معركة بدر.. انتصار المبادئ على القوة

2007-08-23

في السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة التقى الإيمان كله بالشرك كله في موقعة بدر الكبرى. وواجه مؤمنو المدينة مشركي مكة لأول مرة في أضخم عملية مواجهة منذ البعثة وفجر الرسالة. وقد جند المشركون للمعركة كل خيلائهم وعنجهيتهم، بينما خرج المؤمنون على قلة في العدد ونقص في العدة، يتعاقب الثلاثة أو الأربعة منهم ظهر واحد من الابل.

لماذا فعل رسول الله (ص) ذلك؟ وكيف أصبحت المواجهة تكليفاً في تلك الفترة من الصراع لأجل سيادة الإسلام؟ وهل كانت عير قريش حقاً هي الدافع نحو الاصطدام مع الكفر؟ وهل للمسلمين من (بدر) أخرى تعيد مجد الإسلام وتبعث في أمته الحياة الزاهرة من جديد.

تؤكد الروايات التاريخية أن رسول الله (ص) ندب أصحابه إلى الخروج وترك الخيار لهم، ضارباً بذلك المثل في طواعية القتال مع الكفر وخطورة توفر الدافع القائم على الإيمان والاعتقاد الجازم بصحة القضية التي يتم الخروج لأجلها. إلا هذا المبدأ لا يتعارض مع الانطلاق بجدية نحو (القتال) كمهمة تستدعي شروطاً لا بد من توفيرها. لذلك أرجع رسول الله (ص) بعض فتيان المسلمين كأسامة بن زيد وعبد الله بن عمر. وخرج لاثنتي عشر ليلة مضت من شهر رمضان.

وهكذا بدأ مسلسل الأحداث الذي قاد إلى الواقعة الشهيرة. فقريش التي رأت المسلمين يخرجون للتعرض لعيرها أقامت ثلاثاً تتجهز وتخرج أسحلتها، يعين بعضها بعضاً، يهيء له الزاد والعدد والقوة... ولم يترددوا حين الاستقسام بالازلام على عادتهم، إشراكاً منهم لآلهتهم المزيفة في معركة المواجهة الحاسمة. لقد كانت قريش تدافع عن أصل وجودها واعتبارها، فجندت لذلك كل شيء، حتى الأصنام والآلهة المزيفة.. وخرجت بالقيان والدفوف، على رأس تسعمائة وخمسين مقاتلاً...

أما رسول الله (ص) فأعد أصحابه لمعركتهم الأولى وفق الطابع الرسالي الخاص الذي صبغ أعماله ونشاطاته. فبعد بلوغه الروحاء ليلة الأربعاء في النصف من شهر رمضان، قال لأصحابه: هذا وادي الروحاء: أفضل أودية العرب.. ولما فرغ من صلاته لعن الكفرة ودعا عليهم، وحدد أعداءه بالاسم. قال: اللهم لا تفلتني أبا جهل بن هشام فرعون هذه الأمة...، اللهم امسخ عين أبي زمعة... ثم دعا لقوم من قريش كانوا قد أسروا الإسلام وخرجوا مع القوم مكرهين.

فلم يخرج الرسول (ص) للغنيمة، بل كان يهدف إلى قطع دابر الظلم، وإيقاف فرعون ذلك العصر عند حده وتخليص المكيين من طغيانه وشروره.

اختبار لجبهة المؤمنين

ولم يتأخر الرسول (ص) في الرجوع إلى من معه للتعرض على ردود فعلهم فيما يتخذ من قرار، فبعد أن أتته أخبار مسير قريش إليه، وقف في أصحابه خطيباً واستشارهم في الأمر وأحب أن يكونوا على علم بحقيقة الأمر. كما التفت إلى الأنصار وقال أشيروا عليّ، رغبة في تقدير حماستهم للقتال خارج المدينة. فأجابوه بما سره، قائلين فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر وخضته لخضناه معك ما بقي منا رجل واحد...

لقد كان هدف الخروج أذن وضع الإيمان والعهود على المحط، وفرز الصادقين وبدأ عمل الرسالة الحقيقي في الإشعاع والخروج من الدائرة الضيقة التي آن الآوان للانطلاق منها إلى العالم.

وتذكر الروايات ان بعض مسلمي المدينة كانوا يتوقون للقاء قافلة أبي سفيان طمعاً في الغنائم. حتى انهم ضربوا قوماً بعثتهم قريش يسقوا لها من بئر بين المعسكرين، فأسرهم المسلمون وكرهوا قولهم، فضربوهم حتى قالوا أنهم من عسكر أبي سفيان! فأمرهم رسول الله (ص) بتركهم.

