ثورة أمّ و ثورة شعاع

2007-08-19

الشيخ عيسى أحمد قاسم

 

المدخل

أطرح ابتداءً بعض النقاط المدخلية أمام يدي البحث الذي تستوعبه محاور محدَّدة.

 

ما هي الثورة؟

الثورة حركة إنسانية متقدمة ذات تميز نوعي يخالف نوعَ مألوف فكري أو ديني أو اجتماعي مثلاً أو ما هو أعم وتعصف به، وهي تفجُّر هائل في بعد أو أكثر من أبعاد الذات الإنسانية الخيرة يفجر جمود الأوضاع في الخارج وعند الآخرين; ليحلّ بديلاً إيجابياً ويدفع بحركة الحياة قدماً ويفتح لها آفاقاً جديدة ثرَّة واسعة.

فالثورة قد تكون فكرية تحطم جدران الفكر، وتُطلقُه من زنزانة الجمود والتحجر ليدخل عملية إنتاج وإبداع ضخمة، وتجارب حيَّة جديدة، وآفاقاً من الآفاق البكر بمنهجية عمليَّة صارمة، ورؤية دقيقة متحررة ليأتي أكبر مما كان وأجود وأبصر، ويكون المبدع الخلاّق المتبحر، الغواص المحلق المجدّد المخصب.

وقد تكون نفسيّة تحرر النفس البشرية من مخاوفها الوهمية، وتبعثر قوقعة يأسها وقنوطها، وتطرد عنها الشعور بالانهزامية والتقزم أمام الأحداث والأخطار التي تقع على طريق الفعل الصاعد، لتعانق الطموحاتِ الكبيرة والأهداف الضخمة متحملة مسؤولية الطريق، مستسيغة متاعب الدرب المحفوف بالمشاكل.

وقد تكون اجتماعية تكتسح العلاقات الظالمة فتحوّل الأعالي أسافل والأسافل أعالي كما ينبغي أن يكون، لتكون من هذا بدايةُ التغيير الايجابي الكبير والتحوّل الشامل في موازين العلاقات الاجتماعية من أصغر دائرة إلى أكبر دائرة في عالم النفس والاجتماع، وتندفع مسيرة هذه العلاقات في الطريق الصائب والخط الصاعد.

وقد تكون الثورة روحية تكسّر كل حواجز الطين في الوجود الإنساني، وتدوس الآمال والهواجس الأرضيّة المحدودة لتنطلق في حركة محلّقة بعيداً عالياً لا يوقفها شيء، ليجد هذا الوجود نفسه واقعاً أكبر من المكان والزمان في شعور غني دائم حيّ حاضر فاعل مفعم بالتعلق والتدلي والشعاعية للجمال المطلق والكمال اللامحدود.

وهي لا تكون ـ هذه الثورة الأخيرة ـ إلاّ بأن تكون الثورةَ الشاملة العميقة في كل أبعاد الذات الإنسانية الراقية، والحركة الهائلة في نفخة الروح القدسية في وجود الإنسان بكل حيثياتها الفاعلة; وعندئذ تندفع الذات الإنسانية والحياة بكل أبعادهما في حركة عرضية عامَّة قوية جادَّة صاعدة إلى الله متخلّقة بأخلاقه، مهتدية بهدى أسمائه، متسارعة في أشواطها إلى رضاه.

وهناك ما يسمّى بحركات سياسيّة وانقلابات عسكرية مما لا يستهدف إلاّ طلب المنصب، والقفز على كرسي الحكم، أو التكبيل لحركة الحياة وحرفها عن المسار; فهذه أحداث دونية صغيرة، أو حركات عدوانية جائرة.

 

مقوّمات الثورة:

ركنان لابد منهما في كل ثورة; قضيّة في رجل، ورجل حقيقته قضيَّة; قضيَّة هي قضية الإنسان في فطرته الإنسانية النقيَّة المتنبهة النامية على خطها الأصيل; قضية تحمل رؤية الفطرة ووجدانها وتوقها وتشوّقها، وخلوصها وطهرها، ولها غنىً يزيد الفطرة إلى زادها الروحي والفكري والخلقي الطيّب زاداً طيباً، ويمدها فوق نورها نوراً، ويثريها على هداها هدىً; قضية تملك أن تخاطب الإنسان وتملك أن ترفده; تخاطبه بلغة إنسانيته ووعيه ووجدانه وأشواقه الرفيعة التي هي من صميم ذاته، وترفده بما يزيد من تفجر وعيه، ويستثير من خزائن عقله، ويركّز أصيل وجدانه، وينمي مغروس أشواق إنسانيته، ويوظّف استعداداته النبيلة ليبلغ به أقصى درجات هداه ورفعته.

وهذه القضية لابد أن تكون الرجل السمع والبصر والفؤاد واليد والرجل; لكي تشخّص للنّاس مشكلتهم، وتراقب فيهم مواضع صحتهم وسقمهم، ولتهتدي بمن تبتدئ وبمن تنتهي، وأين تخاطب ومتى تخاطب، ولتملك أن تحتال للإصلاح والتغيير، وتتوفر على أسباب الثورة والمواجهة.

ولابد من رجل هو تلك القضية. نعم كأنه ليس إلاّ العقل والقلب والسمع والبصر واليد والرجل لها; فليس له ما يرغب أو ما يرهب مما يصرف عنها، أو يجعله يعطي من نفسه له من دونها إلاّ ما صبّ مصبها وكان من أسباب نجحها; رجل يُرى سمو الفكرة في سموه، وعدلُها في عدله، وتسامحها في تسامحه، وانفتاحها في انفتاحه، ونزاهتها في نزاهته، ودقتها في دقته، وحكمتها في حكمته، وصفاؤها في صفائه; رجل يتحرك حيث تريد له الفكرة أن يتحرك، ويقف حيث تشير بالوقوف، ويرتفع بكيانه كله إلى مستوى الصلابة الذي تفرضه في إطار التعامل مع الذات والآخرين أقرباء وأصدقاء، وبعداء وأعداء، وإلى مستوى السماحة الذي تتطلبه وإن كان فيه تجاوز الذات ونسيانها.

ذاك هو الرجل الأمة الذي كان النبيَّ إبراهيم (عليه السلام) والنبيّ محمداً(صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلياً والحسن والحسين (عليهما السلام) وكل إمام معصوم وكان بدرجة أخرى الخميني الثائر(قدس سره): {إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين} أمة من الوعي والهدى ومواقف الإيمان الصلبة والقيم الرسالية والخط الإنساني الأصيل، أمة تطلعها إلى السماء وخطها خط الفطرة، وقصدها إلى الله عز وجل.

نعم حين تتجسد القضية العملاقة في الرجل العملاق; الرجل الأمة الحية المتصلة بالله، القانتة إليه، المخلصة لوجهه الكريم، المستقيمة على الدرب تكون الثورة وتجد قوامها، وتبقى صوتاً حيّاً فاعلاً على مدى التاريخ. وقد بقي النبي إبراهيم(عليه السلام) الفرد في حدوده المادية، الأمة روحاً إيمانية منطلقة، وبصيرة عميقة واسعة، ورؤية نافذة فسيحة، وإرادة صلبة خيرة، وعزماً ثابتاً ماضياً، وحكمة عالية راسخة، وقلباً كبيراً زاكياً، وكلمة رسالية واعية، وتوجهاً عباديّاً مخلصاً، وصوتاً جهادياً ثائراً، وموقفاً مبدئياً مناضلاً; بقي يخرّج أجيالاً، ويهدي أفواجاً، ويبني عقولاً ونفوساً وضمائر، ويثير عزائم، ويوقظ إرادات، ويشعل ثورات، ويحطّم عروشا من ضلال; بقي صوتاً مدوّياً يشارك كفاحات الأنبياء والأولياء قبل وبعد في صناعة التاريخ وبناء الإنسان وتصحيح المسيرة.

الركنان في الثورة; القضيَّة الكبيرة في رجل، والرجل الكبير في القضية، قد تنضم إليهما نخبة وأمة من صنع القضية وإشعاع الرجل وغيره من رجال القضية ومدرستها; وبهذا يكون التفجير أكبر، والنتائج أسرع وأكثر.

 

تفاوت الثورات:

لا تستوي الثورات عمقاً وسعة، ولا عظمة وسمواً، ولا بقاءً وخلوداً، ولا إشعاعاً وعطاءً; وهي إذ تتفاوت في ذلك كله لا يأتي تفاوتها جزافاً، وإنما يعود لأسباب لعلَّ ما يأتي أهمها:

 

1 ـ أصالة القضيَّة:

أول ما يتفاوت بين الثورات في مستوياتها القضية التي تتفجر الثورة في إطارها; فالثورة وهي تأخذ من ترسيخ القضية والتمكين لها هدفها الأخير لا يمكن أن نكبّر إطار قضيتها; وبمقدار ما يكون للقضية التي تمثّل ضمير الثورة وهمها ورسالتها من تأصل وامتداد في فكر الإنسان، في استقامته وفطرته الأولى وروحه وضميره وضروراته وتطلعه; يمكن أن يكون للثورة التي تجسد تلك القضية وتحمل نداءها.

إن من الثورات ما ينطلق من هم تقويم الأوضاع وإعادتها إلى نصابها وفقاً لموازين العدل والإنصاف والاستقامة في مقطع زماني خاص، أو رقعة جغرافية معينة، أو في حدود قوم من بين الأقوام; وهذه الثورة تبقى لو تعالت وتوسعت ثورة داخل هذا الإطار ما لم تتجاوز همّها هذا المحدود الصغير، ويكون إشعاعها واستقطابها غير قادر على الانتشار الكبير.

والقضية التي يمكن أن تحطم حدود المكان والزمان وتخلد إلى الأبد متجاوزة بموج الثورة إلى كل الأجيال والأمم في كل زمان وفي كل مكان، هي قضية تلتقي بصلاح الإنسان وفلاحه، وبهمّ بنائه وعمارته في طريقها الصاعد إلى مرضاة الله عبر الانسجام الكامل مع نداء رسالته.

وهي قضية تستوعب أبعاد الإنسان وواقعية الزمان والمكان وما يرتبط بهما وتدخلها في الحساب من دون أن تقف عندها في الهدف الأخير أو تتأطر بإطار هذه الحياة.

 

2 ـ عظمة المثال:

لسان القضية المؤدي البليغ في الناس هو مثالها منهم، المجسد لها فيهم، الذي يشعُّ بوعيها وأدبها وإيحاءاتها وهداها وصدقها وأصالتها وسموها، ويوصل نداءها إليهم، ويلتقي في خطابه ولمحاته وإشاراته وإيماءاته وإيحاءاته التي هي من خطابها وإيحاءاتها بعميق وجدانهم، وأصيل فطرتهم، وصادق همهم وطموحهم وتطلعهم. ولا يمكن للثورة أن يتأصل فيها وعي القضيَّة وأخلاقيتها بأزيد مما يكون لمثالها في الناس الحامل لرسالتها; إذا كما لا يمكن أن يزيد حجم الثورة وعطاؤها على حجم قضيتها كذلك لا يزيد على مقدار القائد المفجر للثورة ونصيبه من وعي القضية وأدبها لأنه المقدار الذي ستخوض به القضية صراعها، وتتشبع به الثورة في تفجّرها.

فالقضية وإن تكن أكبر قضية لا يمكن أن تكون ثورة كبيرة بقدرها ما لم تجد نفساً بشرية مثالاً تتسع لها، وتحمل قيمها وهداها ورسالتها في كل كلمة، وفي كل موقف وفي كل منعطف، وعند كل منزلق; وبقدر ما يغيب من هدى القضية وقيمها في رجل القضية يغيب منها عن مرأى الناس ومسمعهم ونفوسهم وأفئدتهم، ويثلم من قدر الثورة، ويخسر من وزنها وفاعليتها وأثرها.

هذا الرجل الأول في القضية والثورة هو معبر وعيها وأدبها للناس; وأثرها فيهم إنما هو بقدر ما تفيض به نفسه مما له منها من خير لا يقف عند مكان ولا زمان، ولا شعب ولا أمة، ومن هدى ونور وغوث ونصرة تنبسط بهما يد العطاء لكل طالب، بل يتفقد مواضع الحاجة إليهما منه قلب كبير يسع القريب والبعيد.

فكلما كان هناك مستوى إنساني قافز له من اللحاق بمستوى القضية البعيدة المتميزة نصيب أكبر، وكان مثال القضية ورمز الثورة كان أمل لموج الثورة وإشعاعاتها، وأكسبها قدرة على البقاء والتمرد على أعاصير الأيام وأحداثها المزمجرة; وإذا وجد المثال الإنساني القمة الذي يقف مع القضية في سماء رفيعة واحدة غنيَّة بالعطاء الذي تحتاجه الأرض ولا تستغني عنه أبداً أبى للثورة أن تذوب، وأن يجوز عليها ذبول أبداً.

وكلما كان للقضية نُخب تضم صوتها إلى بطلها، كان أعطى للثورة أن تُفهم وتمتدّ بدرجة أكبر في العقول والقلوب والنفوس، وأن تُتمثل أفكاراً هادية، وقيماً عملية، ومشاعر ايجابية واقعة في ذوات الكثيرين.

 

3 ـ تجاوز التوقعات:

قد تولد الثورة في ظروف محسوبة لدى الكثير من المراقبين للأوضاع بلحاظ ما يقدّمه لهم سبرُهم وتجاربهم وتحليلهم الاجتماعي والنفسي والسياسي وحاسبتهم الفنيَّة في هذه المجالات، فيكون مجيئها على تقدير مرئي للعديدين، وفي وسط من الترقب المتشائم للأعداء، والتفاؤل الضاحك للأصدقاء; وقد تأتي تقديراً ينفرد به قائد لا يسمح لغيره مستواه أن يرى رؤيته، ويقدّر تقديره; تقديراً لا تقع عليه إلا عين البصير المتفرد، ولا ترقى إليه النخب، ولا يكتشفه النظر الحديد مما عند الآخرين.

وقد يفجر الثورة ابتداء عزم تلاقت معه عزوم على تسلّق القمة، ومقارعة الموت ومواجهة نتائج البركان، وقد لا يفجّرها ابتداء إلا عزم واحد متفرد من بين العزوم وإن تابعه منها ما يتابعه أثناء الطريق; هذا العزم يكون من إقدامه أن يواصل الطريق وحده غير مستوحش ولا آبه لفقد النصير، غير معلّق مضيَّه على الدرب الصعب على عدة ولا عدد; نعم شدة هذا العزم وتلحّظه يولدان عزوماً أخرى لاحقة تشارك في البذل والعطاء، وشق الطريق إلى النتائج.

ومن التحركات ما يأتي ردَّ فعل تدفع إليه محاصرة الظروف التي تفقد الفرد أو الجماعة كل خيارات النجاة، وتجعل صاحبها في زاوية الموت الحادّة التي لا تنفتح على طريق ترجى منها السلامة إلاّ طريق تفجير الأوضاع. ومنها ما يأتي به خيار حرّ طليق من خيارات العقل والمروءة والدين، يقدّم التعب على الراحة، وشرف الشهادة على ذلّ الحياة، وإن كانت الشهادة صورة من أشدّ صور المأساة وآلام البدن، وكانت الحياة أنعم حياة وأرفه حياة; خيار من وحي الوعي الخالص، والتقدير الدقيق، والرؤية المتثبتة، والروحية الشفّافة، والتصميم الفولاذي الهائل، بلا محاصرة خانقة في الخارج، ولا انفعال هائج في الداخل، ولا غياب لاكداس المحن المترتبة عن النظر الحديد.

وقد تبدأ الثورة إعصاراً عاتياً وبركاناً هائجاً، إلاّ أنها من بعد حين وحينما تصطدم بصلابة الأحداث وهول المشاقّ تعود جوّاً هادئاً، وحالة وادعة، وتسكن ريحها وينتهي كل شيء وليكن ما يكن من نتائج يُحصل معها على الراحة وتسلم الحياة. وقد لا تزيد الثورة أيامها الصعاب المثقلة بالهموم، ودربها الطويل المليء بالتحديات إلاّ إصراراً وعزيمة، وإلا شدة وصرامة.

