الحَديث السَادِس

من أصبح وأمسى والدنيا أو الآخِرة أكبر همّه

بالسند المتَّصل إلى محمّد بن يعقوب عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن ابن محبوب، عن عبدالله بن س نان وعبد العزيز العبدي، عن عبد الله بن أبي يعفور، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «مَنْ أَصْبَحَ وأَمْسى وَالدُّنْيا أَكْبَرُ هَمَّه، جَعَلَ اللَّهُ الفَقْر بَيْنَ عَينَيْهِ وَشَتَّتَ أَمْرَهُ وَلَمْ يَنَلْ مِنَ الدُّنْيَا إلاّ مَا قُسِمَ لَهُ وَمَنْ أَصْبَحَ وَأمْسَى وَالآخَِةُ أَكْبَرُ هَمَّه، جَعَلَ اللَّهُ الغِنَى فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ أَمْرَهُ»([1]).

 

الشرح:

اعلمِ أن للدنيا والآخرة اطلاقات حسب آراء أرباب العلوم ولدى مقاييس معارفهم وعلومهم ولا يكون البحث عن حقيقتها على ضوء المصطلحات العلمية بمهمة لدينا، فإن بذل الجهد في فهم الاصطلاحات والرد والقبول والجرح والتعديل يحول دون بلوغ القصد.

وإنما المهم في هذا الباب هم فهم الدنيا المذمومة التي على طالب الآخرة أن يتحرز منها. وما يعين الإنسان على النجاة، وسوف نبين ذلك إنشاء الله في بضعة فصول، ونسأل الّه تعالى التوفيق في سلوك هذا الطريق.

فصل: في بيان كلام مولانا المجلسي ـ رحمة اللّه عليه ـ في حقيقة الدنيا المذمومة

يقول المحقق الخبير والمحدث المنقطع النظير مولانا المجلسي رحمة اللّه عليه:

(فاعلم أن الذي يظهر من مجموع الآيات والأخبار على ما نفهمه أن الدنيا المذمومة مركبة من مجموع أمور تمنع الإنسان من طاعة الّه وحبه وتحصيل الآخرة، فالدنيا والآخرة، ضرّتان متقابلتان فكلما يوجب رضى الله سبحانه وقربه فهو من الآخرة، وإن كان بحسب الظاهر من أعمال الدنيا كالتجارات والصناعات والزراعات التي يكون المقصود منها تحصيل المعيشة للعيال لأمره تعالى به وصرفها

في وجوه البر، وإعانة المحتاجين، والصدقات، وصون الوجه عن السؤال وأمثال ذلك، فإن هذه كل ها من أعمال الآخرة وإن كان عامة الخلق يعدونها من الدنيا.

والرياضات المبتدعة والأعمال الريائية، وإن كان مع الترهب وأنواع المشقة فإنها من الدنيا لأنها مما يبعد عن الله ولا يوجب القرب إليه كأعمال الكفار والمخالفين) انتهى كلامه([2]).

ونقل المجلسي ـ رحمه اللّه ـ عن أحد المحققين:

«دنياك وآخرتك عبارة عن حالتين من أحوال قلبك، والقريب الداني منهما يسمى الدنيا وهي كل ما قبل الموت، والمتراخي المتأخر يسمى آخرة، وهي ما بعد الموت. فكل مالك فيه حظ وغرض ونصيب وشهوة ولذ ة في عاجل قبل الوفاة، فهي الدنيا في حقك...»([3]).

يقول الفقير إلى الله: إن الدنيا مرة تطلق على نشأة الوجود النازلة والتي هي دار تصرّم وتغيّر ومجاز، والآخرة تطلق على الرجوع من هذه النشأة إلى ملكوت الإنسان وباطنه والتي ه دار بقاء وخلود وقرار. وهاتان النشأتان متحققتان لكل نفس من النفوس وشخص من الأشخاص. وعلى العموم، لكل كائن مقام ظهور وملك وشهود. وتلك هي مرتبته النازلة الدنيوية. ومقام باطني، وملكوت غيبي، وهي النشأة الصاعدة الأخروية. وهذه النشأة النازلة الدنيوية وإن كانت ناقصة بذاتها وإنها آخر مراتب الوجود، ولكن لما كانت مهد تربية النفوس القدسية، ودار تحصيل المقامات العالية، ومزرعة الآخرة، فإنها من أحسن مشاهد الوجود وأعز النشآت، وهي المغنم الأفضل عند الأولياء وأهل سلوك الآخرة. ولولا هذه الأمور الملكيّة والتغييرات والحركات الجوهرية، الطبيعية والإرادية، ولولا أن يسلط الّه تعالى على هذه النشأة التبدّلات والتصرّمات، لما وصل أحد من ذوي النفوس الناقصة إلى حد كماله الموعود ودار قراره وثباته، ولحصل النقص الكلي في الملك والملكوت.

