تأثير الثورة الإسلامية على التيار الشعري

2009-01-22

 الثورة الإسلامية التي حدثت في إيران وتكللت بالانتصار في الحادي عشر من شباط عام 1979، لم تكن حدثاً مثل سائر الأحداث التي تحدث ثم تنتهي بعد فترة وجيزة، بل كانت حدثاً تاريخياً عظيماً لم يترك تأثيراً على إيران فحسب، بل على سائر أرجاء العالم، لاسيما العالم الإسلامي. ولم يكن هذا التأثير مقتصراً على صعيد دون آخر أو على البعد السياسي دون باقي الأبعاد، وإنما ترك بصماته الواضحة على جميع الأصعدة والأبعاد.

وليس من السهل تناول مثل هذا المستوى الواسع من التأثير، وإذ ليس بمقدور مثل هذا المقال إنجاز مثل هذه المهمة. ونكتفي فيه بإلقاء نظرة سريعة على التأثير أفرزته الثورة الإسلامية على الحقل الشعري باعتباره أكثر الألوان الأدبية تأثيراً بالأحداث وأسرعها في التعبير عن هذا التأثير وقولبته في قالب القصيدة، سيما وان الناس أكثر تفاعلاً مع الشعر وأشد التحاماً به.

 

شعر ما قبل الثورة

  لا يمكن أن نقول بإيجاز أنّ الثورة الإسلامية ومن خلال التغيير الجذري الذي أحدثته على الأصعدة كافة، ومن خلال التفاعل الجماهيري الواسع، استطاعت أن تفتح آفاقاً جديدة في الأدب الإسلامي لا سيما الشعر وأن تفسح المجال للشاعر كي يعبر عن مشاعره وخلجات نفسه بحرية كاملة، بعد أن كان يعيش حالة الخوف والكبت في عهد ما قبل الثورة.

كانت تعيش ما قبل الثورة فئة من الشعراء الذين ينطبق عليهم تعبير شعراء البلاط، فكانوا ينشدون الأشعار الرخيصة الهابطة إما في مدح النظام والتغني بأمجاده وانجازاته متجاهلين ما كان يمارسه من ظلم وإرهاب بحق أبناء الشعب، ومغلقين آذانهم عن سماع آهات المحرومين، وإما في الغزل الخليع الماجن الذي كانوا يحاولون من خلاله حجب الفضيلة والترويج للرذيلة، من أجل أن ينغمس الشعب - لاسيما الشباب - في الملذات والمفاسد متلهين بها عن رؤية جرائم الشاه وشلته.

وأما تلك الفئة القليلة من الشعراء الأحرار، فكانوا يحاولون ألاّ يصطدموا بالنظام بشكل مباشر لما كان يشكله ذلك من خطر على حياتهم، ولذلك كانوا سيتخدمون الرمز والاستعارة في بعض الأحيان للتعبير عن معاناة الشعب والظلم الذي كان يحيق به.

 

تغير القيم والموازين

  في ظل الثورة الإسلامية وبعد إرساء قواعد الجمهورية الإسلامية، تغيرت القيم والموازين والرؤى والتطلعات، أو بتعبير أصح عادت جميع هذه الأمور إلى مسارها الطبيعي، وهو المسار الإسلامي الأصيل، ولا بد على هذا الضوء من أن ينعكس في النبرة الشعرية، ولابد أن تأخذ الكلمة الشعرية مساراً جديداً معبراً عن ذلك التغير الجوهري.

ولم يقتصر التغير الذي طرأ على الشعر في عهد الثورة الإسلامية على التغير في المضمون والمحتوى، بل انعكس هذا التغير حتى على الإيقاع والوزن والقالب، فبات المتذوقون للشعر يلاحظون حالة الحماس والفرح والتفاؤل في شعر الثورة الإسلامية، بعد أن كانت حالة اليأس والروتين والرتابة تشم من شعر العهد الطاغوتي، فضلاً عما كان في ذلك الشعر من مجون وانحطاط أخلاقي وتملق مقزز.

 

نمط شعري جديد

  وقلما كان يلاحظ شعراء بحجم شعراء الثورة الإسلامية، لا سيما في إطار القالب الشعري الفارسي المعروف بـ «الغزل». فقد ازداد شعراء الغزل في العهد الثوري وظهر نمط جديد من الغزل راح يعرف بـ «الغزل الحديث»، وتحول إلى تيار مهم وقوي راح يستقطب الاهتمام، ويعبر عن طموحات الجماهير والثورة الإسلامية.