ومن الصور أن تجد الثورة أول انطلاقتها، وقبل انطلاقتها رأياً عاماً داعماً يستثير الهمة، ويشدّ العضد ويدفع على الطريق وخلاصة من آراء أهل المواقع تتفاءل لمستقبلها; وعلى خلافه قد لا تواجه الثورة عند بدء تفجُّرها إلاّ سخرية عدوّ، وإشفاق صديق، وتخديراً وتخذيلاً من أصحاب الرأي وأهل المشورة; إلاّ أن وعي القائد، ورؤيته الثاقبة، وروحه المضحية، وقيمه العليا وصرامة بأسه، وصلابة عزمه تجعله يتجاوز كل الآراء القاصرة، والمشاعر الواجفة، والحسابات الصغيرة ليمضي قدماً على هدى من ربّه، ويقين من دينه، وسلامة من نيته، وعلم بربح تجارته التي لا تبتغي دنيا، ولا تهدف إلى حطام، ولا يهمها أن تحتفظ بحياة; إنما كل همها نجح القضية ونصرها; يمضي قدماً لتأتي النتائج كما رأى في أول الطريق عزّاً وغلبة للقضية التي آمن بها; سواء سقط شهيداً في سبيلها، أم صار حاكماً يرعى مصالحها.

والثائر ليس واحداً في كل صورتين متقابلتين مما تقدّم، فالبطولة أكبر، والعظمة أبين حين تأتي الثورة من منبع رؤية يتفرد بها القائد، وتصميماً لا يشاركه ابتداء تصميم الآخرين، وخياراً حراً واعياً من قضاء العقل والدين، لا موقفاً يدفع إليه حصار خانق من الخارج، أو يسوق إليه هياج متهور من الداخل، ويحث عليه تشجيع وتزيين وترغيب من هنا وهناك. ولا بطولة ولا عظمة إلاّ بأن تثبت قدم القائد على المداحض، لتتثبت به الأقدام، وبأن ينتفي تراجع وتذبذب، ويكون الإصرار والمواصلة والاستقامة.

ولنقف الآن أمام ثورتين عملاقتين خالدتين ـ أمّ وشعاع ـ تُريانا مكانهما من هذه المقاييس، وثائرين كبيرين ـ أستاذ وتلميذ ـ يُعلمانا التمسك بهذه القيم; على أن الثورة الشعاع والثائر التلميذ، فضلا عن الثورة الأم والثائر الأستاذ، سيبقى محل تشوق الكثير من الثورات والثائرين، ولن يملك الكثير اللحاق به، حتى تنتهي المسيرة إلى بقية الله الأعظم أرواحنا فداه وعجل الله فرجه لترى الدنيا كلُّ الدنيا فيه اليقين كله والصدق كله والعلم كله والشجاعة كلها والثورة أرفاها وأروعها وأعمقها واشملها، وليريها الإسلام كاملاً في ثورته المجتاحة وعدله العميم.

تكون الوقفة مع الثورة الأم، ثورة الحسين السبط(عليه السلام)، ثورة الشهادة والإباء، والثورة الشعاع; ثورة القائد الخميني(قدس سره) في عدد من المحاور هي:

 

1 ـ القضية.

 

2 ـ القيادة.

 

3 ـ النخبة والأمة.

 

4 ـ الظرف والأداة.

 

5 ـ النتائج.

 

ومما سيعنى به في غالب هذه المحاور صفة الشعاعية والامتداد في الثورة الثانية للثورة الأولى الأصل الثابت والمعين الذي لا ينضب.

المحور الأول: القضيَّة

تنطلق الثورتان المباركتان من محور واحد هو رضا الله سبحانه ببعدين متلازمين هما تأصيل الإسلام وتمكينه، وتحرير الإنسان وتكميله. والحديث تحت هذا المحور يكون في نقاط:

 

1 ـ الإسلام.

 

2 ـ الإنسان.

 

3 ـ بين الإسلام والإنسان.

 

4 ـ الهيمنة أو الشهادة. ما هو الطريق؟

 

وكلمة الإمام الحسين(عليه السلام) عن منطلق الثورة: «رضا الله رضانا أهل البيت»، «هوَّن علي ما نزل بي أنه بعين الله».

ويقول الإمام الراحل عنه: «إن الله معنا، ونحن نعيش مع إسلامنا ونعمل لله، ولماذا يخاف من يعمل لله، وممن يخاف من يسير في طريق الله؟!».

ويأتي فهم قائد الثورة الإسلامية في إيران من فهم سيده أبي عبد الله الحسين(عليه السلام) الذي يرى أن رضا الله سبحانه والعمل له إنما يتم ببذل النفس والنفيس لتثبيت الإسلام الأصيل في العقول والقلوب، والتمكين له في الواقع العملي من حياة النّاس إنقاذاً لهم، ودفعاً بهم على طريق الكمال، طريق العبودية الخالصة لله سبحانه، في تحرر كامل من جميع الأوثان والعوائق.

ولنتابع عناية الثورتين بالإسلام والإنسان والفهم الدقيق لعلاقة ما بينهما، وما أكدتاه من طريق لإنقاذ الإسلام وتحرير الإنسان.

 

1 ـ الإسلام:

{إنَّ الدين عند الله الإسلام}. {ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك همُ الفاسقون}، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون}، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}.

طريق الصعود إلى الله، والتأهل إلى مرضاته، والتأدب بأدبه طريق واحد لم يترك الله عزّ وجلّ للعباد أمره، بل نصَّ عليه نصّاً، ورفض مما سواه رفضاً قاطعاً، فلا غير الإسلام، ولا بديل عنه، ولا شيء يضاف إليه.

وليس إلاّ الإسلام الذي يعترف بحاكمية الله ويردّ الأمر كله إليه، ويواجه من يعطي لنفسه حق الحاكمية من دون الله.

هذا هو الإسلام الذي كانت من أجله عاشوراء مواجهةً للإسلام الأموي اليزيدي المزيّف وكانت من أجله الثورة الإسلامية في إيران ردّاً على الإسلام الشاهنشاهي الأميركي المكذوب.

انه التمييز الواضح للإسلام اللافتة التخديريّة الاستغلالية الذي يعلو سوطاً على ظهور المحرومين المقهورين، ويُسوّق تبريراً لتسلط الظلمة الجبّارين; هذا التمييز الذي حرصت نصوص الثورتين على تركيزه وعياً وشعوراً وموقفا عمليّاً في نفوس أبناء الأمة وجماهيرها العريضة; التمييز الذي أعطى قيمة خاصَّة لكل قطرة دم تقدَّست بهذا الوعي من دم شهيد أو جريح.

ومن النصوص الصارخة بهذه الرسالة من الوعي لكل أجيال الأمة وقوافلها ولكل من يريد حكما على الإسلام من كل النّاس هذه البيانات الساطعة من سيد شباب أهل الجنة:

«وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي(صلى الله عليه وآله وسلم). أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب(عليه السلام)» ، «... على الإسلام السلام إذ قد بليت الأمة براع مثل يزيد»، «ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله محقّا، فإني لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ بَرماً».

إن الإسلام فهماً معيناً في فكر النّاس، وشعوراً خاصاً في نفوسهم، وموقفا محدداً في سلوكهم، وعلاقات عمليّةً، وأوضاعاً سياسية واجتماعية واقتصادية، وقيماً تتلون بها ساحة الحياة، ونفسيَّة تكبر أو تصغر، وروحية تسمو أو تهبط ليتبع إسلام الحاكمين مع خلو الجوّ لهم وتفردهم بالساحة، فإذا حكم يزيد ولم يكن من يفضحه فلن يكون إلاّ الإسلام اليزيدي والإسلام الأميركي المترشح عن ذوات من أسفل الذوات، ومنابع جائفة لا يندّ عنها إلاّ خبيث رديء آسن. وهو كفر يتبرقع بما قد يتراءى إسلاماً في البداية، فلا يلبث أن يسقط القناع ويعلنها كلمة كفر صريحة لا مواربة فيها.

لذا لابد أن يقف الإسلام الصادق المتنزّل على قلب محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) في رمزه الكبير وقدوته الأولى سيد الشهداء(عليه السلام) في وجه المؤامرة ليسقطها بدمه الفوار بنور الإيمان، الزخار بشعلة الهداية; لابد أن تكون الثورة الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر في الدائرة الإسلامية الشاملة لصعيد الفكر والشعور والعمل والمنطلقات والأهداف والفرد والمجتمع، وان يكون من هدف التحرك الثوري الضخم هذا الهدف المقدس المتركز في سحق المؤامرة على الإسلام من الداخل، وتقديم الإسلام القرآني لكل الناس من خلال أوضاع حيوية متقدمة وعلاقات إنسانية رائعة تكون المدرسة العملية الشاهدة على عظمة الإسلام وكفاءته في قيادة الحياة وإيجابيته وعدله ونَصفه; الأمر الذي لا يتكفله القرآن الكريم ولا أحاديث السنة المطهرة تكفلاً مباشراً فاعلاً، وإنما هو مهمة الممارسة العملية لحكومة العدل الإلهي التي تحول المفاهيم والأحكام والأخلاق والمشاعر التي يدعو إليها الإسلام إلى واقع عملي حيّ شاخص، وتملا مساحة الحكم الولائي بما ينطلق من روح العدل، ويستهدف الحفاظ على المصالح العليا للرسالة وأمّتها، ملتزمةً في ذلك كله خطى السيرة القدوة المؤسِّسة; سيرة الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم ، والسيرة القدوة الباعثة; سيرةِ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وهي السيرة التي تردّ النّاس إلى السيرة عن التشريق والتغريب والميل عن الصراط ولو بمقدار. وما كان لكلمة الإمام الحسين المعصوم(عليه السلام) بدّ من تأكيد السيرة الثانية والتقائها كاملاً مع سيرة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنهما لسانان ناطقان عملا على حدّ واحد بقيم الإسلام ومثله كما هي في النصّ الإلهي المصون عن الزلل، ولتأكيد أن ما أعقب سيرة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) من دونها عدله نسبي، وتمثيله للسيرة القدوة مأخوذ عليه أنه منقوص.

نعم كان التقويضُ للإسلام اليزيدي، والتمكين للإسلام المحمدي الأصيل في أكبر مساحة ممكنة من عقول النّاس وأفئدتهم وأوضاعهم العملية الهدف المقدس الذي هبّ من أجله أبو عبد الله(عليه السلام) على طريق مرضاة الربّ العظيم.

هذا الهدف الذي صرخت به كلمات الحسين الشهيد(عليه السلام) ونطق به جهاده المستميت نجده تماماً في كلمات تلميذه الأمين ومواقفه; يقول قدّس سره الشريف: «إن شعبنا يعرف أننا نحارب من أجل الإسلام ومبادئ الإسلام، ونذود عن الإسلام».

«نحن طردنا أميركا لنقيم دولة إسلامية، لا أن نأتي بالاتحاد السوفياتي محلها. شعارات شعبنا تظهر هذه الحقيقة. نحن قلنا دائماً لا غربيَّة ولا شرقيّة».

وهو الذي فجر الثورة العارمة من أجل الإسلام المحمدي الأصيل، مطلقاً تحذيراته المتوالية من الإسلام القشر الذي يختبئ فيه اللب المرُّ الخبيث المنتن الأميركي، والذي لا يتفتق إلاّ عن شجرة الكفر والإلحاد الصريحين.

يقول(رضي الله عنه): «لن نسمح بعودة أميركا وروسيا إلى إيران، وسنطبق الإسلام الذي يريده الله».

نعم هناك إسلام يريده الله وبه جاءت رسله ودعت إليه أولياؤه، وما زال ولا يزال يحمل رايته المخلصون من عباده، وهو علم وحكمة وصدق وعدل وتقدم ورخاء وتوحيد شامل، وعبودية خالصة لله تبارك وتعالى، فيها انطلاق الإنسان إلى كماله، وفيها انعتاقه من كل الأغلال وتحرره من كل العبوديات المحقِّرة المقزِّمة.

وهناك إسلام يريده الشيطان ويدعو إليه أولياؤه ويجد أنصاره من الأراذل والصغار من طلاب الحياة الدنيا وباعة الضمير وذوي العاهات الروحية والإنسانية; إنه إسلام يزيد وأميركا وكل العملاء والأذناب والقنوات القذرة لامتصاص دماء الشعوب واقتيات تقدُرات الناس ومقدَّراتهم; إنه الإسلام الذي يقف مع الكفر على صعيد واحد في مواجهة صحوة الفكر والضمير في كل مكان، ويقف بالمرصاد لأي إطلالة نور للإسلام المحمدي الأصيل.

وإن القائد الراحل(رضي الله عنه) جدّ الجد كلّه على خطى سيده الإمام الحسين(عليه السلام) ثائراً وعازماً أن يميّز للعالم كله بين إسلام تنزَّل من السماء علماً وعدلاً ورحمة وكرامة وأماناً وإحساناً، وإسلام صنعته شياطين الجن والإنس فكان جهلاً وظلماً وقسوة وخوفاً وإساءة وهواناً.

وبقي الهدف الإسلامي النبيل في الثورتين ماثلاً في كل كلمة، وفي كل موقف وحركة وسكون حتى آخر نفس مقدّس عند شهيد الطف سيد الشهداء(عليه السلام)، وآخر لحظة من حياة تلميذه الثائر البار الفقيه المجاهد.

 

2 ـ الإنسان:

هذا هو البعد الثاني من بعدي قضية الثورة في كربلاء وفي إيران، فالهدف الثابت فيهما هو تجلية الإسلام وتمكينه، وتحرير الإنسان وتكميله; وذلك في إطار ما فجر الثورتين من طلب مرضاة الله العزيز العظيم.

وللإنسان والإسلام مصير واحد مشترك في الأرض، فلا يكون إنسان بلا إسلام، ولا يبقى إسلام بلا إنسان. الإنسان السوي هو خريج مدرسة واحدة ومحضن واحد، هو محضن الإسلام، والإسلام أمانة ثقيلة كبرى إذا كان لأحد في الأرض أن يتحملها فلا يكون إلاّ إنساناً محتفظاً بمقومات إنسانيته; أمّا المصابون بالمسخ في لبّ إنسانيتهم فلا ينهض بهم إسلام.

وما جاء الرسل وما تنزلت الرسالات وما كان جهاد الأنبياء والأولياء إلاّ لصناعة الإنسان وتربيته وتكميله.

لذا فما من ثورة تصدق مع الإسلام إلاّ وتصدق مع الإنسان; وآية الزور في أي ثورة تحمل شعار الإسلام أن تستغل الإنسان أو تهمله. والإنسان كلّ مترابط لا تكاد تستقيم أخراه بلا أولاه، ولا أولاه بلا أخراه، لا يكاد يكمل في معزل تام عن دنياه، أو تستقر له حياة بدن في حالة من فوضى الروح وسقمها وتبعثرها.

وإنك لتجد نصوص الثورتين تنظر للإسلام والإنسان شقَّي قضيَّة واحدة، وتعطي من همها لهما على حدّ سواء; وإليك من هذه النصوص:

عن سيد الشهداء(عليه السلام): «وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي(صلى الله عليه وآله وسلم)» ، «... وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدونا وعدوكم فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم».

ويقول المستلهم بحق لدروس الثورة في كربلاء الإمام الحسين(عليه السلام) ودروس الوعي في حكومة القرآن لأمير المؤمنين(عليه السلام) في نص القرار الذي سمّى فيه محمد علي رجائي(رحمه الله) رئيساً للجمهورية في صباح يوم عيد الفطر الموافق 2 / 8 / 1981م: «إن هذا الحكم يكون ساري المفعول طالما كان يسير في خط الإسلام العظيم وملتزماً بأحكامه المقدسة... وساعياً لخدمة مصالح بلده وشعبه العظيم... وإذا لا سمح الله عمل خلاف ذلك فاسحب الثقة والمشروعية عنه».

ويضيف في نفس النص وفي سياق الإلزام: «... وأن يفتخر ويعتز بخدمة عباد الله وبالأخص المستضعفين منهم فإن هؤلاء هم الأوفياء للإسلام وحماة جمهورية إيران الإسلامية».

ويقول: «من أعظم الخيانات أن يجعلوا طاقتنا الإنسانية متخلفة ويحولوا دون إصلاحها ونموها».

وفي نص آخر: «إننا مع إعلاننا للبراءة من المشركين وما نزال مصممين على تحرير الطاقات المكبوتة للعالم الإسلامي».

وفي ثالث: «انتصار القلوب أكبر من انتصار الحرب وفتح القلوب أكبر من فتح البلدان».

وهو يرى أن مهمة الإسلام تتمثل في أنه «يربي الإنسان ليكون إنساناً في جميع الحالات».

