ثلاثة أسس رئيسية للثورة الإسلامية

2007-08-19

حميد أنصاري

المقدمة

لا يخفى على المطّلعين على تاريخ ثورة الإمام الخميني(ره) أنّ أهم الأسس الفكرية والآراء السياسية للإمام الخميني عبارة عن ثلاثة أسس هي: (عدم الفصل بين الدين والسياسة)، (لزوم السعي من أجل إقامة الحكومة الإسلامية) و (أصل ولاية الفقيه على أنّه السبيل الوحيد لمشروعية الحكومة في عصر الغيبة).

وقد اعتمدت ثورة الإمام في جميع مراحلها هذه الأسس الثلاث. كما أنَّ جهود الإمام لتحقيق هذه الأسس لا تقتصر على الثورة في عامي 62 و 1963، بل إنَّ الاعتقاد والاهتمام بهذه الأسس يظهر جلياً في مؤلفه السياسي الأول كتاب (كشف الأسرار) عام 1322 هـ ش، وفي بيانه السياسي الأوّل عام 1323 هـ ش.

كما كانت أكثر جهود الإمام الخميني في توعية الناس في جميع مراحل جهاده السياسي تصبّ في إحياء وإثبات أحقية الأسس المتقدمة، وتوجيه أنظار المجتمع الإسلامي نحوها؛ إذ أنَّ الإمام مضافاً إلى بحوث كتاب (ولاية الفقيه) وفصل من (كتاب (البيع) والمسائل المذكورة في كتابي (تحرير الوسيلة) و (توضيح المسائل) لم يترك بيان هذه الأسس المتقدمة في خطاباته وبياناته ومقابلاته إلاّ فيما ندر.

وبشكل عام فإنَّ الإمام الخميني من خلال بيان وهذه الأسس بشكل مستمر وإحيائها في صميم معتقدات وقناعات الشعب الدينية قد تمكّن من بلوغ أهداف جهاده السياسي في إسقاط النظام الملكي في إيران وإقامة النظام الإسلامي.

بعد انتصار الثورة عمد الإمام الخميني بوصفه (ولي المجتمع الإسلامي وقائده) على قيادة هذا النظام الفتي وهدايته في أحلك الظروف ولمدة 11 سنة، معتمداً هذه الأسس ومستنداً إلى القوى الشعبية الكبيرة التي تؤمن بكل وجودها بهذه الأسس، وقد جرّبت صدق تأثيرها وإعجازها من الناحية العملية. إنّ ثبات النظام الإسلامي وبقاءه أمام كل هذه الحوادث والمؤامرات يعود بالدرجة الاُولى إلى إيمان غالبية المجتمع الإسلامي بهذه الأسس.

كما أنَّ الإمام الخميني لم ينهج إشاعة هذه الأسس وتعميقها في المعتقدات الدينية كأسلوب يحصل من خلاله على المكاسب السياسية، بل إنّه قد أثبت صحة هذه الأسس وصدقها بوصفه عالماً إسلامياً له آراؤه في الفلسفة والعرفان والتفسير والمعارف الدينية الأخرى، وبوصفه فقيهاً ومجتهداً بصيراً بالكتاب والسنّة، وكان يرى من الواجب عليه إشاعتها من أجل إحياء الدين وتنقيته من التحريفات والافتراءات.

وعلى هذا الأساس فإنَّ الآيديولوجية السياسية للإمام الخميني المتميزة بالكامل عن سائر الآيديولوجيات السياسية المعاصرة سواءً في أركانها أو أجزائها، تقوم على أسس لُمست أحقّيّتها في ميدان العمل والتجربة الواقعية وكذلك من الناحية النظرية وفي مقام إثبات مشروعيتها وأحقّيّتها فقد تمّ إحياؤها ـ في الحقيقة ـ على لسان شخص يعترف العدو والصديق بأنَّه (محيي الشريعة) و (المجدد الكبير للدين والإيمان به) ولا يمكن التشكيك به في مجال المعرفة الدقيقة ومجال اختصاصه بالإسلام وأبعاده وزواياه.

ورغم الجهود المستمرة التي بذلت طوال تاريخ الإسلام من أجل صيانة هذه الأسس وإحياءها من قبل المصلحين المسلمين الكبار، ورغم أنَّ دوافع أكثر الثورات الشيعية وجهاد العلماء كانت من أجل تحقيق هذه الأهداف وهذه الأسس، لكن يمكننا القول بلا مبالغة إنَّ الإمام الخميني هو أوّل شخص منذ المراحل الاُولى من صدر الإسلام وفِّق على إشاعة هذه الأسس والأهداف المتقدمة مستوى واسع من العالم الإسلامي وأن يُقيم على أساسها حكومة شعبية ودينية قوية، ولعب دوراً في قيادة النظام الإسلامي قرابة إحدى عشرة سنة.