ولم يكن التغيير الذي طرأ على قالب «الغزل» مقتصرا على الفكرة، والمضمون، والاتجاه، والهدف، بل بات يتميز بخصوصيات جديدة أيضاً. فإذا كان الغزل السابق يعير أهمية للاستقلال المضموني لكل بيت من أبيات الغزل، فان الغزل الجديد أخذ يهتم كثيراً بوحدة الشعر العمودية.

شعراء الثورة الإسلامية ومعظمهم من الشباب، وجدوا في قالب الغزل، القالب الأمثل للتعبير عن العواطف، ولمفاهيم المعنوية والعرفانية، وترجمة خلجات النفس، والآمال التي تدغدغ القلوب في مستقبل مشرق في ظل الإسلام وقيمه وروحه الإنسانية، لقدرة هذا القالب على توفير الأجواء الشعرية المناسبة، ومساعدة الشاعر على التحليق في تلك الأجواء التي تمتزج فيها الحقيقة بالخيال، وجمال الكلمة بصدق الفكرة، وسحر الإيقاع بسمو الهدف..

التلاحم بين الشاعر والثورة الإسلامية، خلق استيعابات جديدة، وفتح آفاقاً لم يكن بمقدور الغزل القديم أن يفتحها، وانتقل بالشعر نقلة نوعية إلى الأمام، وبالمهتمين بالشعر إلى مرافئ جديدة يستشعرون عندها الأمن، ويتنهدون تنهيده الارتياح، وتلمع في عيونهم أمال عريضة ورائعة.

ويمكن ملاحظة هذا الغزل الثوري الحديث في دواوين شعراء مثل قيصر أمين بور، وحسين الحسيني، وحسين الاسرافيلي، وعلي رضا قزوة، وفاطمة راكعي، وبرويز بيكي، وعزيزي.

ورغم ظهور هذا النوع الجديد من الغزل، حاول بعض شعراء الثورة الإسلامية التوفيق بين الأسلوب القديم من الغزل والأسلوب الحديث، في محاولة منهم ربما لإرضاء تلك الفئة من أنصار الأسلوب القديم، أو لأنهم أرادوا من خلال ذلك عدم الانقطاع نهائياً عن الغزل القديم، ولأن هذا الأسلوب من وجهة نظرهم أكثر تأثيراً على العواطف من غيره.

ولم ينجح في هذا الأسلوب والذي بات يعرف بالغزل المطعم سوى الشاعر نصر الله المرواني، ولاسيما في ديوانه «ثورة النور»، و«رسالة دم الأرض»، رغم وجود نماذج كثيرة من غزلياته تحكي عن التسامح في الألفاظ والمعاني، وغياب الفكرة، والتركيز على التطعيم بآية حكمية.

 

الشعر الحماسي

  والحرب التي فرضت على الثورة الإسلامية وهي في بدايتها والتي استمرت على مدى ثمانية أعوام، تركت بدورها تأثيراً كبيراً على الشعر الثوري، فأخذت تطبعه بطابع الحماس، حتى تحول الشعر الحماسي إلى تيار قوي فاعل في الميدان الشعري المعاصر.

وأصبحت الثورة الإسلامية وبفعل الظروف التي مرت بها والتحديات الخطيرة التي واجهتها، المهد المناسب لظهور حركة شعرية حماسية كبرى، لا مثيل لها طوال تاريخ الشعر الفارسي، لا سيما في العصر الحديث.

فلو كنا نسمع في الشعر القديم بعض الألحان الحماسية من شعراء مثل جلال الدين الرومي، غير أن الثورة الإسلامية وفرت المناخ الملائم جداً لظهور شعراء حماسيين ودواوين شعر حماسي. فأخذ هؤلاء الشعراء الملتزمون يؤججون المشاعر، ويستنهضون الهمم، ويحركون الضمائر، ويفجرون الثورة في نفوس الجماهير من أجل الثبات على القيم، والدفاع عن الأهداف التي رسمتها الثورة الإسلامية، والالتفاف المستمر حول قيادة الثورة الرشيدة.

ورغم ما اتصف به الشعر الحماسي من حماسة تقتضيها طبيعته إلا انه كان مفعما أيضاً برقة الكلمة، وعذوبة الإيقاع، وعاطفة المضمون.