تقف بنا نصوص الثائر الإمام المعلّم(عليه السلام) ونصوص الثائر التلميذ(رضي الله عنه) على الوعي الإسلامي الأصيل الذي يعمل من أجل أن يسمو بأوضاع الأرض والإنسان لا أن يحلّق منفصلاً عنها. أجلُّ مفهوم يؤكده الإسلام، وهو مفهوم التوحيد الإلهي، إنما يركّزه في عقل الإنسان وقبله ليصنع له تفكيره ووجدانه وشعوره وواقعه وعلاقاته وكل أوضاعه لتشف وترف وتسمو وتتعالى.

إنه ليستحيل أن يتحول التوحيد في ظل وعي إسلامي أصيل إلى قضية فلسفية جامدة تأكل العمر في أروقة الجدل المترف بعيداً عن أن تصنع وضعاً متقدماً للإنسان في نفسه وواقعه الخارجي.

{هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين * وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم}.

لا نعرف من القرآن الكريم ولا من سنَّة المعصومين(عليهم السلام) إسلاماً مفصولاً عن هموم الإنسان ومشكلاته، ومنعزلاً عن قضايا الساحة العملية، وهارباً عن مواجهة التحديات وخوض معركة الحياة.

فالإسلام الذي يقرّر للإمام الحسين(عليه السلام) الثورة والشهادة هو الإسلام الذي يُصلح أوضاع الأمة الفكرية والروحية والنفسية والعملية من اقتصادية وسياسية واجتماعية وصحية وغيرها.

«وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي» والتغيير الشامل والإصلاح الكامل للعالم كل العالم وللدنيا كل الدنيا هو محطّ النظر عند أبي عبد الله الحسين(عليه السلام); وإصلاح الأمة الإسلامية هو الطريق للتحرير الشامل الذي لا يهمل شعباً ولا ينسى أمة وهل يراد للناس جميعاً إلاّ أن يكونوا أمة واحدة مسلمة لله مستكملة وجودها على طريقه؟! ومن سيصلح الأرض أهلَها وقيمَها وأوضاعها إذا لم يتم للأمة الإسلامية صلاحها؟! ومن أين سيعم الأرض الهدى وموازين القسط وقيم العدل إذا لم يتم نسف النقيض المتسلل على أيدي المخربين إلى ديار الإسلام وربوعه؟! لابد للإمام الحسين(عليه السلام) أن يحطم الحكم الطاغوتي داخل الأمة أولاً، ويبعثها رساليّة، ويواجه عدو الله وعدوها وعدو الإنسانية جمعاء ممن يسعى لإطفاء نور الله في الأرض في مهده ومنبعه، لتشعّ الأرض كل الأرض بنور ربها من بعد حين.

ويأتي الإنسان في كلمات الإمام الراحل محطّ النظر للإسلام والثورة لا في جانب منه دون جانب ولا حيثية دون أخرى. الإنسان كل مترابط بأبعاده الروحية والجسدية والاهتمام به لا يتجزأ لان هذه التجزئة المقابلة بترابط وجوده فاشلة حتماً في تربيته وتكميله; ومن هنا يكون السعي لخدمة مصالح البلد والشعب يعني محاولة الإثراء الشامل والإصلاح الكامل للوضع الإنساني والمعيشي لأبنائه وأحداث التغيير الايجابي في البنى التحتية والفوقية من وجود الإنسان وحياته داخله وخارجه.

ولا يكون الإصلاح جادّاً، بل لا صدق له أصلاً ما لم يكن المستضعفون والمحرومون محل العناية القصوى والاهتمام الشديد، وإلا فهو الشعار غير الوفي للأوفياء، والوعد المكذوب للصادقين.

والإنسان على ترابطه بكل أبعاد كيانه هو روح قبل أن يكون بدناً، وهو بعقله وقلبه ونفسه أكبر منه برجله ويده، بل هو ذاك الروح والقلب والعقل; أمّا ما هو من البدن فوسائل اتصال وأدوات وفعل وآلات إنتاج; لذا يكون من مهمَّة الثورة وهي تحارب الفساد كله، وتستهدف الإصلاح كله أن تركز عنايتها كثيراً في معالجة عطب الداخل في كينونة الإنسان وإصلاح الخلل فيما هو اللب منه وهو أصل إنسانيته ومعناه; وأنت تجد هذا واضحاً في النصوص الأخيرة المنقولة للإمام الراحل(قدس سره) ولاسيما في ما ركّز على انتصار القلوب وفتحها وتربية الإنسان ليحيي إنسانيته وعيها وهدفها وقيمها غنياً ومفتقرا مغلوباً وغالباً، محكوماً وحاكماً وفي جميع الأحوال.

 

3 ـ بين الإسلام والإنسان

لا تزاحم مطلقاً بين الإسلام بقائه وعزّه وظهوره، وبين إنسانية الإنسان، فليس أكثر من أن يتطلب عزّ الإسلام تضحية الإنسان، وهو هنا إنما يضحي ببدنه تقديماً لإنسانيته التي لا تجد ذاتها إلاّ في الإسلام; وليس من لحظة يشهد فيها الإنسان حضوراً إنسانياً غنيّاً، وغزارة وتدفقاً وفاعلية لهذا الوجود، ونضجاً وقفزة في مستواه كلحظة إقدامه على الشهادة في سبيل الله واعياً مختاراً مطمئناً مخلصاً; إذ لاشك أنها اللحظة التي يصغر فيها عند الشهيد كل شيء من دون الله، ولا يكون كذلك إلا بأن يكون الله قد فتح عليه باباً من اللطف والهدى وأسكن قلبه الطمأنينة بما أراه من جماله وجلاله وصادق وعده مما يريحه ويُرضيه ويرتفع بشعوره عن الدنيا وما فيها، وهي لحظة ترى إنسانية الإنسان فيها ذاتها صدقاً ظلاً لقدرة القدير ولطفه الكبير; وهل لإنسانية الإنسان غنىً ونضج وبلوغ غير أن نرى هذه الرؤية فتزايل الدنايا وتطيب وتطهر، وتستريح وتستقر، وتثق ويغمرها اطمئنان وفير؟!

وهذا الاتصال الحي المثري من الفاني بالباقي، ومن الذليل بالعزيز، ومن الفقير بالغني، يضاف إلى أنه يمثل القفزة الهائلة والنضج النهائي لإنسانية الشهيد أنه يبقى منذ لحظة الشهادة الاتصال الحي الثابت الدائم الذي لا غياب له ولا فتور.

هذا وقد يحصل التزاحم بين مصلحة البقاء والعز للإسلام، وبين البقاء عدداً من سنوات في الحياة الدنيا لبعض من مجتمع أو أمة; وهو تزاحم بين إنسانية الإنسان وعزه وكرامته وبقائه الخالد الراغد من جهة، وبين أن يبقى بجسده قليلاً أو كثيراً من سني الذّل والهوان والخسة في الفانين من جهة أخرى; وهو تزاحم لا يتردد فيه الإسلام بشهادة نصوصه الداعية إلى الجهاد، وتاريخه في الصراع المرير مع الكفر كله; لا يتردد أن يقدم عزَّ الإيمان وإنسانية الإنسان وحياة السُعداء الخالدين على حياة الذلِ والانسحاق في الأشقياء الفانين.

نجد هذا الفهم متجلياً في كلمة سيد الشهداء(عليه السلام) وهو يخاطب في رسالة له بني هاشم: «فإنه من لحق بي منكم استشهد ومن تخلّف لم يبلغ مبلغ الفتح» ما أروع تجسيد كلمته(عليه السلام) التي خطّها بدمه الشريف في قلب الزمن وهو دم لا يجف ولا يمّحي! ما أروع تجسيدها لقيمة الشهادة في سبيل الله وتسليطها الضوء على ذلك الانتصار الهائل لحظة الشهادة على ضعف الذات وهلعها وحرصها وشحّها، وعلى ذلك الانطلاق الكبير من سجن الذات الدنيا إلى الأفق الممتد للذات العليا، والتحرر الشامل من أسر الطين ومشاغله ومخاوفه ورغائبه الصغيرة، والانعتاق الضخم للروح من قوقعة الأرض وحساباتها إلى الأبعاد اللامتناهية وراء عوالم المادة وأكوانها! فالشهادة في سبيل الله أكبر نصر ويوم فتح تحققه الذات في عالم ذاتها، وأمضى سلاح يحقق للإسلام عزه وللأمة هيبتها، والتخلف عنها ذلة وهوان، وتقزّم في الذات الإنسانية وانكماش في أبعادها.

والكلمة الأخرى لسيد الشهداء(عليه السلام) في هذا السياق: «ألا ترون إلى الحق لا يعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً، فإني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برماً». قالها كلمةً لا يهدأ لهيبها حرفاً، وقالها كلمةً لا ينتهي تفجرها دماً.

ثم إنه لو كان موت بلا جنّة ولا نار لما صبر الحر على الحياة يدفع ثمنها ذلة من نفسه وانسحاقاً أمام طاغية من الطواغيت; كيف والشهادة تعني فوز الأبد؟! فهذا أبو الأحرار وهو يحمل على ميمنة العدو يعبر عن إبائه وحميته من جهة وعن شدة تقواه ومبدئيته من جهة أخرى:

الموت أولى من ركوب العار     والعارُ أولى من دخول النار

النار التي هي عنوان سخط الله ومقته، وعنوان الخسة والسقوط لمن كتبت عليه; العارُ وهو أشد من حزّ المدى والسيوف على الأبي مقدَّم عليها. وهو العار الذي يعني ذلة الظاهر في احتفاظ كامل بعزة الباطن، والعيش في ظل سيطرة العدوّ حين يعني تفجير الأوضاع تضييعاً أكثر للمصلحة الإسلامية العليا.

من بعد ذلك تأتي كلمات القائد الراحل(قدس سره) لتعبئ النفوس بالوعي التضحوي وخيار الموت تقديماً للمصلحة الإسلامية العليا على كل شيء مقتفياً خط الوعي الذي رسمه دم الحسين الشهيد(عليه السلام): «فحفظ الإسلام هو أهم من جميع الواجبات ولأجله جاهد وضحَّى غاية التضحية الأنبياء العظام من آدم(عليه السلام) إلى خاتم الأنبياء(صلى الله عليه وآله وسلم)، لم يصدّهم عن أداء هذه الفريضة الكبرى أي مانع; وتابع الأنبياء على ذلك الصحابة المؤمنون، وأئمة الإسلام عليهم صلوات الله; سعوا بكامل الجهد حتى التضحية بالنفس من أجل ذلك».

«إنَّ حفظ حياة المسلمين أهم من كل شيء، وإن حفظ الإسلام أكثر أهمية من الحفاظ على حياة المسلمين».

«إن استشهاد أبناء الإسلام وذرية الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) وأبناء فاطمة والحسين(عليهما السلام) في سبيل الإسلام وتحقيق أهدافه السامية ليس بالأمر الجديد، أو الظاهرة الحديثة، فلقد قدّمت الأمة الإسلامية العظيمة في محراب مسجد الكوفة وصحراء كربلاء أرض العزّة والفخر والشرف على امتداد التاريخ الشيعي المخضّب بالدماء قرابين عظيمة في سبيل الله ورفعة الإسلام العزيز، وإن إيران الشهادة غير مستثناة من هذه الظاهرة السعيدة فالثورة الإسلامية قد قدَّمت الكثير من الشهداء الذين اختطّوا نهج إمامهم الحسين(عليه السلام)».

وهكذا تحمل كلمات القائد الكبير الوعي الإسلامي الأصيل بأمانة وإخلاص عبر الكلمات والمواقف الثورية اللاهبة إلى كل أجيال الأمة، وتغرس فيها الروح المبدئية الصادقة التي تجعلها تقدّم كل شيء من أجل الإسلام وترى حياتها في الموت في سبيله.

ولقد نطقت دماء الأنبياء والأوصياء والصديقين وهي تسقي شجرة الإسلام عبر التاريخ المديد أن ليس من دم يمكن أن يبخل به على الإسلام; وكيف يعز دم على الإسلام وما شرف دم وما تقدس إلاّ بما انتمى للإسلام وجسده؟! وهل الدم الذي لا تسري فيه الروح المبدئية التضحوية الفوارة التي تذود عن الإسلام وتجاهد بين يديه إلاّ دم من دماء الأغنام والأبقار؟! لا يعز الدم إلا بالإيمان ولا يسمو إلا بالتشرب بمفاهيم العقيدة وقيمها، ولا يكون كذلك أو يجوز عليه أن يحتفظ بتدفقه في العروق دون أن يتفجر خارجاً ليسقي شجرة المبدأ ويدفع عنها غائلة الاجتثاث.

نعم هذه هي العلاقة. الإسلام من أجل الإنسان يربيه ويزكيه ويقوّم مسيرته ويصحح أوضاعه ويبلغ به غايته; والإنسان يتحمَّل أمانة الإسلام حتى الموت في سبيله، وهذا موت جسد فيه أشد حياة للروح وأكبر طفرة في الوجود، وأخصر طريق للغاية.

 

4 ـ ما هو الطريق؟

الثورتان الأم والشعاع تستهدفان عز الإسلام وحفظ إنسانية الإنسان، لكن ما هو الطريق الذي ترشّحانه لتحقيق هذا الهدف؟ أهو النصر أم الشهادة؟ أم إن هذه كان لها طريق وتلك طريق ابتداء بالاختيار؟ هل اختارت الثورة الأم الشهادة من دون أن تطلب النصر وتخطط له؟ وهل اختارت الثورة الشعاع النصر من دون أن تقبل من الشهادة إلاّ ما يفرضه النصر العاجل؟

تاريخياً كان للإمام الحسين(عليه السلام) أيام معاوية بعد وفاة الحسن الزكي(عليه السلام) لقاءاته السياسيّة التحضيرية ببعض النخب في المجتمع الإسلامي يوم ذاك، وإن لم ير التحرك قبل هلاك ذلك الطاغية لأكثر من وجه. واختار الإمام(عليه السلام) مكة محلاً لإقامته بعد خروجه من المدينة لأسباب قد يكون في مقدمتها ما توفّره من فرص اللقاء بجماهير الأمة وطلائعها من كل نقاط البلاد الإسلامية، خاصة في موسم الحج الذي تزخر فيه بأفواج الحجيج وجموعهم; وكانت بين أهل الكوفة وبينه مكاتبات تتصل بالثورة، وقد أرسل إليها بهذا الشأن ثقته وابن عمه مسلم بن عقيل، وكتب كما ذُكر إلى زعماء في البصرة يذكّرهم مقام إمامته(عليه السلام) ويستحثهم أن يسمعوا قوله ويطيعوا أمره; فكان سلام الله عليه بصدد تحشيد الأمة خلف قيادته المعصومة للإطاحة بالحكومة الطاغوتية المفسدة إنقاذاً للدين وتخليصاً للأمة، وإن كانت ملاحقات الحكم الأموي وتخطيطاته للقضاء السريع على حياته الشريفة إن لم يعط يد الذلة لم تترك له الفرصة للتحرك الواسع على هذا الطريق.

في ضوء هذه المعطيات وما يترتب على تسلم قيادة المعصوم لزمام الأمور في الظروف المهيأة لنجاح التجربة الإسلامية من نتائج لا تقاس عظمة لصالح الدين والمؤمنين، يكون النصر العسكري الذي يمكن لكلمة الله في الأرض ويضع أمانة الحكم والحفاظ على مصلحة الدين والأمة باليد الأمينة الكفوء التي لا تتحرك حركة ولا تتوقف إلا من منطلق العلم والحكمة والإيمان; يكون النصر العسكري مطلوباً للثورة، وشهادة من يستشهد من أجل تحقيق النصر لقيام الحكومة الإسلامية في الأرض حتى تشرق بنُور ربها العظيم وتعمر زاكية ومن عليها.

وإذا شحَّت الظروف بالنصر وكان الانتظار مَحْقاً للإسلام، وقضاء على فرص النهوض للأمة يتعين دور الشهادة المنقذة التي تضع الحكم الطاغوتي المفسد على برميل من الزيت يحترق به قبل أن يدمّر الأمة ويجتث جذور مبدئها، ويتعين أن يسقط أقدس رأس لا يملك غير دمه الأزكى أن يرسم درب البعث والتحرير ويثير الحياة من جديد في عروق الأمة.

