القضية الفلسطينية عند السيد القائد الخامنئي دام ظله

2007-08-23

اليوم هو يوم القدس. وقد نزل شعبنا إلى الشوارع ككل عام، استجابة لدعوة الإسلام ولدعوة الإمام الراحل وتلبية لاستغاثة مظلومة من شعب مظلوم ومغصوب الحق. وقد أخبروني أن مشاركة الشعب في هذه المسيرات كانت حتى الآن مشاركة فاعلة وحماسية، ولابدّ أن أخباراً لاحقة ستصل أيضاً وستنعكس أصداؤها في وسائل الإعلام. ومن المؤكد أن جماعات إسلامية في شتى أرجاء العالم ستشارك في تكريم هذا اليوم، وستصلنا تفاصيل ذلك في ما بعد. وأنا أريد التحدث اليوم حول هذه القضية.  

القضية الفلسطينية وصمة عار كبرى في هذا القرن

أولاً يجب القول أن القضية الفلسطينية واحدة من وصمات العار الكبرى في هذا القرن الذي شارف على نهايته. إن وصمات العار على جبين هذا القرن كثيرة، ومنها أنه وقعت فيه حربان طاحنتان، ونُصبت فيه حكومات كثيرة على أيدي مستعمري الأمس ومن جملتها بلدنا. وفي هذا القرن ظهرت حكومة القمع والجور والاضطهاد البهلوية الفاسدة العميلة. ومن جملة القبائح التي وقعت في هذا القرن ـ الذي اتّسم أيضاً بمحاسن ولكنها ليست موضع بحثنا حالياً ـ أو ربّما يمكن القول إن أقبحها هي القضية الفلسطينية؛ وذلك لأنهم طردوا شعباً من بلده ـ أرجو من الشباب الذين ليس لديهم اطلاع مسبق بالقضية الفلسطينية التأمل والتمعّن في هذه الكلمات ـ وجمعوا حفنة من الناس من أرجاء العالم وأحلّوهم محلّ أبناء ذلك الشعب، بدعوى أن الشرذمة التي جمعوها من أكناف العالم تعود إلى عنصر واحد وهو العنصر الاسرائيلي، أو العنصر اليهودي! أي أن هذا العمل عمل عنصري قبيح. وهذا العمل فيه خزي وعار على كل من يقوم به في أي مكان في العالم حتى وإن كان على نطاق أضيق. في حين أنهم مارسوا هذا العمل على نطاق بلد كامل. فمن هي الجهة التي قامت بهذه الفعلة؟ في الحقيقة إنها بريطانيا ومن بعدها أمريكا.  

القضية الفلسطينية لم تنته قط

يلاحظ اليوم إن البعض يتوجّه باللائمة إلينا بسبب بحثنا للقضية الفلسطينية على اعتبار أنها قد انتهت وأغلق ملفّها. وأنا أقول إن هذه القضية لم تنته قط ولن يبقى الفلسطينيون أصحاب الأرض وأولادهم خارج أرضهم إلى الأبد، كما يتوهمون، أو إذا كانوا في داخل أرضهم يعيشون كأقلية مقهورة ومضطهدة، ويبقى أولئك الغاصبون الأجانب فيها. فهذا شيء غير ممكن. فحتى البلدان التي اخضعت مائة سنة لتسلط قوّة أخرى ـ كما هو الحال بالنسبة لقزاخستان وجورجـيا وهما من بلدان آسيا الوسطى التي استقلت حديثاً ـ كـان بعضها خاضعاً للاتحاد السوفيتي، وبعضها الآخر كان خاضعاً لروسيا قبل ظهور الاتحاد السوفيتي. فهذه البلدان نالت استقلالها من جديد وعادت إلى أهاليها وشعوبها. ولهذا فلا يُستبعد بل من المحتم أن فلسطين ستعود للشعب الفلسطيني وسيقع هذا الأمر بإذن الله. ومعنى هذا أن القضية الفلسطينية لم يُغلق ملفها، والتصور بأنها انتهت وختمت، تصور خاطئ.  

