المواضيع:

1- الحكومة في نهج البلاغة.

2- ضرورة نشر تعاليم نهج البلاغة في الدول الإسلامية. 3- نظرة إلى خصائص عصر حكومة علي (عليه السلام.). 5- ملامح من حياة الإمام علي (عليه السلام1 .). 6- ملامح من حياة الإمام علي (عليه السلام 2.).  

**************

************

الحكومة في نهج البلاغة

2007-09-06

محاضرة في: مؤتمر ألفية نهج البلاغة

المكان: طهران ـ مدرسة الشهيد مطهري

الزمان: رجب 1401هـ. ق

إن قضية الحكومة في نهج البلاغة قد طرحت ـ كعشرات القضايا المهمّة في الحياة ـ في هذا الكتاب العظيم بأسلوب مغاير لأساليب المحققين والمؤلفين.

فلم يفرد أمير المؤمنين(عليه السلام) فصلاً مستقلاً حول الحكومة يُرتّب فيه المقدمات للوصول إلى النتائج. فإن أسلوبه في تناول هذا الباب المهم، كغيره من الأبواب الأخرى كان أسلوب الحكمة، أي عبور المقدمات والتأمل والتركيز على النتيجة.

فإنَّ نظر أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى قضية الحكومة هو نظر حكيم عظيم له ارتباط قريب بمنبع الوحي.

كذلك فإنَّ هذه القضية في نهج البلاغة لم تطرح بصورة بحث مجرد (تجريدي).

فإنَّ الإمام علي (عليه السلام) كان على تماس مباشر بأمر الحكومة، وكان يتحدث كحاكم يمارس إدارة الدولة الإسلامية مع كل ما فيها من مشاكل ومصائب وآلام, ويتابع جوانبها المتعددة.

وإن التفاتنا إلى هذا الأمر، ونحن نعيش في ظروف وأوضاع مشابهة لظروف أمير المؤمنين(عليه السلام) مهم ومفيد جداً, وسوف أتعرض هنا من خلال جولة قصيرة في نهج البلاغة، إلى قضايا قد دونتها وهي تمثل رؤوس المطالب.

والقضية الأساسية التي ينبغي الالتفات إليها في هذا المجال هي:

1 ـ معنى الحكومة

في البداية ينبغي أن نرى هل أن (الحكومة) عند الإمام(عليه السلام) هي بالمعنى المتداول في ثقافة العالم القديم والعالم المعاصر؟ أي تلك الحكومة التي تعني التسلط والتحكم، وأحياناً تعامل الحاكم مع المحكومين من واقع التمايز في الحياة؟ أم لا، وأن (الحكومة) في ثقافة نهج البلاغة لها مفهوم آخر؟

في هذا المجال نستخلص من نهج البلاغة عدة مصطلحات تشير إلى الحاكم بعنوان (الإمام) و(الوالي) و(ولي الأمر) وتشير إلى الشعب بعنوان(الرعية).

2ـ ضرورة الحكومة

المطلب التالي، هو قضية ضرورة الحكومة, فمن الأبحاث التي تدور في هذا المجال, هل يعد وجود القيادة والحكومة أمراً ضرورياً للمجتمع الإنساني أم لا؟ والاستنتاج الذي نخرج به من هذا البحث هو الالتزام بعدة لوازم في الحياة الاجتماعية، ولا ينحصر الأمر بمجرد قبول ضرورة الحكومة للمجتمع, بل نتيجة بحثنا سترسم الخطوط الخاصة لنهج القيادة والحكومة وإدارة المجتمع.

3ـ منشأ الحكومة

ما هو منشأ الحكومة في نهج البلاغة؟

هل هو الأمر الطبيعي، العرق، العشيرة، النسب، القوة والاقتدار (سواء الطبيعي أم المكتسب)؟ أم لا، وأن منشأ الحكومة، وما يعطي الشرعية لحكم الفرد أو الجماعة هل هو أمر إلهي, أم أمر شعبي؟

4ـ الحكومة حق أم تكليف؟

المسألة الرابعة, هي هل أن الحكم هو حق أم تكليف؟ وهل أن الحاكم يمتلك حق الحكومة أم هو مكلّف بالحكم؟ ومن هو الذي يمكنه أو ينبغي له أن يحكم؟ في نهج البلاغة، تعد الحكومة حق وتكليف أيضاً، وبالنسبة للذي يتمتع بشروط ومعايير ومواصفات الحاكم، يجب عليه أن يقبل الحكومة في بعض الشرائط والظروف، ولا ينبغي له أن يلقي هذا الحمل عن عاتقه.

5 ـ الحكومة هدف أم وسيلة؟

المسألة الخامسة، هل أن الحكم يعد ـ للفرد أو للجماعة الحاكمة ـ هدفاً أم وسيلة؟ وإذا كان وسيلة، فلأي هدف؟ وما هو الهدف الذي يريد الحاكم الوصول اليه من خلال الحكومة وإيصال المجتمع إليه أيضاً؟

6ـ الحاكم والرعية

المسألة السادسة، هي ما يتعلق بقضية حسّاسة حول علاقة الحاكم بالرعية، وما هي المباني والأسس التي تقوم عليها هذه العلاقة؟ فهل هي حق من طرف واحد يمتطي الحاكم من خلاله رقاب الناس؟ أم أنه حق متقابل؟

إن من أكثر الأبحاث المتعلقة بالحكومة في نهج البلاغة من حيث التأسيس والمعنى والنتيجة هي هذه القضية.

7ـ الشعب والحكومة

المسألة السابعة، ما يرتبط بدور الشعب في الحكومة, ويجب أن ننظر إلى ثقافة نهج البلاغة ونرى دور الشعب في الحكومة، هل هو مصيري؟ أم ابتدائي؟ كامل الصلاحيات؟ أم مجرد من الدور؟ فأي شيء هو؟

فمثل هذه الأمور تعد من أكثر المسائل دقة في نهج البلاغة، وإن الثقافات الحاكمة في عصرنا الحالي على أذهان الناس في الأجنحة والتيارات السياسية المختلفة، لا ينطبق أي واحد منها على ثقافة نهج البلاغة.

8ـ كيفية التعامل مع الناس

المسألة الثامنة, والتي تعد من الناحية الأصولية مسألة ثانوية، ولكن من الناحية العملية مسألة مهمّة جداً وحسّاسة، هي كيفية تعامل الجهاز الإداري مع الشعب.

فكيف ينبغي أن يتعامل المسؤولين في الحكومة مع الناس؟ فهل هم مدينون لهم أم العكس؟ وكيف ينبغي أن تكون أخلاق الجهاز الحاكم في تعاملهم مع الشعب؟

9ـ سلوك الحاكم مع نفسه

المسألة التاسعة, والتي هي أيضاً من المسائل الملفتة للنظر وهي ما يتعلق بسلوك الحاكم مع نفسه.

فهل توجد حدود معينة لسلوك الحاكم في المجتمع؟ وهل يمكن الرضا والاكتفاء بحسن سلوكه مع الشعب؟ أم لا، فإن هناك ما يفوق هذا الارتباط والعلاقة، وهو علاقة الحاكم بنفسه؟ فكيف ينبغي أن تكون حياته الشخصية، وما هو المطروح في نهج البلاغة حول هذا الأمر؟

10ـ شروط الحاكم ومواصفاته

المسألة العاشرة, هي صفات الحاكم, فكيف يمكن للإنسان أن يحكم المجتمع البشري بناءاً على أحكام نهج البلاغة.

فهذه عناوين القضايا التي وردت في نهج البلاغة، ونحن نستطيع أن نتعرض لها بالبحث.

 مفهوم الحكومة

المسألة الأولى تدور حول مفهوم الحكومة.

في التعابير المستعملة في اللغة العربية للحاكم توجد هذه العبارات والعناوين: السلطان والملك.

وتتضمن كلمة السلطان في باطنها مفهوم السلطة في الحاكم, أي أن ذلك المسمى بالحاكم ينظر إليه ها هنا من بُعد السلطة، حيث لا يحق للآخرين التدخل في شؤون الناس وأمورهم، بينما يحق له ذلك.

أما الملك، والملوكية والمالكية فإنها تتضمن مفهوم تملك الناس أو امتلاك مصيرهم.

وفي نهج البلاغة لا نجد هذين التعبيرين (الملك أو السلطان) قد استخدما في مجال الإشارة إلى الحاكم على المجتمع الإسلامي.

بل التعابير الواردة في نهج البلاغة هي الإمام الذي هو القائد.

ومفهوم القائد يختلف عن مفهوم المرشد, فالقائد هو ذلك الإنسان الذي يتقدم الجماعة أو الأمة التي يقودها, كما أننا نجد في كلمة الإمام مفهوم الحركة والتبعية والتقدم في تحرك الناس وفق مسار ما.

التعبير الآخر هو الوالي, وقد أُخِذَ هذا التعبير من كلمة الوِلاية أو الوَلاية, بالالتفات إلى مشتقات هذه الكلمة يمكن الوصول إلى البعد المنظور فيها.

والولاية في أصل معناها اللغوي تدل على ارتباط شيئين, فاللغة تقول أن الولاية تعني اتصال شيئين معاً، بحيث لا يبقى أي شيء فاصلاً بينهما.

وبالطبع فهناك معاني أخرى للولاية، كالمحبة والإشراف والقيومية، والولاية بمعنى تحرير العبد، أو بمعنى العبودية أو السيادة على العبد..

يبدو أن طبيعة العلاقات التي ذكرت في معنى الولاية كلها مصاديق ذلك الارتباط والاتصال. فوالي الأمة أو الرعية هو الذي يتحمل أمور الناس وهو مرتبط بهم.

ونفس هذا المعنى يوضح بعداً خاصاً من مفهوم الحكومة في نهج البلاغة, وعند أمير المؤمنين(عليه السلام): فولي الأمر هو المتصدي لهذا العمل.

ولا يوجد أي امتياز يختفي في كلمة المتصدي لهذا العمل.

فالمجتمع الإسلامي يشبه مصنعاً ضخماً يتألف من أقسام، وآلات ومفاصل وأجزاء صغيرة وكبيرة تتفاوت في تأثيرها, وأحد هذه الأقسام هو الذي يشغله مدير المجتمع، مثل بقية الأقسام، فهو مثل بقية الأجزاء والعناصر المشكلة لهذه المجموعة.

ولي الأمر هو المتصدي لهذا العمل، والمتصدي لا يطلب ولا ينتظر الحصول على أي امتياز. ومن الناحية العملية ليس له أي امتياز من ناحية وضعه المعيشي أو شؤونه المادية.

فإذا كان يقدر على أداء تكليفه بشكل صحيح, فإنه بمقدار ما يؤدي هذا التكليف ينال الشأنية المعنوية, ولا غير.

فهذا حاق وجوهر مفهوم الحكومة في نهج البلاغة.

وهكذا. فالحكومة في نهج البلاغة ليس فيها أية إشارة أو علامة على السلطة، وليس فيها أي مبرر لنيل الامتياز.

ومن هنا، يكون الناس بحسب تعبير نهج البلاغة رعية، والرعية هم الجماعة التي تقع مسؤولية رعايتها والسهر عليها وحراستها على عاتق ولي الأمر.

ولاشك أن مفهوم الرعاية والمحافظة يتفاوت من الجماد إلى الحيوان.

وأحياناً تكون الحراسة والمحافظة على الناس، فهنا نأخذ الإنسان بجميع أبعاد شخصيته ووجوده وحريته وسعيه الدائم للكمال والسمو ورقيه المعنوي، وأهدافه العليا، ويجب رعاية هذه الأبعاد والشؤون مجتمعة.

فهذا الأمر هو الذي أُشيرَ إليه في الثقافة الإسلامية عبر العصور. يقول كميت الأسدي:

(ساسة لا كمن يرى الناس           ســـــواء ورعــيـــه الأنــعــام).

السياسيون هم الذين لا يرون رعية الناس مثل رعية الحيوانات.

بيد أن الإنسان يجب مراعاة إنسانيته، وهذا هو مفهوم الرعية التي تعبر عن الشعب في نهج البلاغة.

وباختصار، عندما نكون بصدد البحث عن مفهوم الحكومة في نهج البلاغة، نشاهد من جانب أن رأس الحكومة هو الوالي أو ولي الأمر يتصدى لأعمال الناس, وهو موظف ومكلف بتكليف مهم، يتحمل على أساسه مسؤولية ثقيلة وكبيرة.

ومن جانب آخر, نرى الشعب بكل قيمه وأهدافه والعناصر المشكّلة لهويته يقع مورد الرعاية. فهذا هو مفهوم الحكومة، وهو لا يدل على تسلط أو قهر أو سعي إلى المزيد من الامتيازات.

ويشير أمير المؤمنين(عليه السلام) في مواضع مهمّة في نهج البلاغة إلى أبعاد الحكومة.

ولعلنا نجد عشرات الجمل في هذا الكتاب, مما يدل على مفهوم الحكومة عند الإمام علي(عليه السلام). منها ما ورد في بداية عهده لمالك الأشتر حيث يقول:

(جباية خراجها وجهاد عدوها واستصلاح أهلها وعمارة بلادها)

فهذا معنى الحكومة.

وإذا عُيِّن مالك الأشتر كوالٍ وحاكم على مصر، فليس لأجل أن يحصل على سلطة وموقعية لنفسه، أو لنيل امتيازات ومنافع مادية، بل لأجل أداء هذه الأعمال: إدارة الأمور المالية للبلاد، ومحاربة أعداء الشعب والحفاظ عليه منهم، وإصلاح الناس (وهذا الصلاح بأبعاده المادية والمعنوية الواسعة قد طرح في نهج البلاغة)، وعمارة المدن مما هو واقع ضمن نطاق حكومته، وباختصار: القيام ببناء الناس والبلاد ورفع مستواهم المعنوي وقيمهم الأخلاقية.

