علي (عليه السلام) والقرآن المجيد

2007-08-23

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله الذي عرّفنا ولايته وهدانا الى ولاية أولياءه المصطفين حيث قال في كتابه الكريم:{إنّما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}[1].

والصلاة والسلام على رسوله المصطفى محمد (ص) وعلى أهل بيته الطاهرين الذين أمرنا الله تعالى بطاعتهم وإتباع منهجهم وندبنا الى التمسك بولايتهم فقال:{ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فانّ حزب الله هم الغلبون}[2].

أما بعد:

فإن امير المؤمنين (ع) غني عن التعريف فقد جمع بين حُسن المبدأ وحُسن المعاد فكانت ولادته في الكعبة المشرفة بيت الله الحرام وشهاته في محراب الصلاة بين يدي الله عزّ وجلّ وهو الرجل الذي لم ينسى الله طرفة عين أبداً، فهو الذي يقول: (ما رأيت شيئاً الا ورأيت الله قبله وبعده وفيه).

فلم يلتفت الى غير الحق سبحانه في جميع شؤونه في القليل والكثير والصغير والكبير مع الصديق والعدو في الشدة والرخاء في الغلبه والأنكسار.

الرجل الذي كان جباراً على المتجبرين ورحيماُ ودوداُ على المؤمنين. الرجل الذي تربى في حجر رسول الله (ص) المعلم الأول للبشرية. الرجل الذي وهِبَ قدرة استطاع بها أن يقيس الحوادث وقضايا الأمة بقياس العقل والعلم ويزنها بميزان المصلحة العامة، بعيداً عن أي هوى أو غرض شخصي وفارغ من أي شئ الا الله سبحانه وتعالى ذلك امام المتقين ويعسوب الدين وخليفة رسول رب العالمين، مولى الموحدين، أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع).

ولا أرى شخصية ظلمت من قبل أعداء الاسلام كشخصية الامام أمير المؤمنين (ع) وأهل بيته الكرام، فهو مظلوم عالم الامكان، أٌغتصِبت خلافته وقتلت زوجته وظلم أهل بيته.

من هذا المطلق أحببت أن أقدم هذا الجهد المتواضع الى ساحته المقدسة لعلِّي أنال شيئاً من رضاه وشفاعته, فتعرضت الى أربع آيات مباركة نزلت في حقه وهي مترابطة مع بعضها بسياق يلفت النظر، لما لهذه الآيات من تناسب واجتماع في سبب نزولها وهي جميعها نازلة في حقه (ع) تثبت ولايته وأحقيته وافضليته وتبين كرامته عند الله سبحانه وهذه الآيات هي على الترتيب: آية {يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك}. وآية {اليوم أكملت لكم دينكم}.{سأل سائل بعذاب واقع}.

الآية الأولى:

قال الله تعالى في كتابه المجيد:

{يأيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين}[3].

إن هذه الآية المباركة تبين أمر الله سبحانه لنبيه في غدير خم في تبليغ ولاية امير المؤمنين علي (ع) وإمامته، وقد أجمع المفسرون من السنة والشيعة على أنها نزلت في غدير خم في شأن علي (ع) خاصة لتوطيد الخلافة له بذلك اليوم، بالاضافة الى أن روايات حديث الغدير جاءت متواترة لتثبيت هذا الامر، حتى أن رواته بلغوا عدداُ لا يوجد في غيره من الاحاديث حتى قيل أن حصر الرواة على الضبط متعذر بل متعسر جداً.

وكل هذه الاحاديث هي مؤيدات لا ثبات نزول آية التبليغ في حق أمير المؤمنين (ع).

(وهذا ما نجده في تفسير فرات بن ابراهيم الكوفي حيث يروي عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال:

 لما نزلت هذه الآية في ولاية علي بن أبي طالب عليه السلام: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك}.

 قال: فاخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يد علي بن أبي طالب عليه السلام في يوم غدير خم ثم رفعها وقال: اللهم من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاده وانصر من نصره واخذل من خذله.