إن ما ورد في القرآن والأحاديث عن ذم هذه الد نيا، لا يكون عائدا في الحقيقة إلى الدنيا من حيث نوعها أو كثرتها، بل يعود إلى التوجه نحوها وانشداد القلب بها ومحبتها.

وعليه، يتبين من ذلك أن أمام الإنسان دنياءان: دنيا ممدوحة ودنيا مذمومة. فالممدوح هو الحصول في هذه النشأة وهي دار التربية ودار التحصيل ومحل التجارة لنيل المقامات واكتساب الكمالات والإعداد لحياة أبدية سعيدة، مما لا يمكن الحصول عليه دون الدخول إلى هذه الدنيا، كما جاء في خطبة لمولى الموحدين أمير المؤمنين علي عليه السلام ردا على من ذم الدنيا:

«. إنّ الدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَها، وَدَارُ عَافِيَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا، وَدَارُ غِنىً لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا، وَدَارُ مَوْعِظَةٍ لِمَنْ اتّعَظَ بِهَا. مَسْجِدُ أحِبّاءِ اللّهِ، وَمُصَلّى مَلائِكَةِ اللَّهِ، وَمَهْبَطُ وَحْي اللَّهِ، وَمَتْجَرُ أوْلِيَاءِ اللَّهِ. اكْتَسَبُوا فِهَا الَّحْمَةَ، وَرَبَحُوا فِيهَا الجَنَّةَ...» ([4]).

وقال تعالى: (... وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ) ([5]). وهي دار الدنيا حسب ما ورد في تفسير العيّاشي عن الإمام الباقر عليه السلام. وعليه، فإن عالم الملك، وهو مظهر الجمال والجلال وحضرة الشهادة المطلقة، ليس مذموماً بهذا المعنى، بل المذموم هو دنيا الإنسان نفسه، أي التوجه إليها والتعلق بها وحبها، وهذا هو منشأ كلّ المفاسد والخطايا القلبية والظاهرية. كما جاء في كتاب الكافي الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام: قال عليه السلام: «رَأْسُ كُلّ خَطِيئَةٍ حُبُّ الدُّنْيَا» ([6]). وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: «مَا ذِئَْانِ ضَارِيَان فِي غَنَمٍ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ هذا في أَوَّلِهَا وَهذا في آخِرِ هَا بِأَسْرَعَ فِيهَا مِنْ حُبِّ الَالِ وَالشَّرَفِ فِي دينِ المُؤْمِنِ» ([7]). فتعلق القلب بالدنيا وحبها، هو الدنيا المذمومة. وكلما كان التعلق بها أشد كان الحجاب بين الإنسان ودار الكرامة، والحاجز بين القلب والحق سبحانه، أسمك وأغلظ. وإن ما جاء في الأحاديث الشريفة من أن لله سبعين ألف حجاب من النور والظلمة، يمكن أن يكون المقصود من حجب الظلمة هذه الميول والتعلقات القلبية نحو الدنيا. فكلما كان التعلق بالدنيا أقوى، كان عدد الحجب أكثر، وكلما كان الحب لها أشد، كان الحجب أغلظ واختراقها أصعب.