الدعوة إلى السلام مقدمة لعدوان لاحق

إن من جملة الأساليب التي يستخدمها الصهاينة وحماتهم وعلى رأسهم أمريكا، هو استغلال مصطلح "السلام" الجميل. فهم يدعون إلى السلام ويشيدون به كثيراً. ولكن أين هو السلام، ومع من؟ فالذي يدخل دارك بالعنف ويضربك وينكل بزوجتك وأطفالك ويحتل غرفتين ونصف من مجموع الغرف الثلاثة التي في دارك، ثم يتوجّه إليك باللوم على معارضته أو التشكّي منه، ويدعوك إلى التصالح معه وإقرار السلام. فهل هذا سلام؟ السلام هو أن يخرج المحتل من الدار المغصوبة وإذا بقيت بين الجانبين حرب، يمكن التصالح بعدئذ. أما إذا بقي الغاصب جاثماً في الدار وبعد كل الجرائم التي ارتكبها، ولو كان بمقدوره لما تورّع عن أية جريمة أخرى؛ فها هو العدو الصهيوني يهاجم في كل يوم جنوب لبنان، وهو لا يغير على المقاتلين اللبنانيين، وإنما يستهدف قراه ومدارسه، كما حدث قبل عدّة أيام حين هجم على مدرسة هناك وقتل عدداً من الأطفال؛ وهؤلاء لم يحملوا السلام ولم يقوموا بأي عمل عسكري. ولكن هذه هي طبائع المعتدي. فالصهاينة حينما دخلوا لبنان ارتكبوا فيها المجازر، وهكذا فعلوا أيضاً في دير ياسين وغيرها من الأماكن الأخرى، وقتلوا أناساً لم يقوموا بأي عمل ضدّهم، أو أن أولئك الضحايا على الأقل لم يقوموا بأي عمل ضدهم. إلاّ أن الشباب العربي الغيارى هبّوا لمحاربتهم بسبب احتلالهم لأرضهم وما ارتكبوه من أعمال اجرامية. أما الناس الذين لاقوا كل ذلك الاضطهاد والظلم منهم وذبحوهم وأخرجوهم من ديارهم ومزارعهم فإنهم لم يكونوا قد مارسوا أي عمل عسكري ضدّهم. ومعنى هذا أن طبيعة هذا النظام طبيعة عدوانية.

لقد أقيم الكيان الصهيوني أساساً على العنف والقهر والقسوة، وبدون هذه الأساليب لم ولن يكون قادراً على البقاء. فأي سلام هذا الذي يدعون إليه؟ إذا اقتنعوا بحقّهم وأعادوا فلسطين إلى أصحابها وذهبوا على سبيل حالهم، أو استأذنوا من الحكومة الفلسطينية بالعيش على هذه الأرض، كلهم أو بعضهم، فلن يحاربهم أحد. أما الحرب الحالية فهي لأنهم اقتحموا دار غيرهم واستولوا عليها بالعنف وشرّدوا منها أهلها ولازالوا يضطهدونهم ويمارسون عدوانهم ضد دول المنطقة ويشكلون تهديداً لها. وعلى هذا فهم يدعون الى السلام من أجل اتخاذه كمقدمة لعدوان لاحق يشنّونه على نحو آخر.  

أقبح ألوان الخداع والتضليل الاسرائيلي

من جملة الأمور المطروحة في الوقت الحاضر من أجل وضع القضية الفلسطينية في أدراج النسيان والحيلولة دون تداولها على صعيد الرأي العام للأمة الإسلامية هي المباحثات المسماة بمباحثات السلام الجارية حالياً بين فئة من الفلسطينيين وهم عرفات وجماعته ـ وبين الإسرائيليين؛ أي موضوع المساومة وما يسمى بإدارة الحكم الذاتي الفلسطيني وما شابه ذلك من هذه المزاعم. وهذه بحد ذاتها واحدة من أقبح ألوان الخداع والتضليل الإسرائيلي التي وقع في حبائلها وللأسف عدد من المسلمين وعدد من الفلسطينيين أنفسهم. فمن جملة الأمور التي يتحدثون عنها في الوقت الحاضر هي المباحثات الجارية بين هذه الجماعة وقادة إسرائيل، وهي واحدة من أقبح وأبشع تلك الأساليب؛ وذلك لأن التعهدات الإسرائيلية التي قدّموها في آخر مباحثات لهم ـ وهي مباحثات (واي ريفر ـ 2)، على حد تعبيرهم ـ لو تحققت بأجمعها فلن تنال هذه الجماعة الفلسطينية المسكينة سوى أكثر قليلاً من أربعة بالمائة من مجموع الأرض الفلسطينية. أي أن الأرض الفلسطينية التي تعود كلها للشعب الفلسطيني، يقدّمون له أربعة بالمائة منها. وهذه الأربعة بالمائة ليست كلها مجتمعة في مكان واحد، وإنما تتألف من حوالي عشرة مواضع متفرقة، يقدّمونها لجماعة سوداء الوجه دعوها لتشكيل حكومة على تلك الأرض، ولكنهم لم يسمحوا لها بممارسة مهامّها كحكومة، وإنّما استخدموهم ضد الفلسطينيين لكي لا يقوموا بعمل مضاد لإسرائيل في تلك المناطق. أي أنهم قدّموا لهم مساحة صغيرة ومحدودة ومتفّرقة وغير قابلة للإدارة وبشكل ناقص ليقيموا عليها دولة، ويجب عليهم مقابل ذلك القيام بواجبات الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ضد المناضلين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، هذا فضلاً عن الدور الذي تمارسه الأجهزة الأمنية الإسرائيلية نفسها هناك. فهل هناك خيانة أسوأ من هذه؟!  