ثم قال في حديث آخر: حدثنا الحسين بن الحكم قال: حدثنا سعيد بن عثمان عن أبي مريم عن عبد الله بن عطاء قال:

 كنت جالساً مع أبي جعفر عليه السلام فرأيت أبنا لعبد الله بن سلام جالساً في ناحية فقلت لابي جعفر: زعموا أن أبا هذا الذي عنده علم من الكتاب. قال: لا ذلك علي بن أبي طالب أمير المؤمنين. قال: اوحي الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قل للناس من كنت مولاه فعلي مولاه، فما بلَّغ بذلك وخاف الناس فاوحى اليه:

{يا أيها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} فاخذ بيد علي بن أبي طالب عليه السلام يوم غدير خم وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه.

وفي حديث آخر قال:

حدثنا جعفر بن احمد بن يوسف عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى:

 {يا أيها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك} الى آخر الآية فخرج رسول الله حين اتته عزمة من الله في يوم شديد الحر فنودي في الناس فاجتمعوا وامر بشجرات فقم ما تحتهن من الشوك ثم قال:

 يا أيها الناس من وليكم أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: الله ورسوله. فقال:

 من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله ـ ثلاث مرات ـ[4].

قال صاحب تفسير الميزان السيد الطباطبائي:

 (إنه الله تعالى خاطب الرسول (ص) ـ في هذه الآية ـ بالرسالة لكونها أنسب الصفات الى ما تتضمنه الآية من الآمر بالتبليغ لحكم الله النازل فهو كالبرهان على وجوب التبليغ الذي تظهره الآية وتقرعه سمع رسول الله (ص) فان الرسول لا شأن له الا تبليغ ما حمل من الرسالة فتحمل الرسالة يفرض عليه القيام بالتبليغ[5].

وهذا الكلام يبين أن الأمر الذي أراد الله أن يبلغه الرسول (ص) هو أمر لا يمكن للرسالة أن تتم الا به ولا يكمل الدين الا بتبليغه، هذا الأمر الذي أشار الله تعالى له في آية أخرى من القرآن الكريم بقوله:

{اليوم اكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً}[6].

ولأهمية هذا الأمر أيضاً ـ أي أمر الولايةـ فقد جعلها الله من أهم الفرائض وأعلاها بل هي الباب الوحيد الذي لا يمكن قبول جميع الفرائض الا من خلالها، بل لا يكون كمال الدين الا بها.

وهذا ما ندركه من خلال الرواية التي ذكرها السيد هاشم الحسيني البحراني في تفسيره البرهان:

عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: فرض الله عز وجل على العباد خمساً، أخذوا أربعاً وتركوا واحدةً. قلت: أتسميهن لي، جعلت فداك؟

فقال الصلاة، وكان الناس لا يدرون كيف يصلَّون، فنزل جبرائيل (عليه السلام) وقال: يا محمد، أخبرهم بمواقيت صلاتهم. ثم نزلت الزكاة، فقال:يا محمد، أخبرهم من زكاتهم، مثل ما أخبرتهم من صلاتهم. ثم نزل الصوم فكان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا كان يوم عاشوراء بعث الى من حوله من القرى، فصاموا ذلك اليوم، فنزل (صوم) شهر رمضان بين شعبان وشوال.

ثم نزل الحج، فنزل جبرائيل (عليه السلام) فقال: أخبرهم من حجهم مثل ما أخبرتهم من صلاتهم وزكاتهم وصومهم. ثم نزلت الولاية، وإنما أتاه ذلك في يوم الجمعة بعرفة، أنزل الله تعالى:

{اليوم أكلمت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي}، وكان كمال الدين[7].

ويؤيده ما نقله العياشي في تفسيره عن أبي صالح، عن ابن عباس وجابر بن عبد الله قالا:

 أمر الله تعالى نبيه محمداً (ص) أن ينصب علياً علماً في الناس ليخبرهم بولايته فتخوَّف رسول الله (ص) أن يقولوا: جاءنا ابن عمه وان يطعنوا في ذلك عليه.

قال: فأوحى الله اليه هذه الآية:

 {يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس}

 فقام رسول الله (ص) بولايته يوم غدير خم)[8].