فصل: في بيان سبب ازدياد حب الدنيا

اعلم أنه ولما كان الإنسان وليد هذه الدنيا الطبيعية، وهي أمه، وهو ابن هذا الماء والتراب، فإن حب الدنيا يكون مغروساً في قلبه منذ مطلع نشوئه ونموه، وكلما كبر في العمر، كبر هذا الحب في قلبه ونما. وبما وهبه الّه من القوى الشهوانية ووسائل التلذذ للحفاظ على ذاته وعلى البشرية، يزداد حبه ويقوى تعلقه، ويظن أنّ الدنيا إنّما هي دار اللذات وإشباع الرغبات، ويرى في الموت قاطعاً لتلك ا للذات، وحتى لو كان يعرف من أدلة الحكماء أو أخبار الأنبياء صلوات اللّه عليهم أن هناك عالماً أخروياً فإن قلبه يبقى غافلاً عن كيفية عالم الآخرة وحالاته وكمالاته ولا يتقبله، فضلاً عن بلوغه مقام الاطمئنان. ولهذا يزداد حبّه وتعلقه بهذه الدنيا.

وبما أن حب البقاء فِطري في الإنسان، فهو يكره الزوال والفناء، ويظن أن الموت، فناء. ولو أنه آمن بعقله بأن هذه الدنيا دار فناء ودار ممر، وأن العالم الآخر عالم بقاء سرمدي، فما دام إيمانه العقلي هذا يكون موجوداً، ولم يدخل الإيمان قلب، بل ولم يحصل الاطمئنان الذي هو المرتبة الكاملة للإيمان القلبي. فهو لا يزال يميل فطرةً، إلى الدنيا والبقاء فيها كما طلب إبراهيم خليل الرحمن من الحق المتعال هذا الاطمئنان، فأنعم به عليه. إذاً، إما أن القلوب لا تؤمن بالآخرة، مثل قلوبنا، وإن كنا نصدق بها تصديقاً عقلياً، وإما أنها لا اطمئنان فيها، فيكون حب البقاء في هذا العالم، وكراهة الموت والخروج من هذا العالم في القلب موجوداً. ولو أدركت القلوب أن هذه الدنيا هي أدنى العوالم، وأنها دار الفناء والزوال والتصرم والتغيّر، وأنها دار الهلاك ودار النقص، وأن العوالم الأخرى التي تكون بعد الموت عوالم باقية وأبدية، وأنها دار كمال وثبات وحياة وبهجة وسرور، لحصل فيها بالفطرة حب تلك العوالم، ولنفرت من هذه الدنيا. ولو ارتفع الإنسان عن هذا العالم ووصل إلى مقام الشهادة والوجدان ورأى الصورة الباطنية لهذا العالم وللتعلق به، والصورة الباطنية لذلك العالم ـ عالم الآخرة ـ والتعلق به، لأصبح هذا العالم ثقيلاً عليه، وغصّة في حلقه ولنفر منه، واشتاق للتخلص من هذا السجن المظلم ومن سلسلة قيود الزمان والتغير. كما جاء في كثير من كلام الأولياء.

يقول الإمام علي عليه السلام: «وَاللَّهِ لابْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَديِ أُمِّهِ» ([8]).

ذلك لأنه رأى بعين الولاية حقيقة هذه الدنيا، فلا يؤثر على مجاورة رحمة الحق المتعال شيءٌ أبداً. ولولا المصالح لما ثبتت نفوسهم الطاهرة، لحظة واحدة في سجن الطبيعة المظلمة. إن الوقوع في الكثرة، ونشأة الظهور والاشتغال بالتدبرات المُلكية بل التأييدات الملكوتية، يعدّ كل ذلك للمحبين والمنجذبين، ألم وعذاب ليس بقدورنا أن نتصورهما.

إن أكثر أنين الأولياء إنما هو ألم فراق المحبوب والبعد عن كرامته، كما أشاروا إلى ذلك بأنفسهم في مناجاتهم، على الرغم من أنهم لا يحجبهم حجاب مُلكي أو ملكوتي، وقد اجتازوا ج حيم الطبيعة الذي كان خامداً غير مستعر، وقد خلوا من التعلق بالدنيا وتطهرت قلوبهم من الخطيئة الطبيعية. إلاّ أن الوقوع في عالم الطبيعة هو بذاته تلذذ طبيعي وقسري، مما كان يحصل لهم، ولو بأقل مقدار، فكان ذلك من باب الحجاب. وفي ذلك ي قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم:

