ومن رجال الإصلاح وأرباب الوحدة الإسلامية، الإمام الخميني قائد الثورة الإسلامية في عصرنا هذا، فإنّه منذ البداية كان يدعو المسلمين إلى الوحدة، ودوّت صرخته في العالم في مظاهرات مليونية تهتف: (يا أيّها المسلمون اتّحدوا اتّحدوا).

ومن كلماته الخالدة:

«لماذا لا يهتمّ المسلمون وحكوماتهم بالأحاديث النبويّة الكريمة التي جاء فيها: (المسلمون يدٌ على مَن سواهم) ؟ لماذا لا يوجد بينهم إلاّ الاختلاف المستمرّ، إنّ مشكلة المسلمين هي نشوب الاختلافات بينهم بعد الحرب العالمية، فقد وضع المستعمرون خطّة الاختلاف لهم بعد أن شاهدوا قوّة الإسلام ففصلوا الحكومات الإسلامية عن بعضها، وألقوا الخلاف بين المسلمين وجعلوا الحكومات الإسلامية كلّ واحدة عدوّة للاُخرى، يجب حلّ هذه المشكلة في يوم العيد وفي يوم عرفة في بيت الله، حيث ينبغي أن يجتمع الحكّام في مكّة المكرّمة، لإطاعة أمر الله تبارك وتعالى وطرح المشاكل المتعلّقة بهم والتغلّب عليها، وإذا تمّ هذا الأمر لا تتمكّن أيّة قوّة من مواجهتكم».

«إنّ القوى الكبرى درست خلال سنوات طويلة كلّ أوضاع المسلمين، أجرت دراسات على الأفراد والجماعات وعلى أراضينا وغاباتنا وخرجت بنتيجة، هي: أنّ الإسلام وحده هو الذي يستطيع أن يقف بوجه هذه القوى في جميع المجتمعات، وراحت هذه القوى تخطّط لمجابهة الإسلام عن طريق الحكومات الفاسدة، وأوعزت إلى هذه الحكومات أن تثير مسائل العصبيّات العنصريّة بين المسلمين، فجعلت العرب مقابل الفرس والأتراك، وجعلت الفرس مقابل الأتراك ومقابل الآخرين، وهكذا أوقعت بين القوميات المختلفة، ولقد أكّدتُ مراراً إنّ هذه النعرات القوميّة هي أساس مصيبات المسلمين، إذ أنّ هذه النعرات تجعل الشعب الإيراني مقابل سائر الشعوب المسلمة وتجعل الشعب العراقي مقابل بقيّة المسلمين، وهذه المخطّطات طرحها المستكبرون للتفريق بين المسلمين»[1].

«النعرات القومية التي تثير العداء بين المسلمين وانشقاق بين صفوف المؤمنين تعارض الإسلام وتهدّد مصالح المسلمين، وهي من مكائد الأجانب الذين ليزعجهم الإسلام وانتشاره»[2].

«القوى الكبرى  تستهدف فرض السيطرة على المسلمين ونهب أموالهم وثرواتهم الطائلة، وبثّ التعصّب القومي في المنطقة، أحد المخطّطات التي تنفّذها تلك القوى منذ أمد بعيد لتحقّق أهدافها. لقد جاء الإسلام ليوحّد بين صفوف أبناء العالم ويزيل الفواصل بين العرب والعجم والأتراك والفرس، وليؤلّف بين قلوب أبناء الاُمّة الإسلامية على ظهر المعمورة، وليهزم كلّ قوى الاستكبار ويحبط مخطّطاتها. القوى الكبرى تريد فصل المسلمين عن بعضهم باسم القوميات التركية والكردية والعربية والفارسية، بل تريد خلق العداء بين هذه الشعوب، إنّ جميع المسلمين إخوة متساوون متعاضدون، وعليهم الانضواء جميعاً تحت لواء الإسلام، وراية التوحيد»[3].