هذا نموذج مختصر من مفسرينا لإثبات المصداق الحقيقي لتفسير هذه الآية المباركة، أما لو أردنا أن نستقصي جميع تفاسير الشيعة لوجناهم اجمعوا برمتهم على تواتر لا يختلف فيه منهم إثنان على نزول الآية في أمير المؤمنين علي (ع). بالاضافة الى أن الكثير من اكابر علماؤ المسلمين ومفسريهم أثبتوا في كتبهم أن الآية نزلت في حق علي (ع).

قال السيوطي في كتابه الدر المثور: {انّ ابن أبي حاتم وبن مردويه وابن عساكر أخرجوا عن أبي سعيد الخدري ان الآية: {يا أيها الرسول} الآية. نزلت على رسول الله (ع) يوم غدير خم في علي بن أبي طالب (ع)[9].

وجاء في تفسير المنار: (انها نزلت يوم (غدير خم) في علي بن أبي طالب (ع) ذكره عن ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر.

 ثم ذكر رواية ابن عباس وانه الآية الشريفة نزلت عليه (ص) في غدير خم)[10].

وهكذا تجد أنه لا يوجد أي طريق لا يقاع الخلل والطعن في تفسير الآية وثبوت مصداقها الذي نزلت في حقه وهو مير المؤمنين علي(ع).

ولو عرجنا قليلاً على ما نقله العياشي في تفسيره لوجدنا أن ذيل الآية الكريمة

{ والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين} يتناسب مع جانب من حادثة الغدير حيث خشي الرسول (ص) أهل النفاق أن يتفرقوا ويرجعوا الى جاهليتهم لما عرف مما انطووا عليه من عداء علي (ع) وبغضه. فسأل جبرائيل أن يسأل الله تعالى العصمة من الناس. وانتظر ذلك فأتاه جبرائيل (ع) فقال: يا محمد إن الله تعالى يقرئك السلام ويقول لك: {يا أيها الرسول بلّغ ما انزل إليك من ربك. وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ان الله لا يهدي القوم الكافرين)[11].

فأمر رسول الله (ص) أن يرد من تقدم منهم ويجلس من تأخر. ووضعت له أحجار على شكل منبر فصعدها الرسول (ص) وخطب خطبته فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو أهله. ووعظ فابلغ في الوعظة ونعى الى الأمة نفسه الشريفة. وقال إني دعيت ويوشك أ أجيب وقد حان مني خفوق من بين اظهركم،

(وإني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي الا وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما، أيها الناس إنكم لا تعلموهم فانهم أعلم منكم)[12].

قال الامام الباقر (ع): فناداه القوم: نعم سمعنا واطعنا امر الله ورسوله (ص) وأمر علي (ع) بقلوبنا والسنتنا وتداكوا عليه وعلى علي. وصافقوا بايديهم فكان أول من صافق رسول الله (ص) ابو بكر وعمر بن الخطاب وعثمان وطلحة والزبير وباقي المهاجرين والانصار وباقي الناس الى أن صُلِّيت الظهر والعصر في وقت واحد. والمغرب والعشاء في وقت واحد ورسول الله يقول: الحمد لله الذي فضلنا على جميع العالمين، وجعل عمر يُكَرِر قول: بخ بخ لك يا على اصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة

وجاء حسان بن ثابت فقال لرسول الله أتأذن لي أن أقول في هذا المقام ما يرضاه اله فقال له (ص): قل ياحسان على اسم الله فوقف على نَشزٍ من الأرض وأنشد يقول:

يناديهم يوم الغدير نبيّهم

وقال فمن مولاكم ووليكم

الهك مولانا وأنت ولينا

فقال له قم يا علي فانني

بخم واسمع بالرسول مناديا

فقالوا ولم يبدوا هناك تعاميا

ولن تجد منا لك اليوم عاصيا

رضيتك من بعدي اماماً وهاديا

فقال رسول الله (ص):

 لا تزال ياحسان مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك: قال أبو سعيد الخدري:

 فلم ننصرف حتى نزلت هذه الآية الكريمة: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً} فقال رسول الله (ص): الحمد لله على اكمال الدين، واتمام النعمة ورضى الرب برسالتي وولاية علي بن أبي طالب (ع)[13].