ضرورة الحكومة

المسألة الأخرى هي مسألة ضرورة الحكومة، وهذا بحث كان يُطرح في نهج البلاغة مقابل تيار خاص، واستمر كذلك.

أي مقابل التيارات السلطوية، ففي كل مجتمع، يوجد أفراد يريدون تحصيل الشأنية والقدرة الفردية، ويرون الوضع الجاري في المجتمع غير مناسب لهم، فيتحركون لأجل التحرر من الضرورات التي تفرضها الحياة الاجتماعية على الناس، والعقود الاجتماعية السائدة.

ولقد وجدت مثل هذه الدوافع في المجتمعات السابقة، ولازالت، وستبقى ما دامت الأخلاق الإنسانية غير كاملة وصحيحة، مثل هؤلاء كمثل الذين ركبوا سفينة مع غيرهم وأرادوا أن يخرقوا المكان الذي جلسوا فيه.

أو ركبوا قطاراً وأرادوا أن يوقفوا عربتهم التي تقلّهم في مكان يحلو لهم، حتى لو أوقفوا كل القطار.

إن هؤلاء لا يلتزمون بالضرورات التي تفرضها الحياة الاجتماعية الموافقة للطبيعة الاجتماعية الإنسانية على الإنسان.

ولو وجدت هذه الدوافع التسلطية في المجتمع مجالاً لها للبروز، فإن الأمر سينتهي إلى الهرج والمرج.

ومن هنا كان الإمام علي (عليه السلام) يقول رداً على هذه التيارات: (لا بد للناس من أمير).

ولقد نطق الإمام علي(عليه السلام) بهذا الكلام في الرد على تيار خاص ينفي ضرورة الحكومة، وهو في باطنه يريد الهيمنة والتسلط، لكنه يتظاهر بمقولة فلسفية.

وهؤلاء هم الخوارج الذين كانوا يقولون: (لا حكم إلا لله), وكان قسم منهم يقول ذلك عن اعتقاد خاطئ وقسم آخر كان مغرضاً, وهم يريدون أن ينفوا لزوم وجود الحكومة في المجتمع.

وهنا وقف أمير المؤمنين(عليه السلام) موضحاً معنى (لا حكم إلا لله), ومبيناً خطأهم.

ونحن لا نصدق أبداً أن الأشعث بن قيس الذي كان زعيم الخوارج قد وقع في الخطأ والشبهة، وكذلك لا نصدق بأن الأيادي التابعة للسياسيين والمتربصين بالإمام علي(عليه السلام) لم تكن وراء مثل هذا التيار المتظاهر بالتوحيد وحماية الألوهية.

فقد كانوا يقولون أن الحكومة مختصة بالله، ونحن لا نريد الحكومة.

أما قصدهم الواقعي فقد كان رفض حكومة الإمام علي(عليه السلام).

ولو سلّم الإمام علي(عليه السلام) في ذلك الوقت لهذه المغالطة الواضحة، أن تنازل لصالح هذه الاضطرابات الاجتماعية، أو للناس الذين كانوا ينطقون بهذه الأقوال الباطلة بسذاجة واعتزل الميدان، فإن نفس أولئك الذين كانوا يتفوهون بهذه الشعارات كانوا ليصبحوا أدعياء وطلاب الحكومة.

فيقول أمير المؤمنين(عليه السلام): (كلا، فإن الحكومة لازمة للمجتمع): (كلمة حق يراد بها باطل). فهذا الكلام حق، وهو بيان القرآن: {{أن الحكم إلا لله}}، ولكن ليس بمعنى أن المجتمع لا يحتاج إلى مدير: (نعم انه لا حكم إلا لله ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة إلا لله)، مما يعني أن يبقى المجتمع بدون مدير: (وأنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر).

فإن هذه ضرورة اجتماعية، وضرورة طبيعية وإنسانية تفرض لزوم المدير للمجتمع، سواء كان مديراً سيئاً أم جيداً, فإن ضرورة حياة البشر تفرض وجود مدير.

أما قولهم (لا حكم إلا لله) فأرادوا به إسقاط حكومة الإمام علي(عليه السلام)، وهو في الحقيقة يعني نفي الأنداد لله، ونفي أية حاكمية مقابل حاكمية الله.

أما حاكمية الإمام علي(عليه السلام) فلم تكن في عرض حاكمية الله, بل كانت ذائبة في حكم الله وفي طوله، ونابعة منه، وكان أمير المؤمنين(عليه السلام) يوضح هذه القضية.

فإذا وجدت مثل هذه الحكومة, التي منشؤها الحاكمية الإلهية في المجتمع، فإن أي حركة دالة على هذا المفهوم الانحرافي (لا حكم...)، هي حركة معادية لله, ولهذا واجه أمير المؤمنين(عليه السلام) في ذلك الوقت تيار الخوارج بقوة وقضى عليهم بشدة.

منشأ الحكومة

المسألة الثالثة تتعلق بمنشأ الحكومة.

ففي الثقافة الإنسانية الرائجة في الماضي والحاضر، كان منشأ الحكومة هي القوة والسلطة. وكانت جميع الفتوحات العسكرية لهذا الغرض, وجميع الأُسَر الحاكمة التي حلت مكان أُسَر حاكمة أخرى، جاءت إلى الحكم بهذه الطريقة.

فالاسكندر الذي فتح إيران، والمغول الذين اجتاحوا هذه المناطق، لم يكونوا سوى تعبير عن هذه الحالة.

فالمنطق السائد كان أننا طالما نقدر على التقدم والسيطرة فلنتقدم ولنقتل، وفي مسيرة التاريخ كانت التحركات التي تصنع تاريخ الحكومات تدل على هذه الثقافة.

فقد كان رأي الحكام وكذلك المحكومين أن ملاك ومنشأ الحكومة هو القدرة والسيطرة, وبالطبع في ذلك الوقت عندما كان الملك يريد تولي العرش لم يكن يصرح بأن القوة والقهر هي منشأ حكومته.

حتى جنكيزخان المغولي، فإنه عندما اجتاح إيران، كان هذا الأمر بالنسبة لأنصاره وأتباعه أمراً معقولاً.

وفي عصرنا الحالي، نجد القوى العظمى أيضاً تتبع نفس ذلك المنطق.

فأولئك الذين يسوقون الدول بالقهر والقوة، وأولئك الذين يدخلون إلى بيوت الشعوب التي تبعد عنهم آلاف الكيلومترات، وأولئك الذين يتحكمون بمصائر الشعب ويسلبونها الإرادة والحرية، وإن كانوا لا يتفوهون بأن منشأ حاكميتهم هو القوة، إلا أنهم يطبقون ذلك عملياً.

وهذه الثقافة وإن كانت هي الغالبة، إلا أنه يوجد إلى جانبها آراء أخرى.

فأفلاطون كان يرى أن ملاك الحكم والحكومة هو الفضل والفضيلة، أي يقول (بحكومة الأفاضل) أو الصالحين, ولكن هذا الرأي كان حبراً على ورق وبحثاً للمدارس فقط.

وفي عالمنا المعاصر، تعد الديمقراطية، التي هي إرادة الأكثرية ملاك ومنشأ الحكومة، ولكن من هو الذي لا يعلم أن عشرات الأساليب الرذيلة هي التي تستخدم من أجل سوق إرادة الناس باتجاه إرادة المتسلطين والمقتدرين.

لهذا يمكن في جملة واحدة القول أن في ثقافة البشر السائدة، من البداية وحتى اليوم، وحتى تحكم الثقافة العلوية وثقافة نهج البلاغة حياة البشر، فإن منشأ الحاكمية هو القوة والتسلط، وسيبقى ولا غير.

وفي نهج البلاغة، نجد أمير المؤمنين(عليه السلام) لا يعتبر ما مر منشأ الحكومة، والأهم أنه(عليه السلام) قد أثبت ذلك عملياً، فعند الإمام علي(عليه السلام) المنشأ الأساسي للحكومة، هو مجموعة من القيم المعنوية.

فالذي ينبغي أن يحكم الناس ويتولى أمورهم ينبغي أن يتمتع بخصائص معينة.

فانظروا في كتبه ورسائله إلى معاوية وطلحة والزبير وعماله وأهل الكوفة ومصر.

فقد كان يعتبر الحكومة والولاية على الناس ناشئة من القيم المعنوية, ولكن هذه القيم المعنوية لا تكفي لوحدها ليصبح الإنسان في الواقع حاكماً وولياً، بل إن للناس هنا دوراً حيث تعتبر (البيعة) مظهراً لها.

ولأمير المؤمنين(عليه السلام) تصريحات عديدة فيما يتعلق بالمسألتين، منها ما كتبه للمعارضين لحكومته وأشرنا إلى ذلك سابقاً، ومنها في خطبه التي ذكر فيها أهل البيت وبيّن فيها القيم المعنوية التي تمثل ملاك الحكومة، ولكن هذه القيم ـ كما قلنا ـ لا تكون سبباً لتحقيق الحكومة، بل إن بيعة الناس في ذلك شرط:

(إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يردّ، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضا).

الحكومة حق أم تكليف؟

إن المسألة الأخرى التي تحوز على أهمية فائقة في نهج البلاغة هي هل أن الحكومة حق أم تكليف؟ وقد بين أمير المؤمنين(عليه السلام) في كلام مختصر ووجيز أن الحكومة حق وتكليف أيضاً. فليس كل من توفرت له ظروف تَوُلي أمور الناس، واستطاع أن يحصل على مقام وجاه، بشكل أو بآخر ـ كالإعلام أو الأساليب التي يعرفها طلاب الزعامة جيداً، ويستطيعون من خلالها جذب الناس إليهم ـ فإنه يحق له الحكم.

فعندما تكون الحكومة حكومة الحق، فهذا يعني أن هذا الحق متعلق بأشخاص محددين، ولا يعني ذلك طبعاً أن هناك طبقة متميزة، لأن الجميع في المجتمع الإسلامي يمكنهم أن يكسبوا تلك الفضائل.

نعم، في العصر الذي تلى وفاة النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) كانت المرحلة استثنائية.

أما نهج البلاغة فإنه يبين القضية بصورتها العامة, ويشير إلى هذا الحق مرات عديدة, ويقول الإمام(عليه السلام) في أول خلافته وحكمه في الخطبة المعروفة بالشقشقية: (وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل ولا يرقى إلى الطير).

وحول ذلك اليوم الذي شكلت فيه شورى الستة قبل بيعة عثمان، يقول(عليه السلام): (لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري).

فالإمام يعتبر أن الحكومة حق.

هذا الأمر واضح في نهج البلاغة, ولكن الإمام يقول بعدها مباشرة:

(والله لأسلِّمن ما سلِمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا علي خاصة).

ونفس هذا البيان قد صدر حول بداية حكومة أبي بكر وفي ذلك الوقت حيث يقول(عليه السلام):

(فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام).

أي أنني أول الأمر لم أسلّم ولم أبايع، ولكن عندما رأيت تلك الحوادث التي كادت تجر على الإسلام والمسلمين المصائب العظمى، لم يكن الأمر قابلاً للتحمل بالنسبة لي، فتركت حقي بالولاية.

إذاً، فإن أمير المؤمنين(عليه السلام) يرى الولاية حقاً، وهذا ما لا يمكن إنكاره.

من المناسب أن ينظر جميع المسلمين إلى هذه القضية بعين واقعية.

فهذا الأمر ليس له دخل بالجدال الذي يحصل أحياناً بين الشيعة والسنة, فنحن اليوم نعتقد أن على الشيعة والسنة أن يكونوا معاً، ويعيشوا معاً، وأن يعتبروا الأخوة الإسلامية أهم من كل شيء، وهذا أمر حقيقي.

إن التفاهم والاتحاد يعد اليوم تكليفاً، ولقد كان دوماً كذلك.

أما البحث العلمي والاعتقادي في نهج البلاغة فإنه يدلنا على هذه الحقيقة، ونحن لا نستطيع أن نغمض أعيننا ولا نرى ما يظهر في نهج البلاغة بوضوح.

فهذا ما يراه أمير المؤمنين(عليه السلام) حقاً، وكذلك كان يعده تكليفاً, ففي ذلك اليوم الذي أحاط الناس بالإمام علي(عليه السلام) حتى قال:

(فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلي، ينثالون علي من كل جانب حتى لقد وطي الحسنان وشق عطفاي).

فالناس اندفعوا بشوق ولهفة إلى الإمام علي(عليه السلام) يريدونه أن يكون لهم, ولم يكن أمير المؤمنين(عليه السلام) يرى للحكم شأناً واقعاً.

فالحكومة عنده ليست هدفاً، كما سيتضح في البحث الثاني. ولكن مع كل ذلك، قَبِل الحكم بعنوان التكليف الإلهي، ووقف ودافع عنه:

(لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر.. لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها).

(دعوني والتمسوا غيري).

ولكنه عندما رأى أن الأمر أصبح تكليفاً، وأن الأرضية مستعدة، وهو قادر على القيام بهذا الدور العظيم والأساسي، قَبِل .. فهل كانت الحكومة عند الإمام علي(عليه السلام) هدفاً أم وسيلة؟ إن الخط الأساسي الفاصل بين حكومة الإمام علي(عليه السلام)، وحكومة الآخرين هو أن علياً(عليه السلام) لم يكن يرى الحكومة هدفاً، بل وسيلة لأجل الوصول إلى الأهداف المعنوية.