«صدّام جعل العروبة أساساً للتفاضل وهذه العروبة التي يدّعيها عفلق وصدّام مخالفة للموازين الإسلامية ومعارضة لضرورات الإسلام»[4].

«اليوم ونحن في رحاب تقارب جميع المسلمين في العالم، وتفاهم كلّ المذاهب الإسلامية لإنقاذ بلدانهم من براثن القوى الكبرى، الشيطان الأكبر أمريكا دعا فراخه لإلقاء بذور التفرقة بين المسلمين بكلّ الحيل والوسائل، وجرّ الاُمّة الإسلامية والإخوة في الإيمان إلى الاختلاف والعداء، ليفتح السبيل إلى مزيد من النهب والهيمنة... لقد أمر واحداً من أخبث العملاء الأمريكيين والشاه المقبور أن يجمع رجال إفتاء أهل السنّة وفقهائهم، ليفتوا بكفر الإيرانيين الأعزّاء، وفي ذات الوقت الذي تتصاعد فيه مساعي إيران الداعية لتوحيد الكلمة ورصّ الصفوف تحت لواء الإسلام والتوحيد بين جميع مسلمي العالم»[5].

هذا غيض من فيض كلمات الإمام في الوحدة الإسلامية التي دعى إليها حتّى أواخر أيّام حياته الجهاديّة.

«يا مسلمي العالم ماذا دهاكم؟! لقد استطعتم في صدر الإسلام بعددكم القليل أن تحطّموا القوى الكبرى، وتشيّدوا صرح الاُمّة الإسلامية العظيمة. والآن وأنتم تقاربون المليار إنسان، وتمتلكون الثروات التي بمقدورها أن تشكّل أكبر حربة في مواجهة العدوّ أصبحتم أذلاّء ضعفاء»[6].

«الاتّحاد بوجه المستكبرين، وهذا الاتّحاد لا يخلق تجميعاً عددياً للطاقات فحسب، بل تخلق قوّة هائلة متفجّرة لا يستطيع الاستكبار العالمي أن يقف بوجهها، والاتّحاد فريضة دينيّة أكدّ عليها القرآن مراراً، وأهميّتها تتصاعد في هذه المرحلة الزمنية التي يعيش فيها المسلمون متفرّقين مشتّتين تحت السيطرة المباشرة وغير المباشرة لعالم المستكبرين، الأقطار الإسلامية بعدد سكّانها البالغ مليار إنسان وبثرواتها الطائلة بما فيها بحار البترول التي تفيض الحياة في شرايين القوى الكبرى، قد حباها الله بأحكام القرآن وتعاليم النبيّ الأكرم العبادية والسياسية التي تحثّ المسلمين على الاعتصام بحبل الله ونبذ التفرقة والتمزّق»[7].

«نحن نريد أن تعيش جميع الأقاليم الإسلامية في جوّ تسوده أحكام الإسلام ويرتبط الشعب فيها بحكومته بروابط الوئام، ويعيش الجميع قلباً واحداً، وتضحى البلدان الإسلامية يداً واحدة كي لا تتعرّض بضرّ. لقد رأيتم كيف استطاع الشعب الإيراني أن يهزم أعتى قوّة كبرى باتّحاده، ونحن نستهدف اتّحاد مليار مسلم في العالم، إذ لو اتّحدوا لما بقيت قضيّة القدس، ولا قضيّة أفغانستان ولا القضايا الاُخرى. ولو كفّ وعّاظ السلاطين عنّا شرّهم، وكفّوا أيديهم عن التعرّض لوحدتنا، فسننتصر إن شاء الله، وستنتصر القوى الإسلامية والبلدان الإسلامية. أسأل الله تعالى أن يعلي كلمة الإسلام والمسلمين وأن يمنّ على هذه الاُمّة بوحدة الكلمة»[8].

«هيّا يا شعوب العالم المستضعفة جميعاً انهضي واستردّي حقّكِ ولا تخافي عربدات الأقوياء، لأنّ الله معكِ والأرض إرث لكِ، ووعد الله لا يتخلّف، أسأل الله جلّ وعلا أن ينصر المحرومين ويوحّد كلمة أهل الحقّ»[9].

