلام والشعب الايراني وحول المسؤولين العاملين في هذا البلد المظلوم، وتعكس عن الشعب الثائر لهذا البلد صورة غير واقعية. ولعل هذه الاشاعات أثّرت في بعض المسلمين أو جعلتهم في حيرة؛ وهكذا فإن شعبنا العزيز والمعوّقين والشهداء الأحياء وذويهم، وهم ليسوا بقليلين في القوافل، يراقبون أعمالكم. ها أنتم أمام هذا العبء الكبير والأمانة الإلهية والتكليف الإسلامي والوجداني والفطري. فإمّا أن تكونوا ـ إن شاء الله ـ من الذين يصونون دماء الشهداء وكرامة الإسلام وشعبكم المظلوم العزيز وترفعوا راية الحق وتدعوا إلى الإسلام والجمهورية الإسلامية بالقول والفعل، فتكسبون بذلك ثواب زيارة بيت الله الحرام وقبور الأولياء وخاصة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وتحظون برعاية الله تعالى ودعاء بقية الله (أرواحنا لمقدمه الفداء) وتنالون رحمة الباري سبحانه وخير الدنيا وثواب الآخرة؛ أو إنكم ـ لا سمح الله ـ تكونون للشيطان منادين ولإعلام أعداء الإسلام مروّجين ولحرمة الإسلام والجمهورية الإسلامية والشهداء الشاهدين والمصابين من الأمة هاتكين، عند ذاك ينالكم ما ينال غير المؤهّلين من الطرد عن الساحة الإلهية.

واليوم فإنكم أيها الأعزّة على مفترق طريقين: طريق السعادة الأبدية وكسب رضا الله تعالى وخاصّته، وطريق الشقاء والحرمان الأبدي.

وآمل أن تكونوا ببركة المواقيت والمواقف المباركة ودعاء الشعب المحروم لكم بالخير في حلّكم وترحالكم، من الفئة الأولى، وأن يفتخر بكم الإسلام والشهداء والمعوقون وشعبكم ووطنكم، وأن تلقموا أعداء الإسلام حجراً وتخذلوا الأعداء وتفرحوا المكسورة قلوبهم والأصدقاء؛ ومع أنكم تعملون ما يجب أن تعملوه وما يجب أن تحذروه، ولكن أداءً لما عليّ من تكليف وإتماماً للحجة أشير إلى المهمّ منها:

أ ـ التزموا بالأخلاق الكريمة الانسانية والإسلامية بدقة مع جميع الحجاج من كل فئة وطائفة ومن كل لون ولغة ومن كل صقع وبلد، وكونوا في تعاملكم وترددكم وفي جميع الأحوال والأوضاع والأحداث صبورين ووقورين وكونوا كراماً في سلوككم، قابلوا الخشونة بالرفق والحلم والإساءة بالمحبة والاحسان، ومن أجل رضا الله تعالى قابلوا كل حادث سيّئ من أي شخص كان، بانشراح وسعة صدر، فتلك المواقف الكريمة والبقاع الشريفة ليست محل نزاع وجدال، وليكن سلوككم دالاً على أنكم جئتم من بلد الإمام الصادق (عليه السلام)، وتلك خدمة جليلة للإسلام وللجمهورية الإسلامية ولشعبكم العزيز، وستجدون لدى عودتكم من السفر جرّاء ذلك لذّة اضافة إلى ما تنعمون به من رضا الباري تعالى والنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وبقية الله (روحي لمقدمه الفداء) وهو الشاهد والحاضر.

ب ـ في المسيرات يلزم متابعة المتصدّين لها في الوقت والتنظيم والشعارات وأمثالها، ويجب مراعاة النظام والآداب الإسلامية بشكل لائق، ولا تسمحوا لأحد أن يرفع شعاراً بشكل عشوائي غير مقرّر، فمن الممكن أن ينفذ بينكم عملاء أعداء الإسلام والجمهورية الإسلامية للتفرقة والإساءة إلى سمعتكم، فيرفعون شعارات خاطئة مخالفة للأخلاق الإسلامية كي يسيئوا إلى الإسلام والمذهب وإلى سمعتكم وسمعة شعبكم. وعلى كل حال يلزم أن تتبعوا أوامر شعارات مندوبي سماحة حجة الإسلام الشيخ كروبي والمسؤولين الآخرين وتحذروا من غيرها تماماً.

ج ـ بالنسبة للبضائع المعروضة في الحجاز للحجاج المحترمين، فما كان يرتبط منها بأمريكا فعرضها مخالف للأهداف الإسلامية بل مخالف للإسلام تماماً، وشراؤها دعم لأعداء الإسلام وترويج للباطل، ويجب الاجتناب عن ذلك.