الآية الثانية:

قال الله تعالى في كتابه المجيد:

{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الاسلام ديناُ}[14].

الآية المباركة تبين نعمة اكمال الدين وتمامه بعد أن بلغ الرسول (ص) بولاية أمير المؤمنين (ع) كما هو واضح من تفسير الآية السابقة وسبب نزولها.

 وكلمة (نعمة) أينما جاءت في القرآن الكريم مطلقة بلا قيد يكون معناه نعمة الولاية امّا إذا أريد من هذه الكلمة غير الولاية فانها تقيد بقيد مثل نعمة المطر ونعمة الماء ونعمة الشمس.

كما قال الله تعالى: { ثمّ لتسئلنّ يومئذٍ عن النعيم}[15].

حيث قال الإمام الرضا (ع) (نحن النعيم)[16].

 هذا ماجاء في الآية المباركة حيث أن النعمة فيها هي ولاية أمير المؤمنين (ع).

قال السيد الطباطبائي في تفسيره الميزان:

 (اليوم ـ وهو اليوم الذي يئس فيه الذين كفروا من دينكم ـ أكملت لكم مجموع المعارف الدينية التي أنزلتها إليكم بفرض الولاية، وأتمت عليكم نعمتي وهي الولاية التي هي ادرة أمور الدين وتدبيرها تدبيراً إلهياُ، فإنها كانت إلى اليوم ولاية الله ورسوله، وهي إنما تكفي مادام الوحي ينزل، ولاتكفي لما بعد ذلك من زمان انقطاع الوحي. ولا رسول بين الناس يحمي دين الله ويذب عنه بل من الواجب أن ينصب من يقوم بذلك، وهو ولي الأمر بعد رسول الله (ص) والقيم على أمور الدين والأمة)[17].

السيد الطباطبائي بيّن في هذه الفقرة وجوب وجود الإمام والقائد للأمة بعد رسول الله (ص) ويجب أن يكون هذا الإمام متصفاً بأغلب صفات الرسول (ص) من جميع جوانب شخصيته وسيرته وهو ما حاز عليه أمير المؤمنين (ص) بتعيين الرسول (ص) ليستحق مقام الإمامة والولاية والقيادة من بعده (ص).

ومن الأدلة الأخرى على نزول الآية المباركة في أمير المؤمنين ما جاء في هذه الرواية:

(عن المناقب الفاخرة للسيد الرضي (رحمه الله) عن محمد بن اسحاق عن ابي جعفر عن أبيه عن جده قال:

 لما انصرف رسول الله (ص) من حجة الوداع نزل أرضاً يقال له: ضوجان، نزلت هذه الآية:

 {يا أيها الرسول بلغ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} فلما نزلت عصمته من الناس نادى: الصلاة جامعة فاجتمع الناس إليه، وقال:

 من أولى منكم بانفسكم: فضجوا باجمعهم،

 فقالوا:

 الله ورسوله فأخذ بيد علي بن أبي طالب، وقال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله لانه مني وأنا منه وهو مني بمنزلة هارون من موسى الا أنه لا نبي بعدي. وكانت آخر فريضة فرضها الله تعالى على أمة محمد ثم أنزل الله تعالى على نبيه

{اليوم أكملت لكم دينكم وأتمتت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً}[18].

وإذا أردنا أن نلقي نظرة سريعة على مصادر العامة من علماء المسلمين ومفسريهم فسوف نجد ما يكفينا لاثبات المصداق لهذه الآية وما يتناسب مع هذا البحث المختصر.

(ففي الدر المنثور من طريق ابن مردويه وابن عساكر الى أبي سعيد الخدر، قال: لما نصب رسول الله (ص) علياً (ع) يوم غدير خم فنادى له بالولاية هبدط جبرئيل (ع) بهذه الآية:

{ اليوم أكملت لكم دينكم} ومن طريقهما وطريق الخطيب الى أبي هريرة قال:

 لما كان يوم (غدير خم) وهو يوم ثماني عشر من ذي الحجة قال النبي (ص):

 (من كنت مولاه فعلي مولاه) فانزل الله {اليوم أكملت لكم دينكم} الآية[19].