أعظم خيانة بحق الشعب الفلسطيني

إنّ الخيانة التي يرتكبها الذين يمارسون هذا العمل باسم الفلسطينيين أسوء وأبشع وأنكى من جميع الخيانات التي اقترفت ضد فلسطين حتّى يومنا هذا! ولم يقدّموا للشعب الفلسطيني شيئاً ولن يستطيعوا أن يقدّموا له أي شيء. وقد كتب كاتب فلسطيني عربي مقيم في أمريكا أن جماعة عرفات لم تتمكن إلى الآن من جمع القمامة من شوارع مدينة غزة، لكنهم استطاعوا خلال هذه المدّة إيجاد خمسة أجهزة أمنية ومخابراتية أخذت تمارس نشاطها في التجسس على أبناء الشعب! فهل هذه هي الدولة الفلسطينية؟ وهل هذه هي عودة الشعب الفلسطيني؟ وهل هذا هو احقاق حقوق الفلسطينيين؟ إنهم عديمو الحياء إلى هذا الحد!

لقد قلتُ عندما دخل هذا الشخص في أول مباحثات له مع الإسرائيليين، إنه شخص خائن وأحمق؛ فهو لو كان خائناً ولكنه عاقل، لقام بعمل أفضل من ذلك! وأنا لا أدري على وجه الدقّة ولكنني أحدس أن الأمريكيين وأجهزة التجسس الإسرائيلية تستغل نقاط ضعفهم؛ فهم يعانون من نقاط ضعف كثيرة، ومنغمسون في حب الدنيا. فحينما ينعدم الدين، تجري الأمور على هذه الشاكلة، والله وحده يعلم بمدى المشاكل التي تورطوا فيها مالياً وسلوكياً وأخلاقياً طوال هذه السنوات التي مضت، ويبدو أن أولئك [الأمريكيين والإسرائيليين] قد ركزوا على نقاط الضعف هذه. ومن جهة أخرى فإن الإعياء والتوقف عند منتصف الطريق والتراجع عن الأهداف هو الذي أدى بهم إلى الوقوع في هذه الورطة الرهيبة، وهذا المستنقع المهلك، وهذا الشقاء، وهذه اللعنة الأبدية. فهل تتصورون بوجود شخص فلسطيني لا يلعنهم من أعماق قلبه، إلاّ أن يكون في عداد جلاوزتهم، وشريك لهم في المصالح؟ يوجد بين أربعة إلى خمسة ملايين فلسطيني مشرّد خارج أرضه، وحوالي ثلاثة ملايين يعيشون داخل الأرض المحتلّة، وهؤلاء يجب أن يؤخذ رأيهم حول فلسطين بنظر الاعتبار؛ فهؤلاء قبضاتهم مشدودة وقلوبهم مليئة غيضاً.  

القضية الفلسطينية قضية إلهية

هذه التحديات كنت قد عرضتها على بعض الدول العربية منذ عهد رئاستي للجمهورية، وأَثَرتُ هذه الأمور أمامها، إلاّ أن حكومات تلك الدول كانت تقول إننا لسنا فلسطيـنيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم، ويجب القبول بما يريدونه هم. وطبعاً لم تكن مفاوضات السلام مطروحة حينها على هذه الصورة، إلاّ أن معالمها كانت تلوح في الأفق.

أجل، إن القضية الفلسطينية تمثل أولاً قضية العالم الإسلامي. وفضلاً عمّا فيها من جوانب أمنية وسياسية واقتصادية، فهي قضية تكليف إسلامي، والأهم من كل ذلك هو أنّها قضية إلهية. أمّا إذا كان الشخص لا يؤمن بالله ويريد العمل من أجل الشعب الفلسطيني فقط يجب عليه الامتثال لإرادة الشعب الفلسطيني. الشعب الفلسطيني اليوم هم أولئك المعتقلون في سجون الكيان الغاصب، والعشرات من أمثالهم الذين يردّدون الهتافات وينفّذون العمليات ضد إسرائيل في المسجد الأقصى وفي الأسواق والشوارع وفي كل أرجاء الأرض السليبة. وإذا كانت هناك أقلية صغيرة دفعتها الأطماع إلى الدخول في مفاوضات التساوم فهي لا تمثل الشعب الفلسطيني كي نقول إننا لسنا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم. لازلت أتذكر أن هذا الكلام قالته قبل أربع عشر سنة دولة عربية ـپپلا أودّ ذكر اسمها ـ لم يكن يبدو إنها آيلة إلى الفساد بسبب ما لهم من ماضٍ ثوري، وشعرتُ منذ ذلك الوقت إنها أخذت في الانحراف، ثم أخذ انحرافها يتجلى أكثر فأكثر. ولا أريد الإشارة هنا إلى خصائصها الأخرى.  

