الموقف من مؤتمر مدريد

2007-08-25

 

المناسبة: التآمر على القضية الفلسطينية في مؤتمر مدريد

الزمان: 8 ربيع الأول 1412هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

{ أذِنَ للَّذِينَ يُقاتَلونَ بأنَّهم ظُلِموا وأنَّ الله عَلى نَصْرِهمْ لَقَدير * الَّذين أخْرِجُوا مِنْ دِيارِهمْ بِغَيرِ حقٍّ إلاّ أنْ يقولوا ربُّنا الله ولولا دفعُ الله الناسَ بَعْضَهم ببعضٍ لهُدِّمَت صوامِعُ وبَيع وصلوات ومساجِدُ يُذكَرُ فِيها اسمُ الله كثيراً وَلْيَنْصُرنّ الله مَنْ يَنْصرُهُ إنَّ الله لَقَويّ عَزِيْز } .

 

ثمّة لحظات مصيرية حاسمة في تاريخ الشعوب تكون طبيعةُ القرار المُتَّخذ فيها ذات أثر فعّال على أحقاب من عُمر تلك الشعوب.. فإمّا أن يورّث الأجيالَ المرارة والحرمان، والذُلَّ والهوان، وأمّا أن يُتحِفَها بالحرّية والعزَّة والسؤدَد والسعادة. في تلك الأيام، حين انهالت أولى معاول الهدم الصهيونية على جذور المُواطنة الفلسطينية؛ على تلك الجذور العميقة المتأصّلة ليستبدلوا بها مُواطنةً كاذبةً مختلقة ليس لها أساس على أرض ترتبط بالمسلمين.. لو أنّ زعماءَ المسلمين والعناصِرَ الفاعلة في الأمّة ومِن ورائهم الجماهير كانوا قد سجّلوا آنئذٍ حضوراً واعياً ومقاومةً جادّةً، لما شهدت المنطقةُ اليومَ كلَّ هذه المصائب والمآسي، ولما تجرّعت مرارة الحنظل من هذه الشجرةِ الخبيثة المتمثّلَةِ بدولة الصهاينة، ولما عانت ما عانته شعوبُ المنطقة، وخاصّة الشعب الفلسطيني المظلوم خلال الأعوام الخمسة والأربعين الماضية.

 

في تلك الأيام شهدت الساحة خيانةً كبرى كانت مزيجاً من نذالةٍ اتّصف بها بعض ، وحبِّ جاه وسُلطان تجسّد في بعض آخر، ورغيد عيش نشدته جماعة ، وانعدام وعي ابتُلي به آخرون. وكانت النتيجة أن أريقت دماءُ آلاف الأبرياء، وهُتكت آلاف الأعراض، وهُدّمت آلاف البيوت، وتبدّدت آلافُ الثروات، وقُبرت آلافُ الآمال، وجرّت على شعبٍ بأسره آلافَ الأيام والليالي المؤلمة المرّة المقرونة بالجوع والتشريد والحرمان والدموع والآهات، في مخيّمات الاردن ولبنان، أو داخل الوطن المحتلّ تحت وطأة العدوّ وحرابه، وتعرّض آلافُ الناس ـ دونما ذنب ـ لأشدِّ نوائبِ الدهر، وآلاف الهموم غيرها مما لا يمكن أن يُذكر ولا يستطيع أن يتفهّم عمق مرارته الاّ من عانى الاحتضار التدريجي في المخيمات بجوار بيته المغتصب، أو داخل بيته الجاثم تحت حراب السيطرة الأجنبية. كلُّ هذا وذاك حصيلةُ تلك الخيانة الكبرى.. وتلك الخيانةُ استتبعت خياناتٍ أخرى.. وعواصفُ الخيانات هذه كم أزهقت من فضائل! وكم أماتت من معنويات! وكم أطفأت من جذوات!

 

كلُّ من كان بمقدورهِ ـ في ذلك اليوم ـ أن يفعَلَ شيئاً أو يقطعَ خطوة على طريقِ مقارعة هذا الظلم الفادح، ولم يفعل أو يخطُ؛ فانّه مستحقّ للعنةِ هذين الجيلين الفلسطينيين، ولحكم التاريخ المعاصر والمستقبل، ولعذاب الله وجزائه في يوم الحساب.. لا فرق في ذلك بين رجال السياسة ورجال الاقتصاد، ورجال الثقافة والآداب، ورجال الحرب والقتال.