عودٌ  على  بدء:

الوحدة في مفهومها اللغوي يقابلها الكثرة، كما يقابلها الإثنينيّة، وتارةً يقابل الكثرة القلّة، ولازم الكثرة الاختلاف والتفرّق والتمايز.

وعند الحكماء والفلاسفة إنّما الإثنينية والكثرة، لا بدّ فيهما ممّـا به الاشتراك وممّـا به الامتياز، فكلّ اثنين وكثرة لا بدّ فيهما ممّـا به الاشتراك ومن الوحدة، كما لا بدّ فيهما ممّـا به التمايز، فكلّ واحد يمتاز عن الآخر، وإلاّ لما كانت الإثنينية والكثرة. توضيح ذلك بالمثال: فإنّ الاصبعين في راحة الإنسان إنّما هما اثنان باعتبار أنّ بينهما ما به الاشتراك وهي راحة اليد، فهما يشتركان فيها، كما بينهما ما به الامتياز كالطول، فأحدهما أطول من الآخر، فالكثير ينتهي إلى الوحدة، والأعداد تنتهي إلى الواحد، والأشكال والحروف تنتهي إلى النقطة، والنقطة بسيطة في جوهرها ومفهومها، وهي من الوحدة الحقيقيّة ـ إن صحّ التعبير ـ.

ثمّ الوحدة مقول بالتشكيك، والكلّي المشكّك، له مراتب طولية وعرضيّة، واختلاف المراتب بالأوّلية أو الأولويّة أو الشدّة والضعف، فنهاية الوحدة هي الوحدة المطلقة الحقيقية التي لا نهاية لها، وهي في ذات الله سبحانه وتعالى، فهو الواحد الذي لا ثاني له، ولا ضدّ ولا مثل ولا ندّ له. والأحد الذي لا تركيب فيه، فماهيّته إنّيته. فالوحدة المطلقة تتجلّى في مقام الواحديّة والأحديّة في الله سبحانه وتعالى، فهو الواحد الأحد، وما سواه عزّ وجلّ، فإنّ الوحدة فيه مجازية ومحدودة ومشوبة بالاختلاف والتركيب الحقيقي في ماهيّته، والمجاز قنطرة الحقيقة، فمن الوحدة المجازيّة نصل إلى الوحدة الحقيقية المطلقة. فما سوى الله سبحانه فيه الاختلاف والكثرة والإثنينية.

وفي كلّ اثنين لا بدّ ما بيه الاشتراك ومابه الامتياز، فالوحدة المجازية في مقام ما به الاشتراك والكثرة الحقيقية في مقام ما به الامتياز. ولا بدّ ـ باللابدّية العقليّة ـ من الاختلاف فيما سوى الله سبحانه حقيقة. ففي الكون لا بدّ من ضرورة الاختلاف الكوني، فلا بدّ من النهار ليكون معاشاً، ولا بدّ من الليل ليكون سكناً وسباتاً، ولا بدّ من الفصول الأربعة، وما شابه ذلك من الاختلاف المنظّم في هذا الكون الوسيع.

وكذلك لا بدّ من الاختلاف في المجتمع البشري، للوصول إلى الوحدة وما هو الأفضل والصواب، ففي الاقتصاد لا بدّ من تضارب الآراء والأفكار حتّى الوصول إلى الصحيح والسالم، وكذلك المجالات الاُخرى في الحياة. ولكن لا بدّ من الوحدة أيضاً، لمقتضيات الأحوال والظروف الخاصّة.

وفي عصرنا الراهن ندعو المسلمين جميعاً ـ سنّةً وشيعة ـ إلى الوحدة الإسلامية، تجمعنا المشتركات ـ وما به الاشتراك ـ ومن أهمّها في العقيدة أصل التوحيد والإيمان بخاتم النبيين محمّد (صلى الله عليه وآله) وبكتاب الله الكريم، فإنّ ربّنا واحد لا شريك له، ونبيّنا محمّد (صلى الله عليه وآله)، وكتابنا القرآن الكريم.

وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نكون مع الصادقين في قوله:

﴿وَكونوا مَعَ الصَّادِقينَ﴾[10].

والصادقون هم أصحاب المنطق والبرهان، لقوله تعالى:

﴿هاتوا بُرْهانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صادِقينَ﴾[11].

فالمذاهب كلّها تدّعي أنّها الفرقة الناجية، ولكن لا بدّ في المعتقدات والسلوك والإيمان بصحّة مذهبه وطريقته وصراطه من دليل وبرهان من الله ورسوله، فقفوهم إنّهم مسؤولون، وما أن يوضع الإنسان في لحده وقبره، إلاّ ويُسأل من ربّك ؟ ومن نبيّك ؟ ومَن إمامك ؟ فإنّه من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة الجاهلية ـ كما ورد في الخبر النبويّ الشريف المستفيض عند الفريقين السنّة والشيعة ـ فكلّ مسلم في عقيدته وشرعه ومناسكه ونظامه في الحياة، يكون مسؤولا يوم القيامة يوم الكشف الأتمّ، تنكشف الحقائق كما هي، وبصرك اليوم حديد ونافذ يرى ملكوت الأشياء.

وتعدّد المذاهب والفرقة والشقاق إنّما هو من الفتنة والامتحان، وإن كان منشأه من عمل الشيطان الرجيم، فإنّه أقسم بعزّة الله سبحانه:

﴿لأغْوِيَنَّهُمْ أجْمَعينَ إلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الُمخْلَصينَ﴾[12].

وفي الخبر الشريف: الناس كلّهم هلكى إلاّ العلماء، والعلماء كلّهم هلكى إلاّ العاملون، والعاملون كلّهم هلكى إلاّ المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم.

فالفرقة الناجية هي الصفوة المخلصة، ولا نستوحش في طريق الحقّ من قلّة أهله ـ كما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهجه ـ.

وأمّا في الدنيا فلا بدّ من الوحدة بين المسلمين، كما فعل ذلك رسول الإسلام محمّد (صلى الله عليه وآله). وإذا ورد عنه «اختلاف اُمّتي رحمة»، فقد فسّر لنا ذلك الإمام (عليه السلام): إنّ الاختلاف بمعنى التزاور، وأن يختلف المسلم على أخيه المسلم في الزيارة، لا بمعنى الشقاق والفرقة، ويأتي الاختلاف أيضاً بمعنى طلب العلم.

«فعن عبد المؤمن الأنصاري، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنّ قوماً رووا أنّ رسول الله قال: اختلاف اُمّتي رحمة. فقال: صدقوا. قلت: إن كان اختلاف رحمة فاجتماعهم عذاب ؟ قال: ليس حيث ذهبت وذهبوا، إنّما أراد قول الله عزّ وجلّ: ﴿فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طائِفَةٌ﴾ فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله ويختلفوا إليه فيتعلّموا، ثمّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم، إنّما أراد اختلافهم من البلدان، لا اختلافاً في دين الله، إنّما الدين واحد[13].

هذا وقد ورد في الأخبار العلاجيّة الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) في الأخبار المتعارضة أن نأخذ ما وافق كتاب الله سبحانه، وما اشتهر بين أصحابنا، وما خالف من يخالفنا، فإنّما الرشد في مقام العمل الفردي والشخصي وفي العبادات في ذلك، فعقيدتنا أنّ ما بأيدينا هو الحقّ، وإذا ورد في أخبارنا الخاصّة عن أهل البيت (عليهم السلام)في مقام علاج الروايات الواردة عنهم المتعارضة «أنّ الرشد في مخالفتهم»، فإنّ هذا لا يعني أن نخالفهم، ونخلق المشاكل في الدول الإسلامية، حتّى يكون السيف هو الحاكم بيننا، ومن ثمّ القتل والنهب.