ولوجود العلاقة بين هذه الآية المباركة وآية المعارج أي {سأل سائل بعذابٍ واقع} فلابد لنا من بيان ذلك وهذا ما نجده في هذا النص.

(قال الشبلنجي في كتابه ونقل الإمام الثعلبي في تفسيره إنّ سفيان بن عيينه سأل عن قول الله تعالى:

{سأل سائل بعذابٍ واقع}، فيمن نزلت؟ فقال للسائل:

 لقد سألتني عن مسألة ما سالني عنها أحد قبلك حدثني أبي عن جعفر بن محمد (ع) عن آبائه (عليهم السلام) أن رسول الله (ص) لما كان (بغدير خم) نادى الناس فاجتمعوا فأخذ بيد علي (ع)،

 فقال:

 (من كنت مولاه فعلي مولاه) فشاع ذلك في أقطار البلاد وبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري فأتى رسول الله (ص) على ناقته فأناخ راحلته ونزل عنه وقال:

 (يا محمد امرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله الا الله وانك رسوله فقبلناه منك وأمرتنا أن نصلي خمساً فقبلناه وأمرتنا بالحج فقبلناه، ثم لن ترضى بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك تفضّله علينا، فقلت:

  (من كنت مولاه فعلي مولاه) فهذا شئ منك ام من الله) فقال النبي (ص): والله الذي لا إله الا هو انّ هذا من الله عزّ وجلّ، فولّى الحارث يريد راحلته وهو يقول:

{ اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً {فامطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} فما وصل الى راحلته حتى رماه الله بحجر سقط على هامته الخ... فانزل الله عزّ وجلّ هذه الآية:

 {سأل سائل بعذاب واقع}[20].

ومن خلال هذه الرواية يمكن أن ندخل في بحث الآية الثالثة.

الآية الثالثة:

قال الله تعالى في كتابة المجيد:

{سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع}[21].

فلقد جمع العلامة الأمين طاب ثراه في الجزء الأول من كتاب (الغدير) العشرات من كُتّاب أعلام أهل السنة وفطاحلهم وحفاظهم من أذعنوا واعترفوا بنزول آية العذاب في الحارث بن النعمان بسبب رفضه ولاية أمير المؤمنين علي (ع) في غدير خم.

قال آية الله السيد مكارم الشيرازي في تفسيره الامثل:

في سبب نزول الآية نقل الكثير من المفسرين واصحاب الحديث أحاديث عن سبب نزول هذه الآية ونتيجة ذلك هو:

في الوقت الذي نصب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام في يوم (غدير خم) قال في حقه:

 (من كنت مولاه فعلي مولاه) ولم يمض شئ من الزمن حتى انتشر ذلك في البلاد والمدن فقدم النعمان بن الحارث الفهري على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال:

أمرتنا عن الله ان نشهد أن لا اله الا الله وانك رسول الله، وأمرتنا بالجهاد والحج والصوم والصلاة والزكاة فقبلناها، ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شئ منك أو امر من عند الله. فقال:

(والله، الذي لا اله الا هو ان هذا من الله (فولى النعمان بن الحارث وهو يقول:

اللهم ان كان هذا هو الحق من عندك فامطر علينا حجارة من السماء. فرماه الله بحجر على راسه فقتله وانزل الله تعالى {سأل سائل بعذاب واقع} وقوله: {ليس له دافع، من الله ذي المعارج} وما ذكرناه هو مضمون ما روي عن أبي القاسم الحسكاني في مجمع البيان باسناده الى أبي عبد الله الصادق عليه السلام. هذا المعنى مروي عن كثير من المفسرين من العامة فقد نقل رواة الحديث هذا المعنى بشئ من الاختلاف البسيط.

وينقل العلامة الاميني ذلك في كتابه (الغدير) عن ثلاثين عالماً مشهوراً من أهل السنة (مع ذكر السند والنص)[22].

قال السيد الطباطبائي في تفسيره الميزان بعد أن نقل حديثاً يثبت أن هذه الآية نزلت في الحارث بن النعمان الفهري:

(وهذا المعنى مروي بغير طريق الشيعة، وقد ردَّ الحديث بعضهم بأنه موضوع لكون سورة المعارج مكية)[23].