وهذا النصر الطولي له عدته كما أن للنصر الابتدائي عدّته. ومن عدّة النصر بالشهادة في كربلاء ما دخل في خطط الثورة من اصطحاب أبي عبد الله(عليه السلام) الحرم والصبية من بيت النبوة، إعداداً للفصل الثاني في مواجهة الجاهلية، بعد فصل الشهادة حيث تأتي مهام التبليغ والإعلام والتوعية واستثمار ظروف المأساة، واكتشاف جماهير الأمة ولو جزئياً لشناعة جرمها بالمشاركة أو السكوت على خنق وجودها بقتل رجلها الكبير ومنقذها الأعظم صلوات الله وسلامه عليه، ومن العدّة هنا أيضاً ما حرص عليه سيد الشهداء(عليه السلام) من أن تكون المواجهة لجيش الضلال في المرتبة الطولية بصفوة تتميّز بالوعي والمبدئية والصلابة، ولذا سعى جدّاً لتخليص جبهة الحقّ من كل النفعيين والمترددين الذين لا يستطيعون أن يسهموا في نصر الشهادة وإن استطاعوا الإسهام في نصر الغلبة; ولذا تراه سلام الله عليه يخطب في من تبعه مرة بعد أخرى ويعطيهم فرصة الانسحاب حتى ينقي الصف من الضعيف وتبقى النخبة القادرة على تسجيل موقف مبدئي صارخ بالكلمة والدم والصمود وعنفوان الإيمان. وإنك لتراه من جانب آخر يستصرخ الأحرار للحاق بقافلة الأمجدين.

إنقاذ الإسلام وتحرير الإنسان هو المطلوب على طريق الهدف الأكبر المتمثل في رضوان الله; إن يتحقق هذا بنصر الغلبة فذاك، وإلاّ فبنصر الشهادة، والطريقان معاً على طوليتهما محل التفات الثورة وتخطيطها المبكر.

وكتاب أبي عبد الله(عليه السلام) إلى بني هاشم يغريهم بالنصر في صورة الشهادة، وهو نصر الأمة والدين ولو من بعد حين، ونصرٌ عاجل ظافرٌ لذات الشهيد التي تحقق أكبر انطلاقة تحرريَّة في ذاتها بالشهادة: «فإنه من لحق بي منكم استشهد ومن تخلف لم يبلغ الفتح والسلام».

وها هي كلمته(عليه السلام) في أصحابه الأشاوس تعطي شهادتهم مضمونها الحي في بعدين: بعد التحرر الذاتي الهائل الذي لا يبقى معه قصور في الذات يحول بينها وبين مواقع النبيين وملا الجنة أبداً، وبُعد الذود عن دين الله فيما يعنيه دم الشهيد من تهديد جدّي للطغاة وحكم الجاهليين في إيقاظه وإلهابه واستثارته للمخزون الثوري المطمور تحت الأتربة السوداء من إفساد الطغاة المجرمين: «يا كرام، هذه الجنة قد فتحت أبوابها واتصلت أنهارها، وأينعت ثمارها، وهذا رسول الله والشهداء الذين قتلوا في سبيل الله يتوقعون قدومكم ويتباشرون بكم فحاموا عن دين الله ودين نبيه وذبّوا عن حرم رسول الله».

وتأتي الثورة الشعاع وهي لا تستهدف إلا عزَّ الإسلام وتحرير الإنسان لتطلب هذا الأمر بنصر الغلبة أو نصر الشهادة.

يقول السيد الإمام(قدس سره): «إني أدعو لكم بالنصر ولكم ثواب الشهداء». يقول ذلك لعشاق الشهادة الذين يسألونه الدعاء أن يُرزقوا إياها: «إن الباعث على الفخر والاعتزاز هو هذه المعنويات العالية والقلوب المليئة بالإيمان والإخلاص وطلب الشهادة الموجود لدى هؤلاء الأفراد الجنود الحقيقيين لولي الله الأعظم. وإن هذا لفتح الفتوح».

«بل يجب أن نقلق فيما لو لم نتمكن من أداء واجبنا الذي أمرنا الله سبحانه وتعالى به، يجب ألا نقلق فيما إذا هزمنا من قبل الشرق أو الغرب أو الداخل أو الخارج، لان الخسارة الحقيقية هي عدم التزامنا بالواجب الإلهي».

نستفيد هنا فكراً إسلامياً نيراً خالصاً مقتطفاً من شجرة النبوة والإمامة، ومن ثورة كربلاء الوعي والتخطيط، والدم والشهادة.

الجواب لعشاق الشهادة من المستهام فيها أنه علينا أن نحمل روح الشهادة بين جنبينا، وأن تكون أرواحنا على الأكف في سبيل الله ليكون لنا ثواب الشهداء، ولكن علينا ألا نفوّت فرصة واحدة لتحقيق نصر عسكري ساحق يمكن لحكومة الإسلام وأطروحته في الناس من أجل أن يُصنعوا على عين الإسلام وفي رحابه الطاهرة التي تعبق بالعدل والعلم والمحبّة والإخاء وكل المعاني الخلقية الرفيعة وأسباب التقدم والكمال; علينا ونحن نسترخص الحياة في سبيل الله وعلوّ الإسلام أن نطلب النصر العسكري ونخطط له بأقل الأثمان.

ويبقى الاستعداد للموت المبدئي، وحبُّ الشهادة والسعي لها بقدم راسخة ويقين أكيد، والتخطيط للفوز بها عندما تتطلب ذلك مصلحة الإسلام، يبقى كل ذلك مفخرة المفاخر ومادة النصر على المدى الطويل وضمانة العزّ للدين والمؤمنين في كل التاريخ; وإنه لفتح الفتوح كما تقول كلمته رضوان الله عليه. ولم لا ولا نصر إذا لم تكن الروح التضحوية وحبُّ الموت في سبيل الله؟ وإنه لا يدوم نصر بعد حدوث إلا بدوام هذه الروح وسريانها في أبناء الأمة وتغلبها على حبّ الدنيا وكل ما يغري وكل ما يستهوي من سحرها وزينتها.

نعشق الشهادة فتح الفتوح للأمة من منطلق الإيمان والإخلاص، وهو فتح الفتوح لكل من كان له هذا العشق الجليل; فإنه يعني السمو في التفكير، والرفعة في الشعور، والتحرر من أسر الدنيا، ووله القلب بالله; وفي ذلك العشق انفتاح بصيرة وانطلاقة روح وزكاة قلب وعظمة ذات.

لذا فإن أمة تتوفر على هذا العشق لا تكون خاسرة وإن حالت الظروف القاهرة دون تحقيق النصر المادي أو كتبت عليها هزيمة الظاهر; فمن ربح ذاته فقد ربح كل شيء، ومن خسر ذاته فقد خسر كل شيء، والنفس التي تقدّم الله سبحانه على ما دونه قد بلغت نضجها; وخسائر الخارج لا تنال من هذا النضج والكمال ولا تثلمه.

ولنخرج إلى صورة تضع الفكرة في كلمات يسيرة; فالثورة إذا كانت إسلامية فهي لا تستهدف إلا عزَّ الإسلام وتحكيمه من أجل الإنسان وتكميله، وهي تدفع بالإنسان لحماً ودماً ثمناً لهذا العزِ والنصر، محققا لنفسه بهذه التضحية أكبر قفزة وجود في ذاته، وأكبر فرصة بيده لنصر دينه وأمته بعد أن لا يكون نصر إلا بالشهادة; والحصيلة أن الإسلام يضحي بالإنسان بدناً من أجله إنسانيةً وروحاً; تقديماً للباقي على الفاني، والأهم على المهم.

 

المحور الثاني: القيادة

الكلام هنا من أجل أن تتعلم الدنيا شيئاً من الكثير الذي تملكه قيادة الفقيه العادل الكفؤ، ومن الأكثر الأكثر مما تفيض به قيادة الإمام المعصوم من خلفاء الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) بالحق، ومن أجل أن تتعلم الأمة من تُقدّم ووراء من تسير، وأي يد تبايع، ولمن تُسلّمُ أمانةَ دنيا ودين. وأيَّ رجل تختار رائداً وأميناً على ما تملك من مقدُرات ومقدَّرات فيها وجودها الثمين.

والحديث في المورد لا يقصد أنه يكون مستوعباً مستقصياً، ولا يقارب أن يكون كذلك، وأنىّ له لو أراد ؟! ما يطرح الحديث عنه بعد أن من غير استفاضة: المبدئية القياسيَّة الثابتة، والرؤية الموضوعية المتقدمة.

وفي المقدِّمة يؤكَّد ما هو واضح من أنّ القضايا التي تقف وراء التحركات والثورات أحجام وأوزان، وشأن القيادات هذا الشأن نفسه، وملاءمة القيادة وعدم ملاءمتها لا بد فيه من قياسها إلى القضيَّة التي ترفع رايتها، فالقيادات الصغيرة لا تتحمل ثقل القضايا الكبيرة، وكل القضايا تصغر حجماً ووزناً أمام قضية الإسلام في عمقه وشموليته ودقّته وقدسيته وامتداد آثاره; فليس من قضية تتّسع بقدر ما يتّسعُ له الإسلام بتنظيمه واهتمامه زماناً ومكاناً، وشعوباً وأمماً، ودنيا وآخرة، وليس مثله ما ينظر من الإنسان كل كيانه، ويستقصي كل حاجة له، وكل دافع منه، وكل طاقة فيه، ويتحمل مسؤولية صنعه وتربيته بكل أبعاده مدة حياته وقبل ولادة له وبعد وفاة، وليست هناك قضية تعدل الإسلام علميّة وصدقاً وجديّة وعدلاً وحدّية مبدئية وتمسكاً بالحقِّ على الإطلاق.

فقيادة تنهض بثقل هذه القضيّة وترتفع إلى مستواها ليس في حدّ ندرتها ندرة، حتى إن لم تكن في الأصل إلاَّ لرسول أو وصي رسول من ثابتي العصمة وكمّل البشر على الإطلاق، وإن أثبتها الدليل بالتبع وللاضطرار لمن هو الأقرب فيما له من مجمل الإبعاد الكماليّة العلميّة والإيمانية والخلقية ومحصّل الخبرة العملية من الإمام الأصل.

ولندخل الآن في الحديث عن البعدين المقصودين لهذا المحور.

 

1 ـ المبدئية القياسيّة الثابتة:

الحاكميّة أساساً إنما هي للمبدأ الذي هو كلمة الله ونهجه وأمره ونهيه; فمن هو الحاكم عندئذ إلاّ من كان يمثّل تجسيداً كاملاً دقيقاً للمبدأ، وكان على مبدئية تامة هو بها والمبدأ على حدّ سواء ميزانُ عدل وحق لا ميل فيه ولا خلل، يرجع إليه في وزن القضايا والمواقف والأشخاص والمقدّمات والنتائج على الإطلاق.

ولا شخصية تمثّل الإسلام تمثيلاً كاملاً شاملاً دقيقاً وافياً كما هي شخصية المعصوم(عليه السلام); لذا فلا إمام ـ إذا حضر ـ غيره، ولا قيادة سواه، ومزاحمته ظلم وعدوان، والتخلف عنه فسوق وعصيان; والمعصوم وحده هو الذي تحرز مصداقيته الكاملة مطلقاً لما في كلمة أبي عبدالله(عليه السلام): «فلعمري ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحقّ، الحابس نفسه على ذات الله».

ولما كان المعصوم بتمامه من صياغة المبدأ فطاعته ومتابعته إنما هما طاعة ومتابعة للمبدأ، وحاكميته حاكميته، فما هو الحاكم في النَّاس عندئذ ليس إلاَّ المبدأ.

تلك هي المبدئية القياسيّة المطلقة، وهي شرط الإمامة في حضور المعصوم(عليه السلام)، وفي غيابه يكون التنزّلُ بإذن الدليل الشرعي إلى مبدئية قياسيّة دونها; تلك المبدئية التي يدخل في قوامها بُعد الفقاهة والعدالة والحنكة والخبرة والرؤية الإسلامية في مختلف الأمور، والمستوى النفسي المتميّز وتكامل الشخصية بكل أبعادها بحيث يتحصل من متوسط هذه المواهب والمقوّمات ما يقدّم هذا أو ذاك بعينه لموقع القيادة لتفوقِ متوسط ما هو عليه بما يدخل في صلاحية الموقع بالنسبة إلى غيره ممن تكون له تلك المعتبرات بدرجة أو أخرى; ومن صلبها الفقاهة والعدالة.

وللمبدئية في صاحبها تجليات لا تخفى في ساحة العمل وعند التحدِّيات. ولنتابع بعضاً من هذه التجليات استرشاداً واستنارة في الإمام المعصوم الحسين(عليه السلام)، وفي الفقيه الورع الكفؤ القائد الراحل(قدس سره):

 

أ ـ التحمل العلمي للمبدأ:

الإمام الحسين(عليه السلام) واحد من الأمناء التّامين على خزائن علم الرسالات وهو وارث النبيين والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين، وهو من ثقل العترة الذين ثبت قول الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، فيهم: «إني تركت فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي; ألا وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض». وهو الداخل في أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس ـ ومنه الجهل ـ وطهرهم تطهيرا، فلا كلام في تمثيله(عليه السلام) الإسلام تمثيلاً علمياً كاملاً، وفي مرجعيته المطلقة في تلقي واقعة القطعي عقيدة وأحكاماً ومفاهيم وخلقاً وتفسيراً وتأويلاً.

وأما السيد الإمام فالقدر الذي لا كلام لأحد فيه هو أنه من الصفّ الأمامي من فقهاء الطائفة الذين لا يعد لهم فقهاء، وواحد من متضلّعي الفقه والأصول، وغوّاصي الفلسفة، وهو ربان في العرفان، ومن أبرز من تهيأ له فهم الإسلام الشامل في أبعاده المتعددة في صُورتها المترابطة بعيداً عن النظرة التجزيئية الضيّقة داخل الإطار الفقهي الخاص، أو الإطار الإسلامي العام، وبعيداً عن مؤثرات الهزيمة النفسية وضيق الأفق الموضوعي والنظرة التقليدية الساذجة، مع استرفاد البصيرة الفقهية من نقاوة الروح وصفاء السريرة وصدق النية; وقد أثرى المكتبة الإسلامية بكتبه العلمية وكتاباته المعمَّقة ونتاجات قلمه المبدع والمدقق في مجالات العرفان والأخلاق والفلسفة والفقه الاستدلالي وأصول الفقه والحكومة والشعر؛ هذا إلى جانب خطبه وخطاباته طوال عمر حركته المباركة وثورته المظفّرة وحكومته العادلة، وفيها الحكمة، والتربية، والفهم الاجتماعي الدقيق، والنظرة السياسيّة الحاذقة، والبعد الرّوحي المتألق.

 

ب ـ الاندكاك في المبدأ:

من أبرز ما يظهر المبدئية النفسية الصادقة في القائد أن تغيب في مواقفه وتأكيداته شخصيته وراء شعاع المبدأ، لا أن يغيّب شمس المبدأ وراء شخصيته; فالذات التي تتصنَّم وإن رفعت راية المبدأ فإنها تتخذ من ذلك طريقاً لاستراق عظمة المبدأ وقدسيته ومهابته في العقول والنفوس، حتى يكون الاحتلال الكامل لمواقع المبدأ المتقدمة، فتكون القدسية والعظمة قدسية للقائد أولاً وبالذات ثم للقضية ثانياً وبالعرض إن لم يقتصر الإجلال والتعظيم على شخص القائد وينسَ المبدأ. أما الذات التي تزكّى فأول ما تطارده في نفوس الأتباع أن تتعظم ليصغر المبدأ، وأن تُذكر لتُنسى الفكرة، وأن يتجاوز بها حدّ الفقر والإمكان ويُرتفع بها عن صعيد الرقيّة وذل العبودية; فكلما كاد أن يتسلل إلى نفوس الأتباع شعور كاذب برد النصر إلى تدبير القائد وعظمة مواهبه، انقضّ على هذا الشعور يحطّمه وينسفه ويُحلّ محلّه توحيد الله، ويرد العقول والقلوب لرؤية بارئها: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ أنّما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} ، {قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلاّ نذير وبشير لقوم يؤمنون}، {قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحداً * قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رَشداً}.

نعم، القيادة الإسلامية الكفوءة الصادقة تبهر وتُسحر، فما لم ير المبدأ الذي يمدها بالعظمة والجمال يقف النظر عندها ولا يطلب المزيد فيقع في مسؤوليتها أن تُشهد العشاق جمال المبدأ الذي يمدها وعظمته التي تسترفد منها بما هي فيض الله ونعماؤه ليكون التوحيد ويكون الإخلاص والتسبيح والحمد لله.