أساس القضية الفلسطينية

ما هو أساس القضية الفلسطينية؟ أساسها هو أن حفنة من اليهود المتنفذين في العالم راودتهم فكرة تأسيس وطن مستقل لليهود، وقد استغلت الحكومة البريطانية هذه الفكرة من أجل حل مشكلتها. وكان اليهود قبل ذلك يفكرون في التوجه إلى أوغندا وتأسيس وطن قومي لهم هناك. وفي وقت آخر كانوا يفكّرون في تأسيس وطن لهم في طرابلس عاصمة ليبيا، وتقدّموا بطلبهم ذاك إلى الإيطاليين الذين كانوا يحتلون طرابلس في حينها، إلاّ أن الإيطاليين رفضوا طلبهم. وفي ختام المطاف اتفقوا على هذه الغاية مع الإنجليز الذين كانت لهم في ذلك الوقت أغراض استعمارية خطيرة للغاية في الشرق الأوسط، ورأى الانجليز حينذاك أن من المفيد بالنسبة لهم استقدامهم إلى المنطقة كأقلية في أول الأمـر ثم يزدادون تدريجياً ويتخذون لهم بقعة من الأرض في موقع حساس ـ لأن فلسطين تقع في منطقة حساسة ـ ثم يقيموا لهم دولة فيها لتصبح في المستقبل حليفاً لبريطانيا وتحول دون ظهور اتحاد بين دول العالم الإسلامي وخاصة بين الدول العربية في المنطقة. صحيح أن الآخرين إذا كانوا واعين يصبح العدو سبباً لاتحادهم، غير أن العدو الذي يتلقّى كل هذا الدعم الخارجي يستطيع بث بذور الاختلاف والفرقة بواسطة أساليبه الجاسوسية وغيرها من الأساليب الأخرى. وهذا هو ما فعله تماماً؛ فهو يقترب من جهة ويضرب الجهة الأخرى، وينكل بجهة ثالثة، ويَغير على جهة رابعة.

وخلاصة القول هي انهم تلقوا الدعم من بريطانيا بالدرجة الأولى، وبعض الدول الغربية الأخرى، ثم انهم انفصلوا تدريجياً عن بريطانيا وارتبطوا بأمريكا، وقد احتضنتهم أمريكا تحت جناحها حتى وقتنا الحاضر. لقد جاءوا واحتلوا أرض فلسطين وأوجدوا لهم دولة بهذه الصورة. وكان الاسلوب الذي اتبعوه لبسط سلطتهم على هذه الأرض هو أنهم لم يأتوا في بداية الأمر عن طريق الحرب وإنّما جاءوا عن طريق الحيلة، وعملوا على شراء الأراضي الفلسطينية الواسعة الخصبة التي كان الفلاحون والمزارعون العرب يعملون فيها، بأسعار مضاعفة من مُلاكها ـ الذين كانوا يعيشون في أمريكا وأوربا ـ وكانوا يترقّبون مثل هذه الفرصة، فسارعوا إلى بيع أراضيهم لليهود. وكان لهم سماسرة طبعاً ساعدوهم على شراء تلك الأراضي، حيث يُنقل أن أحد سماسرتهم كان السيد ضياء شريك رضا في انقلاب عام 9921[ه ش] الذي ذهب من إيران إلى هناك وعمل كسمسار لشراء الأراضي من المسلمين لليهود والإسرائيليين. وما أن أصبحت تلك الأراضي ملكاً لهم حتى عملوا تدريجياً على إخراج المزارعين منها بأساليب وحشية وقاسية، كالضرب والقتل. وعملوا حينذاك على استمالة الرأي العام العالمي إلى جانبهم بأساليب الكذب والتضليل.  

أسس التسلط الصهيوني الغاصب على فلسطين

لقد قام التسلط الصهيوني الغاصب على فلسطين، على ثلاثة أسس، هي:

أولاً: استخدام اسلوب الشدّة والقسوة مع العرب، حيث اتسّم اسلوب تعاملهم مع أصحاب الأرض الأصليين بالعنف والهمجية، وبعيداً عن كل أساليب اللين والمرونة.

