مع الإمام الخامنئي: الاستغفار النافذة المشرعة للشمس
2008-09-09
قال الله الحكيم في كتابه: بسم الله الرحمن الرحيم (ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً) (النساء: 110).
مبارك عليكم شهر رمضان المبارك، شهر الله وشهر التوبة والتضرع والاستغفار والاستغاثة.
أوصيكم بتقوى الله؛ فهذا الشهر هو شهر التقوى والصيام.
جاء في دعاء أيام شهر رمضان المبارك: «وهذا شهر التوبة، وهذا شهر الإنابة، وهذا شهر العتق من النار».
* باب البركات
الاستغفار يعني طلب المغفرة الإلهية للذنوب. ولو أداه العبد بشكل صحيح، لفتح عليه باب البركات الإلهية. فالذنوب التي نرتكبها تغلق على الفرد والمجتمع كل ما يحتاجه من الألطاف الإلهية، من فضل الله، ورحمته، ونوره، وهدايته، وتوفيقه، وإعانته في أعماله، ومؤازرته بالنصر في مختلف الميادين. الذنوب تسدل حجاباً بيننا وبين رحمة الله وفضله، والاستغفار يزيل هذا الحجاب ويفتح علينا باب فضل الله ورحمته. لهذا، يذكر القرآن للاستغفار ـ في عدة مواضع ـ فوائد دنيوية وكذا يذكر فوائد أخروية، كقوله تعالى: (ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا) (هود: 52) وأمثالها. ويفهم من الآيات كلّها ان الفضل الإلهي يجد طريقه إلى قلب الإنسان وجسده وإلى المجتمع الإنساني ببركة الاستغفار.
الاستغفار بذاته يمثل في الواقع جزءاً من التوبة. والتوبة معناها العودة إلى الله. وعلى هذا، فأحد أركان التوبة، الاستغفار؛ أي طلب المغفرة من الله تعالى. وهذا من النعم الإلهية الكبرى. أي أن الله تعالى فتح باب التوبة لعباده ليتسنى لهم طي مدارج الكمال، ولكي لا يكون الذنب سبباً في انشدادهم إلى الأرض؛ لأن الذنب يسقط الإنسان من ذروة عُلاه الإنساني. وكل ذنب يلحق ضرراً بروح الإنسان ونقائه ومعنوياته واعتزازه الروحي، ويقضي على شفافيّة روح الإنسان فتتراكم عليها الرواسب. الذنب يجرّد الإنسان من ذلك البُعد المعنوي الذي يميز الإنسان عن سائر موجودات هذا العالم المادي، ويقضي على روحانيته ويقرّبه إلى الحيوانات والجمادات. وفضلاً عن الضرر المعنوي الذي تلحقه الذنوب بحياة الإنسان، فهي تجلب عليه الكثير من الإخفاقات. فالكثير من ميادين الحياة الإنسانية يفشل فيها الإنسان بسبب ما يرتكبه من ذنوب. نعم، لفشل الإنسان وإخفاقه تفسير علمي ونفسي وفلسفي أيضاً.
الذنوب التي يقترفها الإنسان، والمخالفات، والأعمال الناجمة عن الانسياق وراء الشهوات وحب الدنيا والطمع والحرص على مال الدنيا والتعلق بالمناصب الدنيوية، وبخل المرء بما في يده من الأموال، إضافة إلى صفات الحسد والغضب، ـ تلاحظون أنها تترك ـ على الإنسان أثرين حتماً، أحدهما: تأثير معنوي يسقط من الروح صفاءها ونقاءها، ويطفئ فيها وهج النور، فيخبو في الإنسان ذلك البعد المعنوي، وينغلق بوجهه سبيل الرحمة الإلهية. التأثير الآخر يبرز في ميدان النشاط الاجتماعي، حيث تتطلب حركة الحياة الجد والحزم وصلابة الإرادة. هناك، تكون الذنوب عائقاً أمام المرء. وإذا افتقد العناصر الأخرى التي تعوض عن هذا الضعف، يكتب له الفشل. بطبيعة الحال، قد تكون لدى الإنسان عوامل أخرى أحياناً تعوّض عن ذلك، كالسجيّة الحسنة والعمل الصالح، إلاّ أنها ليست موضع بحثنا. أما الذنب بذاته، فهذه تأثيراته. في مثل هذه الحالة يمنح الله الإنسان نعمة كبرى، وهي نعمة المغفرة، ويقول له: إنك إذا ندمت على الذنب الذي اقترفته ـ وهو ما ينبغي أن يبقى أثره السيئ ـ فذاك باب التوبة والاستغفار مفتوح. فكأنك بارتكابك للذنب قد أنزلت ببدنك جرحاً وأدخلت إليه مِكروباً، فالمرض واقع بك لا شك. وإذا شئت إزالة أثر هذا الجرح وهذا المرض من جسدك، فانّ الله تعالى قد فتح لك باباً وسمّاه باب التوبة والاستغفار والإنابة والعودة إلى الله. فاذا تبتم، فسيعوض الله عليكم. هذه نعمة كبرى منحها الله ايّانا. قرأت حديثاً عن رسول الله (ص) يقول فيه: «إن الله تعالى يغفر للمذنبين إلاّ من لا يريد أن يغفر له، فقيل: يا رسول الله من الذي يريد أن لا يغفر له ؟ قال: من لا يستغفر». إذاً، الاستغفار مفتاح باب التوبة والمغفرة. وبالاستغفار تنال الرحمة الإلهية. نعم، الاستغفار له هذه الأهمية.