الحقيقة، إنّما المقصود متابعة الحقّ، وإذا ورد ما يوافق غيرنا وهو من الحقّ فإنّه نتبعه، فإنّ الرشد أن نخالف الباطل في مقام العمل العبادي، وأمّا في مقام القضايا الاجتماعية وحسن المعاشرة والتعايش، فناهيك الروايات الكثيرة التي تأمرنا أن نحسن المعاشرة معهم ونعيش بسلم وسلام، فإنّ المسلم ـ من سلم المسلمون من يده ولسانه ـ وأن نحضر صلاتهم وجنائزهم، وأن نكون لأئمتنا (عليهم السلام)زينٌ، حتّى يجعلوا الناس أماناتهم عندنا من خلال صدقنا وإيماننا وحسن معاشرتنا، حتّى يقال رحم الله جعفر بن محمّد الصادق، كيف أدّب أصحابه وشيعته.

وكان الأمير (عليه السلام) يوصي ولده الحسن (عليه السلام) أن يحسن معاشرته ومجالسته مع اليهودي: «وإذا جالست اليهودي فأحسن مجالسته»، فبالأولوية أن نُحسن المعاشرة مع كلّ المذاهب الإسلامية.

وهل يجوز لواحد من المسلمين أن يختلف مع أخيه المسلم من أيّ مذهب كان، والعدوّ يغزوه في عُقر داره، وأمير المؤمنين (عليه السلام) في نهجه يقول: «ذُلّ قومٌ غُزوا في عُقر دارهم».

أما حان للمسلم الغيور على دينه وإسلامه أن يتّحد مع أخيه المؤمن، فإنّ المسلمون يدٌ واحدةٌ على مَن سواهم، وهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ اشتكى الجسد كلّه، ومن سمع يا للمسلمين ولم يجبه فليس بمسلم[14] ؟ ! !

متى يتخلّق المسلم الرسالي بأخلاق نبيّه الأكرم:

﴿لَكُمْ في رَسولِ اللهِ اُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾[15].

ويراعي شعور المسلمين ويدع التناحر والتنازع ليجابه عدوّه المشترك، كالصهاينة العتاة المردة أبناء الكلاب والخنازير ؟ ! !

مَن مِن المسلمين لبّى دعوة الله في قوله تعالى:

﴿وَاعْتَصِموا بِحَبْلِ اللهِ جَميعاً وَلا تَفَرَّقوا﴾[16].

فمن أهمّ العوامل المشتركة بين المسلمين في سلوكهم هي الأخلاق الحميدة، فنقتدي ونتأسّى برسول الإسلام وهديه، فإنّ الأخلاق المحمّدية بنظري من أفضل

الاُصول الأوّلية في تحكيم مباني الوحدة الإسلامية، فإنّه كان يداري الناس حتّى الأعداء والمنافقين حتّى مدحه الله في قوله:

﴿وَإنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظيم﴾[17].

وكان يقول (صلى الله عليه وآله): أمرني الله بمداراة الناس كما أمرني بالفرائض.

وكما كان يجلس لصهره وأخيه وابن عمّه أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) كان يجلس لباقي الصحابة وفيهم الفاسق والمنافق، والتأريخ يشهد بذلك.

وإذا قيل إنّما فعل ذلك ليشتدّ عود الإسلام وتقوى شوكته، لأ نّه كان غريباً ـ آنذاك ـ فنقول: قد أخبرنا النبيّ الأعظم في قوله: سيعود الإسلام غريباً كما بُدء غريباً، ويومنا هذا يوم غربة الإسلام المحمّدي الأصيل.

فأيّ بلد يحكم فيه الإسلام بكلّ قوانينه وأحكامه ؟ وما أكثر البلاد الإسلاميّة التي تحكمها السياسات الطاغوتيّة، وعملاء الاستعمار، والاقتصاد الربوي، والقوّة العسكريّة الأجنبيّة، والثقافة المنحطّة الغربيّة... أليس هذا يوم غربة الإسلام الأصيل ؟ ! !