على المحققين، أن يلتفتوا إلى قدر نهج البلاغة بالنسبة لهذا الزمان، ونحن في الحقيقة إذا كنا اليوم نحتفل بألفية نهج البلاغة (مرور ألف عام على نهج البلاغة)، ينبغي أن نعلم أن هذا الكتاب العزيز كان من هذه الألف سنة على الأقل تسعمائة وخمسين سنة في عزلة وانزواء، فغير العلماء والخواص، لم يكن أحد يعلم عنه سوى الاسم، وأول ترجمة ظهرت على يد مترجم عالم محترم جعل هذا الكتاب بمتناول أفهام الجميع وهو السيد علي نقي فيض الإسلام.

وإنني أكن له تقديراً خاصاً وأعتبر عمله عملاً مهماً.

وشيئاً فشيئاً، نزل هذا الكتاب إلى ميدان الحياة، ووصل إلى أيدي الناس, ولم يكن الناس يعرفون نهج البلاغة، وإنما كانوا يسمعون منه بعض الكلمات، وأكثرها في ذم الدنيا وقسم قليل في الأخلاق والباقي لا شيء.

ومن بعدها أصبح في متناول الأيدي، وصنفت حوله الشروح، والتحليلات بعنوان الشروح، وكل ذلك مورد تقدير، ولكن في مقابل العظمة التي لهذا الكتاب فلا يوجد شيء يذكر.

علينا اليوم أن نرجع إلى نهج البلاغة.

وعلى الفضلاء والعلماء أن يقوموا بما يلزم، ولكن لا ينبغي للشباب أن يقفوا منتظرون للأساتذة والفضلاء وأهل العلم والأدب.

يجب أن يؤخذ(نهج البلاغة) بأبعاده المختلفة.

ولهذا علينا أن نقيم الاجتماعات واللقاءات.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

**************

ضرورة نشر تعاليم نهج البلاغة في الدول الإسلامية

2007-09-06

محاضرة في : المؤتمر الخامس لنهج البلاغة

المكان: طهران ـ حسينية الإرشاد

الزمان: رجب 1405هـ.

ضرورة نشر تعاليم نهج البلاغة في الدول الإسلامية

إنه لباعث على فائق السرور أن نشاهد عقد مؤتمر آخر حول نهج البلاغة بفضل همّة الإخوة الأعزاء في المؤسسة.

وإنني باعتباري فرداً مسلماً، وكوني قضيت مدة من حياتي الفكرية ومطالعاتي في مجال أبحاث نهج البلاغة، وباعتبار أنني أحد المسؤولين في نظام الجمهورية الإسلامية، أعتبر هذا التحرك مباركاً وضرورياً ويؤدي إلى نتائج حسنة، كذلك أعتبر هذه المرحلة مرحلة ابتدائية باتجاه الوصول إلى المراحل النهائية.

تحوز همّة الأخوة على تقدير عالٍ، وعلينا أن لا نقنع بما وصلنا إليه، بل أن نعتبر خدمة(نهج البلاغة) عملاً دائمياً ومستمراً، وبالطبع في المدة التي مرّت بين المؤتمر السابق وهذا المؤتمر، أنجزت أعمال وجرت مساعٍ عديدة في مجالات عدّة حيث تم اطلاعي على بعضها.

ولكن أريد أن أؤكد على أن تكون هذه الاجتماعات مقدمة لأعمال عظيمة وكبرى.

لقد طوينا زمناً طويلاً بعيدين عن الارتباط بنهج البلاغة, وعلينا أن نغتنم فرص اليوم لجبران تلك النقائص.

وممّا لا شك فيه أن الذين عملوا في نهج البلاغة ليسوا قلّة، سواء في إيران أو بعض البلدان الإسلامية الأخرى، ولكن الأعمال الأساسية التي يمكن أن تنشر مدرسة نهج البلاغة في أجواء العالم الإسلامي كلّه مازالت تنتظر دورها، وإن كانت مقدّمات هذه الأعمال تأخذ طريقها تدريجياً إلى حيّز التحقق.

إنّ(نهج البلاغة) في الواقع كنز عظيم لا يمكن بهذه السهولة الوصول إلى حقيقته، أو فهمه؛ وإذا فهمناه يأتي دور العمل الأساسي وهو الاستفادة والتطبيق.

إننا ولحد الآن لم ندرك هذه الحقيقة، وهذا الأمر مشترك مع الكثير من المصادر الإسلامية الثرية؛ ولكن(نهج البلاغة) له وضع استثنائي بما يتمتّع به من رتبة ومقام عال، ويجب التعامل معه على أساس أنّه كنز استثنائي.

عندما أتأمّل أجد أن الأمل الذي كنا نعيشه ومازلنا هو أن يصل مجتمعنا إلى حالة الألفة والأنس بـ(نهج البلاغة).

وبالنسبة لمن هو مثلي لا يتوقع منه أن يقوم بالأعمال التحقيقية، إلا إذا وفقنا الله تعالى للرجوع ذات يوم إلى حجرتنا الدراسية والاشتغال بمثل هذه الأعمال.

وأريد هنا أن أُنَبّه الإخوة فيما يتعلق بالتوجه الذي نحمله حول(نهج البلاغة), إننا لا نحمل هذا التوجه بالشكل المطلوب، وكأننا لا نعلم أي كنز للمعرفة اللامتناهية قد أودعت في هذا الكتاب؛ أو كأنه لم يتضح إلى الآن وبشكل كامل بالنسبة لمجتمعاتنا أهمية الرجوع إلى هذا النبع العظيم الموجود في هذا الكتاب الذي لا نظير له.

أهمية نهج البلاغة في الاستنباط

إن نهج البلاغة يُعدّ من الكتب الإسلامية الأولى.

وفي هذه الظروف التاريخية حيث يفصلنا عن صدر الإسلام حوالي1400 سنة، تتمتع المصادر ذات الطراز الأول والأصيل بأهمية خاصة.

وذلك لأنه مع مرور الزمن يزداد الميل إلى التأويل وتزداد التوجهات المأوِّلة، وهذا الأمر يعدّ أحد آفات الفكر الإلهي(الإلهيات؛ الأبحاث في مجال ما وراء الطبيعة).

فعندما يقطع الزمان شوطاً بعيداً عن نشوء الدين، فإن الأذهان، والابتكارات والميول الباطنية للأشخاص الأذكياء تسوقهم نحو الاستنباط الذي نراه أكثر ما يعتمد على السلائق.

وهذا هو السبب اللامرئي وراء تحريف الأديان؛ فالأديان السابقة التي حُرّفت، كان أحد أهم آفاتها أن متونها الأساسية والأولى لم تبق سالمة بشكل كامل.

نحن بالطبع عندنا القرآن المصون من التحريف، وهذا بنفسه امتياز كبير جداً، وهو كان عاملاً لوجود محور للاستنباطات الإسلامية المختلفة مع تلك الوفرة الكبيرة في السلائق المتعددة.

أي أن الأمر في النهاية كان يرجع إلى نقطة تعتمد عليها كل الآراء والعقائد المختلفة، وهي القرآن.

لكن هذا لم يكن كافياً، لمنع التأويل وإتباع الآراء والسلائق والأهواء والبدع.

وهنا نجد أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول لعبد الله بن عباس:(لا تخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمّال ذو وجوه)[1](مشيراً إلى الخوارج).

حقاً، فإن أولئك الذين حرفوا قوله تعالى: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله}[2] - الذي نزل بحق الإمام علي (عليه السلام) - ادعوا أنه قد نزل بحق ابن ملجم -.

انظروا الى ضيق الذهنية عند هؤلاء, وهل يمكن معهم الإسناد والرجوع إلى القرآن؟

وقد شاهدنا هذه الحقيقة في أيامنا هذه، أشخاص يعتمدون على آيات القرآن مستخدمين وسائل التأويل.. ففي مثل هذه الظروف كلّما كانت النصوص والمتون الإسلامية أقرب إلى صدر الإسلام، كانت إمكانية الاستنباط الصحيح بالنسبة للمحققين أكبر.

أهل التأويل والالتقاط

في الماضي شاهدنا بأنفسنا كيف كان المؤولة ـ أو بعبارة أخرى الإلتقاطيون ـ لا يعتنون أبداً بالروايات والأحاديث.

فبمجرد أن نقول(حديث) يقولون: (ألا تؤمنون بالقرآن؟)؛ وكأنه يوجد تعارض بين الاعتقاد بالقرآن والاعتماد على الحديث!.

في البداية كنا نتعجب، ولم نكن ملتفتين كثيراً, وعندما شاهدنا كيف يتصرفون بالقرآن, وكيف يردون الحديث الصريح والصحيح، فهمنا حينها سبب مخالفتهم للحديث.

وفي ذلك الموضع نجد أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول لابن عباس:(ولكن حاججهم بالسنّة لأنها لا تقبل التأويل).

ونحن لو استطعنا في مثل هذه الظروف الحالية أن نحيي للعالم الإسلامي ـ حيث يمثل المسلمون نسبة كبيرة من السكان ويشغلون مناطق واسعة من العالم، وتحكمهم الآراء والعقائد والمذاهب المختلفة ـ متون صدر الإسلام, فإننا نكون قد ساهمنا كثيراً في إيجاد محور أساسي لهذه الاجتهادات.

فانظروا إلى ميزة نهج البلاغة من هذه الزاوية. لأنه لا مجال لمقارنة أي كتاب في الحديث لفلان الصحابي أو التابعي ـ الذي جاء بعد خمسين أو مئة سنة من الهجرة ـ بنهج البلاغة.

إن نهج البلاغة هو كلام أول من آمن بالوحي المحمدّي, وهو كلام خليفة الرسول الذي اتفَّق جميع المسلمين على خلافته، وكلام إمام هو باعتقاد الشيعة والكثير من أهل السنة أفضل الصحابة.

إنسان في هذا المستوى من العظمة والأهمية، وقد حفظ لنا التاريخ كلامه وخطبه، يمكن أن يكون مظهراً لمتن عظيم وأصيل للمعارف الإسلامية.

ففيه الأخلاق، والزهد والقيادة في المجتمع، والنظام السياسي، والنظام الاجتماعي والعرفان.

ونحن قادرون على أن نجد الأصول الاعتقادية الكاملة والجامعة للإسلام في هذا الكتاب.

القرآن ونهج البلاغة

إن هذا الكتاب عندما يوضع إلى جانب القرآن، فإنه يُعد تالي القرآن.

فليس لدينا كتاباً آخر له هذا المستوى من الاعتبار والجامعية والأقدمية.

لهذا فإن إحياء نهج البلاغة ليست وظيفتنا نحن الشيعة فقط، بل هي وظيفة جميع المسلمين؛ أي أنّ كل من يقبل بعلي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو مسلم ـ لأنه لا يوجد من المسلمين من لا يقبل هذا العظيم ـ فعليه أن يُحيي نهج البلاغة, بعنوان كونه تراثاً لا نظير له في الإسلام.

وليس هذا الإحياء في كثرة طباعته, فقد حصل هذا، بل بمعنى العمل والتحقيق في مجاله، كما حصل هذا الأمر في مجال القرآن الكريم، حيث أعدِّت التفاسير الكثيرة، وكذلك في علوم القرآن.

ومثلما يُقرأ القرآن ينبغي أن نقرأ نهج البلاغة، لأنه تالي القرآن.

ومثلما يعتبر المسلمون أنفسهم مكلّفين بإيجاد رابطة عميقة مع القرآن، ويعدّون الجهل به منقصة، كذلك ينبغي عدّ الجهل بنهج البلاغة نقصاً.

النقطة الأخرى الفائقة الأهمية، وهي برأيي تكليف على الجميع، أن نتعرف جيداً على موقع صدور هذه الكلمات وأحوال قائلها، وأن نعلم أنّ هذه المعرفة والوعي هما علاج شاف وسريع بالنسبة للكثير من أمراض مجتمعنا.

لأننا عندما نطالع في حال قائل هذه الكلمات، نجد أنه ليس إنساناً عادياً، بل له خاصيتان تجعل كلامه من هذا المنطلق كلاماً استثنائياً, إحدى هاتين الخاصيتين هي حكمته والأخرى حاكميته.

فهو (عليه السلام) أولاً حكيم ومن الذين {يؤتي الحكمة من يشاء}[3].

فقد أوتي الحكمة الإلهية, حيث عرف العالم والإنسان وحقائق الخلقة ودقائق الوجود.

فهو الحكيم، الذي له إطلاع على حقائق الوجود؛ وهذا الإطلاع ـ عند من يعتقد بأنه إمام معصوم ـ قد حصل بالإلهام الإلهي، وباعتقاد الذين لا يرون عصمته قد حصل عليه بتعليم الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) ومن الإسلام.

وعلى كل حال فلا يشك أحد بأنه إنسان بصير وحكيم, استفاد من حكمة الأنبياء واطلّع على حقائق الخلقة ومخزون علم الله, فهذه هي الخاصية الأولى.

والخاصية الثانية هي أنه كان عليه السلام في زمان خاص حاكم المجتمع الإسلامي ويتحمل مسؤولية الحكومة.

ومن هاتين الخاصيتين كان الكلام ينبعث ليفوق الحكمة العادية، ويجعله متميزاً ببعد إضافي.

ولكن حقاً, ما هو كلامه؟ وماذا كان يقول في كلماته؟ بماذا نطق هذا الأمير الحكيم الذي حكم المجتمع الإسلامي؟ من البديهي أن حديثه سيكون مطابقاً للحاجات، وأنه سيقول ما يمثل حاجة قطعية في تلك المرحلة من تاريخ الإسلام, وليس من الممكن أن يقول غير ذلك.