لذا ترى الضراعة والاستكانة وإظهار الفقر والضعف أمام الله تبارك وتعالى سيرة دائمة لكل قائد إسلامي حقّ من رسول أو إمام أو فقيه، وفي كل مواقع القيادة على تفاوتها إسراراً وإجهاراً، ولكل من الإسرار والإجهار في المورد شأن وأي شأن؟!

وهذا أبو عبدالله(عليه السلام) يقدّم لنا دروسه الثرة في هذا الميدان الكبير; فمن أول نصوص الثورة هذا القول لأخيه محمد بن الحنفيّة: «ومن ردّ علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين، وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكلت وإليه أنيب».

وقال وهو يسلك الطريق الأعظم إلى مكة في خروجه من المدينة لا يلوذ بفرار إلى طريق غامض لواذ المرتجفين: «لا والله لا أفارقه حتى يقضي الله، تالياً قوله تعالى: {فخرج منها خائفاً يترقّب قال ربّ نجّني من القوم الظالمين}» مبدياً ضعفه إلى الله والخطر الموضوعي الذي يتهدده، معرضاً عن ذكر صلابته وعلوّ همّته وإبائه.

وقال وهو يخطب خطبته اللاهبة في مكة: «رضا الله رضانا أهل البيت» فما ينبغي أن يتوجه إليه الناس كل الناس إنما هو رضا الله الذي يقع رضاه(عليه السلام) في طريقه، وما على القلوب أن تنشغل به عمن سواه; إنما هو الله الذي لا يُطلب إلا رضاه، ورضاً فيه رضاه توصلاً إليه.

ويقول في خطبته الثالثة أمام الحرّ وجنوده: «ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، وسيغني الله عنكم» واللواذ بالله، وإليه اللجأ والانقطاع.

وها هو يمدُّ يد الضراعة إلى الله تبارك وتعالى في أصحابه وأهل بيته: «اللّهم إنا عترة نبيك محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) وقد أُزعجنا وطُردنا وأُخرجنا عن حرم جدّنا، وتعدّت بنو أميّة علينا. اللَّهم فخذ لنا بحقّنا وانصرنا على القوم الظالمين».

وعندما يجد تكاثر القوم عليه ينقطع إلى ربه قائلاً: «اللّهم أنت ثقتي في كل كرب ورجائي في كل شدة...» واسمعه وهو يختم خطابه في الجيش الأموي بلغة المستخفّ بالأعداء وما يتهددونه به من الموت مطمئناً إلى رعاية الله ولطفه، متعلقاً بمحبته وطاعته: «وإن لم تقبلوا منّي العذر ولم تعطوا النَصَف من أنفسكم {فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تُنظرون}، {إن وليّي الله الذي نزَّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين}».

وعندما يأتي جوابه أبيّاً صارماً على قولة قيس بن الأشعث: «أو لا تنزل على حكم بني عمك؟ فإنهم لن يروك إلا ما تحب، ولن يصل إليك منهم مكروه» قائلاً: «لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد» تجده يعوذ بربه الكريم متذللاً بين يديه: «عباد الله إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب».

ذلك هو الإمام الحسين(عليه السلام) لا يكسره أمام الخلق شيء، وكله انكسار أمام الخالق، وهو الصمود والفولاذية موقفاً وكلمة أمام تحديات المبطلين البطَّاشين، إلاّ أنه القلب المرتجف المرتعش بين يدي الله عز وجل على مرأى العدو والصديق، مظهراً ضعفه ووهنه أمام ربه في أشد المواقف استفزازاً للانا معلناً حقيقة أنه لا حول ولا قوة إلاّ بالله. وحتى عندما يعلن إباءه وشموخه الكبير فيقول: «هيهات منا الذلة» إنما يرجع الأمر إلى الأدب الذي أدبه به ربه والرعاية التي يرعاه بها: «يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت...».

وهذا التغييب للشخصيّة وراء عظمة القضيّة تطالعنا به مواقف الإمام الراحل وهو يعكس أنوار السيرة المعصومة من خلالها، انظره متمشياً مع قوله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً} إذ يلفت نظر شعبه أن ليس له ولا للشعب في الأصل من الأمر شي، فيخاطبه: «علينا أن نشكر الله الذي منّ علينا فأنعم على هذا البلد بذرّة من قدرته الأزليّة فأصبحت قدرتكم اليوم قدرة إلهية لا تقبل الضرر» وانظره ينطلق بالأفئدة إلى بارئها دون أن يقطع عليها طريقها إلى الحق تبارك وتعالى: «إن الله هو الذي غيَّر قلوب أبناء هذا الشعب بين عشية وضحاها، وجعل الشعب كله يقف بوجه القوى الشيطانية الكبيرة ويكفّ أيديها عن بلادنا، وإنها القدرة الإلهية التي ألهمت أعزاءنا الصبر والصمود» ويمضي قائلاً بعد كلمات: «وإنها القدرة الإلهية التي جعلتكم أيها الشباب في خدمة المستضعفين وفي مؤسسة المستضعفين.. إن الله تبارك وتعالى بقدرته وعنايته وهب القوة لأبناء شعبنا وجعلهم يعملون في رحابه» ويقول في هذا السياق: «وإنها لقدرة الله تبارك وتعالى التي جعلت شبابنا يعشق الشهادة».

وها هو السيد الإمام يتجاوز بآمال الناس وأمانيهم كل الأوزان والأحجام ليشدّها بما لله الأمر وحده: «فلو غاب رجائي، ولو غاب الآخرون فإن الله موجود» وممّن يعنيهم رضوان الله عليه من الآخرين نفسه وتغاضى عن هذا الذكر لما يتضمنه من الالتفات إلى النفس وخصوصيتها.

وها هو يطارد الصنمية في شعور القوات المسلحة: «وعلى قواتنا المسلحة في جبهات القتال أن تعلم بأنها تقاتل في سبيل الله لا من أجل رئيس الجمهورية ولا من أجل رئيس الوزراء، ولا من أجل الآخرين» وهو يدخل هنا نفسه أيضاً في الآخرين إمعاناً في صرف النظر عن الذات.

ولتقارن الأمة في كل بلادها بين هذه الكلمات التوحيدية وبين الشعارات التي تغرس في أعماق وأفئدة أبناء القوات المسلحة هنا وهناك الولاء للحزب أو الفرد، وإذا ذكر الله معه فإنما يذكر ذكراً إعلامياً توصليّاً.

واسمعه مرة أخرى في هذا السياق: «إن جمهوريتكم الإسلامية خالدة لان سندها الله، ولأنكم أقمتموها بسواعدكم القويّة من أجل خدمة دين الله; فهي لذلك ستبقى إلى الأبد ولا خوف عليها من أي شيء».

نَعْم القيادة قيادتان: قيادة مبدئية مؤمنة تعطي كل شيء من أجل الله للأمة والمبدأ، وتربط النصر بالله ثم الأمة والمبدأ، وتتوارى عن الشاشة كي لا ترى إلا عظمة المبدأ; وقيادة أرضية نفعية تأخذ ظلماً كل نفع، وتدّعي زوراً كل نصر. والظهور لها كذباً لا لأمة ولا مبدأ; وما النصر إلا من تدبيرها، وما العزّ إلا من فيضها، وما في أيدي الناس إنما هو شيء من فضلها; فهي رب الأرباب ومسبب الأسباب، ومن قال غير ذلك هلك.

 

ج ـ الذوبان حبّاً في المبدأ:

الذات التي ترى ذاتها مفصولة معنىً وقيمة حاضراً ومستقبلاً عن المبدأ قد تلتقي مصلحةً معه وقد تنفصل; فإن وقعت مصلحة القضية جسراً لمصلحتها فذاك، وإلاَّ فلا أمة ولا مبدأ ولا قيم; لذا ما لم تذب القيادة حبّاً في المبدأ ويملك عليها وعيها وشعورها، ويتمثل وجودها في وجوده فإنما يكون الظهور لها على حسابه، ويكون الحساب لمصلحتها لا مصلحته، ولشخصيتها لا شخصيته; فذاك التغييب لشخصية القيادة في شخصية المبدأ، والتأكيد لحجمه ووزنه وقيمته والتفاني في وجوده إنما هو شأن قيادة التحمت وجوداً بوجود المبدأ وهامت فيه، ولم تر لها وجوداً ولا حياة على انفصال منه; وإذا كانت كذلك لم يكن مبلغها أن تهون عليها التضحية في سبيله، فحسب وإنما ترى موتها حياة إذا كان فيها حياته فيهنأ الموت وتلذ المتاعب.

ومن هنا رأى سيد الشهداء(عليه السلام) شهادته وشهادة أصحابه فتحاً: «ومن تخلف لم يبلغ مبلغ الفتح» ورأى من شدائد الألم الجسدي والنفسي في ظل نشوة الروح وغبطتها أمراً هيناً: «هوّن ما نزل بي أنه بعين الله» وكان يعيش الروحيَّة الناطقة بمؤدى هذين البيتين:

تركت الخلق طراً في هواكا     وأيتمت العيال لكي أراكا

ولو قطعتني في الحب إرباً     لما مال الفؤاد إلى سواكا

ذلك الحب العارم لم يُبقِ في يد الإمام الحسين(عليه السلام) شيئاً إلا وضحى به في سبيل الله، ومن أجل عزة الإسلام سعيداً رضيّاً وأن تتفنَّى روحه الطاهرة بذكر الله الجليل الجميل الكبير المتعال، وهو على مقربة من لفظ النَّفَس الأخير مسبِّحاً مقدساً حامداً شاكراً واثقاً راغباً لائذاً متملّقاً موحّداً صادقاً، في مناجاة متأججة تنطلق لاهبة من الروح الصاعدة إلى رضوان من لم يشغلها يوماً هم عن رضاه.

وتلتقينا في تلميذ عاشوراء وخريج مدرسة الحسين(عليه السلام) السيد الإمام(قدس سره) روح الفداء في سبيل الله بلا شرط، والتضحية من أجل الإسلام بلا حد; ولقد واصل الدرب الطويل لم يهن ولم يكل ولم يعله سأم ولا ضجر ولا فتور، وما شكى يوماً من فداحة الخسائر المادية أيام الثورة، وأيام الحرب المفروضة، وفي عمليات الاغتيال، بل كان يرى في كل ما يحدث من تضحيات وعطاء كبير مفخرة وعزّاً، وفي روح الشهادة المتحفّزة تقدّماً ونصراً وحياة ومجداً، وما كثرت التضحيات الهائلة في نظر له، وإنما دأبه أن كان يستقل الكثير في سبيل الله.

يقول(قدس سره) في صبيحة اليوم الثاني لاستشهاد محمد علي رجائي ومحمد جواد باهنر ـ رئيسي الجمهورية والوزراء ذاك الوقت ـ : «فالشعب الذي يعتبر نفسه وكل ما يملك لله سبحانه وتعالى ويعتقد بأن الرحيل عن هذه الدنيا نحو الخالق والمحبوب هو الهدف والمراد، مثل هذا الشعب لا يمكن لأحد أن يتحداه مطلقاً» وسيدنا الكريم من أوائل أبناء الشعب الذين يعتقدون بأن الرحيل عن هذه الدنيا نحو الخالق والمحبوب هو الهدف والمراد.

ويضيف في السياق نفسه: «فخطأ العدو يكمن في عدم معرفته بالإسلام، فالذين يحتضنون الشهادة ويعانقونها كما يعانقون الأحبّة; مثل هؤلاء لا تستطيع أي قدرة الوقوف بوجههم» فالشهادة التي تعني أكبر طفرة في وجود الذات وتحولها إلى إشعاع من إشعاعات الإسلام، وتعني لقاء أبديّاً روحياً بجمال الله وجلاله، وفوزاً برحمته ورضوانه هي هدف يُطلب لا مخوف يُحذر.

والتضحيات عنده(رضي الله عنه) في سبيل الله بلا حدّ كما تقرره كلمته: «ويجب أن ندافع عن هذا الدين ولو قتلنا جميعاً» قتل للجميع في إيران، أو في أي بلد آخر فيه حياة الدين وإنقاذ الأرض من الضلال، وفيه رضا الله، وعزّ الإسلام وهيبته وحيث لا تبديل يدخل في القليل ولا يستكثر، ولا محذور ولا مخوف حيث يكون القصد لوجه الله والعاقبة رضوانه: «إن الله معنا; نحن نعيش مع إسلامنا ونعمل لله، ولماذا يخاف من يعمل لله؟ وممن يخاف من يسير في طريق الله؟».

والجهاد مستر وتمزيق الأجساد لا يمثّل تهديداً ما كانت مصلحة الإسلام في المواجهة: «نحن لن نخضع ساعة واحدة للظلم. دع الأسلحة الأمريكية والإسرائيليّة تمزّق أجسادنا، فنحن مصممون على الجهاد ولا يُرعبنا أي شيء أبداً».

وإن الشهادة لغنيمة الأحرار ومحطّ أمل المتّقين من ذوي الشهامة، ولا وحشة على الطريق; طريق الله ولقائه ولو خلا من السائرين: «لقد وضعت دمي وروحي الرخيصة على الأكف في انتظار الفوز بالشهادة العظيمة في سبيل الواجب والحق وأداء فريضة الذود عن حياض المسلمين.

ولتكن القدرات والقوى الكبرى وعملاؤها على ثقة بأن الخميني سيواصل طريق الجهاد ضد الكفر والظلم والشرك وعبادةِ الأصنام حتى لو ظلَّ وحيداً».

ويظل الإسلام ومقتضى مصلحته هو المنظور الوحيد في التعامل مع الأحداث; وإذا هدد الإسلام في صلب وجوده لم يُستثن ثمن لإنقاذه. يجيب(رضي الله عنه) على مجزرة الفيضية عام 1963 م قائلاً: «إنّ مبادئ الإسلام معرّضة اليوم للخطر، القرآن والدين في خطر، ومن هنا فالتقية حرام والكشف عن الحقيقة واجب مهما كلف الأمر».

 

د ـ التحلي بأخلاقية المبدأ:

أخلاقية المبدأ قد تكفّ اليد عن نصر قريب غير مكلف، وتفرض الاستعلاء على فرص كبيرة مواتية حفاظاً على الأصالة، وإبقاء على النقاوة، وهي سر الخلود وأساس الدور المطلوب من المبادئ.

وقد ترفَّع رسولُ وعي الحسين وأخلاقيته الكريمة مسلمُ بن عقيل على نصر فيه رائحة الخيانة، وسقى شهيد الطف عطشاناً أعداء جاءوا يطلبون دمه ظلماً من ماء يمدُّهم ببقاء الحياة، ووقف الثائر الحسيني وقد دكَّت صواريخ صدام مدنه وقراه وحصدت الآمنين، يذود عن كل مدينة وقرية في العراق قذيفة تنالها من جنود الإسلام، أو موتاً يلحق بريئاً واحداً، وإن صنع ضرب المدن العراقية ضغطاً على الجيش المقابل.

«إن انتقامكم يجب أن تأخذوه من صدام ومن حزب البعث، والآن أنتم في عملياتكم تأخذون الانتقام احذروا من أن تطلقوا قذيفة واحدة على مدنهم، إنَّ مدنهم هي كمدننا، فكما هي بهبهان مظلومة كذلك هي البصرة مظلومة أيضاً ومندلي مظلومة; إنهم كلهم مظلومون».

وتلازم الأخلاقية الإسلاميّة السامية هذا القائد الرسالي الفذَّ في أصعب الظروف وأشدها ضغطاً، وفي الوقت الذي أجمع فيه الاستكبار العالمي على القضاء على إيران الإسلام وثورتها الإسلامية المباركة عن طريق العدوان الصدامي المخطط والمدعوم عالمياً; فلا هذا الإجماع والدعم، ولا التهور والانفلات الجنوني في العدوان الصدامي على المدنيين الآمنين بأسلحة الفتك والدّمار، وخرقه لكل الموازين والقيم إلا قيم الغاب وحضارة الغرب الحيوانية المتهتكة، فلا هذا ولا ذاك استطاع أن يحيد بالقائد المبدئي الصلب عن أخلاقه وقيمه وتساميه: «نحن يجب أن نحفظ الجوانب الإنسانية حتى الموت والشهادة»، «إنني أريد أن أقول إن حراسنا هم أعزاء جدّاً علينا، وكذلك هم القوات المسلحة، ينبغي أن يعوا وأن يعرفوا أنّ السلاح الذي يحملونه يجب أن لا يصحبه غرور».