ثمّ يا تُرى من ينتفع من اختلافنا ؟ أليس أعداء الإسلام ؟ أليس الاستعمار وأعداء المسلمين زرعوا الخلاف في صفوفهم، ووحدتهم لنهب ثرواتهم وليسودوهم، تبعاً لسياسة (فرّق تسد) الاستعمارية.

أما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما اختلفت اُمّة بعد نبيّها إلاّ ظهر أهل باطلها على أهل حقّها[18].

أما قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): احذروا ما نزل بالاُمم قبلكم من المثلات

سوء الأفعال وذميم الأعمال فتذكّروا في الخير والشرّ أحوالهم واحذروا أن تكونوا أمثالهم. فإذا تفكّرتم في تفاوت حاليهم فالزموا كلّ أمر لزمت العزّة به شأنهم وزاحت الأعداء له عنهم، ومدّت العافية به عليهم وانقادت النعمة له معهم، ووصلت الكرامة عليه حبلهم من الاجتناب للفرقة واللزوم للاُلفة والتحاضّ عليها والتواصي بها. واجتنبوا كلّ أمر كسر فِقرتهم، وأوهن منّتهم، من تضاغن القلوب وتشاحن الصدور وتدابر النفوس وتخاذل الأيدي. وتدبّروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم... فانظروا كيف كانوا، حيث كانت الأملاء مجتمعة، والأهواء مؤتلفة، والقلوب معتدلة، والأيدي مترادفة، والسيوف متناصرة، والبصائر نافذة، والعزائم واحدة. ألم يكونوا أرباباً في أقطار الأرضين وملوكاً على رقاب العالمين ؟ ! فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر اُمورهم حين وقعت الفرقة وتشتّت الاُلفة واختلفت الكلمة والأفئدة، وتشعّبوا مختلفين وتفرّقوا متحاربين، قد خلع الله عنهم لباس كرامته، وسلبهم غضارة نعمته، وبقي قصص أخبارهم فيكم عبراً للمعتبرين[19].

وقـال (عليه السلام): إنّ الله سبحانه لـم يعطِ أحداً بفرقة خيراً ممّن مضى ولا ممّن بقي.

إنّ الشيطان يسنّي لكم طرقه، ويريد أن يحلّ دينكم عقدةً عقدةً، ويعطيكم بالجماعة الفرقة، وبالفرقة الفتنة، فاصدقوا عن نزاعاته ونفثاته.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا تختلفوا فإنّ من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا.

أذهبتم من عندي جميعاً وجئتم متفرّقين ؟ إنّما هلك من كان قبلكم الفُرقة[20].

أتعلم أيّها القارئ الكريم إنّما الاختلاف عذاب من الله سبحانه لقوله تعالى:

﴿قُلْ هُوَ القادِرُ عَلى أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أوْ مِنْ تَحْتِ أرْجُلِكُمْ أوْ يُلـْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذيقُ بَعْضَكُمْ بَأسَ بَعْض﴾[21].

قال الإمام الباقر (عليه السلام) ـ في قوله ﴿أوْ يَلـْبِسَكُمْ شِيَعاً﴾ ـ: وهو اختلاف في الدين وطعن بعضكم على بعض ﴿وَيُذيقَ بَعْضَكُمْ بَأسَ بَعْض﴾ وهو أن يقتل بعضكم بعضاً، وكلّ هذا في أهل القبلة.

وإن سألت عن سبب الفرقة فقد قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): إنّما أنتم إخوان على دين الله، ما فرّق بينكم إلاّ خبث السرائر وسوء الضمائر، فلا تزاورون ولا تناصحون ولا تباذلون ولا توادّون.

«لو سكت الجاهل ما اختلف الناس».

«سبب الفرقة الاختلاف».