ليس من المتصوّر أن يصف هذا الطبيب الحاذق المشفق علاجاً ودواءً لا يحتاج اليه المريض.

لهذا سنجد في هذه الوصفة الطبية لأمير المؤمنين(عليه السلام) شيئاً آخر, فما هو؟ إنه وضع المجتمع الإسلامي في ذلك الزمان.

ولن نجد تأويلاً وتفسيراً ناطقاً بهذا القدر, ولن يكون هناك تقرير دقيق بهذا المستوى، بحيث يبين لنا أوضاع وظروف المجتمع في ذلك الزمان، كما بيّنه لنا علي بن أبي طالب(عليه السلام).

إننا نعيش اليوم في عصر نميل إلى تشبيهه بعصر صدر الإسلام، أي الولادة الجديدة للإسلام, فذلك العصر هو الولادة الأولى، وهذا العصر هو الولادة الثانية.

وفي ذلك العصر كانت أحكام الإسلام تطبّق ونحن اليوم نتّجه نحو تطبيق هذه الأحكام, وفي ذلك الزمان كان أعداء الإسلام أي أعداء هذه المعارف والأحكام مخالفين للمجتمع النبوي، وهؤلاء الذين يخالفون الثورة الإسلامية ليسوا مخالفين للجمهورية، بل للإسلام وليس الإسلام بالاسم، بل روحه وواقعيته, وليس هذا بالأمر البسيط.

ومن الطبيعي أن يخالفوا، لأنهم مستكبرون ومتسلطون ومستغلون وعنصريون ومحقّرون ومتآمرون على القيم الإنسانية، بل وينفون القيم الإلهية.

فلو لم يخالفوا الإسلام لكنّا تعجبنا، لأنهما ضدان.

وهذه الخصوصية كانت موجودة في ذلك الزمان أيضاً.

بيان الأمراض وعلاجها

إننا كشعب حملنا أركان هذا النظام على عاتقنا لو راجعنا اليوم(نهج البلاغة) لوجدنا فيه شيئاً ملفتاً.

فالأمراض والآفات التي تهددنا في هذه المرحلة وكذلك علاج هذه الأمراض الذي يعدّ بالنسبة لنا أمراً مصيرياً موجودة فيه، ولا أريد أن أقول أن جميع الحوادث التي حصلت في عصر صدر الإسلام تحدث اليوم كما هي. كلا، ولكن التوجهات واحدة.

فقلوب المؤمنين في العصرين وآمالهم، وكذلك تردد المنافقين وضعاف الإيمان في العصرين ايضاً شيء واحد، وتعاون المخالفين والمتآمرين يتشابه في العصرين.

ومحورية نظامنا اليوم مثل محورية نظام صدر الإسلام، جماهيرية النظامين كذلك، وقبول القرآن كسند أساسي ووصفة كاملة ومجسّمة للأهداف والتطلعات هي شيء واحد في العصرين، فمن الطبيعي إذاً، إذا كنا نواجه أمراضاً مشابهة لأمراض ذلك العصر، وتعرفنا عليها مسبقاً، فإننا نصبح مستعدين لمواجهتها، ونهج البلاغة يعرفنا على تلك الأمراض واحداً واحداً، مع أنه بحسب الظاهر ليس كتاباً لتقرير التاريخ، ولكن كلام أمير المؤمنين يمثل تقريراً للتاريخ.

وبالطبع، لو أردت أن أذكر شاهداً على ما أقول، وكيف أن أمير المؤمنين(عليه السلام) قد رسم لنا معالم المجتمع الذي عاصره مع ذكر أمراضه ودوائه، لو أردنا شرح ذلك وبيان كيف عالج(عليه السلام) كل مرض وقدم له وصفته العلاجية لاحتجنا إلى رسالة مستقلة.

وللأسف، كما قلت لكم لا ينبغي أن تنتظروا من أمثالي هذا العمل، وعلى الأخوة الذين لديهم وقت أن يقوموا به.

ولكن أقول أيضاً إن تتبع هذا الأمر في(نهج البلاغة) لا يتطلب جهداً كبيراً.

فتشوا، وبمجرد تصفح صفحاته سيبرز لكم ذلك.

حب الدنيا

أذكر كنموذج عدة فقرات من أمراض ذلك العصر، والتي كان أمير المؤمنين(عليه السلام) بصدد معالجتها وأحد هذه الأمراض هو حب الدنيا.

في(نهج البلاغة) ما أكثر ما نجد ذم الدنيا والانخداع بها والتحذير منها ومن مخاطرها.

وأحد الأقسام المهمة في نهج البلاغة هو ما يتعلق بالزهد.

فلماذا كان الحديث عن الزهد؟ وما هو الواقع الذي يظهر من هذا الحديث؟ أين أصبح ذلك الزمان الذي كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول فيه: (الفقر فخري)، وكان أصحابه يفتخرون بأنهم لم يتلوثوا بمال الدنيا، أمثال أبي ذر وسلمان وعبد الله بن مسعود وأصحاب الصفه الذين كانوا من أشراف أمة النبي، ولم يعتنوا بالدنيا ولا بذهبها وزخارفها، وكان شرف المال لا يساوي شيئاً أمام الشرف الآخر الذي عبر عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلاً: (أشراف أمتي أصحاب الليل وحملة القرآن).

ماذا حدث بعدها في المجتمع الإسلامي بحيث نجد أن نصف كلمات أمير المؤمنين(عليه السلام) تقريباً تدور حول الزهد.

لماذا امتلأ(نهج البلاغة) بالزهد والترغيب به، وعلى أي شيء يدل هذا الأمر؟ نعم، إنه يدل على مرض، كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يصف علاجه متحدثاً بهذا المقدار عن حب الدنيا والتعلق بها، لأن الناس قد فتنوا بها، فبعد ثلاث وعشرين سنة من وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أُسر الناس في الدنيا، وكان سعي أمير المؤمنين(عليه السلام) لتحريرهم منها.

في(نهج البلاغة) عندما نصل إلى موضع ذكر الدنيا نلاحظ شيئاً بارزاً، ونشعر أنّ في كلام أمير المؤمنين هنا لهجة ولوناً آخر.

لم أقدر على عدم ذكر هذا المقطع، من كلماته التي تبلغ المئات من شدة جماله، (فإنّ الدنيا رَنِقٌ مَشربُها رَدعٌ مشرعُها يُونِقُ منطرُها، ويُوبِقُ مخبَرُها، غرورٌ حائل، وضوءٌ آفِل، وظلٌ زائل، وسِنَاد مائل، حتى إذا أنِسَ نافِرُها، واطمأنّ ناكِرُها، قَمَصت بأرجُلها وقَنَصت بأحبُلهِا، وأقصَدَت بأسهُمهِا، وأعلقَتِ المرءَ أوهاقَ المنيَّة قائدة له إلى ضَنْكِ المضجَعِ ووحشَة المرجِع)[4].

فانظروا كم هو جميل هذا الكلام وذا معاني دقيقة, فحتى لو تُرجِمَ يصعب فهم معانيه وحقائقه.

ينبغي أن يقوم البلغاء والشعراء بدراسة كل كلمة على حده قبل ترجمتها، وما يلفت نظر الإنسان، وما لفت نظري هو أنه عندما يتحدث عن الدنيا يقول:(غرور حائل، وضوء آفل، وظل زائل، وسناد مائل) ثم يذكر نقطة من بعدها: (حتى إذا أَنِسَ نافرُها) فالدنيا بكل مظاهرها وخدعها تظهر لأولئك الذين كانوا قد فروا واستوحشوا منها بحيث تجعلهم بعد ذلك يأنسون بها (واطمأن ناكرها) وأولئك الذين لم يكونوا مستعدين لمدّ أيديهم إليها، تراهم بعدها يشعرون بالطمأنينة إلى جانبها.

هذا هو المرض، فأولئك الذين كانوا مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وقد تركوا أموالهم وعيالهم وأوطانهم وتجارتهم في سبيل الإسلام وهاجروا إلى المدينة مع الرسول، وطووا على الجوع والمخمصة والشدة، نراهم بعد عشرين، أو ثلاثين سنة من وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم), عندما يتوفون يحتاج ورثتهم إلى الفؤوس ليقسّموا الذهب الذي تركوه.

هؤلاء هم مصداق قوله(عليه السلام):(حتى إذا أنس نافرها واطمأن ناكرها).

فهذا أوج كلام أمير المؤمنين(عليه السلام) ، وهو نموذج من كلماته(عليه السلام) في مورد الدنيا.

ومن المواضيع الأخرى التي تكرر ذكرها في نهج البلاغة التكبر, الذي هو المحور الأساسي في خطبة(القاصعة)، وبالطبع لم يرد فقط في هذه الخطبة، بل تكرر في مواضع كثيرة.

قضية التكبر التي تعني اعتبار النفس أفضل من الآخرين، هي تلك الآفة التي أدَّت إلى تحريف الإسلام والنظام السياسي الإسلامي، وأبدلت الخلافة إلى سلطنة، وقضت تقريباً على جميع إنجازات النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في برهة قصيرة من الزمان، ولهذا كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يولي هذا الموضوع اهتماماً كبيراً كما نرى في(نهج البلاغة).

ففي خطبة القاصعة التي تعرفونها، ما أجمل وأروع ما يبيّنه الإمام(عليه السلام) حول هذا الأمر محذراً منه بشدة، أنقل لكم الآن قسماً منه:

(فالله الله في كبر الحمية، وفخر الجاهلية، فإنه ملاقح الشنآن، ومنافخ الشيطان التي خدع بها الأمم الماضية والقرون الخالية حتى أعنقوا في حنادس جهالته ومهاوي ضلالته ذُلُلاً عن سياقه، سلُساً في قيادة.. ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم الذين تكبروا عن حسبهم وترفعوا فوق نسبهم)[5]. هذا هو تحذير أمير المؤمنين(عليه السلام).

إنه يحذر أفراد المجتمع بشدة من شيئين: الأول التكبّر والاستعلاء، والثاني من قبول هذا التوجه الخاطئ من الآخرين.

فلا ينبغي أن تعتبروا أنفسكم أفضل من الآخرين، ولا ينبغي أن تتقبلوا مثل هذا التصور الخاطئ من غيركم.

فأمير المؤمنين(عليه السلام) يؤكد على عدم قبول التكبّر من الآخرين، وهو عليه السلام لا يتكّبر ولا يقبل ذلك من أحد، فهذان ضامنان لتطبيق الأخلاق الإسلامية بين الناس وبين مسؤولي المجتمع الإسلامي.

وهذا يحكي عن وجود هذا المرض أو هذين المرضين.

وإذا أردتم المزيد من التأكد إذهبوا وطالعوا التاريخ, وأولئك الذين لهم إطّلاع على ذلك العصر يعلمون أنّ أسوأ الأمراض في ذلك الوقت أمران: الأول, إن مجموعة من الناس كانت تعتبر نفسها أفضل من الآخرين، قريش من غير قريش، وأتباع هذه القبيلة من أتباع هذه القبيلة.

وللأسف، فإننا نلاحظ أنّ هذا المرض قد انتشر بسرعة بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولهذا كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول:(فإنه ملاقح الشنآن..) أي أنه محل بروز ومنشأ الاختلاف والنزاع، وعندما تتأملون في كلمات أمير المؤمنين ستلاحظون هذه النقاط التي ذكرت.

دحض التكبر والاستعلاء

لقد كان قبول المتكّبر من الأمراض المتفشية في بعض المجتمعات, حيث تقبل تلك الجماعة المستحقرة هذا الواقع.

اذهبوا وطالعوا في تاريخ ذلك العصر، فستلاحظون علائم قبول الظلم والتكّبر والعنصرية في حياة الناس بشكل يبعث على الأسى.

وأولئك الذين كانوا يرفعون رؤوسهم ولا يقبلون بهذا الواقع، كانوا دائماً يتعرضون للمضايقة، وكان هذا من خصوصيات أهل العراق الثابتة، نعم، ينقل عن أهل الكوفة أنهم لم يكونوا أوفياء، وهذه الخصلة ناشئة من أمور كثيرة.

ولكن أهل العراق في ذلك الوقت، كانوا مترفّعين لا يقبلون حكام الشام، وأظن أن أحد أسباب هذه القضية هو حضور أمير المؤمنين(عليه السلام) بينهم، فقد تعلّموا هذا الخُلق الإسلامي في برهة قصيرة منه.

على كل حال، نشاهد طوال الحكم الأموي والعباسي الذي دام حوالي 600 سنة، أنّ نقطة الضعف والآفة الكبرى للمجتمع الإسلامي هي هذه المسالة، التي منها حصل الفساد واستشرى.

لهذا نجد في الكثير من الموارد في تعاليم أمير المؤمنين(عليه السلام) ما يتناول دحض روح التكّبر والاستعلاء والتبعيض.

الأمر الثاني يرتبط بالفتنة، وهنا نجد كلاماً عجيباً لأمير المؤمنين(عليه السلام).

إنّ من يتأمل في هذا الكلام العميق، الجميل والجامع يصاب بالحيرة والاندهاش.. ما هي الفتنة؟ إنها تعني الشبهة واختلاط الصفوف، أي اختلاط الحق والباطل:

(ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان! فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه)[6].

وفي هذه القضية حين يخلط الحق والباطل، يستفاد من شعارات الحق لمآرب أهل الباطل، لأجل إحكام قواعد وأسس الباطل.