أما قريش من ناحيتها فكانت تنظر للحرب أنها فرصة لاستعادة مجدها الزائل، وأخذت توصي بعضها بعضاً، كما قال أحدهم يا معشر قريش انظروا غداً إذا لقينا محمداً وأصحابه، فاتقوا على شبانكم وفتيانكم وعليكم بأهل يثرب لكي نرجع بهم إلى مكة ليبصروا من ضلالتهم ما فارقوا من دين آبائهم!

أشتداد القتال

بذل الرسول (ص) جهده ان يكون قتال قريش له عن بينة، فبعث إليهم أن أرجعوا من حيث أتيتم، فلان يلي هذا الأمر مني غيركم أحب إلي من أن تلوه أنتم.

فأثار عتبة بن ربيعة، أحد سادتهم فركب جملة وأخذ يجول بين العسكرين وينهى عن القتال. فلم يعر له أبو جهل التفاتاً، بل أغرى عامر بن الحضرمي الذي يطلب المسلمين بثأر، فاكتشف وصرخ: واعمراه واعمراه. فاشتد الناس للقتال.. واستسلمت قريش للقتال دفاعاً عن الجاهلية والعصبية. ولم يتردد المسلمون من جانبهم في الرد. فخرج الحمزة بن عبد المطلب إليه وقتله شر قتلة... ولم يجد عتبة بداً من الخروج بعد ان أتهمه أبو جهل بالجبن والخوف. فخرج مع ابنه وأخيه فبرز إليهم عبيدة بن الحارث وحمزة بن عبد المطلب بن الحارث وحمزة بن بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب. وكانت الضربة الأولى التي بعثت في نفوس المشركين الخوف والذغر وحولت ميزان القوة إلى جانب المسلمين،وقضت على كبرياء ذلك الجيش الذي يمثل قريشاً وخيلاءها وغطرستها. وأعقبت ذلك كثرة سقوط القتلى بيد المسلمين، خصوصاً على يد علي ابن أبي طالب الذي تذكر الروايات على اختلافها انه قتل في بدر ما بين أربعاً وعشرين رجلاً أو خمساً وثلاثون.

وهكذا انهزمت قريش شر هزيمة في معركة أختارتها بنفسها وبذلك فيها أقصى الجهد للإعداد للحرب.

الأهداف الإسلامية

حرض الرسول اتباعه على الجهاد في بدر، وقيل انه أخذ كفاً من الحصباء ورمى بها إلى جهة المشركين قائلاً: (شاهت الوجوه. الله أرعب قلوبهم..)، وذكر ابن إسحاق أنه خرج من العريش الذي أقامه الأنصار لحمايته وحرض على القتال، فقال: والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم أحد فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة... وسجل القرآن الكريم تلك اللحظات الخالدة: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا. سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان. ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله. ومن يشاق الله ورسوله فان الله شديد العقاب. ذلك فذوقوه وان للكافرين عذاب النار).

فكانت بدر ساحة قتال المبادئ والأفكار والدوافع، جسدتها القبضات والسيوف في معركة صارمة. غلبت فيها الفئة القليلة التي نصرها الله، الفئة الكبيرة التي بغت وأدارت للهدى ظهراً وصمت عنه سمعاً. وكانت لها ضرورة وحاجة فاقت في الأهمية ذلك المنظر الرهيب في وادي بدر حين انهزم المشركون تاركين أسلحتهم وأمتعتهم، وأبطال الإسلام في وسطهم يأسرون ويقتلون، والرؤوس تتطاير والأجسام تتهاوى، والملائكة تؤيد المؤمنين بنصر الله.

لقد آن للإسلام أن ينطلق من معقله، فخرج المسلمون يحققون الانطلاقة، وبجهد وعزم وإيمان صادق بدأوا زحفاً غيّر وجه التأريخ. فلم تسترجع قريش هيبتها بعد ذلك اليوم. وبينما أتجه بصر المسلمون بثقة نحو غد جديد، كان رسول الله (ص) يعدهم له، رددت جنبات أودية الروحاء وبدر نداءات الله اكبر التي اطلقها المسلمون يومذاك في مثل هذه الأيام من شهر رمضان.

ولا يكتمل تفهم موقع غزوة بدر في تأريخنا السامق بتمامه إلا عند مقارنة عدد مقاتلي الفريقين وضآلته نسبة إلى تعداد جيوش هذا العصر. فقد استطاع ثلاثمائة مقاتل مسلم قاموا لله وحده ان يوقفوا قوة عاتية مثلت أكبر خطر عليهم.وبذلك تكون واقعة بدر مناسبة يتحدد فيها عز المسلمين وتعود إليهم ثقتهم بأنفهسم. وتعيد ذكراها إلى قلوبهم مجد أيام زاهية مضت، لايقف أمام تكرارها إلا عودة صادقة لمنهج أصيل اختطه أيادي أولئك المسلمين بمهجهم ورعته يد السماء بملائكتها.