وكفانا في الأخلاق المحمّدية، وتأثيرها في الوحدة الإسلاميّة، دعاء (مكارم الأخلاق) لحفيده زين العابدين الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) في صحيفته السجّادية جاء فيها: «... اللهمّ صلِّ على محمّد وآله، وسدّدني لأن اُعارض من غشّني بالنصح وأجزي من هجرني بالبرّ واُثيب من حرمني بالبذل واُكافي من قطعني بالصلة واُخالف من اغتابني إلى حُسن الذكر، وأن أشكر الحسنة وأغضي عن السيّئة. اللهمّ صلِّ على محمّد وآله وحِلّني بحلّية الصالحين وألبسني زينة المتّقين في بسط العدل وكظم الغيظ وإطفاء النائرة وضمّ أهل الفرقة ـ وهذه من آيات الوحدة الإسلامية من لسان الإمام السجّاد (عليه السلام) ـ وإصلاح ذات البين وإفشاء العارفة وستر العائبة ولين العريكة وخفض الجناح وحسن السيرة وسكون الريح وطيب المخالفة والسبق إلى الفضيلة وإيثار التفضّل وترك التعيير والإفضال على غير المستحقّ، والقول بالحقّ وإن عزّ، واستقلال الخير وإن كثر من قولي وفعلي، وأكمل ذلك لي بدوام الطاعة ولزوم الجماعة ورفض أهل البدع ومستعملي الرأي المخترع...».

ولا يخفى أنّ هناك المئات من الأدلّة والشواهد القرآنية والروائية وسيرة النبيّ الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) وأصحابه الأبرار رضي الله عنهم، وكيف كان بعضهم يتنازل عن حقوقه الشخصيّة حفاظاً على الوحدة الإسلامية، ولنا فيهم القدوة والاُسوة الحسنة، والاختلاف في يومنا هذا بين السنّة والشيعة إنّما هي ضجّة مفتعلة، يطبّل لها الاستعمار، ويروّج لها الاستكبار، وعلى كلّ مسلم واع رساليّ أن يفنّد مخطّطاتهم، ويتّحد مع أخيه المسلم في كلّ أقطار الأرض.

شعاره (الوحدة الإسلامية) وسلوكه (الأخلاق المحمّدية) ويتلافى نقطة الضعف الرئيسية في موقف المسلمين تجاه أعدائهم، وهي تتبلور في اختلافهم وتفرّقهم وتفكّك أواصر الوحدة والمحبّة والمودّة. ولا بدّ لنا من احترام الآراء، والاحترام المتبادل بين المسلمين، وإبراز المشتركات والقضايا الرئيسية بين المسلمين، وإعطاء الحريّة، فإنّ المسلم من حقّه أن يمارس حرّيته وحقوقه السياسية والمدنية، فيمكنه أن يعبّر عن نقده وآرائه وفهمه للحياة. وذلك من خلال الأخلاق الفاضلة، التي هي عبارة عن مجموعة من المبادئ التي ينبغي أن يجري السلوك الإنساني على مقتضاها، فترسم طريق السلوك الحميد، وتحدّد أهدافه وبواعثه. فيكون مستقيماً في قصده وفعله، بعيداً عن الهوى واتّباع النفس الأمّارة بالسوء، يتعلّم ذلك من كتاب الله وسنّة نبيّه وآله الأطهار وصحبه الأخيار، والعقل والمشاهدة والفطرة السليمة وجوهر الإنسانية.

فالأخلاق الإسلامية دورها في تحكيم الوحدة ممّـا لا ريب فيه، ومذهبنا يأمرنا بالاعتصام والاتّحاد من عدّة منطلقات، متّخذاً من القرآن الكريم شعاراً له عمليّاً، لنكون قوّة واحدة لإبراز الكلمة الواحدة أمام العدوّ المشترك الواحد ـ والكفر ملّة واحدة ـ الذي بات يهدّد كياننا الإسلامي. وأنّ الكثير من الموضوعات والحيثيّات والمعتقدات، هي القاسم المشترك بين المذاهب، في اُصول الدين كالوحدانية وصفات الربوبيّة، وفروع الدين كالصلاة والصوم والزكاة والحجّ، فالكعبة واحدة، وشعائرها موحّدة، والموقف واحد. كما أنّ العمل الجهادي في عصر الصحوة الإسلامية والأهداف المتمثّلة بردع الظالم ومحاربة الطغاة، سواء بالقلم أو بالسيف أو بكليهما من المنطلقات التي تُحتّم على المسلمين وعلمائهم أن يبادروا بخطوات إصلاحية الوحدة بين المذاهب الإسلامية.