وهذا مرض وبلاء كان مستفحلاً في عصر أمير المؤمنين(عليه السلام) ، ولهذا كان(عليه السلام) يكشف عنه ويفضحه.

في باب الفتنة نجد نوعين من الكلام لأمير المؤمنين(عليه السلام) في(نهج البلاغة).

أحدهما: ما يدور حول الفتنة بشكل عام.

وقد دوّنتُ في هذا المجال عدة جمل.

ففي الخطبة الثانية، يتحدث عن الأوضاع التي كانت سائدة حين بعث الله تعالى نبيّه الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول:(في فتنٍ داستهم باخفافها، ووطئتهم بأظلافها وقامت على سنابكها، فهم فيها تائهون حائرون جاهلون مفتونون في خير دار وشر جيران، نومهم سهود وكحلهم دموع)[7].

وهذا المقطع أيضاً غير قابل للترجمة، ويحتاج إلى الشعراء وأهل الذوق لكي يجدوا معادلاً دقيقاً لكل كلمة ولكل تركيب.. إنه حديث عن الفتن السائدة في المجتمعات قبل ظهور الأنبياء، وهو يريد أن يبيّن الأوضاع التي آل إليها المجتمع والناس في زمانه.

والمورد الآخر من كلام أمير المؤمنين(عليه السلام) عندما يذكر فتنة محددة، كما في جميع المواضع التي ذكر فيها مخالفيه الذين شنّوا الحروب والمعارك ضده كمعاوية وطلحة والزبير وعائشة وغيرهم، وكذلك الخوارج.

أهمية الإفشاء

أما النوع الثاني فهو الإفشاء، فأمير المؤمنين(عليه السلام) كان يكشف عن الوجوه لأجل وأد الفتن. فهذا أفضل طريق لمحاربتها والقضاء عليها.

لأن الفتنة تنشأ في ظل مواجهة بين فئتين متصارعتين ينبعث من صراعهما الغبار فلا تعرف عندها الوجوه في الحقيقة. ولعلّه قد يحمل الأخ السيف على أخيه، أو يطعنه، أو يعتمد على عدوه ويلجأ إليه.

فهذه هي الفتنة, ولكن ما هو علاجها؟

علاجها الإفشاء، ولا يوجد مثل هذا العلاج للفتن، وكان أمير المؤمنين(عليه السلام) يمارس هذا العلاج، وهذا ما يدل على وجود المرض في ذلك الزمان.

في بحثي هذا تعرضت لثلاث نقاط هي: الدنيا، التكبر والفتنة.

ويمكنكم أن تجدوا في(نهج البلاغة) مئة أمثالها، لم أحصها لأقول مئة ولكن أحدس بذلك وأتصور أنّنا ربما نجد أكثر منها.

كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يشير إلى العلاج، ومنه يعلم بوجود المرض, ولو لم يكن المرض موجوداً، لم يكن هذا الحكيم الذي يتحمل مسؤولية مضاعفة تجاه المجتمع ليتحدثّ عن ذلك، ولكان يتطرق إلى أشياء أخرى.

فهذا الكلام يدل على حجم ابتلاء الناس بتلك الأمراض, ويُعرض طرق الخروج منها.

وإننا اليوم بعد مرور أكثر من ألف وثلاثمائة سنة، ما زلنا بحاجة إلى تلك الوصفات العلاجية، لنتعرف على العلاج ولنتعرف أيضاً على نوع الأمراض التي تهددنا.

نحن نعيش في هذه الأيام ظروفاً، تشبه تلك الظروف السابقة، فحب الدنيا والإنكباب عليها يهددنا، ويحدق بنا مرض التكبر وحب النفس والتمييز العنصري، كذلك نجد طوفان الفتن الاجتماعية تهددنا بالسقوط.

وعليه فإننا بحاجة في تلك المعالجات، وأكثر من أي وقت مضى إلى(نهج البلاغة) وخصوصاً من خلال هذه الرؤية.

ومن جانبي فأنا لم أرَ أحداً يسلك هذا المنهج مع(نهج البلاغة).

وكما تعلمون، توجد أعمال كثيرة حول(نهج البلاغة) ولكن هذه الرؤية جديدة، وتحتاج بأن ننظر بواسطة مرآة هذا الكتاب إلى الأوضاع ونشاهد الوقائع والأمراض والأخطار المحدقة، ونتعرف بعدها إلى أساليب المعالجة، ففي عصرنا الحالي نحن بحاجة ماسّة إلى تفسير وشرح (نهج البلاغة) من هذه الجهة.

وفي الختام، أشكر أولاً الأخوة الأعزاء الذين نهضوا في سبيل إحياء(نهج البلاغة) وأضفوا على الأبحاث الدائرة حول هذا الكتاب أبعاداً علمية جدية، وأولوها الاهتمام وثابروا عليها، فأخرجوه من تحت ركام النسيان والإهمال.

وأشكر المحقّقين في هذا المجال من الشرّاح والمترجمين والجهود الأخرى القيّمة.

ولكنني أرجو أن نأخذ قضية(نهج البلاغة) على محمل المزيد من الجدية.

ففي عصرنا هذا يتمتع هذا الكتاب بوضع خاص.

ولقد ذكرت في لقائنا هذا بعدين, وهناك الكثير غيرهما.

وأؤكد على أن هذا الكتاب يمثل كنزاً لا نظير له ولا انتهاء، وأن شعبنا ومجتمعنا يحتاجان إليه أكثر من أي وقت مضى. إننا بحاجة إلى هذا الكتاب اليوم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

-----------------------------

[1] نهج البلاغة ـ الوصية 77, من وصيته عليه السلام لعبد الله بن العباس لما بعثه للاحتجاج على الخوارج.

[2] سورة البقرة ـ الآية:207.

[3] سورة البقرة، الآية:269.

[4] نهج البلاغة الخطبة الغراء.

[5] نهج البلاغة الخطبة القاصعة.

[6] نهج البلاغة.

[7] نهج البلاغة الخطبة 2.

**************

نظرة إلى خصائص عصر حكومة علي (عليه السلام)

2007-09-06

محاضرة في: مؤتمر نهج البلاغة ـ طهران ـ حسينية إرشاد ـ رجب 1404هـ

بعد فترة طويلة من الركود وعدم الاعتناء، يعاد اليوم عرض هذا الكتاب القَيّم والبنَّاء للإنسان والمجتمع، والذي لا نظير له، ويتم إحياؤه.

 وإنني أشكر من أعماق قلبي جميع الأخوة والأخوات الذين جاؤوا من داخل البلد وخارجه للمشاركة في هذه المراسم.

لقد كان الأمر بهيجاً بالنسبة لي، أو أوفّق مثلكم للمشاركة الفاعلة في هذا المؤتمر المهم، وأن أتناول (نهج البلاغة)، هذا المحيط العظيم بالبحث من أعماقه، وأشارك في الأيام التالية في بقية اللقاءات التي تدور حول هذا الكتاب الذي يعد قبلةً لآمالنا وتطلعاتنا الفكرية، ومن موقعه الأساسي يمكن أن نملأ الكثير من أوقاتنا بمطالعته ودراسته وتدريسه في مجامعنا العلمية.

ولكن، وللأسف فبسبب عدم وجود هذه الفرصة وهذا الفراغ، أجد من اللازم أن أذكر ببعض الأمور حول هذا الكتاب القيِّم والأثر الخالد لكم أيها الأخوة والأخوات، وأيضاً للذين لم يحضروا هذا المؤتمر، ولكنهم جعلوا قلوبهم منوطة بهداية (نهج البلاغة) والإمام علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام.

نهج البلاغة هو تلك المقتطفات التي جُمعت بهمِّة وسعي السيد العظيم الشريف الرضي، وبحمد الله كان حتى يومنا هذا مرجعاً للخواص وللعلماء، وليس مجرد محور للمعرفة والثقافة العامة للناس، ولعله منذ أن جمع هذا الكتاب إليه وفيما يتناسب وأوضاع هذا الزمان والمكان. ولاشك أن أهمية (نهج البلاغة) ترجع إلى جهات عدة.

ولعله يمكن القول أن (نهج البلاغة) بما يتضمنه يعتبر من أكثر المباحث والمعارف الإسلامية عمدة، فكل ما يلزم الإنسان المسلم والمجتمع الإسلامي موجود في (نهج البلاغة): من التوحيد والعقائد الإسلامية وأصول الدين إلى الأخلاق والتهذيب وتزكية النفس، فالسياسة والإدارة وقيادة المجالات الواسعة للنشاطات الاجتماعية إلى تنظيم الروابط الأخلاقية والعائلية، إلى الحرب والحكمة والعلم و...

فمطالب هذا الكتاب التي تشكل بمجموعها دروس الحياة الاجتماعية للمسلمين لم تطرح بصورة بعيدة عن الحياة, فصاحبها هو رئيس دولة وحاكم كبير كانت سلطته مبسوطة على بلاد واسعة جداً.

هذا الإنسان العظيم الذي كان يحمل على عاتقه مسؤولية الحكم والقيادة، نطق بهذه الكلمات انطلاقا من شعوره بهذه المسؤولية الكبرى.

(نهج البلاغة) ليس مثل كتب الحكماء الذين يجلسون بعيداً عن ضوضاء الحياة وضجيج واقعياتها وقضاياها المختلفة ليبينّوا المعارف الإسلامية، بل هو كلام إنسان عميق الغور في معرفة الدين حمل هموم قيادة مجتمع كبير، وهو يمتلك بصيرة بكل المعارف الإسلامية والقرآنية، يضج قلبه بالمعرفة وهو في مقام المسؤولية، يتعاطى مع الشعب ويخاطبه ويجيبه عن أسئلته واستفهاماته.

هذه هي الأرضية التي صدر منها (نهج البلاغة)، ومن هذه الجهة يتفرق عن جميع الروايات التي لدينا عن الأئمة المعصومين (عليه السلام).

فالأئمة الأطهار (عليه السلام) لم يعيشوا في عصر حكومة يرتضونها، بل كانوا في ظل أزمنة القمع والتنكيل.

ولم تكن القضايا تجري على ألسنتهم من موقع الحاكم والمسؤول عن إدارة دولة.

أما أمير المؤمنين (عليه السلام) فلقد كان يتحدث بعنوان الحاكم الإسلامي متوجهاً إلى مجتمع يعيش تحت إشرافه وحاكميته، وهذا ما يمثل القسم الأعظم من (نهج البلاغة). وما بقي هو نزر يسير مما يصدر منه (عليه السلام) قبل عصر حكومته.

نحن اليوم نعيش في مثل تلك الظروف، ومجتمعنا يمر بمثل تلك الظروف.

ومن الواضح أن نهج البلاغة ليس مختصاً ببلدنا، بل هو لكل العالم الإسلامي، هذا العالم الذي يتجه اليوم نحو صحوة وحياة إسلامية جديدة.

وفي بلدنا ومجتمعنا، وصلت هذه الثورة إلى شاطئ النصر والفلاح في ظل تعاليم أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وبالاعتماد والرجوع إلى القرآن ونهج البلاغة, بحيث أصبح مجتمعنا قريب في أكثر أبعاده من (القرآن ونهج البلاغة).

فاليوم هو يوم الاستفادة بكل ما أمكن من (نهج البلاغة), وفي هذا المجال سأقدم المزيد من التوضيح.

إن الظروف التي كانت محيطة بعصر الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) تتفاوت وتختلف عن ظروف عصر حكومة أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ففي عصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان المجتمع مجتمعاً إسلامياً من جميع الأبعاد، أي أن توجهه كان توجهاً إسلامياً بالكامل.

ولكن الخصوصية التي طبعت هذا العصر طيلة السنوات العشر الأخيرة من عمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحكومة الإسلامية هي أن الصفوف كانت واضحة، وكانت الشعارات الإسلامية شعارات مشخصة وواضحة ومحددّة.

كان الصف الذي يقف مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علنياً ومشخصاً, وكان كل من العدو والصديق معروفاً, حتى حركة النفاق التي ظهرت في المجتمع الإسلامي منذ بداية تشكيل الحكومة الإسلامية، وفي الحد الأدنى في مرحلة تواجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة، فإنها لم تستطع أن تجعل المجتمع تحت تأثير ما يمكن أن تؤدي إليه حركة النفاق، لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان حاضراً, وكانت الآيات التي تشير إلى المنافقين وتفضح تحركاتهم تنزل تباعاً، تهددهم وتفضحهم، والكثير منهم قد فضحوا وانكشفوا من خلال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان الآخرون يتعرفون عليهم.

نعم، كان للنفاق تحرك ونشاط مؤذٍ، ولكن بشكل عام، كان الجو الغالب على المجتمع الإسلامي هو جو الصراحة والوضوح.

وأولئك الذين شاركوا في الحروب ضد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كانت عداوتهم وأبعادها معروفة، كذلك كان مدى قربهم وبعدهم عن الإسلام معلوماً, لقد كان واضحاً مقدار مخالفة اليهود وقريش والقبائل الأخرى.

ومن البديهي أن المسلمين حينها لم يكونوا حيارى فيما يتعلق بكيفية مواجهة أعداء الإسلام والمسلمين.

خاصية الزمان

أما عصر أمير المؤمنين (عليه السلام) فلم يكن فيه هذه الخصوصية، مما جعل حكومته تقف أمام أكبر المشاكل وأصعبها, تلك الحكومة التي استمرت أقل من خمس سنوات.

ففي عصر أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما كان الصفان أو الجيشان يلتقيان، كان كلاً منها يؤدي الصلاة, وإذا حل شهر رمضان كان الكل يصوم, وكانت أصوات وأصداء تلاوة القرآن الكريم تسمع من المعسكرين.