* حذار من الغفلة والغرور أود الإشارة إلى نقاط صغيرة في هذا الصدد عسى الله أن يجعلها وسيلة لنا في هذا الشهر المبارك، ولعلنا نعود إلى ربنا وننتفع من باب الرحمة هذا. إحدى تلك النقاط هي أننا إذا شئنا الاستغفار واستجلاب هذه النعمة الإلهية، يتعين علينا تنزيه ذواتنا من خصلتين: إحداهما الغفلة، والأخرى الغرور. الغفلة تعني أن لا يكون الإنسان متنبّهاً وملتفتاً بشكل تام إلى أنه يقترف ذنباً! بعض هؤلاء الناس غافل، أو قد لا يعتقد أساساً بمبدأ الثواب والعقاب. والبعض الآخر يعتقد بالثواب والعقاب، لكنه تائه في غمار الغفلة غير ملتفت لما يعمل. الغافل لا يفكر بالاستغفار بتاتاً، بل ولا يخطر بباله أنه يرتكب ذنباً. وهو غارق على الدوام بالذنوب، ومنغمس سكران غاطّ بنومه، وهو أشبه ما يكون بمن يؤدي بعض الحركات وهو نائم.يا أعزائي، ويا إخواني وأخواتي، أياً من تكونوا، انتبهوا. هذا الكلام غير موجّه لفئة معيّنة، بل على الجميع أن ينتبهوا؛ العلماء والأكابر والشخصيات المعروفة، والأغنياء والفقراء، والكبار والصغار، لكي لا ينغمسوا في الغفلة، فتصدر منهم أخطاء قد لا يكونون ملتفتين لها. أما المانع الآخر، فهو الغرور. الإنسان يغتر لأدنى عمل يؤدّيه.
فاذا صلّى ركعتين مثلاً، أو قدّم خدمة للناس، أو تصدّق بمبلغ من المال، أو قام بعمل في سبيل الله، يصاب من فوره بالغرور ويحسب أنه أصلح ذاته بين يدي الله، وحَسُنَ حاله عنده ولا حاجة له في شيء آخر! إنه لا يتلفّظ بهذا الكلام، لكنه يفكر هكذا في نفسه.
* لا تستهينوا بصغر الذنوب انتبهوا إلى أن الله تعالى حينما يفتح باب التوبة ويغفر الذنوب، لا يعني هذ أن الذنب شيء بسيط أو أمر قليل الأهمية. كلا، فقد تؤدي الذنوب أحياناً إلى هلاك الوجود الحقيقي للإنسان، وتستنزله من مكانته السامية في الحياة الإنسانية إلى حيوان مفترس وقذر ولا يعرف للقِيَم أيّ معنى. نعم هكذا هي الذنوب. فلا تظنوا الذنب أمراً يسيراً. فهذا الكذب، وهذه الغيبة، وعدم المبالاة بكرامة الناس، وهذا الظلم ولو بكلمة واحدة هي ذنوب غير طفيفة وغير يسيرة. الشعور بالذنب لا يستلزم أن يكون المرء غارقاً في الذنوب لسنوات متمادية، لا أبداً، حتى الذنب الواحد لا ينبغي الاستخفاف به. جاء في الروايات باب اسمه «استحقار الذنوب»، وفيه مذمّة لمن يستهين بالذنوب. أما السبب الذي جعل الباري تعالى يغفر الذنب، فهو أن الأوبة إلى الله تحظى بأهمية كبيرة، لا بمعنى أن الذنب صغير ويسير. إن الذنب أمر خطير، لكن العودة إلى الله والرجوع إليه له من الأهمية بحيث إن المرء إذا قام به عن صدق وإخلاص، يشفى من ذلك المرض المزمن.
* صدق الاستغفارالنقطة التالية هي أن الاستغفار إذا كان حقيقياً وصادقاً، يذلل الصعاب أمام الإنسان. من يتوب ويستغفر، يجب أن لا يضمر في قرارة نفسه أنه يستغفر الآن وبعدها يعاود ارتكاب الذنب، فهذه لا تسمى توبة. الاستغفار معناه أن يطلب الإنسان من ربّه بجد أن يعفو عما ارتكبه من خطأ يا أعزائي، اغتنموا شهر رمضان المبارك للاستغفار واطلبوا العفو من الله تعالى. استغفروا ربكم واطلبوا منه العفو، واسألوه رفع هذا الحجاب المتراكم من الذنوب، وإزالة هذه السحب المانعة لشمس لطفه وفضله، ليشع نور لطفه على هذه الأفئدة وعلى هذه النفوس، فتلاحظون عندها ظهور التعالي والسمو في ذات الإنسان.
ــــــــــــــــــــ
(*) مقتطف من خطبة ألقيت في 7 رمضان 1417هـ في جامعة طهران.
تعليقات الزوار