 

واليوم نقف ـ مرة أخرى ـ أمام واحدة من هاتيك اللحظات المصيرية ونستشرف واحدً من تلك الامتحانات الشاملة.. المسألةُ أنَّ أمريكا تستهدف في بحبوحة ما يسمّى بانتصارات ما بعد انتهاء «الحرب الباردة»، وبفضل السكوت المُرعب المخيّم على بعض بلدان هذه المنطقة، وبالاستناد الى التواجد العسكري الغاصب في الخليج الفارسي، تستهدف أن تحلّ مشكلتها ومشكلة الصهاينة الغاصبين بحيث يتعرف العرب بإسرائيل، ويخمد صوت «فلسطين» الى الأبد.

 

وانّ تخلُّص اسرائيل من قلق وهمّ معارضة الدول العربية سيسفر ـ أولاً ـ عن توفير الفرصة لربيبة أمريكا كيما تؤدّي مهمّتها الرئيسة، أي قمع الحركات الاسلامية في المنطقة باعتبارها أكبر خطرٍ جادٍّ يُهدّد أمريكا. ثمّ إنّه ـ ثانياً ـ سيوطّد نفوذ أمريكا في بلدان هذه المنطقة ذات الأهمية الحيوية، ويجعل من المنطقة بيتاً آمناً للأمريكيين، ويخلو الجوُّ للشيطان الأكبر في الشرق الأوسط كي يفعل ما يشاء دونما رادعٍ أو مانعٍ. ثم هو ـ ثالثاً ـ سيحقّق لإسرائيل انتصاراً جديداً على طريق تحقيق آمالها في توسيع رُقعة احتلالِها وتحقيق املها في احتلال المنطقة الممتدة من «النيل الى الفرات».

 

انّ العدوّ يستهدف أن يقتطع ـ مرة واحدة ـ فلسطين من جسد العالم الاسلامي، وأن يُبقي الشجرة الملعونة الصهيونية في ديار المسلمين. وأنّ أمريكا ترومُ بتثبيت النظام المحتل أن تُمسكَ بكلِّ شرايين الحياة في هذه المنطقه الحسّاسة، وتخلّص نفسها من هاجس الصحوة الاسلامية في الشرق الأوسط وأفريقيا. وانّ أعداء الاسلام يريدون بهذا أن يُنفّسوا عن كلّ أحقادِهم الدفينة تجاه الاسلام، وينتقِموا لكلِّ ما مُنوا به من هزائم في السنوات الأخيرة على أثر يقظة المسلمين.

 

هذه الواقعةُ لا يمكنُ مقارنتها بأيّة واحدةٍ من المؤامرات التي حيكت ضدّ الشرق الأوسط خلال الأعوام الأخيرة. فالحديثُ هنا حديث عن اغتصاب وطنٍ بأكمله وتشريدِ شعبٍ بأسره تشريداً مستمرّاً أبدياً، وانتزاع شلوٍ من جسد العالم الاسلامي، ومركزٍ جغرافي للوطن الاسلامي الكبير، وقبلةٍ أولى للمسلمين انتزاعاً نهائياً.

 

في هذه البرهة الخطيرة، يجب على المسلمين أن يتحمّلوا مسؤولياتهم، وأن يرتفعوا إلى مستوى الواجب الاسلامي المُلقى على عاتِقهم. إنّها ـ من جانب ـ مسؤوليةُ صيانةِ الأرض الاسلامية، وتلك من ضروريات فقهِ المسلمين؛ وهي ـ من جانب آخر ـ استجابة لاستغاثة شعب مظلوم ورسول الله (ص) قال: «من سَمِعَ مسلماً ينادي يا للمسلمين ولم يجبه فليس بمسلم»... ونداء الاستغاثة اليوم يتصاعد لا من فرد، بل من شعب بأكمله.

 

فالحكوماتُ المسلمة يجب عليها اليوم أن تتحمّل مسؤولياتها، وقوة الحكومات المسلمة ـ لو اتّفقت وتعاضدت ـ هي أشدّ من قوّة أمريكا. أمريكا تحتاجُ الى هذه المنطقة أكثر من احتياج المنطقة إليها. على الحكومات أن تعلم أنَّ إرادة الشعوب تقضي بأن تصرخ جميعاً معا: «لا» للإرادة المتجبّرة الأمريكية والاسرائيلية.. وهذا أضمن موقف لحـفظ الحكـومات نفـسها وحفـظ عـزّة البلدان الاسلامية وكرامتها. لا يُساورنَّهم خوف أو تزلزل من تهديد أمريكا أو تطميعها، ولا من ضغوط الاعلام الصهيوني وصحافته، بل ليستجيبوا لنداءِ الواجب الاسلامي والوطني.