ليس من الانصاف أن يقدم شبابنا أرواحهم في الجبهات ويضحّون، بينما أنتم بشراء هذه البضائع تساعدون مجرمي الحرب، وتسيئون إلى الإسلام والجمهورية الإسلامية وشعبكم المظلوم. تستطيعون أن تقتنوا لأنفسكم ولأصدقائكم أشياء مناسبة من إيران نفسها حتى لا يكون عملكم مساعدة لأعداء إيران والإسلام. لقد أدّيت واجبي، وبقي عليكم يا زوار بيت الله ورسوله أن تمتنعوا عن مساعدة أعداء الله ورسوله وعن الإساءة إلى سمعة شعبكم. لقد ذكرت بهذا السنوات الماضية لأهمية الموضوع ومن واجبي أن أكرر ذلك.

5 ـ حبّذا لو فكّر زعماء البلدان الإسلامية بالقضايا الراهنة في البلدان الإسلامية الرازخة تحت نير الظلم وبالشعوب المظلومة المقهورة تحت وطأة الأجانب وغزو الشيطان الأكبر وسائر الشياطين الذين ينهبون ثرواتهم الطائلة ويتركون الشعوب يتضّورون من الفقر والفاقة، حبذا لو عادوا إلى أنفسهم وأمعنوا النظر من خلال تقييم صحيح فيما رسّخته القوى الكبرى من خوف وذعر في نفوسهم عن طريق إعلامهم كي يعرضوا عن مصالح بلدانهم ومصالح سائر الشعوب المسلمة المظلومة ويرضخوا لذلّ مميت. حبذا لو حكّموا ضمائرهم وكفّوا عن إيقاع أنفسهم وبلدانهم في مزيد من العار. حبذا لو درسوا وضع إيران حكومةً وشعباً حيث خرجت من وطأة طواغيت القطبين وشعّ نور انتصارها وانتصار الإسلام العزيز في كل أرجاء العالم، ونهضت على طريق تحقيق كرامة الإسلام وعزة البلد الإسلامي؛ وعلى هذا الطريق، وهو طريق الأنبياء العظام (عليهم وعلى آلهم السلام)، انقطعوا عن كل الانشدادات المادية، ورفعوا نداء "هيهات منّا الذلة" ليوصلوه إلى أسماع العالمين.

لو أن حكومات المنطقة لم تعرض عن الالتحام بالشعب الايراني ولم تساعد الحزب العفلقي العراقي الذي يستهدف إبادة الإسلام، لاقتلعت جذور هذا الحزب في الأشهر الأولى من الحرب، ولاستراح الشعب العراقي المسلم العزيز من شره، ولتعايشت إيران والعراق وسائر بلدان المنطقة في أخوّة.

والآن أيضاً فإن المتلاعبين المحترفين الذين يحاولون من خلال أحابيل مختلفة أن يواصلوا تسلطهم ونهبهم لسنين طويلة، والذين يعانون بشدة من ضربة أنزلها بهم الإسلام العزيز ووحدة المسلمين.. هؤلاء من أجل أن يحولوا دون انتصار الإسلام حرّكوا عملاءهم المفضوحين من أمثال الحسن المغربي الذي ارتكب بلقائه بـ "بيرير" ومدّ يد الصداقة إليه خيانة كبرى لا تغتفر للإسلام وللشعوب المسلمة وخاصة الشعب العربي الفلسطيني. وإنه ليتحتم على الشعوب والحكومات الإسلامية والعربية أن تتخذ موقفاً حاسماً لقطع يد هذا الخائن. وهكذا حسين الأردني هذا السمسار المتجوّل الخائن الذي لا ينفك يتحرك حتى يوقع كلّ بلدان المنطقة في فخّ الشيطان الأكبر، وكذلك حسني مبارك الوجه الثاني لعملة أنور السادات وسائر الخائنين بالإسلام. عليكم أن تطردوا هؤلاء الذين يتلاعبون بكم ليكونوا ـ عمداً أو جهلاً ـ سداً على طريق عزة الإسلام وشرفه.

نطالب حكومات المنطقة أن تكفّ عن دعم أعداء الإسلام والبشرية وعن التمادي في معارضة المصالح الإسلامية التي هي مصالحهم ومصالح وطنهم ومصالح المظلومين في العالم. عليهم، بتعاونهم وتعاضدهم مع الجمهورية الإسلامية أن يلقموا حجراً كل مسبّبي الفتن وكل الطامعين، وليعلموا أن هذا الحزب الميت سوف لا يحيا، والعاقبة للمتقين.

لقد أدّيتُ ما عليّ من واجب إسلامي في تذكير المسلمين وحكومات المنطقة لما فيه صلاحهم، وأسأل الله تعالى أن يهديهم إلى الطريق السويّ المستقيم ويصونهم من الانحراف.

والسلام على عباد الله الصالحين.

روح الله الموسوي الخميني