إنَّ ردود الفعل المستمرة والمعادية لأقوى دول العالم ودراسة مخططات الإطاحة بهذا النظام وفرض الحرب الطويلة وأنواع الضغوط العالمية إلى الآن لم تحقق نجاحاً في مواجهة أصالة الآراء السياسية للإمام الخميني والنظام الذي أرسى قواعده.

والآن وبعد مضي ست عشرة سنة على انتصار الثورة الإسلامية واستقرار النظام المنبثق عنها نشاهد في الآونة الأخيرة تحركات جديدة تشكك بأسس الثورة البنّاءة، وإن كان الجناح المعارض لإشاعة وتعميم هذه الأسس قد نشط منذ أمد بعيد، وفي الوقت الذي استعرض فيه الإمام الخميني رؤاه وأهدافه السياسية وتحدث عن الوحدة التي لا تقبل فصل الدين عن السياسة وعن أصالة نظام ولاية الفقيه في عصر الغيبة مستدلاً بآيات القرآن وسنة النبي وأئمة الدين التي لا يتطرق إليها الشك على لزوم الجهاد والسعي من أجل إقامة الحكومة الدينية، وبذلك فجّر أمواج الصحوة في المجتمع الإسلامي في إيران ومنذ ذلك الحين نشط التيار المخالف ابتداءً من الأطياف غير المتجانسة من الأفكار المتحجرة في الحوزات العلمية إلى اليساريين والشيوعيين الذين لا يعتقدون أساساً بالدين وثقافة الثورة وآيديولوجيتها، وابتداءً من الأحزاب السياسية الوطنية إلى العلمانيين المتمذهبين والعناصر والفئات التي تحاول الوصول إلى السلطة، والتي فقدت توازنها أمام التقدم السريع للثورة وإنجاح الأسس المتقدمة فرفعت راية الاعتراض.

فسعى كل واحد منهم وبشكل يتناسب مع معداته وإمكاناته، من خلال الكتابة في الصحف آنذاك ونشر الكراسات والكتب وإقامة المسيرات السياسية إلى الاعتراض والتشكيك بأصالة ومشروعية هذه الأسس على الأخص (أصل ولاية الفقيه) الذي يستبطن في الحقيقة الأصليين الآخرين. وقد بلغت هذه الجهود ذروتها في مرحلة تدوين الدستور والمصادقة عليه، إلاّ أنّها لم تتمكن من الحيلولة دون دعم الشعب وإدخال هذا الأصل في الدستور.

وعلى صعيد العداء العالمي أيضاً واستناداً إلى إعلام الأبواق العالمية فقد خُصص الجزء الأكبر من جهود العدو الهدامة والمستمرة لتشويه هذه الأسس. فقد سعت عشرات القنوات الإذاعية والتلفازية طيلة هذه السنوات الستة عشرة إلى تخطئة فهم الإمام الخميني للإسلام والحكومة الدينية، محاولةً منها إلى زعزعة الذهنية العالمية تجاه النظام السياسي الذي يتوخّاه الإمام الخميني.

كان الإمام الخميني يرى أنَّ الإسلام هو عين السياسة، وأنّ اشتراك المسلمين في تحديد مصيرهم السياسي والاجتماعي تكليف إلهي. كانت أمواج هذه الأفكار الهادرة تدكّ أسس النظام اللاديني المسيطر على البلدان الإسلامية كنظام الشاه في إيران، وتهدد مصالح الغرب الواسعة فيها. ولذا ظهرت ـ على حدّ تعبير الإمام الخميني ـ كتلة من المؤيدين للإسلام الأمريكي في مواجهة الثورة الإسلامية. وقد تقبلت المملكة السعودية وبقية الأنظمة العربية الرجعية ضمن اشتراكها في مشروع محاصرة الثورة مسؤوليةً خاصة في مجال الإعلام، وتمَّ التأكيد على فصل الدين عن السياسة بالكامل، وعلى تحريف مفاهيم الإسلام الثورية.

ولو اُجريت إحصائية عن عدد برامج الإذاعة والتلفاز والكتب والمواضيع المنشورة طيلة السنوات الستة عشرة المنصرمة للحيلولة دون انتشار أفكار الإمام الثورية في العالم، لتعرفنا عندها على حجم الأموال الطائلة المبذولة للحيلولة دون اعتناق الأفكار العامة للإمام والثورة الإسلامية. وقد أوصل تيار الإسلام الأمريكي الوضع إلى مستوى تكفير الإمام وأنصار الثورة الإسلامية وألّفوا في هذا المجال كتباً ومواضيع كثيرة.

وفي هذا المقال لا نتوخى بيان مدى نجاح الجبهة العالمية ـ المخالفة لأهداف الإمام الخميني السياسية ـ في إطفاء لهيب حركة اعتناق الإسلام. بل إنَّ ما نتوخاه هو تسليط الضوء على الجهود الجديدة والكتابات والآراء في داخل البلاد التي تدعو إلى إعادة النظر والتي لا تعني ـ مع غضّ النظر عن الدوافع والميول الفردية ـ سوى إلى مهاجمة دعائم الثورة والأسس التي تتكفل بقاء الثورة والنظام الإسلامي على قيد الحياة. ومن هنا ينبغي القول حقاً بأنّ أجراس الإنذار قد قُرعت مرة أخرى.