«لَيُرَانُ عَلَى قَلْبِي وإنّي لأَسْتَغفِرُ اللّه فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعينَ مَرَّةً»([9]). ولعل خطيئة آدم أبي البشر نجمت عن هذا التوجه القسري نحو تدبير المُلِك والحاجة الاضطرارية إلى القمح وسائر الأمور الطبيعية، وهذه خطيئة بالنسبة إلى أولياء الّه والمنجذبين إليه. ولو بقى آدم عليه السلام في ذلك الانجذاب الإلهي، ولم ي دخل في قضية المُلك، لما حدث كل هذا الشقاء والعناء في الدنيا والآخرة.

فصل: في بيان تأثير الحظوظ الدنيوية في القلب ومفاسده

اعلم أن ما تناله النفس من حظ في هذه الدنيا، يترك أثراً في القلب، وهو من تأثير الملك والطبيعة، وهو السبب في تعلقه بالدنيا. وكلّما ازداد التلذذ بالدنيا، اشتد تأثر القلب وتعلقه بها وحبه لها، إلى أن يتجه القلب كُلّياً نحو الدنيا وزخارفها، وهذا يبعث على الكثير من المفاسد. إن جميع خطايا الإنسان وابتلاءه بالمعاصي والسيئات سببها هذا الحب للدنيا والتعلق بها كما ورد في الحديث الذي أوردناه من كتاب أصول الكافي قبل قليل.

وإن من المفاسد الكبيرة لحب الدنيا ـ كما كان يقول شيخنا العارف (روحي فداه) ـ هو أنه إذا انطبع حب الدنيا على صفحة قلب الإنسان، واشتد الأنس بها، انكشف له عند الموت أن الحق المتعال يفصل بينه وبين محبوبه، ويفرّق بينه وبين مطلوبه، فيغادر الدنيا ساخطاً مغتاظاً على ولي نعمته. إن هذا القول القاصم للظهر يجب أن يوقظ الإنسان أيّما إي قاظ للحفاظ على قلبه. فالعياذ باللّه من إنسان يسخط على ولي نعمته، مالك الملوك الحق، إذ ليس أحد يعرف صورة هذا السخط والعداء، غير اللّه تعالى.

ويقول أيضاً شيخنا المعظم ـ دام ظله ـ نقلاً عن أبيه المعظم، إنه كان في أواخر عمره خائفاً بسبب المحبة التي كان يكنّها لأحد أولاده، ولكنه بعد الانهماك بالرياضات النفسية تخلص من ذلك الخوف، وانتقل إلى دار السرور مسروراً، رضوان الّه عليه.

جاء في «الكافي» بإسناده عن طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: «مَثَلُ الدُّنيا كَمَثَلِ ماءِ البحرِ كُلَّما شَرِبَ مِنْهُ العطشانُ ازدادَ عَطَشاً حَتَّى يقتل» ([10]).

إن حب الدنيا ينتهي بالإنسان إلى الهلاك الأبدي، وهو أصل البلايا والسيّئات الباطنية والظاهرية وقد نقل عن رسول الّه صلّى الّه عليه وآله وسلم قول: «إِنَّ الدِّرْهَمَ وَالدِّينَارَ أَهْلَكا مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَهُمَا مُهْلِكَاكُمْ».

وعلى فرض أن الإنسان لم يرتكب معاصي أخرى ـ على الرغم من أن هذا الفرض بعيد، أو من المستحيل عادة ـ فإن التعلق بالدنيا نفسه معصية، بل أن مقياس طول بقاء الإنسان في عالم القبر والبرزخ هو أمثال هذه التعلقات. فكلّما كان التعلق بالدنيا أقل كان البرزخ وقبر الإنسان أكثر نوراً وأوسع، ومكثه فيه أقصر. لذلك فقد ورد في بعض الروايات: إن عالم القبر لأولياء الله لا يزيد عن ثلاثة أيام، وإنّما كان هذا لأجل التعلق الطبيعي والعلاقة الجِبِلّية لأولياء الّه تجاه العالم.