إنَّ الشخصيّة الفولاذية هي التي لا تنهار أمام عدو وبطشه، ولا تستطيع استفزازاته أن تميل بها شيئاً ما عن خط مبدئيتها; أمَّا الذي يستطيع أن يصمد ويحارب ولكن بغير قيمة فهو ضعيف منهار; فالسيد الإمام كبير جدّاً وحديدي جدّاً بكل معاني الكلمة وأبعادها، وإنه ليرى القوة كل القوة في الوقوف مع المبادئ مهما كلف الأمر وأن الضعف والانهيار في أن يستفزّك عدوك للتخلي عن قيمك: «إن قصف المدن الإيرانية واستشهاد أعزائكم يجب أن لا يفقدكم السيطرة على أعصابكم وتندفعوا إلى الانتقام لذلك... ويجب أن تدركوا جيداً بأن عليكم أن لا توجهوا حتى رصاصة واحدة إلى المدن العراقية»، «وإنني أقول لأولئك الأبطال الذين ينزلون الضربات الساحقة بصدام ومرتزقته بأن قوتكم وقدرتكم يجب ألاّ تكون دافعاً للانتقام خلافاً لما تنص عليه الأحكام الإلهية» وما أروع ما تسجله كلمته الآتية في نفس السياق من صرامة مبدئية وصدق رسالي وخلق نبوي كريم، يأبى أن يطلب النصر بالهزيمة والحق بشيء من الباطل الوبيء: «إن الجمهورية الإسلامية ستواصل التزامها بالجوانب الإسلاميّة والإنسانيّة مهما كلف الأمر حتى لو كتبت لها الشهادة أو الموت على هذا الطريق، فإن جمهوريتنا جمهورية إسلامية وإن الإسلام هو الذي يحكمها وإن المقاييس لدينا هي مقاييس إسلامية بحتة».

 

هـ ـ الشدة في ذات الله:

لا تكون مبدئية ما لم تكن نفس تتحمل ثقل المبدأ في كل الظروف، وتستعصي على المهادنة للقريب والبعيد في سبيله، وتتمرد على الرغب والرهب في الذات وفي الحبيب وفي الصديق وفاء للأمانة ونهوضاً بالمسؤولية، ومستوىً آخر هو الأليق بموقع القيادة ذلك الذي لا يجد أي معاناة داخلية وهو يقدِّم مصلحة المبدأ على كل شيء; لان أي شيء لا يملك أن يزاحم موقع المبدأ في نفسه أو يقاربه; فكل ما له حب واحد، واحترام واحد، هو منبع كل حب وكل احترام آخر; ذلك هو حب المبدأ واحترامه المترشح عن حب الله وإجلاله.

والقيادة أمر ثقيل مرهق للعظماء، إن يتحمله متحمل فمن ذلك المستوى، أو ممن لا يأبه لدين ولا معيار عدا هواه وسفهه.

مضى الإمام الحسين(عليه السلام) لا يلوي على شيء في طريق الشهادة وقد حاولت دنيا الأعداء والأصدقاء وشفقة المشفقين، وشماتة الشامتين، وأمنيات المغرضين، وعويل أرامل المستقبل ويتاماه، وتخذيل المخذِّلين، وخيانة الخائنين أن تستوقفه في نقطة وأخرى من الطريق; إلا أنها لم تجد منه الرجل الذي يسمع شيئاً من ذلك فضلاً عن أن يسبب له موازنة ومراجعة.

وها هو قائد الثورة الشعاع لا يزايل بصره مرضاة ربه، ولا يرمي بطرفه إلى غير أمر الله ونهيه، وكأنه ليس في دنيا الناس برغائبها ومخاوفها، وما تعارفت عليه من مطايبات وتمنيّات ومجاملات تهدم من المبدئية ولا ترمّمها.

هذه كلمة، وكم تحمل هذه الكلمة من انقضاض عنيف على المألوف الذي قد يؤلم الكثير من الطيبين طيبة بلا دقة أن يتجاوز، فكيف بهذا الانقضاض الشديد: «وأخيراً يجب أن أقول هذا الكلام والله يعلم بذلك، بأنني لست شديداً على النَّاس العاديين بقدر ما أكون شديداً على علماء الدين الفاسدين. فالساواك عندي أكثر احتراماً من علماء الدين المنحرفين» وكلمة أخرى موجهة للسيد رجائي الذي يضع فيه ثقته: «في هذا اليوم يجب أن أقول شيئاً إلى السيد رجائي كالذي قلته إلى الرئيس السابق; إن منصب رئاسة الجمهورية سيؤدي إلى الضلال إذا أصبح همّاً دنيوياً لنا». ويضيف مخاطباً له: «لقد كنت بالأمس رئيساً للوزراء وقبلها وزيراً وقبلها معلّماً وقبلها طالباً ولا يمكنك التنبؤ بما يصيبك بعد ذلك فلربما انفجرت هنا قنبلة وقُضي على الجميع. إذا كان الأمر كذلك فلماذا يختلف الإنسان قبل وبعد تصدّيه لمنصب رئاسة الجمهورية؟ إن من دخل نور التوحيد إلى قلبه يرى جميع العالم شيئاً صغيراً جداً أمام عظمة الباري عز وجل» ويقول في السياق نفسه: «فلو لم يعمل رئيس الجمهورية طبقاً للإسلام فإن ثلاثة عشر مليوناً سيحاسبون في اليوم الآخر، وإذا وطئت قدماك طريق الضلال فإن الثلاثة عشر مليوناً سيهتفون غدا بالموت لك».

هذه مساحة وفي مساحة أخرى يقول لرسول الباباً يوحنا بولس الثاني: «لماذا لا يفكر قداسة البابا في حماية الشعوب المستضعفة في العالم»، «وكنا نتوقع أن يسأل كارتر ويستجوبه لماذا سلطتم هذا الشخص أي الشاه المخلوع على هذا الشعب؟ وأن يسأل كارتر الآن لماذا أخذتم شخصاً خان وأجرم خلال أكثر من ثلاثين عاماً واحتفظتم به؟ وتريدون التآمر من هناك؟».

وكانت من السيد الإمام فتوى ليس غيره أعلم بما تكلّف من ثمن، ولكنه الرجل الذي لا يغلو في نظره من أجل عزة الإسلام والذود عن حماه ثمن، فانطلق في فتواه بإعدام سلمان رشدي مبدئيّاً، وثبت عليها فولاذيّاً، وميّزته في هذا الموقف ككل موقف له الخشونة الصلبة في ذات الله، وقد وهم الكفر العالمي أن إعلامه ومختلف تهديداته وضغوطه يمكن أن تردّ قراراً لسليل الحسين(عليه السلام) وراءه وعي مدرسته وتقواها وعزيمتها، وكأن كلمات القائد الكبير أرادت هزءاً بالكفر حينما قال: «إن الاستكبار العالمي يتصوَّر أنه إذا جيء باسم السوق المشتركة والحصار الاقتصادي فإننا سنتراجع ونغض النظر عن تطبيق الأحكام الإلهية»، واستبق الأحداث محذّراً ضعاف النفوس من انهيار مستقبلي أمام لغة الأرض وحساباتها: «إنني أخشى أن يأتي محللو هذه الأيام بعد عشر سنوات ليقولوا إن حكم الله ـ يقصد في حق سلمان رشدي ـ كانت له آثاره وتبعاته السيئة على علاقاتنا مع السوق الأوربية المشتركة والدول الغربية، وأنه كان ينبغي علينا أن نغض النظر عن الذين وجّهوا الإهانة والإساءة للإسلام».

ذلك هو الإمام القائد الذي لا يفوت وعيه أي شيطان مارد وراء القذر سلمان رشدي، وأي تحطيم أريد لهيبة الإسلام، وأي اختبار استهدفه الأشرار. والرجل الذي لا تضعف عزيمته أن يواجه الاستكبار كله، ولا يكبر تقواه أن لا يخشى إلا ربَّه. عشقه لله وثقته به تجعلانه في مواطن الرضا الإلهي لا يسأل: مَنْ سيضاده؟ ولا ما هي الخسائر الدنيوية المترتبة على موقفه؟ وممن تكون التخطئة وممن يكون التصويب؟

 

و ـ التسليم والرضا:

من القيادات من يتمتع بالمعنويات الكبيرة ما دام نصر وتفوّق، وإذا كانت هزيمة استولى عليه ما يستولي على الصغار من الاندكاك، وقد يؤدي به الأمر إلى الانتحار; ذلك نمط من القيادات أكبر ما في طموحه أن ينتصر، والنصر عنده غلبة خارجية فيها الظهور والمكسب المادي والانتفاخ.

وأما الذين لا يرون لهم نصراً إلاّ في مرضاة الله، ولا هزيمة إلا في غضبه فلا يصغرون بشيء ما داموا على طريقه، وكل سعيهم أن يؤدوا حقَّ المولى، ويستفرغوا الوسع في نصرة دينه ليستقبلوا النتائج الخارجية من بعد ذلك لهم أو عليهم برضاً وتسليم، مواصلين السعي ما ملكوا جهداً على طريق الله. ومن سخط وهو لا يجد باباً مفتوحاً على ما يرغب ذاب وانفجر وانتحر، وهذا لا يأتي على مجاهد في سبيل الله وفىّ واخلص وإن أحاطت به الهزيمة من كل صوب لان ما في وعيه وشعوره أنه في موطن الشكر لما وفّق، وأما النصر الفائت فهو أمرُ ربّه الذي لا يتحمل هو ضمانته، ولا يشك في قدرة الله عليه وحكمته في تأخيره.

هذان التسليم والرضا سمتان بارزتان في القيادة المبدئية يحفظان منها توازنها دائماً، ويبقيانها على الوقار، ويحميان معنوياتها من التصدع، فلا تعرف من هزيمة الداخل شيئاً، ولا من شعور الخسارة ولو فتيلاً.

وهذه وقفة مع أبي عبدالله(عليه السلام) في عاصفات الشدائد: «كأني بأوصالي تقطِّعها عُسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملان مني أكراشاً جوفاء وأجربة سغبى لا محيص عن يوم خط بالقلم. رضا الله رضانا أهل البيت».

وفي جواب كلمة الفرزدق: «قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أمية» قال: «إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يعتد من كان الحق نيته والتقوى سريرته» والمطلوب كل المطلوب عنده(عليه السلام) الاستقامة على الدرب وأن لا ينحدر حدث مهما طغى بالمرء عن الخط.

وجاء من كلماته سلام الله عليه في اللحظات الأخيرة من حياته الشريفة في الدنيا وقد اجتمعت عليه كل أصناف الآلام ولم تبق إلا روحه الطاهرة القدسية لم يمسسها ضنىً، ولم تنل منها الكوارث فكانت منبع الصبر والاحتمال ومحل الرضا والاطمئنان; جاء من كلماته: «صبراً على قضائك يا رب لا إله سواك يا غياث المستغيثين، ما لي رب سواك ولا معبود غيرك. صبراً على حكمك يا غياث من لا غياث له...» والكلمة تتجاوز الصبر والنهوض بثقل الآلام والهموم بكفاءة، إلى الإقرار بالمنِّ من الله والعناية واللطف: «ما لي رب سواك»، فالمقام عنده(عليه السلام) وهو من أشد الكُرَبِ مقام اعتراف بالجميل الإلهي حيث الربوبية المتفردة والإمداد والتدبير والعناية والإكرام، ومقام التوحيد العبادي الذي ينطوي على الشكر الخالص والحمد الجليل والثناء الجميل والتكبير والتقديس والتنزيه.

وينطلق الإمام الراحل في التسليم لبارئه والرضا بقضائه وقدره من عبودية الكائنات المحضة المطلقة للمالك الحق الذي لا تخرج من ملكه ذرة ولا ما هو أقل. وفي ظل هذا الوعي المتجذر والشعور المتمكن الضارب تخف على النفس الهلوعة آلامها وتفقد النوازل الثقيلة وزنها: «إن ما يخفف لوعة هذا المصاب وفداحته هو أننا لا نملك شيئاً من أنفسنا وأننا لله وأنا إليه راجعون; وكل ما نملكه أمانة من عند الله تفضّل بها علينا ونعود كلنا إليه ثانية».

وكيف يسخط عبد لم يأت عليه آن يملك فيه مما أوتي من نفسه وغيره شيئاً إذا ما استردَّ المالك ما آتى عدلاً وحكمة ولطفاً؟!

ما ينبغي أن يقال هنا هو أن مهمات القيادة مهمات ثقال وأن آلام الموقع آلام تدك الجبال، فإما قائد لا يشعر بمحنة ما سلمت له نفسه وشهوته، وذاك في راحة البهائم حتى يحاصر الخطر حياته ومنصبه فيكون الانهيار والتضعضع، وإما قائد يحمل همّ الأمة، ويشعر بكل جراحاتها لكن.

 

2 ـ الرؤية الموضوعية المتقدمة:

هذا هو البعد الثاني من بعدين قلنا بالاقتصار عليهما في الكلام عن محور القيادة والقيادة الأصيلة كما أنها فهم مبدئي معمَّق شامل، وخبرة إسلامية واسعة، واستيعاب دقيق للأطروحة عقيدة، ومفاهيم، وأخلاقية وأحكاماً، وكما أنها روح زكية نقية وتقوى ونزاهة، ونفسية عالية صلبة، ومعنويات كبيرة فكذلك لا بد من توفرها على الرؤية الموضوعية الدقيقة والخبرة الميدانية الصادقة والتقدير العملي المتميّز، وتشخيص الأوضاع الحاضرة، والنظر الثاقب للتحولات المتوقعة، وما يمكن أن يتمخض عنه لون التحرك من نتائج من نوع السلب والإيجاب.

وتختلف دراسة الموضوع الاجتماعي ومداخلاته عن دراسة الموضوع العلمي البحت; لدخول البعد النفسي بشدة في الدراسات الاجتماعية دونها عادة في الدراسات المقابلة; وترتبط الدراسة الاجتماعية وتشخيص الموضوع المتصل بها بالبعد النفسي بدرجة أشد، حين ترتبط نتائج هذه الدراسة في بعض فروضها بما يقتضي التضحيات الضخمة والمخاطرات الهائلة، ولاسيما إذا كان المظنون أو المتيقن أن الكلفة الباهظة تعني عطاء بلا أخذ في هذه الحياة الدنيا.

في ميدان العلوم البحتة يحتاج الوصول إلى التشخيص الموضوعي إلى الفهم والدقة والخبرة، ويزيد أمر التشخيص الملامس للواقع مؤونة وعدة في مورد الدراسات الاجتماعية والسياسية مما يراد أن يرتب عليها تحرك تغييري لا يغري بمصالح ذاتية وإن أغرى بمصلحة المبدأ.

تشخيص الموضوع هنا محتاج إلى المبدئية التي تقدمت بعض ملامحها، وإلى بصيرة نافذة وخبرة جامعة، بالإضافة إلى نفسية مقاومة لا تغزوها التشكيكات الواهمة فتحول علمها جهلاً، وطمأنينتها اضطراباً، واليقين عندها وهماً، وإلى شجاعة فائقة لا يردّها خطر، ولا يصيبها خور.

فمن غير تلك المبدئية ينقلب الأبيض أسود في النفس التي لا تحرز في التحرك مصلحة دنيوية; وسطحيّة النظر وضآلة الخبرة لا يمكن أن تقع على حقيقة موضوع بهذا العمق وله امتداداته المستقبلية الغامضة، والنفس الموهونة لا تصمد لها قناعة أمام التشكيك، وهو كثير في هذا المجال من الصَّديق والعدوّ وممن له شأن ومن ليس له شأن. وإذا لم تكن شجاعة بحجم التحديّات، فإن الرأي المستتبع للمخاطر تردّه النفس وتسفهه فلا يكتسب حد القناعة.

وما كان رأي فيه مواجهة لموت محتّم وهزيمة مادية واضحة، وتضحية بالولد والعشيرة والأحبة والمخلصين من أهل المودة وتعريض الخلف من الصغار والحريم للأذى البالغ، كما كان في الرأي الذي تشخّص عند الإمام الحسين(عليه السلام) وثبت عليه قبل وبعد ما وصلت إليه المعلومات الدقيقة الموثوقة بقتل رسوله إلى الكوفة مسلم بن عقيل، والارتداد عن بيعته تحت عوامل الترغيب والترهيب وأساليب البطش الطاغوتي التي مارسها عبيد الله بن زياد.