والحقيقة أن، هذا القول مردود لأدلة عديدة لعل أبرزها ما ذكرناه من إجماع كثير من أعلام أهل السنة اضافة الى الاعلام من علمائنا على أن السورة نزلت في قول القائل:

{اللهمّ إن كان هذا هو الحق من عندك فامطر علينا حجارة من السماء او ائتنا بعذاب أليم}[24].

بالاضافة الى أن سباق سورة المعارج سياق مدني لا مكي كما ذكر العلامة السيد الطباطبائي في تفسيره.

وبذلك نعلم أن التواتر في الروايات التي تثبت مصداق الآية وسبب نزولها لا تدع الى من في قلبه زيغُ من أعداء أهل البيت (عليهم السلام) الى أن يلتمس الاعذار من هنا وهناك ويدلي دلوه في الماء العكر ليصطاد ما يزيده مرضاً الى مرضه ورجسأً الى رجسه من الأدلة التي لا تنسجم مع إجماع العلماء من أعلام الفريقين.

فقد جاء في الباب الخامس عشر من فرائد السمطين بسنده عن الامام أبي الحسن الواحدي قال: قرأت على شيخنا الاستاد ابي إسحاق الثعلبي في تفسيره ان سفيان ابن عينيه سأل عن قول الله عزّ وجلّ الى آخر ما ذكره في نور الأبصار (أي الحديث الذي ذكره الشبلنجي). وحكاه ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمه ص26، 27. وحكاه سبط بن الجوزي في تذكرته ص19 وفيه فقال رسول الله (ص) وقد احمرت عيناه:

والله الذي لا إله الا هو انه من الله وليس مني قالها ثلاثاُ الى آخر الحديث.

هذا ما حكاه القوم وهو القول الفصل مما لا يدع المجال الا بالاعتراف بانّ ما نزل من الآيات التي بحثناها هي في حقّ أمير المؤمنين (ع) وانه خليفة الله ورسوله وهو الحق وهل بعد الحقِّ الا الضلال المبين.

الآية الرابعة:

قال الله تعالى في كتابه المجيد:

{يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً}[25].

لقد أجمع العلماء من مفسري الشيعة على ان المراد بهذه الآية المباركة هو النبي محمد (ص) وأخيه وخليفته الأمام علي (ع).

 ولايخفى إنا عندما نطلق هذا الكلام وندعيه لم تكن دعوتنا هي دعوة من غير دليل ولا برهان بل هي دعوة مدعومة بالدليل والبرهان؛ لأننا وكما هو معلوم أصحاب الدليل حيث ما مال نميل فلا بد أن تكون دعوتنا مدعومة بالدليل والبرهان.

ولا يخفى أيضاً على المتتبع للروايات التي تتحدث عن الرابطة بين النبي وأمير المؤمنين من جهة، وبينهما والقرآن من جهة آخرى، أن العلاقة علاقة الإخوة والمحبة في الله ولله، كما أخرج الحاكم في المستدرك عن ابن عباس انه قال نظر النبي (ص) الى علي (ع) فقال:

 يا علي انت سيد في الدنيا سيد في الآخرة حبيبك حبيبي وحبيبي حبيب الله، وعدوك عدوي، وعدوي عدو الله، والويل لمن ابغضك بعدي.[26]

والاحاديث الواردة عن الرسول الاعظم (ص) أن علياً وصيه وخليفته وأخيه وحبيبه لا تكاد تحصى في كتب الفريقين. بل أكثر من ذلك أنه روي

أن الملاك في طاعة الله هي طاعة علي (ع)، فلقد روى صاحب المستدرك أيضاً أنه قال: قال رسول الله (ص) لعلي بن ابي طالب:

من اطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن اطاعك فقد اطاعني، ومن عصاك فقد عصاني.[27]

وبهذا نعلم أن رسول الله (ص) وعلي أخوان لا يتفارقان وصنوان لا ينفصلان وبحران لا ينضبان، والقرآن معهما وهما مع القرآن. ولذلك ذكر القندوزي الحنفي في ينابيع المودة في رواية ان النبي (ص) قال في مرض موته:

 أيها الناس أوشك أن أقبض قبضاً سريعاً، وقد قدمت إليكم القول معذرة إليكم إلاّ اني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله عز وجل وعترتي اهل بيتي ثم اخذ بيد علي (ع) فقال:

 هذا علي مع القرآن، والقرآن مع علي ولا يفترقا حتى يردا علي الحوض فاسألهما عما اختلفتم فيهما[28]

ولذلك جاء في تفسير الصافي في قوله تعالى:

{يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وانزلنا إليكم نوراً مبيناً}

قيل البرهان رسول الله والنور القرآن وقيل البرهان المعجزات والنور القرآن أي جاءكم دلائل العقل وشواهد النقل ولم يبق لكم عذر ولا علة, وفي المجمع عن الصادق (ع) النور ولاية علي صلوات الله وسلامه عليه[29].

وجاء في التفسير الامثل لآية الله السيد مكارم الشيرازي عن تفسير الآية المذكورة:

(والمقصود بالبرهان الوارد في الآية موضوع البحث ـ وكما يقول جمع من المفسرين وتؤكد ذلك القرائن ـ هو شخص نبي الاسلام (ص) وأن المقصود بالنور هو القرآن المجيد الذي عبرت عنه آيات آخرى بالنور أيضاً.

وقد فسرت الاحاديث المنقولة عن أهل البيت (عيلهم السلام) والتي أوردتها تفاسير نور الثقلين وعلي بن ابراهيم ومجمع البيان ـ ان البرهان هو النبي (ص) والنور هو علي بن ابي طالب (ع).

ولا يتنافى هذا التفسير مع ذلك الذي أوردناه قبله، حيث يمكن ان يقصد بعبارة (النور) معان عديدة لتشمل (القرآن) و(أمير المؤمنين) (ع) الذي يعتبر حافظاً ومفسراً للقرآن ومدافعاً عنه.

وتوضيح الآية الثانية عاقبة اتباع هذا البرهان وهذا النور.

 فتؤكد أن الذي آمنوا بالله وتمسكوا بهذا الكتاب السماوي، سيدخلهم الله عاجلاً في رحمته الواسعة. ويجزل لهم الثواب من فضله ورحمته، ويهديهم الى الطريق المستقيم تقول الآية:

 {فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمةٍ منه وفضل ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً}[30].

ويقول فرات الكوفي في تفسيره عن تفسير هذه الآية المباركة:

روي عن أبي جعفر عليه السلام:

 نزل جبرائيل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الآية:

 {يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وانزلنا إليكم نوراً مبيناًْ}

 في علي ابن أبي طالب عليه السلام، والبرهان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم {فأما الذين أمنوا واعتصموا} به قال بولاية علي بن أبي طالب عليه السلام.[31]

 

وفي تفسير القمي:

 

قوله تعالى: {يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وانزلنا اليكم نوراً مبيناً}

فالنور امامة امير المؤمنين عليه السلام.[32]

وجاء في تفسير البرهان للسيد هاشم الحسيني البحراني:

عن عبد الله بن سليمان قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام قوله:

 {قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناُ}

 قال: البرهان محمد عليه وآله السلام والنور علي عليه السلام قال: قلت له صراطاً مستقيماً) قال : الصراط المستقيم علي عليه السلام.[33]

ولذلك جاء في صحيفة منبر الجمعة.

قول الله عز من قائل في محكم كتابه وعزير خطابه،

بسم الله الرحمن الرحيم

 {يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً} الآية الكريمة تعم الخطاب للناس ـ كل الناس,,

{برهان من ربكم}:

 الآية الكريمة تبين على ان البرهان هو الرسول والأعظم (ص).

إن الرسول الأعظم (ص) أرسله الله إليكم حتى تقطع الحجة على كل من يريد الحجة يوم القيامة، هذا الرسول بيده المعجزات والدلالات والبراهين والقاطعة على أنه نبي مرسل وعلى أنه يدعوكم الى الهدى والحقيقة الناصعة ليكشف لكم عن الحقيقة حتى تتبعوه وتصلوا الى الطريق المستقيم.

{يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً}

 من باب النعمة والمنة من الله تبارك وتعالى على عباده أن أنزل النور، والنور المقصود به هنا هو القرآن الكريم {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}. فإذا تمسكتم بالقرآن وآمنتم ببعثة النبي (ص) وصدقتم قوله وما جاء به فسأدخلكم في جنتي..

{وأنزلنا إليكم نوراً مبيناُ}.

وهناك رأي آخر للمفسرين على أن المقصود بالبرهان هو الرسول الأعظم (ص) والمقصود بالنور في الآية الكريمة هو علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (ع) وولاية علي (ع).

فسواء قال المفسرون أن المقصود بالنور هو القرآن أو أنه علي بن أبي طالب فعلي مع القرآن والقرآن مع علي، وعلي (ع) هو المفسر للقرآن وهو حافظ القرآن وهو الداعي الى القرآن فلا تنافي في الآراء.

أما الذين آمنوا بالله وبكتبه وبرسله وبملائكته وباليوم الآخر واعتصموا به، تمسكوا بالقرآن وتمسكوا ببعثة النبي (ص) وتمسكوا بالوحدانية ودعوا الى وحدانية الله تبارك وتعالى وعبدوا الله تبارك وتعالى تمام العبادة فسيدخلهم في رحمة منه وفضل أولئك الذين تمسكوا بولاية علي (ع) وتمسكوا بأهل بيت محمد (ع) سيتفضل الله تعالى عليهم بالفضل والثواب ومضاعفة الحسنات إن عاجلاً أو آجلاً في الدنيا والآخرة ويهديهم صراطاً مستقيماً.

والصراط المستقيم كلنا يدعوا إليه، حتى المعصوم نفسه يدعوا إليه، فما دام المعصوم لا يعصي الله طرفة عين أبداً، ولا يخطئ ولا تزل قدماه فكيف يدعوا الله {اهدنا الصراط المستقيم}؟

هنا آراء .. من بين الآراء أن الكمال المطلق لله تبارك وتعالى وكل إنسان مهما كان حتى ولو كان المعصوم يدعو الله تبارك وتعالى بان يحصل على درجات أعلى عند المولى عز وجل والكمال المطلق لله، فالتدرج في الكمال والتدرج في الهداية مطلوب حتى من المعصوم حتى يصل الى درجة أعلى وهناك روايات وردت عن أهل بيت العصمة أن المقصود بالصراط المستقيم هو ولاية أمير المؤمنين (ع).

 

 

----------------------------------

 

[1]  سورة المائدة: 55

 

[2]  نفس السورة: 56

 

[3]  السورة نفسها: 67

 

[4]  تفسير فرات الكوفي: ج1، ص129

 

[5]  تفسير الميزان: ج6، ص67

 

[6]  سورة المائدة: 3

 

[7]  تفسير اللبرهان: ج2، ص334

 

[8]  تفسير الميزان: ج6، ص53

 

[9]  الدر المنثور: ج2، ص298

 

[10]  تفسير المنار: ج6، ص463

 

[11]  سورة المائدة: 67

 

[12]  ينابيع المودة: ص36

 

[13]  تفسير الميزان: ج5، ص193

 

[14]  سورة المائدة: 3

 

[15]  سورة التكاثر: 8

 

[16]  بحار الانوار: ج24، ص52

 

[17]  تفسير الميزان: ج5، ص194

 

[18]  تفسير الميزان: ج5، ص194

 

[19]  الدر المنثور: ج2، ص290

 

[20]  نور الابصار: ص75

 

[21]  سورة المعارج: 1ـ2

 

[22]  تفسير الامثل: ج19، ص11

 

[23]  تفسير الميزان: ج20، ص11

 

[24]  سورة الانفال: 32

 

[25]  سورة النساء: 174

 

[26]  مذهب الشيعة: ص235

 

[27]  المصدر السابق: 235

 

[28]  المصدر السابق: ص230

 

[29]  تفسير الصافي:ج1، ص485

 

[30]  تفسير الامثل: ج3، ص469

 

[31]  تفسير فرات الكوفي: ج1، ص129

 

[32]  تفسير القمي: ج1، ص171

 

[33]  تفسير البرهان: ج2، ص204