ثانياً: الكذب على الرأي العام العالمي، وقد اتخذ اسلوب الكذب هذا طابعاً مثيراً للدهشة. ومارسوا أساليب الكذب والتضليل قبل اغتصابهم لأرض فلسطين وبعده، حتى أن الكثير من الرأسماليين اليهود صدقوا تلك الأكاذيب، بل إنهم خدعوا بها أشخاصاً كالكاتب والفيلسوف الاجتماعي الفرنسي "جان بول سارتر" الذي كُنا في أيام شبابنا ولهين به وبأمثاله؛ فهذا الفيلسوف ألّف كتاباً قرأته قبل ثلاثين سنة كتب فيه "شعب بلا أرض، وأرض بلا شعب". أي أن اليهود كانوا شعباً بلا أرض وجاءوا إلى فلسطين التي كانت أرضاً بلا شعب. كيف يدعي أنها كانت أرض بلا شعب؟ بل كان فيها شعب يسكن ويعمل، وهناك شواهد كثيرة تثبت هذا الرأي. فقد ذكر أحد الكتاب الأجانب أن أراضي فلسطين كانت تغطّيها مروج خضراء على امتداد البصر من مزارع الحنطة. فكيف يزعم أنها أرض بلا شعب؟! لقد صوّروا للعالم وكأن فلسطين كانت أرضاً بائرة وبائسة ومهجورة، وهم جاءوا وعمرّوها. هذا هو الكذب على الرأي العام.

حاولت تلك الجماعة أن تصور نفسها على الدوام وكأنّها مظلومة، ولازالت تتبع هذا الاسلوب في الوقت الحاضر. فالمجلات الأمريكية مثل مجلتي "التايم" أو "نيوزويك" اللتين أراجعهما في بعض الأحيان، إذا وقعت أدنى حادثة لعائلة يهودية، تسارع إلى نشر صور وتفاصيل وعمر القتيل وتضخّم مظلومية أطفاله، ولكنها لا تشير حتى بأدنى أشارة إلى مئات وآلاف المآسي والمصائب التي تحل بالشباب الفلسطينيين، والعوائل الفلسطينية، والأطفال الفلسطينيين، والنساء الفلسطينيّات في داخل الأرض المحتلّة وفي لبنان!

ثالثاً: اسلوب الاتصالات وتكوين العلاقات والتواطؤ وممارسة الضغوط، وهو ما يسمونه باللوبي. ويقوم هذا الاسلوب على مبدأ الاتصال والتفاوض مع الساسة والمثقفين والكتاب والشعراء واستمالتهم إلى جانبهم والتواطؤ معهم. وهذه هي الأساليب الثلاثة التي استطاعوا بواسطتها الاستيلاء على هذا البلد.

وفضلاً عن كل ذلك فقد وقفت القوى الأجنبية إلى جانبهم؛ وأهم تلك القوى هي بريطانيا والأمم المتحدة. وقبل الأمم المتحدة عصبة الأمم التي أنشئت بعد الحرب لإقرار ما يُسمى بقضايا السلام. وحصل الصهاينة دوماً على دعم تلك القوى، إلاّ في حالات معدودة. ففي عام 8491 أصدرت عصبة الأمم قراراً قسّمت بموجبه فلسطين بدون أي سبب، وأعطت لليهود سبعة وخمسين بالمائة من أرض فلسطين، في حين لم يكن لهم قبل ذلك التاريخ سوى خمسة بالمائة منها. ثم إنهم أقاموا دولة هناك وأخذوا يشنون الهجمات على القرى والمدن والبيوت وعلى المواطنين العزّل الأبرياء. إضافة إلى أن الدول العربية قصّرت بعض الشيء. ثم وقعت بعد ذلك عدة حروب؛ ففي حرب 6791 استطاع الإسرائيليون أن يحتلوا بمساعدة أمريكا والدول الأخرى مساحات من أراضي مصر وسوريا والأردن. وبعد حرب عام 3791 استطاعوا بمساعدة تلك القوى أن يكسبوا نتيجة الحرب لصالحهم ويستحوذوا على أراضٍ أخرى.  