وقد كان للإمام الحسين(عليه السلام) من موفور المواهب الإلهية في ذاته من دون العصمة فوق ما يطمع فيه الكثير من ذوي النباهات والإدراكات المتميزة، وهو الذي عايش تقلّبات الساحة الاجتماعية والسياسية منذ نعومة الأظفار، ووقف على مراكز القوى ونمط العلاقات، وما يطبع مختلف التيّارات والطبقات المهتمة بالشأن السياسي آنذاك، وتلك التي تمثّل وفود التحركات، وذلك من خلال الاحتكاك برجالات تلك القوى باللقاء والمواجهات، ومن خلال موقعه الملتصق بمركز صنع القرار حيناً، والمعارضة حيناً آخر.

وهذا فضلاً عمّا له من جهة موروث الوحي ومعين العصمة جعل الوصول إلى صوابية تشخيصه والحكمة الفائقة في قرار الاستشهاد، وما حفّ ذلك من تحضيرات وإعداد كأخذه النساء والأطفال إلى ساحة المعركة في صحراء كربلاء، لا يتمّ لذوي النظر الثاقب إلاّ من بعد زمن من استشهاده(عليه السلام).

ولقد كان له من يقين الرؤية، ويقين الوظيفة والتكليف، ومن بنائه النفسي المحكم، وفولاذية شخصيته ما أفقد الكلمات المخذّلة، والاقتراحات بتغيير المسار ولو أتت من أكثر الناس شفقة وأصدقهم نصحاً وخبرة أن تنال من يقينه، أو تميل بوجهة نظره، وقد سمع منها الكثير المبالغ في الإلحاح والتمني.

ولقد جاء النصُّ المبكِّر عنه(عليه السلام) الذي يجمع بين شهادته وشهادة صحبه وبين الفتح المبين، فتمّت الشهادة، وكان النصر الذي لم يكن يراه قبل أحد من أهل النظر الحديد، هذه كلمته التي حدَّدت الوسيلة وأعلنت النتيجة في أول الطريق: «فإنه من لحق بي منكم استشهد ومن تخلف لم يبلغ مبلغ الفتح» فهو الفجر الذي يشعّ به دم الشهادة والنصر المنطلق من أحضانها.

ونظر قائد الثورة الشعاع بعد زمن فرأى وقته الإقدامَ كما كان قد رأى الإقدام سيده الحسين(عليه السلام). نظر فشخَّص، وشخَّص فقرّر، وقرَّر فانطلق لا يستوقفه نداء يستريح ركبه المُغذَّ على الطريق المتعب الطويل.

رأى مأساة أمّة، وشخّص ما بيد الإصلاح، وما تملكه يد الإفساد الضارب المستطير، وقرّر أن تكون ثورة; ثورة كلمة ودم في وجه عدة وعتاد، ودعم عالمي ليزيد عصره في إيران، في وجه سادس نظام تسليحي في العالم، ورأى أن يكون فتح لا يلزم أن يكون الفتح العسكري القريب، ولكنه الفتح الأعمق الذي عبر عنه بفتح الفتوح، ألا وهو حياة الأرواح وحياة القلوب، وحيث يكون هذا الفتح الغاية الذي سبق أن استهدفته كربلاء الحسين(عليه السلام) لا بد أن يكون نصر عسكري ولو من بعد حين.

ومضى السيد القائد مع رؤيته وقراره منطلقاً وحده في أول الطريق وكلما أسرع الخطا امتدت إليه ألسنة يصل سمعه منها نداءات بتريث، ونداءات بإشفاق وتخذيل، ونداءات بنقد لاذع مرير، ولكن شيئاً منها لا يخترق فؤاده الحصين، حتّى توغل به طريق الكفاح ولحقت به قوافل الثائرين إلى أن كان التيار المتعاظم والطوفان الكبير.

 

المحور الثالث: النخبة والأمة

أقرب النّاس إلى الثورة بعد القيادة فكراً وروحيَّة ونفسية واستلهاماً، وقدرة على التمثيل لرؤاها وقيمها وآدابها، وعلى التحمل لأعبائها ومسؤولياتها، ومواصلة الطريق هم النخبة الذين تجمعهم والقيادة مدرسة رسالة واحدة، وهم الشرايين التي تغدّي الأمة بوعي الرسالة وحسِّها، وتتدفق بالدم الجديد الذي يعطي لها حياتها ومعنوياتها; والأمة هي المخزون الكبير الذي يمد الثورة بمقوّمات المواجهة الشاملة وبالنخب المتجددة، ويتحمل مسؤوليتها على المدى البعيد، والأمة هي حقل الثورة الذي تستهدفه بالإعمار، وحضورها الفاعل واستعدادها لان تعطي كل شيء للنصر يجعلان يومه قريباً، ووزنه هائلاً; فلا بد من نخبة وأمة، والثورة التي لا تجد نخبة واعية، ولا أمة فاعلة تبدأ أول ما تبدأ بإيجادهما.

 

ولنقف قليلاً مع كل من النخبة والأمة في الثورة الأمّ والثورة الشعاع:

1 ـ النخبة:

تتميز كل من الثورتين الأصل والامتداد بنخبة نادرة وقعت الموقع المتقدم في نظر القيادة الثائرة، حتى إن كلمة الإمام الحسين(عليه السلام) وهو المعصوم الذي لا تخطئ على لسانه الكلمة ولا تأتي أوسع من معناها، قد ذهبت بمنزلة أصحابه في الوفاء والإخلاص وتجسيد القضية والتضحية والفداء عالياً جدّاً، فلم تقدّم عليهم أنصاراً من كل الرساليين من قبل ومن بعد إلا ما أخرجه النص الخاص من إمام معصوم، كأمير المؤمنين(عليه السلام) في صحبته ونصرته لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم). يقول سيد الشهداء(عليه السلام): «أما بعد، فإني لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي ولا أهل بيت أبرّ وأوصل من أهل بيتي» فأصحابهُ(عليه السلام) على سموّ من كلمة، وعلى عظمة من موقف، وعلى سموّهم وإخلاصهم قولاً تجدهم أعظم موقفاً وجهاداً فلقد مشوا إلى الموت في سبيل الله بقدم ثابتة، مختارين غير مكرهين، راضين غير ساخطين، مستقلّين ما أعطوا غير مستكثرين; يرون الموت بأمّ أعينهم وفرص الحياة مفتوحة أمامهم من إمامهم ومن عدوهم فلا يرون في الحياة طعماً أمام لذة الشهادة في سبيل الله، ولا يواقعون الشهادة منفعلين، وإنما يخوضون اللجّة قاصدين لها ببصيرة الموقنين، ووعي حملة الرسالة، وروح البررة الأطهار، والحبّ والإخلاص لله ودينه وللمؤمنين; يقذفون بأنفسهم في قلب معركة طاحنة لا يتطلعون فيها إلى نصر ولا دولة يعزّ فيها القريب وينعم الحبيب، بل كلّ تطلعهم أن يبعثوا الأمة من جديد ويُعزوا الدين على المدى البعيد مرضاة لله وطلباً للقائه.

وهذه مواقف وكلمات من صفوة بعثت أمّة وأحيت ديناً، وحفظت منجزات لتاريخ ضخم من صُنع الرسل والأنبياء والأوصياء العظام، وهي مواقف وكلمات لا زالت قادرة على أن تصحّح وأن تعمر وأن تشيد وأن تنسف بناء فاسداً متهرّئاً، وتقيم مكانه البناء السليم القوي المتين; وكلمات أخرى قيلت فيهم تضعهم حيث هم منارات هدى وشوامخ عزّ ونماذج إيمان.

 

أ ـ قمة وعي وبصيرة وإيمان:

حبيب بن مظاهر يسجل كلمة تقييم لأولئك الصفوة وهو يدعو حيّاً من بني أسد لنصرة أبي عبدالله(عليه السلام): «إني أتيتكم بخير ما أتى به وافد إلى قوم; أتيتكم أدعوكم إلى نصر ابن بنت نبيكم فإنه في عصابة من المؤمنين الرجل منهم خير من ألف رجل لن يخذلوه ولن يسلموه أبداً».

هذا التّميّز الضخم يطلقه حبيب ليتناول أبعاداً وأبعاداً من الشخصية الإسلامية السويِّة بما فيها من دقة التشخيص والبصيرة في الدين والإصرار عليه، ومواجهة كل الاحتمالات في سبيله.

وهذه كلمة أخرى لهذه الشخصية الإسلامية الموغلة في الإيمان والوعي: «أما والله لبئس القوم عند الله غداً قوم يقدمون عليه قد قتلوا ذرية نبيه(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته، وكبار أهل هذا المصر المجتهدين بالأسحار والذاكرين الله كثيراً».

أولئك الذين باتوا ليلة العاشر من المحرم ينتظرون مطلع شمس تخضبه دماؤهم الزكية، باتوا مقبلين على الله بين راكع وساجد وقائم وقاعد في خشوع المصلّين من ذوي الألباب، وبين تال للقرآن ومستغفر، ولهم دويّ كدوي النحل، لكنه الدويّ الصاعد إلى السماء الخالد على الدهر، المعلِّم للأجيال، المتضوّع بعبق التقوى في وعي، وأريج الإيمان في سداد ورشد.

واحدهم كان برير الذي تقول النّوار لقاتله زوجها كعب بن جابر: «أعنت على ابن فاطمة وقتلت سيد القراء؟ لقد أتيت عظيماً من الأمر! والله لا أكلمك من رأسي كلمة أبداً».

ومسلم بن عوسجة الذي يستثير شبثَ بن ربعي ـ وهو عدو ـ فرحُ قاتيله فيقول: «ثكلتكم أمهاتكم! إنما تقتلون أنفسكم بأيديكم، وتذللون أنفسكم لغيركم. تفرحون أن يقتل مثل مسلم بن عوسجة ! أما والذي أسلمت له، لربّ موقف له رأيته في المسلمين كريم; لقد رأيته يوم سلق أذربيجان قتل ستة من المشركين قبل تتام خيول المسلمين، أفيقتل منكم مثله وتفرحون؟!».

نعم إنهم فرسان المصر وأهل البصائر; يقول بالأول أنهم ثبتوا للموت حين لا يثبت إلاّ قليل في الخلق، وبالثاني أنهم لم يعدلوا بالحسين شيئاً.

 

ب ـ أمانة قمة ورساليّة

مثل: قيس بن مسهر الصيداوي وقد وقع في يد الحصين بن تميم يمزّق رسالته من الإمام الحسين(عليه السلام) إلى أهل الكوفة، ويمثل أمام ابن زياد فيرفض أن يعطي معلومة تخدم العدو وإن أنجته من قتل، ويقبل أن يصعد المنبر بعرض من ابن زياد ليذكر سبط رسول الله بما لا يجري به لسان مؤمن; ولكن لا ليفعل وإنما ليؤدي رسالة جاء يفديها بالحياة، وليقول كلمة فيها نصرة للقضية وان كان الثمن أن يستثير الطاغية ويواجه بذلك أشد تنكيل، وأقسى عقوبة. صعد فحَمِد الله وأثنى عليه وصلى على النبي وآله وأكثر من الترحّم على علي والحسن والحسين، ولعن عبيد الله بن زياد وأباه وعتاة بني أمية. ثم قال: «أيها الناس هذا الحسين بن علي خير خلق الله ابن فاطمة بنت رسول الله(عليه السلام) وأنا رسوله إليكم وقد خلفته بالحاجر فأجيبوه».

ويطبق الإمام الحسين(عليه السلام) في مورد خبره قوله عز من قائل: (فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلاً) لم يردهم عن خط المبدأ، والوفاء بالعهد، وأداء حق الأمانة الثقيلة ضنىً ولا موت ولا صعاب.

 

ج ـ الوعي الذروة:

«وجاء شمر حتى وقف على أصحاب الحسين(عليه السلام) فقال: أين بنو أختنا؟ فخرج إليه العبَّاس وجعفر وعثمان بنو علي بن أبي طالب عليه وعليهم السلام فقالوا: ما تريد؟ فقال: أنتم يا بني أختي آمنون; فقالت له الفتية: لعنك الله ولعن أمانك، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له؟!».

هذا وعي إيماني وسياسي ناضج ذروة، يواجه العرض الرخيص من شمر وإن كان فيه الإبقاء على الحياة. إن أشبال علي(عليه السلام) ليدركون أن الحسين(عليه السلام) هو الإسلام، والحياة في معزل من خطه حياة في معزل من الإسلام، وهي حياة خواء لا تساوي شيئاً; فالشمر هنا إنما يعرض على الفتية الأباة حياة الذل والهوان، ويعرض عليهم خيانة القضية ورمزها الكبير; انه يريد أن يأخذ منهم كل شيء والثمن أمان ملعون على حد تعبير الفتية الكرام، ملعون لأنه عار، ولأنه سقوط وهوان، ولأنه انفصال عن الجنّة والتحاق بالنّار.

هنا وعي إيماني يقدّم مرضاة الله على حياة الفانين، ووعي سياسي لا يرى أمنا حقيقيّاً لجماهير الأمة ونخبها مفصولاً عن أمن القضية والقيادة، ويرى أنه بعد اضطهاد الإسلام ورمزه ليس للآخرين إلاّ الاضطهاد.

 

د ـ القتال المبدئي:

يقف عمرو بن قرظة الأنصاري أمام الحسين(عليه السلام) يقيه من العدو، ويتلقى السهام بصدره وجبهته فلم يصل إلى الحسين سوء، ولما كثر فيه الجراح التفت إلى أبي عبدالله وقال: «أوفيت يابن رسول الله؟ قال: نعم أنت أمامي في الجنة فأقرئ رسول الله مني السلام واعلمه أني في الأثر، وخرّ ميتاً».

أمَّا زهير بن القين فهذا رجزه وهو في الحملة على الأعداء:

أنا زهير وأنا بن القين             أذودكم بالسيف عن حسين

ورجز علي الأكبر:

أنا علي بن الحسين بن علي             نحن ورب البيت أولى بالنبي

تا الله لا يحكم فينا ابن الدعي

واسمع للعبَّاس بن علي(عليهما السلام):

نفسي لسبط المصطفى الطهر وقا            إني أنا العبَّاس أغدو بالسقا

ولا أخاف الشرّ يوم الملتقى

ويقول:

والله إن قطعتمُ يميني                إني أحامي أبداً عن ديني

وعن إمام صادق اليقين               نجل النبي الطاهر الأمي

هذه النماذج تتحدث عن مبدئية حيَّة في حضور قويّ فاعل لا تنتابها غيبوبةٌ لحظة الغليان العاطفي وفوران مراجل الحماس، وهي اللحظة التي تتحدى العقول وتطيش فيها الكلمات; فشهداء الطف شهداء الفضيلة والمبدأ والوفاء للإسلام وقيادته بحق، فوعي الهدف وروح الفداء للإسلام والإخلاص الإيماني بقيت المنطلق الوحيد الحيّ والمحرك لكل الفعاليات الجهاديّة والقتالية عندهم حتى لحظة الشهادة، وبهذا يتصف القتال عندهم بالمبدئية الصادقة بحق.

وتتمتع الثورة الشعاع بنخبة من سنخ هذه النخبة لتبرز نموذجاً إنسانياً رفيعاً يعلّم الوعي والمبدئية والوفاء والفداء. وهذه بعض كلمات القائد الكبير التي تسجّل شهادات الرفعة والسمو لعدد من هذه النخبة:

«إن ذكرى الشهيد مطهري تركت في نفسي وحياتي القصيرة ذكريات خالدة; فقد كان هذا الرجل شعاعاً نيراً حيَّ الضمير، له نفس تعشق الرسالة السماوية... لقد كان الأمل أن نقطف من هذه الشجرة الغنيّة بثمار العلم والإيمان أكثر من الثمار التي في أيدينا الآن».

«لقد اختطفت يد الإجرام الأمريكية اليوم، يوم الجمعة، يوم العبادة والصلاة، إحدى الشخصيات القيمة الذي كان مربياً كبيراً وعالماً عاملاً وملتزماً بالإسلام» وهو يعني هنا السيد دست غيب أعلى الله مقامه.