فالوحدة الصادقة مطلوبة، وبها يتحقّق حلم المسلمين في تكوين دولة واحدة، يتزعّمها العلماء المجاهدون والقادة الصالحون، لنعيد مجدنا وعزّتنا، ونظهر قوّتنا، في العُدّة والعدد، لنرهب بها أعداء الله.

وعلينا أن نشمّر عن سواعد الجدّ، لنبدأ الحياة السعيدة والعيش الرغيد تحت ظلّ الإسلام من جديد، فعدوّنا المشترك جاء إلى بلادنا مستغلا ثرواتنا، وداس مقدّساتنا، وخلّف فينا شرارنا يتأمّرون ويتآمرون علينا، متّبعين سياسة الفرقة وزرع الخصام.

وقد بادرت الجمهورية الإسلامية منذ يومها الأوّل إلى الوحدة الإسلامية من منطلق العقل والكتاب والقوّة والاقتدار، لا الضعف والافتقار والإجبار. واعتبرت (12ـ17 ربيع الأوّل) من كلّ عام اُسبوعاً للوحدة بين المسلمين كافّة، تقيم فيه المؤتمرات وتستضيف علماء المذاهب والشخصيات والحركات الإسلامية لمدارسة اُمور المسلمين وحلّ مشاكلهم العالمية، وتجدّد خطوة إلى التقدّم والازدهار، وتضع خطّة اُخرى على ما يستجدّ على الساحة الإسلامية.

فبارك الله في المساعي الحميدة والخطوات المجيدة، وعلى الدول الإسلامية أن تقتدي بفعلها الحسن، والأرض يرثها عباد الله الصالحون، والعاقبة للمتّقين، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين[22].

--------------------------------

[1]المصدر: 11، من حديث القائد لأعضاء مؤتمر القدس 27 رمضان 1400 هـ.

[2]المصدر: 13، من بيان الإمام إلى الحجّاج سنة 1400 هـ.

[3]المصدر نفسه، من حديث الإمام لعشائر خوزستان سنة 1401 هـ.

[4]المصدر: 14.

[5]المصدر: 15.

[6]المصدر: 34، من نداء الإمام للحجّاج 1399 هـ.

[7]من رسالة الإمام إلى خالد بن عبد العزيز 1401 هـ.

[8]من حديث الإمام لسفراء البلدان الإسلامية 1400 هـ.

[9]من حديث القائد في مطلع القرن الخامس.

[10]التوبة: 119.

[11]البقرة: 111.

[12]الحجر: 40.

[13]ميزان الحكمة 3: 77.

[14]هذه مضامين روايات نبويّة اتّفق عليها الفريقان السنّة والشيعة.

[15]الأحزاب: 21.

[16]آل عمران: 104.

[17]القلم: 4.

[18]ميزان الحكمة 3: 74، عن كنز العمّـال، الحديث 929.

[19]نهج البلاغة، الخطبة 192 القاصعة.

[20]ميزان الحكمة 3: 75.

[21]الأنعام: 65.

[22]طبع هذا الموضوع أوّلا من قِبَل المؤتمر العالمي السابع للوحدة الإسلامية المنعقد في طهران، ربيع الأوّل سنة 1415، فارتأينا تجديد طبعه مع تنقيح وتصحيح من المؤلّف، لتعمّ الفائدة، ويتمّ المطلوب، ومن الله التوفيق والسداد.