الأهداف الإسرائيلية

إن هدف إسرائيل هو التوسع، وهي لا تقنع بأرض فلسطين وحدها. فهم في بداية الأمر كانوا يريدون الحصول على شبر واحد، ثم احتلوا نصف فلسطين، ثم احتلوا فلسطين كلها، ثم اعتدوا على الدول المجاورة لفلسطين ـ كالأردن وسوريا ومصر ـ واحتلوا مساحات من أراضيها. والهدف الأساسي للصهيونية حالياً هو إنشاء إسرائيل الكبرى. إلاّ أنهم قلّما يذكرون هذه التسمية في هذه الأيام، وغالباً ما يحاولون التستّر عليها، في محاولة منهم لتضليل الرأي العام؛ وهو ما يفرض عليهم التكتم على أهدافهم التوسّعية في الوقت الحاضر لأنهم يواجهون معضلة عسيرة وهي الحاجة الماسّة إلى السلام؛ وسبب ذلك هو أن الصهاينة في الفترة الممتدة منذ عام 7491 إلى عام 7691 لم يتعرضوا لأيّ عمل نضالي، ومع ذلك فهي لم تمض على ما يرام. ثم بدأ بعد ذلك الكفاح المسلح الذي كان ينطلق من خارج الأرض الفلسطينية؛ حيث اتخذت منظمة التحرير الفلسطينية وبقية الفصائل من الأردن وسوريا وغيرهما مراكز لنشاطها وأخذت تبعث المجاميع المسلّحة التي كانت تعتمد مبدأ الكرّ والفرّ، ولم تشكل آنذاك داخل الأرض المحتلة خلايا للمقاومة؛ وذلك لأن الفلسطينيين في الأرض المحتلة كانوا يعيشون حالة من الرعب سلبتهم القدرة على القيام بأي عمل.

ولكن بعد إنبثاق الثورة الإسلامية وقع حدثين مهمّين:

الأول: هو أن المقاومة الفلسطينية التي كانت مقاومة غير دينية تحوّلت إلى مقاومة إسلامية واتّخذت طابعاً إسلامياً. وحتى العناصر التي كانت تمارس نشاطها من خارج الأرض المحتلة وتهاجم إسرائيل من لبنان أو من المناطق الأخرى، دخلت إلى الميدان بدافع إسلامي، وهو دافع قوي جداً.

الثاني: انبثاق الانتفاضة في الأرض المحتلّة والوطن المغتصب. وهم يخافون هذه الانتفاضة لأنها تشكل خطراً عليهم. ومن الطبيعي أنهم يحاولون عدم تصوير الأوضاع كما هي في الواقع لكن الحقيقة هي أن مقاومة الشعب الفلسطيني داخل فلسطين مؤثرة وقاتلة وتقصم ظهر الكيان الصهيوني؛ وذلك لأنهم قدموا الوعود لليهود الذين جمعوهم من شتى أرجاء العالم بأنهم سيعيشون هنا حياة رغيدة وآمنة وسعيدة، وقطعوا لهم العهود بأنهم سيكونون أسياداً في هذا الوطن. أما في الوقت الحاضر فهم لا طاقة لهم على مواجهة الجيل الناهض وأصحاب الأرض الأصليين الذين وعوا حالياً وزعزعوا أركان الكيان الصهيوني؛ ولهذا السبب فإن الصهاينة مضطرون حالياً لإقرار السلام مع دول المنطقة بأي نحو كان ليتسنى لهم التفرّغ لشؤونهم الداخلية. وقضية التصالح مع منظمة التحرير الفلسطينية وياسر عرفات هي امتداد لهذا التوجّه. فحاولوا المجيء بعنصر فلسطيني إلى مشروع التساوم لعلهم يستطيعون من خلال ذلك إخماد صوت الفلسطينيين الثائرين داخل الأرض المحتلّة. إلاّ أنهم لم يتمكنوا من ذلك. وفي ظل هذه الظروف لا يتجرأ الكيان الصهيوني الغاصب في الوقت الحاضر على المجاهرة بشعاره الأساسي وهو التوسع من النيل إلى الفرات. فأرض الميعاد التي ينادي بها الصهاينة حسب مزاعمهم الباطلة تمتد من النيل إلى الفرات، وكل ما لم يحتلّوه منها، يجب عليهم احتلاله في ما بعد. وهذه هي خطتهم إلاّ أنهم لا يتجرأون على المجاهرة بها في الوقت الحاضر.  

الموقف الإسلامي في القضية الفلسطينية

أما رأينا في هذا المجال فهو أن القضية الفلسطينية تعتبر من وجهة النظر الإسلامية قضية مركزية وفريضة على جميع المسلمين ومن جملتهم نحن؛ فجميع علماء الدين الشيعة والسنّة الماضون منهم والحاضرون يصرحون أن أرض الإسلام إذا وقع أي جزء منها تحت سيطرة أعداء الإسلام يجب على الجميع الجهاد لاستعادتها. فكل مسلم مكلف إزاء القضية الفلسطينية بواجب يجب عليه أداؤه حسب استطاعته وبأي نحو يتيسر له، وذلك بناءً على:

أولاً: أن هذه الأرض تعتبر من وجهة النظر الإسلامية، أرضاً إسلامية مغتصبة من قبل أعداء الإسلام، وتجب استعادتها منهم.