كان المسلمون في الجانبين عندما يتواجهون لا يشعرون بنفس الوضوح والصراحة وراحة البال التي وجدت وسادت في عصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

لهذا، وفي معركة صفين كانت الأسئلة والشبهات والتردد والحيرة تبرز من حين إلى آخر.

وكان أولئك الذين أسلموا قديماً، وعاشوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولادة الحكومة الإسلامية ـ كعمار بن ياسر ـ حلاّلاً للمشاكل والعقد, ولكن الكثير كان حائراً أو مشوشاً.

ففي الحوادث التي جرت في عصر أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكن اختلاف وتباين الصفوف واضحاً, ولقد كان الاشتراك في الشعارات يملأ الأجواء إلى الدرجة التي جعلت أمير المؤمنين (عليه السلام) يكرر مراراً: (لا يحمل هذا العلم إلا أهل البصر والصبر)[1] فالمقاومة لا تكفي لوحدها بل يلزم الوعي والذكاء وحدة البصر.

هذه هي خصوصية عصر أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وهذه هي آلامه وأوجاعه (صلوات الله عليه).

نحن نعيش اليوم في عالم كبير مليء بالشعارات الجملية والبراقة التي تخلب الأبصار، تقريباً مثل ذلك العصر، ونواجه كذلك هذه الواقعية في عالمنا الإسلامي الذي تتفاوت فيه الرؤية الإسلامية والوعي الإسلامي كما يتفاوت الإيمان عن الكفر.

اليوم، نجد أن أوضح وأجلى الحقائق الإسلامية يتمّ التغاضي عنها وإهمالها من قبل بعض مدّعي الإسلام في البلاد الإسلامية، اليوم هو نفس ذلك اليوم الذي كانت الشعارات فيه متشابهة، ولكن التوجهات متغايرة بشكل تام.

اليوم تتشابه الظروف مع ظروف حكومة عصر أمير المؤمنين (عليه السلام), فالعصر إذاً عصر نهج البلاغة.

واليوم يمكن أن نبصر الوقائع العالمية والظروف الاجتماعية من خلال النظر الدقيق والنافذ لأمير المؤمنين (عليه السلام) وندرك الكثير من الحقائق ونتعرف إلى علاج الآلام والمشاكل.

هذا الذي يجعلنا محتاجين اليوم إلى (نهج البلاغة) أكثر من أي وقت آخر.

كانت هذه إحدى الجهات التي تبين لنا ضرورة العودة إلى نهج البلاغة، والى هذه الباقة التي جرت على لسان أمير المؤمنين ومولى المتقين (عليه السلام).

واليوم إن كل ما يضاف من العمل عليه وحوله ـ من إعداد المقدمات التي تجعلنا أكثر قدرة على فهمه والاستفادة منه ـ هو أكثر ضرورة ولزوماً من أي وقت آخر.

الحقيقة الأخرى التي تطرح نفسها وتجعلنا اليوم أكثر احتياجاً إلى نهج البلاغة وأشد رغبة به، هي أننا كنا طوال التاريخ وللأسف نعاني من التحريف فيما يتعلق بالمعارف الإسلامية التي هي بين أيدينا بسبب اعوجاج الفهم والجهالة من جانب، وبسبب الأغراض السيئة للأعداء من جانب آخر.

فطوال تاريخ الإسلام، كان الجهل موجوداً، وكذلك الرؤى الضيّقة والأهواء التي كانت تؤدي إلى عدم التعرف الصحيح إلى الحقائق والمعارف الإسلامية, بالإضافة إلى الأغراض والمآرب والخيانات وتعمّد تحريف الإسلام منذ بداية عصر ظهور الإسلام من قبل المتجبرين والأشخاص الذين كانوا يرون في صفاء الإسلام ووضوحه خطراً على مصالحهم.

وكنا طوال تلك الفترات محتاجين إلى الينابيع الخالصة والأفكار الإسلامية الصافية والنظام الفكري الذي يمكن الاعتماد عليه.

ولحسن الحظ كان القرآن الكريم دائماً في أيدي المسلمين, وإن لعبت بفهمه تلك الأيادي السوداء, والأنظار المعوجة والمآرب السيئة, ولكن بحمد الله بقي متن القرآن سالماً وبعيداً عن أي تدخل وتصرف مغرض أو جاهل, ولكن هذا لا يعني عدم ضرورة الإبقاء على سلامة ومتانة الينابيع الأخرى الصافية للمعرفة عند المسلمين كما هو حال القرآن عندهم.

فمع إتّساع نطاق الثقافة الإنسانية وتعمق المعرفة الحاكمة على الناس، فإن هذا العصر هو عصر يوجب على البعض أن يعملوا على جمع تلك المعارف التي يمكن أن تزيد من طمأنينة الإنسان وإيمانه والتي لم تتعرض للتحريف وبقيت خالصة وسالمة، وأن يضعوها بين أيدي أهل الاستنباط والاجتهاد والمفكرين والخبراء، خصوصاً بعد مرور زمان طويل يفصلنا عن صدر الإسلام.

هذا العمل الذي كان ينبغي أن ينجز بالنسبة لما يتعلق بالأحاديث، قد قطعه نهج البلاغة.

فهذا الكتاب قد قطع هذه المسافة الزمنية الطويلة التي فصلتنا عن صدر الإسلام في أقرب مدة وأسلم رؤية بالنسبة للمعارف الإسلامية.

ولو قمنا بالتحقيق حول نهج البلاغة، وجمعنا ذلك المقدار من خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) التي لم تذكر في نهج البلاغة، وعملنا على التحقيق في سندها والخصائص التي تجعلها معتبرة ومسلّمة وقطعية، وأوصلنا نهج البلاغة إلى مجموع الخطب الخمسمائة التي نُقلت عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، نكون بذلك قد قدَّمنا خدمة كبرى للمعارف الإسلامية في القرن الهجري الخامس عشر, ونكون أيضاً قد قدمنا للمسلمين مع مرور هذه الفترة المديدة عن صدر الإسلام، نبعاً غنياً لا ينضب، وهو مورد قبول جميع المؤمنين بالإسلام.

وهذه المجموعة المطلوبة ستمدنا بفهم صحيح للإسلام، وما أعلى ما سترتقيه أفهامنا فيما يتعلق بالمعارف الإسلامية حينها.

وهذا العمل ممكن، خصوصاً في ظل نظام الجمهورية الإسلامية التي قامت على أساس القرآن و (نهج البلاغة).

إن هذا العمل ينبغي أن يحصل حتماً، وأملنا بمساعي الأخوة الأعزاء في مؤسسة (نهج البلاغة) وكل الذين يساعدونهم أن يعملوا على تحقيق هذه الخدمة الكبرى لعالم الإسلام.

تصوير شخصية علي (عليه السلام) في نهج البلاغة

بعدٌ آخر من الأبعاد القيمة والمهمة لنهج البلاغة هو ما يرتبط بتصوير شخصية أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام، والذي نحن بأمس الحاجة إليه في أيامنا هذه.

فأمير المؤمنين (عليه السلام)، هذه الصورة المجهولة، وهذا الإنسان السامي والنموذج الإسلامي الكامل الذي أراد الإسلام صناعة البشر على أساسه، يمكن التعرف إليه من بين سطور وأوراق نهج البلاغة بشكل كامل.

فنهج البلاغة في الحقيقة هو كتاب معرفة علي بن أبي طالب (عليه السلام).

فهل يمكن أن يوجد شخص يصف ويبيّن بهذه الروعة والجمال تلك الأسرار والآفاق العجيبة للمعرفة الموجودة في نهج البلاغة وهو غير واصل إليها.

في نهج البلاغة نجد جميع أبعاد الشخصية الإنسانية الكاملة: من المعرفة والأخلاق، والخصال الخاصة للإنسان التي هي من مختصات تعاليم الإسلام، نجدها مجسدة في إنسان كامل هو أمير المؤمنين (عليه السلام)، وليس هذا الأمر مهماً من جهة التعرف إلى شخصية أمير المؤمنين فحسب، بل من جهة التعرف إلى الإسلام، وبرامجه في صناعة مثل هذا الإنسان.

اليوم تسألنا البشرية المعاصرة لنا: (ما هو الإنسان الذي يعدّه ويبنيه هذا الإسلام الذي تتحدثون عنه، وتعتقدون أن رسالته عالمية). ولأجل الإجابة، ينبغي أن نسأل أنفسنا من هو الشخص الذي يمكن إظهاره وهو أفضل وأعظم وأعلى وأكثر جامعية من علي بن أبي طالب (عليه السلام)، كما ينبغي أن نعتقد بأن شخصية علي بن أبي طالب (عليه السلام) ليست بارزة في أي مكان آخر مثل (نهج البلاغة).

لقد قيل الكلام الكثير والعميق حول عظمة هذا الكتاب وكلماته وخطبه، ويمكن إضافة الكثير أيضاً.

وأنا أتحدث هنا من باب الإشارة لأشكر من صميم قلبي أولئك الذين أقاموا هذا المؤتمر وسابقه, وهذا النشاط الذي يهدف التعرف إلى نهج البلاغة.

فرغم أنه قد مضت فترة طويلة نسبياً خرج فيها نهج البلاغة من عالم الإهمال ووصل اسمه إلى أسماع الناس وصار منتشراً بينهم، إلا أنني ما زلت أرى ضرورة القيام بالتحقيقات العلمية والشاملة حول (نهج البلاغة).

والأعمال التي أنجزت بهذا الصدد وذكرت في الكتاب التعريفي عن نهج البلاغة، كلها مورد تقديرنا وشكرنا.

تبويب مطالب نهج البلاغة وشرح الأجزاء الأساسية

لعل الكثير من الأعمال التي أنجزت على مدى أكثر من ألف سنة من تدوين هذا الكتاب الشريف ما زالت في المكتبات بصورة مخطوطات، وينبغي البحث عن هذه الأعمال القيّمة, وربما قد تعرَّض بعضها للتلف نتيجة حوادث الزمان.

إحدى الأعمال التي ينبغي أن ينجزها هذا المؤتمر إعداد فهرس لأهم التحقيقات التي ينبغي إعدادها حول نهج البلاغة وعرضها على العلماء, ولعلّه يمكن تعداد عشرات الأعمال اللازمة التي يحتاجها هذا الكتاب، مما ينبغي القيام بها فردياً أو جماعياً.

وبهذه الطريقة يعلم العلماء والمؤلفون وأصحاب الرأي والمشغوفون بنهج البلاغة ما هي الأولويات في هذا المجال.

وهنا سوف أشير إلى عدة أعمال تحوز على أهمية وضرورة مبرمة.

ترجمة نهج البلاغة إلى الفارسية

إنني بالطبع مطّلع تقريباً على ما أنجز، ولا أريد ـ لا سمح الله ـ أن أنظر إلى الجهود الكبيرة في مجال نقل نهج البلاغة إلى الفارسية نظرة عدم تقدير.

ففي المؤتمر الذي عقد قبل ثلاث سنوات ووفقت للمشاركة فيه أعربت عن شكري للعالم الجليل فيض الإسلام الذي ترجم نهج البلاغة لأول مرة إلى اللغة الفارسية وجعله بمتناول الناطقين بها.

وأنا اليوم أعرب عن تقديري مرة أخرى, وكذلك أشكر كل الذين ترجموا هذا الكتاب ضمن ترجمات منتخبة أو حرة، بصورة بيان المعنى.

لكن أريد أن أقول أن مكان الترجمة الكاملة والشاملة لنهج البلاغة، كما هو مكان الترجمة الواضحة والمناسبة للقرآن، ما زال خالياً في مجتمعنا، وبرأيي فإن القصور والغفلة التي ما زالت لحد الآن هي سبب التقاعس عن هذا الأمر.

إنني أرجو من مؤسسة نهج البلاغة أن تتابع هذه القضية بصورة عاجلة وجدية، وكذلك أكرر طلبي ورجائي للذين يمكنهم أن يعدوا ترجمة جيدة للقرآن الكريم.

لقد تأخرت الجمهورية الإسلامية بعد خمس سنوات شيئاً ما في هذا المجال, وينبغي الإسراع فيه، وكلما مرّ الوقت ازداد التأخر، وأعتقد أنه لا إشكال في أن يبدأ عدة أشخاص بترجمة هذين الأثرين المقدسين ويسعوا جهدهم لإنجازهما.

وعلى كل حال لن تكون هناك ترجمة كاملة تماماً، حتى إذا سمعنا أن شخصاً يعمل على ترجمة (نهج البلاغة) أو القرآن فنسحب أيدينا من هذا العمل.

فليبدأ كل من يجد في نفسه الشوق والرغبة بهذا العمل, ولو كان لدينا عشر ترجمات جيدة جداً لهذين الكتابين الشريفين فليس هذا بالأمر الزائد.

ولا يوجد أي إشكال في وجود طبائع وأذواق متعددة وآراء مختلفة، كل واحد منها يبيّن الآية أو الجملة من زاوية أو بعد خاص ويُقرِّب القارئ إلى المعاني الواقعية. وعليه، أرى أن هذا العمل يتمتع بالأولوية في أيامنا هذه[2].

تبويب نهج البلاغة

من الأعمال الأخرى الضرورية في مورد نهج البلاغة، هو التبويب ضمن عناوين، أي التصنيف الموضوعي.

طبعاً، هناك أعمال أنجزت في هذا المجال، وبعض المحققين والعلماء الكبار في زماننا قام بمثل هذا العمل، وطبع له عدة مجلدات، وهو في مقامه قيّم, ولكن تحت العناوين الكلية، التي أظن أنها قد بلغت عنده ثلاثين عنواناً، يمكن التفريع إلى عشرات العناوين الأخرى[3].