وفي هذه البرهة أيضاً يجب على أنصار الإمام الخميني الواعين والمؤمنين بأحقية طريقه وكلامه، والأوفياء له وللثورة والمضحين على طريقه ومن أجل تحقيق أهدافه المقدسة، والذين لا يعيرون أهمية لترهات مدّعي الفهم، والذين يفخرون بانتسابهم إلى حزب الله، والذين لا يسألون الثورة أجراً، يجب عليهم أن يهبّوا للدفاع عن حياض أسس الثورة.

وإذا فُتح الباب أمام إلقاء الشبهات والمطالبة بإعادة النظر في أسس الثورة فلا يبعد أن تتمهد الأرضية لاضمحلال الثورة بالتدريج، فإنّ الانحراف أوّل ما يبدأ من جذوة صغيرة وبالتدريج يتحول إلى نار شاملة من الدعوة إلى التغيير والتحريف وتسوية الأسس والقيم، خصوصاً وأنّ العدو ماكر للغاية ويتربّص الدوائر، وينتظر سماع همسة وتهيئ الأوضاع.

وإذا طرحت اليوم مسائل التشكيك بالأسس المقدّسة التي يُعدُّ إحياؤها إحياءً للإسلام وثورته العالمية، وإذا فُتح باب إعادة النظر في أسس الثورة البنّاءة بحجة تنوير الأفكار ومطارحة الآراء والشعارات الجذّابة، فسيشكك غداً في أصل الثورة والدين وواقعه.

أيُّ تنوير، وأيُّ أفكار؟ فإننا لم ننسَ الحقائق المرّة بعد ثورة الدستور والنهضة الوطنية والندوات العامرة بمثل هذه الشعارات، وكيف صار دعاة التوعية والتفكير الجديد أبطال التيار الذي أبعد المجاهدين الحقيقيين وعلماء الدين المتصدين، وأبعدوا الدين عن ساحة الحياة الاجتماعية. ومن خلال كتاباتهم وتفلسفهم والدعوة إلى اعادة النظر مهدوا الطريق أمام الاجتياح الغربي الشامل، وأغلب الذين شككوا في أسس النهضة ومشروعيتها بحجة تعميق مباحث النهضة وتنوير الأفكار، انهمكوا في خدمة أركان النظام الاستبدادي عندما سيطر المستبدّون، أو أنّهم ـ على الأقل ـ شدّوا الأحزمة وحطّوا رحالهم في البلدان الغربية.

ورغم أنّه لا يمكن قياس الثورة الإسلامية مع ثورات التاريخ المعاصر من جهة الماهية والأساليب ونوعية القيادة ومستوى التوعية أو صمود الشعب إلاّ أنّ تحذيرات القرآن الكريم قد علّمتنا أنّه إذا حصلت غفلة عند الواعين من المؤمنين فسيغدو من الممكن الانحراف والردة إلى الماضي الأسود حتى بالنسبة إلى أكثر الثورات أصالة.

ومع الأسف فمنذ مدة بدأ عزف هذا النوع من الألحان التي أشرنا لها، والآن لا تهمّنا ماهية دوافع المتحدّثين أو الكتّاب الذين يستهدفون أسس الثورة من خلال تشكيكهم، وهل هم يقدمون على ذلك عن وعي أو أنّهم يجهلون العواقب السيئة لكلامهم؟ أو ما هي نوعية ارتباطهم بالثورة؟ وهل هم من زمرة المعتزلين والنادمين أو أنّهم لم ينسجموا منذ البداية مع أسس الثورة؟ إنّما المهم هو النتائج السلبية والآثار الهدّامة لمثل هذه الكلمات المزوّقة التي تستهدف أولاً حرمة الأسس، وتوحي بإمكان الخدش بمباني الثورة.

وعندما تتسع رقعة التشكيك بأصالة القيم والأسس وتنتشر في المجتمع على أنّها تحول وانتماء جديد، سيجد العدو أنّ الطريق معبّد أمام هجومه الشامل.

طبعاً إنّ نقاط الضعف والمشاكل الطبيعية والمصطنعة الموجودة والتي حالت دون وصول الثورة الإسلامية إلى جميع أهدافها بالإضافة إلى العامل الزمني الذي ينتهي بالتدريج إلى تقاعس العناصر ذات الاُفق الضيق تمهّد الأرضية أمام العدو ليوسع نطاق التشكيك وتوظيفه أكثر من السابق.

إنّ إشاعة فصل الدين عن السياسة والحكم بحجة الحفاظ على قداسة الدين، والتشكيك في أصالة النظام السياسي المنبثق عن الدين وتها بحجة أص