ثانياً: هناك ثمانية ملايين مسلم؛ بعضهم مشردون، وبعضهم الآخر يعيشون في ظل الاحتلال ظروفاً أسوأ من ظروف المشرّدين، ولا يستطيعون ممارسة حياتهم اليومية بشكل طبيعي، ولا يُسمح لهم بالإدلاء بآرائهم، ولا يحق لهم انتخاب ممثل عنهم لإدارة شؤون بلدهم، وفي الكثير من الحالات يمنعون من أداء صلاتهم. وقد أحرقوا في السنوات الماضية المسجد الأقصى وهو أول قبلة للمسلمين، ثم أخذوا لاحقاً يحفرون أرضه، ويريدون أساساً تغيير طابعه الإسلامي. وهذا ما يوجب على كل مسلم تكليفاً لا يمكنه التنصّل عنه، ويجب عليه العمل بما يستطيع منه.

إن ما يستطيع الشعـب الإيراني القيام به في الوقت الراهن ـ وهو أهم من كل الأعمال الأخـرى ـ هو التظاهرات كتظاهرات هذا اليوم، وهو عمل في غاية الأهمية. فهدف الصهاينة هو أن توضع القضية الفلسطينية في أدراج النسيان، بحيث ينسى الناس أن قضية كهذه كان لها وجود في يوم ما. إلاّ أنكم بعملكم هذا لا تسمحون لهم بتحقيق هذا الهدف، ويوم القدس لا يسمح لهم بذلك، وإمامنا الراحل بحكمته وتدبيره لم يسمح لهم بذلك. وهذا عمل كبير طبعاً.  

الجانب الإنساني في القضية الفلسطينية

أمّا من الوجهة الإنسانية فإن مظلومية العوائل الفلسطينية تلقي على كاهل كل إنسان واجباً؛ فالظلم الذي يتعرض لهم الشعب الفلسطيني في داخل فلسطين، وهو ما شاهدتهم جانباً منه في الأشرطة والأفلام التي عرضت في التلفزيون هذه الأيام، ظلم مرير. ومن العجيب أن منظمات حقوق الإنسان تبدو وكأنها ميّتة لا تحرك ساكناً إزاء هذا الظلم الفاحش، كما أن الأمريكيين وبعض الغربيين الذين يزعمون أن رسالتهم هي نشر الديمقراطية في العالم، قد فضحوا أنفسهم في هذه القضية؛ وذلك لأن هناك اليوم شعباً ليس بيده شيء من التأثير في مقدرات بلده ووطنه ولا يُسمع رأيه في أي مكان، وذلك هو الشعب الفلسطيني. فمن الوجهة الإنسانية هناك شعب مظلوم، وهناك على الجانب الآخر حكومة عنصرية. ورغم وجود كل هذا الظلم، نلاحظ هناك الكذب والزيف الفاضح من قبل أمريكا والمنظمات الدولية والمفكرين الغربيين الذين يدّعون مناصرة الديمقراطية!  

الخطر الصهيوني على الصعيد الأمني

أما من الجانب الأمني فإن إسرائيل تشكّل تهديداً أمنياً ليس لشعبها فحسب، بل لكل المنطقة؛ وذلك لأنها تملك في الوقت الحاضر ترسانة نووية وهي لازالت عاكفة على انتاج هذا السلاح. وقد وجّهت لها منظمة الأمم المتّحدة تحذيرات عديدة ولكنها لم تعرها أي اهتمام. ولاشك أن السبب الأساسي الكامن وراء هذا التمادي هو الدعم الأمريكي. أي أن قسطاً كبيراً من آثام الصهاينة يلقى على عاتق أمريكا. اعلموا أن مجلس الأمن أصدر طوال الخمسين سنة التي ظهر فيها الكيان الصهيوني، تسعة وعشرين قراراً ضد إسرائيل، وقد استخدمت أمريكا حق النقض (الفيتو) إزاء كل تلك القرارات التسعة والعشرين. أما في الوقت الحاضر، فهي لا تسمح منذ حوالي عشر سنوات ـ أي من بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق ـ بصدور أي قرار من مجلس الأمن ضد اسرائيل! إذاً فإثم كل هذه الجرائم يقع على عاتق أمريكا. فأمريكا التي تتظاهر بمظهر المحب للسلام وتبدي لجميع الشعوب ـ ومنها شعبنا الشريف المظلوم ـ ابتسامات مسمومة، هي المجرم الأوّل في القضية الفلسطينية، وإحدى جرائمها هي أن يديها ملطّختان حتى المرفق بدماء الفلسطينيين.