وهذا العمل أيضاً مكانه بالنسبة للقرآن ما زال خالياً ولم ينجز بعد.

يجب أن نكتب تفصيلاً للآيات يشمل معظم المواضيع التي أشير إليها في القرآن والتي لم نتمكن إلى اليوم من الوصول إليها.

أما في مورد نهج البلاغة، فإن إعداداً مفصلاً لمطالبه وموضوعاته له أهمية قصوى.

فهذا الكتاب هو حقاً محيط عميق لا متناهٍ، ولا يوفق الجميع للسير فيه كما هو أهل له، أن يتحقق لهم الغور فيه.

في حين أن الكثير من مطالب ومعارف هذا الكتاب مما هو ضروري وممكن لعامة الناس، لذا ينبغي أن نحقق هذه الإمكانية لهم وللباحثين والمحبين لكي يصلوا إلى ما يبحثون عنه بسهولة.

التبويب بلحاظ اعتبار السند

من الأعمال الأخرى التي من المناسب القيام بها في نهج البلاغة، هو التبويب بلحاظ اعتبار السند, ولاشك بأن بعض نهج البلاغة يتمتع بمستوى عالٍ من الاعتبار والوثوق الروائي, وبعضه ليس بهذا المستوى.

وحول أسانيد نهج البلاغة أنجزت بعض الأعمال وطبعت عدّة كتب، إثنان أو ثلاثة أو أكثر, ولعلّه وجد عند القدماء مثل هذا العمل مما لم يطّلع عليه الكثير.

ولكنه يلزم القيام بإعداد تبويب ترتيبي بلحاظ السند واعتباره, بحيث إذا رجعنا إلى إحدى الخطب أو الكلمات أو الرسائل، نعلم مدى اعتبارها بلحاظ السند وإلى أي مدى يمكن الاعتماد عليها، وبالطبع يمكن إعمال جميع الشواهد والقرائن في هذا المجال, وهذا الأمر وإن لم يكن مورد حاجة لعامة الناس، ولكنه حتماً يحوز على أهمية عند المحقّقين والعلماء والمهتمين بهذا الحقل.

ترجمة مفردات نهج البلاغة

وعمل آخر ينبغي القيام به هو ترجمة مفردات نهج البلاغة للناطقين بالفارسية، وكذلك للناطقين بالعربية.

وطبعاً، يوجد في هوامش بعض طبعات نهج البلاغة من قام بهذا العمل مثل المرحوم محمد عبده وغيره، ولكن هذا ليس كافياً.

إنّ هذه المفردات المنتشرة في هذا الكتاب بثقلها الأدبي وأصولها الفنية وفصاحتها وبلاغتها الخارقة تحتاج إلى عمل مستقل، أوسع من شرحها الأولي.

وخلاصة الأمر أنه ينبغي إعداد تفسير كامل وعميق لمفردات نهج البلاغة.

ربط الأجزاء المتفرقة للخطبة الواحدة

إحدى الأعمال التي كنت أشعر بأهميتها منذ فترات، هو القيام بوصل الأجزاء المتفرقة لبعض الخطب التي كان السيد الرضي (رحمة الله عليه) قد فصلها.

لقد لاحظتم في بعض الخطب أنه في وسطها يقول (ومنها) ولاشك أنه قد أسقط شيئاً من الخطبة, وإلا لم يلزم أن يقول (ومنها).

وفي بعضها يعلم أن الخطبة لم تنتهٍ, ولعلنا نستطيع أن نجد الضائع أو المفقود منها في نفس نهج البلاغة، وحتماً الكثير منها يمكن العثور عليه في كتب الحديث المختلفة.

على أية حال، قد نجد قسمين من خطبة واحدة في غاية الأهمية، ولكن يوجد بينهما فراغ، لهذا ينبغي على أصحاب الهمم أن يعملوا على متابعة هذا الأمر والعثور على هذه الفراغات لتعبئتها، حتى نصل قدر الإمكان أجزاء الخطبة المتفرقة ببعضها البعض.

وأنا أعتقد أن المرحوم السيد الرضي، رضوان الله عليه قد صنّف هذا الكتاب وهو ناظر إلى الفصاحة والبلاغة والجماليات الفنية أكثر من أي شيء آخر، والعنوان الذي أطلقه على الكتاب يؤيد هذه الفكرة، واليوم فإن مسألة البلاغة في هذا الكتاب ليست في الدرجة الأولى من اهتمام شعبنا، بل المضمون والمحتوى.

إننا بحاجة للمضامين والمعاني.

وفي الأساس أكثر الناس لا يفهمون شيئاً من جمال هذه الكلمات، فنحن نتكلم بالفارسية.

ولعلّ الكثير من الناطقين بالعربية أيضاً، ومع مرور أكثر من ألف وثلاثمائة سنة على صدور هذه الكلمات، وبسبب التحول والتبدل الذي طرأ على اللغة بشكل طبيعي، لا يتمكنون من إدراك الشيء الكثير من فصاحة وبلاغة وجمال ما ورد فيه.

لهذا، ينبغي أن نعدل عن تلك الرؤية التي حكمت تدوين هذه المجموعة من باب البلاغة والفصاحة والقيم الفنية, ولا أقول أن نغضّ النظر عنها كلياً، لأن هذا الوجه من الناحية الأدبية يتمتع بمزايا خارقة، ومعروف أن القيم والمزايا الفنية تساهم كثيراً في بقاء أي نص وفي تأثيره العميق وانتشاره الواسع.

فهذا مما لا شك فيه، إلا أن الأمر الذي يحوز على الدرجة الأولى من الأهمية بالنسبة لنا اليوم هو المضامين.

وفي هذا المجال يوجد الكثير من الأعمال التي يمكن القيام بها.

وكما ذكرت فإنني أكرر اقتراحي الأول:

أعدّوا فهرساً لكل الأعمال الضرورية واللازمة في نهج البلاغة، لكي يتضح ما هي الأمور المناسبة.

ولا يوجد أدنى شك أن هذا سيوجد الرغبات والحوافز والابتكارات والمجالات الجديدة.

إنني أشكر مرة أخرى جميع الأخوة المسؤولين والعاملين، على هذا الاهتمام الذي أبدوه لنهج البلاغة، وللاهتمام بهذا المؤتمر، وأرجو أن يكون علوّ هممهم سبباً لإيجاد هذه الخدمة العظيمة لأمة الإسلام، ويكون (نهج البلاغة) مورداً للمزيد من الاستفادة، ويكون ذلك قدوة لجميع المسلمين الذين لم يطّلع أكثرهم على نهج البلاغة أبداً.

--------------------------------

[1] نهج البلاغة.

[2] ما يلزم ذكره هنا أنه بعد عدة سنوات من هذه المحاضرة القيِّمة لسماحة الإمام القائد أنجزت مجموعة من الأعمال في هذا المجال، ونشرت مجموعة من الترجمات إلى اللغة الفارسية.

[3] خلال السنوات الماضية ظهر إلى العلن مجموعة من الأعمال في هذا المجال منها: تصنيف نهج البلاغة للبيب بيضون، والفهرسة الموضوعية لنهج البلاغة من قبل المؤسسة. والهادي إلى نهج البلاغة لآية الله المشكيني. والدليل إلى الموضوعات نهج البلاغة لعلي أنصاريان، والمعجم الموضوعي لنهج البلاغة إعداد أويس كريم محمد.

**************

ملامح من حياة الإمام علي (عليه السلام) 1.

2007-09-06

السيد طلال فخرالدين

لا يختلف اثنان على الصفات الرفيعة التي فاق بها الإمام علي (عليه السلام) جميع معاصريه, والتي ميزته عن غيره حتى قيل أنه نسخة عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم), من هنا فقد اختاره الله سبحانه وتعالى خليفة للمسلمين وقائدا لهم بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

واختصارا نستعرض بعضا منها تبركاً بميلاده السعيد (عليه السلام):

أولاً: التضحية والجهاد:

فقد كان منذ صغره يدافع عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويحفظه من أذى الأطفال وحجارتهم, فقد كان الكفار يدفعون بأولادهم لأذية نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم), فعندما كانوا يرمونه بالحجارة يهجم علي ابن العشرة سنوات عليهم, فيفرون أمامه مذعورين.

وهكذا تبلغ التضحية عند الإمام علي (عليه السلام) القمة عندما يبيت في فراش الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ ليلة هجرة النبي من مكة الى المدينة ـ معرضاً نفسه لخطر محقق, يقول عليه السلام ((كنت على فراش رسول الله وقد طرح عليّ برده ـ كساء من صوف ـ فأقبلت قريش مع كل رجل منهم هراوة فيها شوكها, فلم يبصروا رسول الله حيث خرج, فأقبلوا عليّ يضربونني بما لديهم, فتنفط جسدي ـ أي تقرح ـ وصار مثل البيض, ثم انطلقوا يريدون قتلي))[1].

وقد اشترك الإمام علي (عليه السلام) في كل حروب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي تزيد على الثمانين حرباً.

وفي بدر الكبرى قتل المسلمون 35 من الكفار بينما قتل الإمام (عليه السلام) وحده 35 كافراً, أي أنه (عليه السلام) قتل وحده نصف قتلى الكفار.

وفي حرب أُحد أصيب (عليه السلام) بثمانين جراحة خطيرة, وفي الخندق التي وقعت عام 5 هجرية كان الإمام علي (عليه السلام) هو الوحيد الذي واجه أهم أبطال جيش الكفار وهو(عمرو بن عبد ود العامري) واستطاع الإمام قتله وهو لم يبلغ الثلاثين من عمره, وكانت ضربة قسمت ظهر الكفار, وفيها قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين[2].

وغيرها من الحروب التي كان للأمير المؤمنين (عليه السلام) دوراً بارزاً في غلبة المسلمين على الكفار.

هكذا كان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قمة في البطولة والتضحية والجهاد لذلك نزلت مجموعة كبيرة من الآيات القرآنية تتحدث حول جهاده (عليه السلام) نذكر منها:

قال تعالى: {{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ}} الصف. آية4, نزلت في أمير المؤمنين وحمزة وعبيدة ومجموعة من المجاهدين.

وقال تعالى: {{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}} البقرة. آية 207, نزلت هذه الآية عند مبيت الإمام (عليه السلام) في فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

وقال تعالى: {{مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ}} المائدة.آية 54.

وغيرها من الآيات التي نزلت في جهاد الإمام علي (عليه السلام).

ثانياً: عبادته (عليه السلام):

فقد كان (عليه السلام) كثير الصلاة خاشعاً لله حتى أنه يغمى عليه, ففي ليلة الهرير حيث كانت الحرب بين جيش الإمام علي (عليه السلام) وجيش معاوية (لعنه الله) على أشدها, في هذه الأثناء حان موعد صلاة الصبح, فتقدم الإمام (عليه السلام), وبسط له نطع (وهو بساط من جلد) ووقف يصلي وهو غير آبه بالسهام التي تتطاير حوله, الى أن أكمل صلاته[3].

وفي احدى الليالي كان الإمام (عليه السلام) متحدثا الى أحد ضيوفه الى وقت متأخر من الليل, وقد ذهبا للنوم, يقول الرجل بعد ساعة رأيت الإمام (عليه السلام) يتجه نحو مكان الوضوء وهو يتكئ على الجدار, فقمت وقلت: الى أين يا أمير المؤمنين؟ فقال (عليه السلام): الى الصلاة, فقلت له: انك لم تسترح الا قليلاً فلماذا لا تنام أكثر؟ فقال (عليه السلام): إن نمت الليل ضيعت نفسي, وإن نمت النهار ضيعت رعيتي, قال الإمام ذلك واتجه الى محراب العبادة.

ثالثا: زهده (عليه السلام):

فقد كان (عليه السلام) يعيش حياة عادية جدا كحياة الفقراء بل أكثر تواضعاً, فكان أكله لا يتعدى خبز الشعير الجاف, وكان في بعض الأوقات يكسر الخبز بركبته لخشونته, وبعض الملح أو اللبن فقط.

يقول سويد بن غفله: دخلت على علي بن أبي طالب القصر فوجدته جالسا وبين يديه صفيحة فيها لبن خاثر, أجد ريحه من شدة حموضته, وفي يده رغيف أرى قشار الشعير في وجهه وهو يكسره بيده أحياناً, فإذا غلبه, كسره بركبته وطرحه فيه.

يقول سويد فقلت لجاريته: ويحك يا فضة أما تتقين الله في هذا الشيخ! ألا تنخلون له طعاماً مما أرى فيه من النخالة؟ فقالت: لقد تقدم الينا أن لا ننخل له طعاما[4].

أما ملابسه فقد كانت أكثر من عادية, يقول (عليه السلام): (لقد رقعت مدرعتي حتى استحييت من راقعها).

يقول سويد بن غفله: دخلت على علي (عليه السلام) يوماً وليس في داره سوى حصير رث وهو جالس عليه, فقلت: يا أمير المؤمنين أنت ملك المسلمين, والحاكم عليهم وعلى بيت المال, وتأتيك الوفود وليس في بيتك سوى هذا الحصير؟ قال (عليه السلام): يا سويد, إن اللبيب لا يتأثث في دار النقلة, وأمامنا دار المقامة(الآخرة) وقد نُقِلَتْ اليها متاعُنا ونحن منقلبون اليها عن قريب, قال سويد: فأبكاني والله كلامه[5].

هكذا كان إمام المسلمين وقائدهم, وهكذا كانت حياته ومأكله وملبسه, وما هي إلا ذكرى للمتعظين.