«ومن أولى بالشهادة من شهيدنا الكبير والفقيه الرسالي وفدائي الإسلام الشهيد العزيز صدوقي رضوان الله عليه».

«لقد سفكوا دماء أكثر من سبعين مؤمناً ملتزماً وابناً بارّاً للإسلام كان كل منهم شجرة غزيرة الثمر».

«وهل خسرت ثورة إيران العظيمة عندما قدمت سبعين شهيداً في لحظة واحدة والآلاف من الشباب العاشقين لله سبحانه وتعالى؟».

وها هو اليوم القائد العظيم آية الله سماحة السيد علي الخامنئي وهو احد رجالات الثورة المباركة وفدائييها وناشطيها، صورة حيّة من الإمام الراحل الكبير وعياً وصموداً وغيرة شديدة على الإسلام، ومواجهة عنيفة للاستكبار، وحنكة سياسية، ورؤية علمية، وشجاعة في الحق وأمانة على مصالح الدين ومكتسبات الثورة، وبعداً عن المحاباة، وشدة خشونة في ذات الله. نعم إنه القائل صدقاً بعد تجربة من العمل الشاهد حقاً: «ماضون على نهج الإمام حتى الرمق الأخير» ذلك الإمام الذي قال فيه عند إصداره لحكم تنصيبه رئيساً للجمهورية: «وقد منَّ الله علينا إذ هدى الرأي العام لانتخاب رئيس جمهورية ملتزم ومكافح وعلى خط الإسلام المستقيم وعالم في الدين والسياسة».

 

2 ـ الأمة:

الأمة هي المخزون الضخم الذي تستمد منه الثورة عنصر المواجهة مع العدوّ في الجبهة الأمامية والخلفيَّة للمعركة; فحين تكون الأمة مستوعبة لقيم الثورة، مؤمنة بها، ملتفة بقيادتها، مستعدة للعطاء من أجلها، تكون الثورة مؤمَّنة إلى حد كبير من حيث متطلبات المواجهة الطويلة المدى، الواسعة الإطار في الكثير من ميادينها، وتعتمد الثورة في مواقعها الشعبية ـ للتسلّح بمقوّمات المواجهة الحاسمة مع الأنظمة الطاغوتية المبنيَّة بناء محكماً من ناحية تنظيمية وعسكريّة ـ على عنصر الإيمان الفاعل، والإرادة الحيَّة المتحركة، وروح العطاء والتضحية عند الأمة، في مقابل ما تعتمد عليه تلك الأنظمة السلطوية الدنيوية في هذه المواجهة من عنصر الإغراء المادي من جهة والإرهاب والبطش من جهة أخرى.

وإقدام القيادة والنخبة على المواجهة الحادّة مع أي نظام في حالة من غياب الأمة، وسقوط فكرها، أو تحجُّر ضميرها، أو شلل إرادتها إنما يعني ـ في الحالة الواعية غير الانفعالية، والحالة الخاضعة للتخطيط، غير المحكومة للفوضى والانفلات ـ انتحاراً رساليّاً، ورسالة دمويَّة إلى فكر الأمة وضميرها وإرادتها، وصوتاً راعداً مزمجراً يخترق حالة الجمود والتحجّر الذي تعيشه الأمة في وعيها ووجدانها وفاعلية إنسانيتها.

والواضح أن ثورة كربلاء لم تجد الأمة التي ترتفع إلى مستوى كلفتها، وأكثر ما كانت تعاني منه الأمة في كثير من أقاليمها يوم ذاك الانحدار الهائل في مستوى الإرادة الإيمانية الفاعلة للتأثير السلبي المخطط على القيمة الإيمانية ومنطلقات الإيمان في النفوس من جهة، ولعوامل الإرهاب والتحقير والتقزيم التي توسَّل بهما الحكم الأموي للهبوط بنفسيَّة الأمة، مع القضاء على بؤر الوعي الثوري الإيماني في عملية تتبع واسعة لحملة الفكر العلوي والنماذج الرسالية الصلبة، والقادرة على الإشعاع والبعث من أبناء هذه المدرسة، وأمّا التقييم الفكري فأكثر من وقع في أسره أهل الشام مركز الخلافة الأمويَّة.

والإمام الحسين(عليه السلام) من أعرف النّاس بالنّاس من بعد زمانه وعلى مدى المستقبل البعيد، فكيف بأهل زمانه؟ فلم يكن الذي ينخدع بكلمة كاذبة أو وعد غير صادق أو تظاهرة ليس وراءها جدّ. اسمعه يضع النّاس كل الناس في إطار واقعهم الإيماني والنفسي والعملي وربما كانت ترمي كلمته الحكيمة بنظرها بصورة أخص إلى جمهور النَّاس في الخارج يومذاك ممن يراد لهم أن يشكلوا جمهور الثورة يقول(عليه السلام): «الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درت معايشهم فإذا مُحّصوا بالبلاء قل الدَّيانون» وتشهدُ في كلمته الأخرى فتوراً في إيمان النّاس وشللاً في إرادتهم الإيمانية: «ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه»، وهل تخفى عليه نفسية أهل الكوفة يومذاك وهو الذي وقف على أكثر من تجربة من نكوصهم وخيانتهم؟ يقول(عليه السلام): «أجل والله غدر فيكم قديم، وشجت عليه أصولكم وتأزرت عليه فروعكم، فكنتم أخبث ثمر، شجاً للناظر وأكلة للغاصب».

سقوط الأمة هذا السقوط الذريع، والقرار الأموي الحاسم بالإجهاز عليها انتماءً وهوية، وانعدام الفرصة لتربية الأمة وبعثها عن غير طريق الثورة وشهادةِ القيادة والصفوة، حدَّدت الطريق أمام أبي عبدالله(عليه السلام) لثورة الاستشهاد، وطلب النصر بموت الأباة الكرام في مواجهة الطغاة اللئام.

كانت الكلمة البركان طوع مقولة الشريف وقد جرّب كل وسيلة ممكنة لاستثارة الأمة كي تنتفض لدينها وكرامتها وذاتها، إلاّ أنها كانت من السقوط والجمود وضياع القيم بحيث لا يستيقظ لها ضمير ولا يهتز لها وجدان ولا تنبعث لها إرادة عن طريق الكلمة، ولو كانت كلمة الحسين(عليه السلام) البركان والثورة.

فلم يكن بدّ من لغة الدم الأقوى من البركان، والأكثر إشعاعاً من الشمس والأشد دويّاً من الرعود، وليس كل دم كذلك; فلا بد من دم الحسين(عليه السلام) والصفوة من عشاق الحسين(عليه السلام)، هذا الدم الفاعل المغيّر القهّار الذي يجدونه دون غيرهم ويجدون به كما لا يجود أحد.

ذلك الدَّم، وهو رسالي وجادٌّ وفوّار، هو الذي صنع الأمة الرسالية الجادة الثائرة، أمة الإمام الخميني، وأمة الثورة الشعاع; هذه الأمة التي تدفَّق شيبها وشبابها واليافعون من أبنائها على الجبهات وقصَدوا إلى القيادة يتوسلون أن تدعو لهم بالشهادة.

نعم قد نالت يد التغريب والتخريب الآثمة من أبناء إيران الإسلام، وهي يد النظام الشاهنشاهي القذرة، بما أفسد وخرَّب وشوَّه بالفعل وأحدث في هذا الشعب غربة بشعة عن الإسلام، وبعداً عملياً عن قيمه في مساحة كبيرة من حياة الكثير من أبنائه، إلاَّ أن أمصال الثورة كانت تصل بمادة الحياة والتعلق بالكرامة والحرية والمبدئية إلى أعماق إنسان هذه البلاد من أجيال ثورة كربلاء، عبر منبر الثورة وموكبها وشعارها وثقافتها وروحيتها وهادفيتها وتضحويتها مما لم يمكّن للخسف أن يصل بتدميره إلى الجذور، وأن ينال أصل الاستعداد للتفجّر يوم البركان ويوم ينادي سليل الحسين(عليه السلام) الخميني الكبير بـ «يا لثارات الحسين» فكانت كربلاء الثورة الأمّ تحضيراً لأمة تحمل رسالتها في يوم من الأيام وتتحمل أعباءها الثقيلة بكفاءة كما كان أنصار الحسين، وتحقق نصراً ساحقاً تحت قيادة مؤمنة فولاذية من صناعة مدرسة الحسين(عليه السلام).

والإمام الخميني(قدس سره) أعرف بعطاء كربلاء، وأكثر إيماناً بفضلها، وقد حرص أن تسجل كلماته الشريفة هذا الإيمان العميق تعليماً للأمة وتذكيراً لها وإصراراً على انشدادها بيوم الحسين(عليه السلام)، يقول(قدس سره): «وثقوا أن انتفاضة (15) خرداد لم تكن لتحدث لولا هذه المجالس والمواكب، ولولاها أيضاً لما استطعنا أن نحبط كل تلك المؤامرات العالمية التي تحاك ضدنا من جميع الجهات». وهو يرى أن هذا البكاء يصنع شعب الملاحم.

وكلمة أخرى: «البكاء على الشهيد هو لإبقاء الثورة حيَّة، وحتى الذي يُظهر الحزن على قسمات وجهه ويتباكى فهو يحافظ بدوره على هذه الثورة، ويشارك في المحافظة على ثورة الحسين» ومن هذه الكلمات المشاعل: «يجب أن نعلم جميعاً أن طريق الوحدة بين المسلمين هو هذه المراسم السياسيَّة، مراسم عزاء الأئمة الأطهار(عليهم السلام) ولا سيما سيد المظلومين وسيد الشهداء أبي عبدالله(عليه السلام)، وهي الصائنة لهوية المسلمين وبالأخص شيعة الأئمة الاثني عشر عليهم صلوات الله» والمآتم عنده(رضي الله عنه) تستثير عواطف الخير على طريق الثورة الإسلامية المباركة وتحشد الهمم، وتزرع التوق اللاهب للشهادة: «إن إقامة المآتم هي التي تحرك عواطف النَّاس وتجعلهم على استعداد للقيام بكل شيء، والنَّاس حينما يرون أن سيد الشهداء ضحّى بشبابه هكذا، فستهون عليهم التضحية بشبابهم، وهذا هو المعنى الذي انعكس على جميع جوانب ثورتنا، وإن جميع أبناء شعبنا يتمنون الاستشهاد في سبيل الله» فأمّة الثورة الخمينية المباركة هي من صناعة الثورة الحسينية المعطاء، وهذا ما تصرح به ثانية الكلمة الآتية: «إن مجالس العزاء والنياح على سيد المظلومين وإبراز مظلومية إنسان ضحَّى بنفسه وأولاده وأصحابه في سبيل الله ورضوانه، هي التي صنعت الشباب الذين توجهوا نحو جبهات القتال وهدفهم نيل الشهادة في سبيل الله، ويفتخرون بالاستشهاد ويحزنون إن لم يستشهدوا في هذا الطريق، وهي التي صنعت الأمهات اللاتي حينما يفقدن شبابهن يقلن: ما زال لدينا واحد أو اثنان من الأولاد، إن مآتم العزاء ودعاء كميل وسائر الأدعية هي التي تربي النّاس بهذه الصورة».

فثورة كربلاء وهي المدرسة الحيَّة المتحركة قادرة بما تزخر من دروس الفداء والتضحية والتلاحم والإيثار وتجاوز الذات، وبما يتفجر عنها من هدى ونور وأشواق إلى الله، وتتدفّق به من معاني المروءة والشجاعة والإباء، ويشع من كل جنباتها من وعي وبصيرة; قادرة على أن توجد أمة الثورة، وأجيال الجهاد.

ولقد كان إيمان السيد الإمام بالأمة التي صنعتها كربلاء وقيمها الرفيعة ودروسها الحيّة إيماناً كبيراً وثقته بها عالية، واهتمامه شديداً، وعنايته فائقة وتعويله عليها بعد الله واضحاً، ولم يفتأ تشيدُ كلماته بشعب الثورة وتضحياته الكبار وملاحمة البطولية الرائعة، وتهافته على الشهادة في سبيل الله وإعزاز دينه ومن أجل الأرض الإسلامية الغالية ومكتسبات الثورة المقدّسة. وهذه كلماته التي يعبر فيها عن إعجاب كبير بشعب الحسين(عليه السلام) شعب الثورة الشعاع فيقول: «لم ير التاريخ الإسلامي ـ سوى في برهة من تاريخ صدر الإسلام ـ شباباً مثل شباب إيران اليوم، ولم يسجل التاريخ في طياته عن شعب مثل شعبنا; ففي أي جزء من التاريخ يمكنكم العثور على شباب يندفعون بمثل هذا العشق للدفاع عن وطنهم وفي أي مكان شاهدتم شعباً يعشق الشهادة؟!».

ويقول: «إن المرأة التي فقدت ابنها في الحرب تأتي وتقدّم أبناءها الآخرين في سبيل الله (الإسلام)، ويأتي الشيخ الذي فقد ولده في الحرب ويطلب أن يذهب بنفسه إلى القتال ليستشهد في سبيل الإسلام، ويأتي شباب يطالبون بالدعاء لهم لكي يستشهدوا في سبيل الله».

وها هو يخاطب خريجي مدرسة عاشوراء في الفداء والعشق الإلهي: «أعزائي... يا من تنير للعالمين مجالس ذكركم ودعائكم ومناجاتكم في الليالي... وتضيء كالنجمة اللامعة في الجبهات... ويصمد يومكم كيوم عاشوراء أمام اليزيديين»، وتراه يسجّل بكل تواضع اعترافاً للأمة بدورها الضخم وينسى ذاته وعطاءاته الثرة وثوريته المحركة وقيادته الحكيمة أمام الشهيد (حسين فهميده) الذي له من العمر 12 عاما فيقول: «إن قائد الأمة هو ذلك الطفل الذي له 12 سنة من العمر، وإنّه بقلبه الصغير أكبر قدراً من مئات ألسنتنا وأقلامنا».

ويأتي تعبيره عن الاهتمام بالشعب المضحي والأمة المجاهدة واضحاً صريحاً مشفوعاً بالإشادة والتكريم: «هذا الشعب أوصلنا إلى هذه المنزلة، فالعمل لصالحهم واجب وخدمتهم واجبة، فليعلم السيد رئيس الجمهورية بأن أبناء الشعب الذين يسيرون في الأزقة والأسواق هم الذين أتوا به إلى هنا من باريس ليصبح رئيساً لهم فعليه القيام بخدمتهم، كما أن على السيد رئيس الوزراء أن يفكّر بهذا الأمر جيداً، لأنه يعلم أن هذا الشعب هو الذي تمكن أن يطلق سراحه من السجن ويجعله الآن رئيساً للوزراء، وكذلك أنتم أيها السادة المحترمون كانت بلادنا سجنا ومعتقلاً عظيماً ونحن السجناء فيه، وهذه الأيام التي نعيشها هي من صنع إرادة شعبنا». هذا من خطاب لبني صدر وبازركان، وفي خطاب لرجائي تغمده الله برحمته ولسائر المسؤولين عند رئاسته للجمهورية قال: «يجب عليكم أن تعملوا وتسعوا من أجل هذا الشعب الذي عانى طوال تاريخه، وضحّى بشبابه للقضاء على النظام البائد وجاء بكم إلى الحكم» وأضاف في السياق نفسه «فيجب عليكم جميعاً أن تبذلوا كل ما في طاقتكم من أجل خدمة المستضعفين والمحرومين الذين عانوا طويلاً من الاستضعاف والحرمان ولم يحسب لهم أي حساب، فكل ما كان يُنفذ كان يصب في صالح الطبقات المرفهة والغنية من المجتمع. عليكم دعم ومساندة المستضعفين الذين يضحّون بأرواحهم على الجبهات وخلفها».

وهكذا يصبّ الإمام الكبير اهتماماً مركزاً على أمة الإيمان والجهاد والعطاء والعناية بأمر دينها ودنياها، ملتفتا كثيراً إلى الطبقات المستضعفة والمحرومة لأنها وقود الثورة وخزين مادتها، ولأنها أول ما يكون عنها التشاغل والتغافل; فكم كانت الأمة وفيّة لقائدها؟! وكم كان قائدها وفيّا لها بحق وصدق؟!.

بقلب كبير يمدّه وثوقُه بالله، ورضاه بقدره، وتسليمه له صبراً وتفوقاً واستعلاء على ضغط المحن، واستحالةً على الذوبان.

جميع الحقوق محفوظة لدار الولاية للثقافة والإعلام أ‚آ©