 

مفهوم الشهادة

  ومن المفردات التي أدخلتها الثورة الإسلامية إلى قاموس الشعر، هي مفردة «الشهادة»، فقد انتصرت الثورة الإسلامية بالشهادة وقطفت ثمرة النصر على أكتاف الشهداء، وانطلقت لتحقيق أهدافها الإلهية على ظهر بارجة الشهادة. ولذلك كان للشهادة موقع مهم في دواوين شعراء الثورة الإسلامية، فانطلق جيل الشعراء الجدد للتغني بهذه الكلمة المقدسة والترنم بأنشودة الشهادة، والتغزل بالشهيد، هذا الموجود المقدس الذي أراق دمه في محراب الفداء من اجل أن يبقى الإسلام صوتا مدويا في سماء الكون..

الشهادة في الواقع، كانت ولازالت من أعظم قيم الثورة الإسلامية، ومن المفاهيم التي زرعتها في قلوب الجماهير وأفئدتهم، لأنها تمثل وقود الثورة ورصيدها الذي يضمن لها الاستمرار والديمومة. فأصبح الشهيد رمزاً للعزة والكرامة والمجد.

تحدث الشاعر قيصر أمين بور عن الشهيد قائلاً:

أعطى هذا الأخضر بسخاء

كل ما لديه للشمس

عدا ذلك الثوب الأخضر

وصورة ذلك الكلام الإلهي

لان زاد طريق الشهيد ليس سوى

ثوب وكلام

وصورة للإمام

وتخاطب الشاعرة طاهرة صفار زادة الشهيد قائلة:

في أكثر أنواع الهجران عشقا

كانت عروقنا تنتفخ من الجذور

تمتد إليك

إلى الأرض

وليس هذا جاذبية أرضية

فأنت في آخر الأمر اتصال بالغيب

وفي نهاية المطاف حنان يعايشنا

أنت الذي أمسكت بأيدينا

وسحبتها إليك

وعبر الشاعر نصرالله مرواني عن رمز خلود الشهيد قائلا:

أبيها الشهيد المتلون كفنه بدمه

صدرك خندق إيمان تزين بالدم

لا يمحى احمرار دمك من التراب

قلبك مرآة الناظر في حقائق الأمور

اتصلت بالله في آفاق الشهادة

وهذا هو رمز الخلود

  الشهيد صانع الانتصار

 

 والحقيقة هي أن الشهيد يرمز إلى الفكر الإسلامي النقي، والى القيم الإسلامية الناصعة، ويعبر عن اتجاه الأمة نحو الدين بعد أن كان النظام الطاغوتي يحاول بمختلف الوسائل والسبل، جرها إلى كل ما ليس له صلة بدينها وعقيدتها، هذا الدين الذي وجدت فيه كرامتها وحياتها ومستقبلها.

وطالما تحدث شعراء الثورة الإسلامية عن الدور الذي لعبه الشهداء في تحطيم الأغلال الطاغوتية والأصفاد الفرعونية وتحرير العقول والأرواح والأجسام من كل ما يعيق انطلاقها نحو غد مشرق جميل.

يقول الشاعر حسين الاسرافيلي:

أطل الصبح

وحطم قلعة الليل شهاب سيف الأبطال

تحررت أقدام المحكوم عليهم بالإعدام

من السلاسل

وتحطم الليل عند هجوم غضب الأبطال

كان شعاع السحر يحمل علامة من كربلاء

كانت رائحة السحر، رائحة التحرير

رائحة دم الشهداء

أطل الصبح

وأنشرت الغابة لحنا أخضر

وبدأ ينهمر المطر في الحقل

ويرتفع صوت القرآن في الأزقة

وضمن هذا الإطار يتحدث الشاعر علي المعلم عن فترة ما قبل الاستشهاد والانتصار، عن تلك الأيام التي كان يجثم فيها الطاغوت على صور الأمة، قبل أن يكتسح إعصار الشهادة قصور الطغاة:

كان معيارنا في العلم عبادة التخريب

وكانت عبادتنا، عبادة إيران!

لقد ابتزوا كوروش ودارا المسكين

فأبقوا لنا مأساتنا واخذوا التخت والتاج

أدهشونا بكأس العبث

واحتسوا على مائدتنا دماءنا

أطفأوا مصباح العرفان

وأسدلوا ستار النسيان على الإيمان

لم يبق من الشعب إلا الظل

كنا في بيتنا، لكننا لم نكن.