---------------------------------

[1] بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج36 ص 43.

[2] بحار الأنوار ج39 ص 1 الى7.

[3] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.

[4] كشف الغمة ص 47.

[5] تذكرة الخواص ص 68.

**************

ملامح من حياة الإمام علي (عليه السلام) 2.

2012-06-05

الثالث عشر من رجب ذكرى عزيزة على قلب كل مؤمن وكل حر زكي المولد، انها ذكرى ولادة رمز العدالة الانسانية، ذكرى ولادة وليد الكعبة وربيب بيت النبوة.

إن الحديث عن الإمام أمير المؤمنين أحلى من العسل لأنه حديث عن البطولة والفداء والعدل والإيمان والمحبة ...

لأنه حديث عن وليد الكعبة .. ولأنه حديث عن ربيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .. عن تلميذه الاول .. حديث عن قاصم الجبارين .. وعن بطل الاسلام الاول .. وعن زوج البتول الزهراء .. وعن ابي الحسنين .. وعن العدالة وقمة الإيمان والتقوى .. وعن معين الضعفاء والأيتام والمساكين ..

فهو الإمام أمير المؤمنين وسيد الوصيين علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف.

أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف تجتمع هي وأبو طالب في هاشم اسلمت وهاجرت مع النبي (ص) وكانت من السابقات إلى الإيمان وبمنزلة الأم للرسول الأكرم (ص) ربته في حجرها ولما ماتت فاطمة بنت اسد دخل اليها رسول لله (ص) فجلس عند راسها وقال (رحمك الله يا أمي، كنت أمي بعد أمي تجوعين وتشبعيني وتعرين وتكسيني وتمنعين نفسك طيب الطعام وتطعميني تريدين بذلك وجه الله تعالى والآخرة) .

وقد ولد الإمام علي عليه السلام بمكة المشرفة داخل البيت الحرام وفي جوف الكعبة في يوم الجمعة الثالث عشر من شهر رجب سنة ثلاثين من عام الفيل قبل الهجرة بثلاث وعشرين سنة ولم يولد في بيت الله الحرام قبله احد سواه وهي فضيلة خصه الله تعالى بها إجلالا وإعلاء لمرتبته وإظهارا لتكرمته .

عندما فاجأ المخاض أمه السيدة فاطمة بنت أسد وهي تطوف ببيت الله الحرام، وكانت يومئذ على دين إبراهيم عليه السلام، ولم تجد مكان تأوي إليه فتوسلت إلى الله تعالى أن يسترها عن أعين الناس, فانشق جدار الكعبة من الجانب المسمى (بالمستجار) ودخلت السيدة فاطمة بنت أسد إلى جوف الكعبة وارتأب الصدع وعادت الفتحة والتزقت وولدت السيدة ابنها علياً داخل اشرف وأقدس مكان على الأرض, ومع أنه من المعلوم أن للكعبة باباً يمكن منه الدخول والخروج, ولكن الباب لم ينفتح، بل انشق الجدار ليكون أبلغ وأوضح في الدلالة على المشيئة الإلهية في أن تكون هذه الولادة لهذا المولود بهذه الكيفية وفي هذا المكان.

وهذا الأثر لا يزال موجوداً على جدار الكعبة حتى اليوم بالرغم من تجدد بناء الكعبة في خلال هذه القرون، وقد ملأوا أثر الانشقاق بالفضة والأثر يرى بكل وضوح على الجدار المسمى بالمستجار، والعدد الكثير من الحجاج يلتصقون بهذا الجدار ويتضرعون إلى الله تعالى في قضاء حوائجهم.

فلنلاحظ خصائص بيت الله الحرام ونشاهد تعظيم الانبياء عليهم السلام له، وهو مع ذلك الاهتمام وذلك التعظيم تستجير به فاطمة بنت أسد، وتقسم على الله بالوليد الذي في بطنها فينفتح لها الجدار لتضعه في جوف الكعبة.

إن ولادته في الكعبة هو من سلسلة الاهتمام الإلهي به وهو غاية ما ناله البيت الحرام من تعظيم وتكريم من قبل الله عزّ وجل، وإليك من تلك السلسلة:

1 ـ أنه أول بيت وضعه الله للناس ولم يوضع بيت الله قبله فهو أشرف بيوت الله، وبيوته معظمة حيث نسبها إليه وأضافها إلى نفسه.

2 ـ ومن الاهتمام به أنه وضعه في أشرف المواضع وهي بكة:

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ……)(آل عمران/96).

3 ـ إن الله عزّ وجل أمر خليله إبراهيم عليه السلام ببنائه، وهذا من تعظيمه له حيث أن الباني له والرافع لقواعده هو شيخ الأنبياء.

4 ـ ومن تعظيمه له أن جعله مباركاً وهو الذي يبارك عليه وعلى زواره ومجاوريه.

5 ـ وجعله هدىً للعالمين.

6 ـ تعبد الخلق بالذهاب إليه والطواف فيه والتبرك بملامسته بما فيهم أنبياءه وحججه، ومن ترك الذهاب إليه مع استطاعته ترك ركنا من أركان الإسلام وإن مات مات على غير ملة الإسلام·

7 ـ ومن تعظيمه له حرم القتل فيه والصيد وجعله آمناً ولا يحل فيه دم من يأوي إليه حتى من الطير والهوام وهذا لحرمته عنده عزّ وجل.

8 ـ جعله قبلة للمسلمين وأين ما كانوا يتوجهون إليه في صلاتهم وليس فقط في الصلاة بل لا تحل لهم الذبائح إلا باستقبال القبلة وحرّم عليهم التوجه استقبالا واستدباراً إليه عند التخلي تعظيماً له، وكره لهم ذلك عند الجماع، وكذا استحب لهم التوجه في لحظات النوم، وأوجب عليهم توجيه الأموات في قبورهم إليه وغير هذا من الأحكام التي يستفاد من خلالها ربط الناس به وطلب تعظيمه.

9 ـ وزاد في تعظيمه أن جعل أفئدة أوليائه تهوي إليه.

10 ـ جعله مطافاً للملائكة.

11 ـ وعلى ما ورد أن الكعبة أنزلت من السماء من عالم الطهارة.

12 ـ زيّنه بالحجر الأسعد الذي هو ياقوت من يواقيت الجنة، والذي لا يستقر إذا وضع إلا أن يكون الواضع له معصوم.

13 ـ ومن اهتمامه به ماذا صنع الله عزّ وجل بأصحاب الفيل حين قصدوه.

14 ـ التأكيد على الاعتمار إليه طول السنة.

15 ـ أوجب على قاصديه الإحرام وترك زينة الحياة الدنيا.

16 ـ معراج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان منه:

(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ....)(الإسراء/1).

إلى غير ذلك من صور التعظيم والتكريم من قبل الله كعتقه من الغرق وجعل الصلاة فيه تعادل مائة ألف في غيره، ومع هذا التكريم وهذا التعظيم تأتي الإرادة الإلهية بفاطمة بنت أسد إليه ويفتح لها الجدار وتلد في الكعبة… فما هو هذا الذي الوليد الذي أراد الله أن يعظّم به بيته بعد هذه التعظيمات، فما هي عظمة هذا المولد؟ وهل يمكن وصفه؟

إن الحدث الغريب بمواصفات معينة يبقى في الأذهان ولا يزول ذكره، وكلما رأت الناس المكان أو تذكرته وتوجهت إليه تذكروا تلك الحادثة الغريبة التي لم يحصل لها نظير، والإنسان إذا أحب شخصاً ويريد أن لا ينساه يجعل له تذكار في مكان معظّم وأمامه غالباً أو دائما، وبولادة علي عليه السلام في الكعبة أراد الله أن لا يزيل الناس ذكره ولا يغفلوا عنه ولا يعرضوا عنه وأن يعظّموه كما يعظموا المكان الذي ولد فيه وكما عظّمه الله عزّ وجل بما خصه به من مناقب ومزايا.

لقد جاءت به فاطمة من بيت الله الحرام إلى عرش الله ... وهذه من المناقب التي خص بها مع الزهراء عليهما السلام حيث فتح عينه في بيت فيه رسول الله صلى الله عليه وآله والمسألة ليست مسألة بركة بوجوده المقدس ـ وإن كان هذا مما لاشك فيه بل إن البيت الذي فيه اسم محمد يقدس ويبارك عليه فكيف بالذي فيه الوجود المقدس له صلى الله عليه وآله ـ وإنما أقصد توليّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم تربيته ورعايته حتى ورد أنه صلى الله عليه وآله كان يقول لفاطمة بنت أسد: اجعلي مهده بقرب فراشي وكان يلي تربيته ....

ولم يفارقه منذ تلك الأيام وحتى بعد زواجه من خديجة وخروجه عن دار عمه أبي طالب لم يترك علياً وان كان قريباً منه لكن طلبه من والده وأخذه معه إلى داره، وتستمر هذه المصاحبة حتى تفيض روح النبي صلى الله عليه وآله وسلم على صدره، فهذا ماذا يعني؟

فهو عليه السلام امير المؤمنين وسيد الوصيين وأول خلفاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم - بأمر من الله تعالى ونص من رسوله الاكرم (ص) - وقد صرح القرآن الكريم بعصمته وتطهيره من كل رجس وبأهل الرسول (ص) نصارى نجران به وبزوجته وولديه ، واعتبره من القربى الذين وجبت مودَتهم مصرحا غير مرة بأنها عدل القرآن الكريم المجيد الموجبين للتمسك بهما النجاة وللمتخلف عنهما الردى.

اجتمع للإمام علي بن ابي طالب عليه السلام من صفات الكمال ومحمود الشمائل والخلال وسناء الحسب وعظيم الشرف مع الفطرة النقية والنفس المرضية ما لم يتهيأ لغيره من افذاذ الرجال.

تحدر من اكرم المناسب وانتمى الى اطيب الاعراق فأبوه ابو طالب عظيم المشيخة من قريش وجده عبد المطلب امير مكة وسيد البطحاء ثم هو قبل ذلك من هامات بني هاشم وأعيانهم.

واختص بقرابته من الرسول الاكرم (ص) فكان ابن عمه وزوج ابنته وأحب عترته اليه، كما كان كاتب وحيه واقرب الناس الى فصاحته وبلاغته وأحفظهم لقوله وجوامع كلمه .

اسلم على يديه قبل ان تمس قلبه عقيدة سابقة او يخالط عقله شوب من شرك، ونشأ الامام في حجر رسول الله (ص) منذ نعومة اظافره وتغذى من معين هديه فكان المتعلم الوفي والأخ الزكي وأول من آمن وصلى واصدق من تفانى في سبيل ربه وضحى في سبيل انجاح رسالته في احرج لحظات صراعها مع الجاهلية العاتية في كل صورها في العهدين المكي والمدني وفي حياة الرسول (ص) وبعد رحلته ذائبا في مبدئه ورسالته وجميع قيمه مجسدا للحق بكل شُعبه من دون ان يتخطاها قيد أنملة وان ينحرف عنها قيد شعرة .  

ولازم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فتى يافعا في غدوه ورواحه وسلمه وحربه حتى تخلق بأخلاقه واتسم بصفاته وفقه عنه الدين وتفقه ما نزل به الروح الامين فكان من افقه اصحابه واقضاهم وأحفظهم وادعاهم وأدقهم في الفتيا وأقربهم الى الصواب حتى قال فيه الخليفة الثاني عمر الخطاب : لا بقيت لمعضلة ليس لها ابو الحسن.

وشاء الله تعالى ان يجعل شهادته في بيت من بيوته المباركة فكانت بداية حياته في بيت الله الحرام ونهايتها في مسجد الكوفة الشريف .. وحري بكل صاحب فكر ومروءة ان يقف متأملا هذه الرحلة ... ويدرس حقيقة شخصية هذا الامام الهمام بعيدا عن التعصب الاعمى .

ولقد وصفه ضرار بن ضمرة الكناني لمعاوية بن ابي سفيان حتى أبكاه وأبكى القوم وجعله يترحم عليه بقوله:

(كان والله بعيد المدى شديد القوى يقول فصلا ويحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه، ويستوحش من الدنيا وزهراتها ،ويستأنس بالليل ووحشته، وكان طويل الفكرة يقلب كفه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر ومن الطعام ما جشب، وكان فينا كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه ويجيبنا اذا سألناه ويأتينا إذا دعوناه وينبئنا اذا استنبأناه، ونحن والله مع تقريبه ايانا وقره منا لا نكاد نكلمه هيبة له، فإن ابتسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم اهل الدين ويقرَب المساكين لا يطع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف في عدله).

لقد آزر الامام عليه السلام رسول الله منذ بداية الدعوة وجاهد معه جهادا لا مثيل له في تاريخ الدعوة المباركة حيت تفرى الليل عن صبحه وأسفر الحق عن محضه ونطق زعيم الدين وخرست شقاشق الشياطين بعد ان مُني بذؤبان العرب ومردة اهل الكتاب . - من خطبة الزهراء عليه السلام امام ابي بكر وعمر وسائر المهاجرين والأنصار بعيد رحيل رسول الله (ص) - .

فسلام عليك يا أمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين يوم ولدت ويوم ربيت في حجر الرسالة ويوم جاهدت من اجل ان تعلو راية الاسلام خفاقة ويوم صبرت ونصحت ويوم بويعت وحكمت ويوم كشفت النقاب عن براثن الجاهلية المتسترة بشعار الاسلام ويوم شهدت وان تروَي بدمك الطاهر شجرة الاسلام الباسقة ويوم تبعث حيا وان تحمل وسام الفوز من اعلى عليين .