 

وعلى الشعوب الاسلامية أن تعلم أنها هي أيضاً تتحمل من المسؤولية أمام الله وأمام التاريخ قَدَرَ ما تتحمله الحكومات. أنتم تستطيعون أن تحثّوا الحكومات على المقاومة تجاه الضغوط الاستكبارية، وأن تشدّوا على يدها في هذا الطريق. كما تستطيعون أن تخلقوا أخطاراً كبرى للحكومات التي تُعرِضُ عن القيام بهذا الواجب الحتمي.

 

وأنتم ـ يا علماء الاسلام، ويا حَمَلَةَ الاقلام، ويا أيها المثقّفون والطلاب في البلدان الاسلامية ـ تتحملون مسؤوليات أعجل. فأنتم تستطيعون أن تنبّهوا الشعوب على فداحة الخطب الذي تريدُ أمريكا وإسرائيل أن تحِلّه بالعالم الاسلامي، وتُعبّئوا الطاقات الشعبية الجبّارة لمواجهته. وعلى الحكومات التي تُعِدُّ نفسها لمسايرة هذه الخيانة أن تستشعر خطر غضبة شعوبها.

 

ومحور هذا الكفاح الحسّاس والخطير هو الشعب الفلسطيني الشجاع المظلوم، الذي عاش المصائب بكلّ وجوده، والذي يشكل خطراً عظيماً على العدو ببركة التمسّك بالاسلام وبجهاده المتواصل والمستميت داخل الوطن المحتل. المؤامرة الاستكبارية الكبرى تستهدفُ إطفاء شعلة هذا النضال. ولكنْ، وبحول الله وقّوّتهِ، وبهمّة الفلسطينيين الشجعان وبمعاضدة الشعوب والحكومات المسلمة، يجب أن تتصاعد هذه الشعلة باستمرار، لتأتي على آخر أبنية العدو ومرتكزاته الواهية، وسيتحقّق ذلك، وسيمنُّ الله بنصرهِ عليهم: { ولينصرَنَّ الله مَنْ يَنصُرُه إنّ الله لقويّ عزيز }. وليعلمَ العـدوّ أن أيّ تهديد وأيّ مكرٍ ـ بما في ذلك إسهام فلسطينيين متنكّرين لقضية فلسطين في المؤتمر الأمريكي ـ لن يستطيع أن يُثني عزيمة النفوس المؤمنة بواجبها الجهادي في تحرير فلسطين، عن هذا النضال الحق. وعلى الرغم من إرادة أمريكا وعملائها وبطانتها، فانّ جهاد الشعب الفلسطيني سيستمر، ولن تنطفئ هذه الشعلة المقدّسة بخيانة الساسة التابعين من الفلسطينيين والعرب.

 

إنّ علاج المؤامرة الأمريكية يتركز بالدرجة الأولى في داخل الأراضي المحتلة، وبيد المناضلين الفلسطينيين وسواعدهم القوية، لكنَّ جميع المسلمين يتحمّلون مسؤولية المساهمة في هذا الجهاد، وإغداق المساعدات عليهم بالمال وبالمواقف السياسية وبالمعلومات والمعدّات العسكرية.

 

والشعب الفلسطيني يجب أن لا يشعر بأنه وحيد في الميدان؛ والصهاينةُ والمسؤولون عن ذبح المناضلين الفلسطينيين وتعذيبهم يجب أن لا يحسّوا بالأمن في أية بقعة من العالم. يجب تشكيل صناديق الدعم ومراكز المساعدة والإسناد للفلسطينيين المناضلين في كلّ أرجاء العالم من قبل الحكومات والشعوب. ومن واجب كلّ الحكومات المسلمة فرضُ المقاطعة الاقتصادية على الدولة الغاصبة وعدم الاعتراف الرسمي بها، والشعوب، يجب أن تُبدي حساسيتها الفائقة في هذه المسألة.

 

بهذه الوسائل وبكلّ السبل الممكنة يجب التصدّي للمؤامرة القائمة حالياً وإحباطُ مفعولها. وعلى كلّ حال، فالمسألة الفلسطينية ليس لها سوى حلٍّ واحد لا أكثر، وهو إقامة الدولة الفلسطينية في كلِّ الأرض الفلسطينية.

أسأل الله سبحانه أن يَمُنَّ بالهداية والعون على كلّ الحكومات والشعوب المسلمة، ويعمّقَ في نفوسِهم الأملَ وروحَ النصر.

والسلام على عباد الله الصالحين..

علي الحسيني الخامنئي

25/7/1370هـ.ش

8 ربيع الثاني 1412هـ.ق