إنّ الكيان الصهيوني يشكل تهديداً لدول المنطقة. وحكومات سوريا ولبنان والدول الأخرى الموجودة هناك تواجه بعض المصاعب والمتاعب. وأمر الحكومات في معزل عن أمر الشعوب؛ فالشعوب في كل مكان قلوبها مليئة غيضاً. أما الحكومات فهي مضطرة تحت وطأة بعض الضغوط إلى الإدلاء بتصريحات ما، والدخول في المفاوضات واتخاذ بعض المواقف.  

الخطر الصهيوني على الصعيد الاقتصادي

أما على الصعيد الاقتصادي فإنّ إسرائيل تشكل خطراً على المنطقة. فالصهاينة المتسلطون على فلسطين طرحوا قبل مدّة مشروعاً تحت عنوان "مشروع الشرق الأوسط الجديد". فماذا يعني الشرق الأوسط الجديد؟ معناه الشرق الأوسط الذي يتشكّل حول محور إسرائيل ويتسنى لإسرائيل من خلاله بسط سيطرتها الاقتصادية تدريجياً على الدول العربية ودول المنطقة والمناطق النفطية في الخليج الفارسي. وهذا هو الهدف الذي يسعى إليه الإسرائيليون. وبعض الدول غافلة، وعندما تواجه بالاحتجاجات تعلن أنها لا تقيم علاقات معهم ولكنها سمحت لتجاّرهم بالمجيء! والحقيقة هي أن غايتهم هذه، فهم يريدون استغلال غفلة بعض الحكومات والدخول إلى هناك بحماية أمريكا وبدعم من ترسانتها الرهيبة، لغرض الاستيلاء على المراكز الاقتصادية والمصادر المالية. وهذا خطر جسيم على المنطقة، ويفوق في أهميته سائر الأخطار. عسى أن لا يأتي الله بذلك اليوم، ولن يأتي به، كما أن الشعوب المسلمة لن تسمح بذلك. إلاّ أن الخطة الصهيونية ترمي من خلال الاعتماد على الاقتصاد، الاستيلاء على جميع مراكز القوّة في هذه الدول. وهذا يعني أن وجود إسرائيل يشكل اليوم خطراً بالغاً على شعوب ودول المنطقة إسلامياً وإنسانياً وإقتصادياً وأمنياً وسياسياً.  

الحلّ الوحيد للقضية الفلسطينية

ليس هناك سوى سبيل واحد لحلّ قضية الشرق الأوسط وهو زوال الكيان الصهيوني، والمشردون الفلسطينيون يجب أن يعودوا إلى أرضهم. وهؤلاء الملايين الثمانية هم أصحاب فلسطين الحقيقيين. الغالبية العظمى من أبناء الشعب الفلسطيني مسلمون، ويوجد بينهم عدد من الفلسطينيين اليهود والمسيحيين. والشعب الفلسطيني هو الذي يجب أن يشكل الحكومة، وتلك الحكومة هي التي تقرر هل يحق للمهاجرين الذين قدموا من سائر البلدان إلى فلسطين ويعيشون فيها حالياً، البقاء فيها وضمن أية شروط، أو الخروج منها. والقضية هي وجوب تشكيل حكومة فلسطينية على كل أرض فلسطين. أما الألاعيب من قبيل إدارة الحكم الذاتي وما شابه ذلك، فليست قادرة اليوم على خداع أحد، إلاّ الناس السذّج جدّاً. وهذه الأمور كلها ليست ذات بال، والعمل الحقيقي والأصلي هو الذي يجب تطبيقه.

لقد وعت الأجيال الفلسطينية الشابة اليوم، وهي تعلم بمدى تأثير مقاومتها، وهي اليوم تسير على خط الجهاد والمقاومة في داخل فلسطين وفي خارجها؛ في لبنان والأردن وسوريا وغيرها من المناطق الأخرى، وتعلم أن لجهادها أثره، وأن الشعوب معها بقلوبها، وخاصة المواقف المجيدة والمشرّفة لشعب وحكومة إيران ونظام الجمهورية الإسلامية.. وهذا ما يشدّ من عزمها. فهؤلاء الشباب سيواصلون الجهاد وسيصلون بإذن الله إلى النتائج الأصلية التي ترضيهم.