وإن من مفاسد حب الدنيا والتعلّق بها هو أنه يجعل الإنسان يخاف الموت. وهذا الخوف الناشئ من حب الدنيا، والتع لق القلبي بها المذموم جداً. غير الخوف من المرجع ـ مآل الإنسان بعد الموت ـ المعدود من صفات المؤمنين. إن أهم صعوبة في الموت هي ضغوطات لرفع هذه العلائق، والخوف من الموت. يقول المحقق المدقق الإسلامي البارع، السيد العظيم الشأن، الداماد، كرّم اللّه وجهه، في كتابه «القبسات» الذي يعد من الكتب النادرة: «لاَ يُخيِفنك الموتُ، فإنَّ مَرارَته في خوفه» ([11]).

ومن المفاسد الكبيرة لحب الدنيا أنه يمنع الإنسان من الرياضات الشرعية والعبادات والمناسك، ويُقويّ جانب الطبيعة في الإنسان بحيث يجعلها تعصي الروح وتتمرد عليها ويوهن عزم الإنسان وإرادته، مع أن من أكبر أسرار العبادات والرياضات الشرعية هو أن تجعل الجسم وقواه الطبيعية تابعة ومنقادة للروح بحيث يكون للإرادة دوراً مؤثراً في الجسم ويخضع الجسم لأوامر الإرادة فيعمل ما تشاء، ويمتنع عمّا تشاء، ويصبح مُلك الجسم وقواه الظاهرة مقهوراً ومسخّراً للملكوت بحيث أنه يقوم بما يريد من دون مشقة ولا عناء.

إن من الفضائل والأسرار الشاقة والصعبة للعبادات تحقق هذا الهدف ـ تسخير مُلك الجسم للملكوت ـ أكثر حيث يصير الإنسان بذلك ذا عزم، ويتغلب إلى الطبيعة والملك. فإذا اكتملت الإرادة وقوي العزم واشتد، أصبح كمَثَل الجسم وقواه الظاهرة والباطنة مَثَل ملائكة اللّه الذين لا يعصون الله وإنما يطيعونه في كل ما يأمرهم به وينهاهم عنه، من دون أن يعانوا في ذلك عنتاً ولا مشقة.

كذلك إذا أصبحت قوى الإِنسان مسخّرة للروح، زال كل تكلف وتعب وتحوّل إلى الراحة واليسر، واستسلمت أقاليم الملك السبعة للملكوت وأصبحت جميع القوى عمّالاً له.

فاعلم، يا عزيزي، أن العزم والإرادة القوية لذلك العالم ضروريان وذات فعالية. إن البلوغ لأحد مراتب الجنة والذي يُعدّ من أفضلها هو العزم والإرادة. فالإنسان الذي ليست له إرادة نافذة ولا عزم قوي لا ينال تلك الجنة ولا ذلك المقام الرفيع.

جاء في الحديث، أن أهل الجنة عندما يستقر ون فيها، تنزل عليهم رسالة من ساحة القدس الإلهي جلّت عظمته بهذا المضمون: «هذه رسالة من الحي الثابت الخالد إلى الحي الثابت الخالد إلى الحي الثابت الخالد. أنا الذي أقول للشيء: كن، فيكون. وقد جعلتك اليوم أيضاً في مستوىً إذا أمرت الشيء: وقلت له كن، فيكون».

فلاحظ أي مقام وسلطان هذا؟ وأية قدرة إلهية هذه التي تجعل إرادة الإِنسان مظهراً لإرادة اللّه! فيُلبس العدم لباس الوجود؟ هذه القدرة وهذا النفوذ هما أفضل وأرفع من كل النعم الجسمانية. وبديهي، أن تلك الرسالة لم تكتب عبثاً وجزافاً. إن من كانت إرادته تابعة للشهوات الحيوانية، وعزيمته ميته خامدة، لا يصل إلى هذا المقام. إن أعمال اللّه منزّهة عن العبث. فكما أن هذا العالم قائم على النظام والترتيب، على الأسباب والمسببات، كذلك هي الحال في العالم الآخر، بل إن العالم الآخر ألْيَق بالنظام والأسباب والمسببات، وإن جميع نظام عالم الآخرة ينبعث من المناسبات والأسباب، وإن نفوذ الإرادة يجب أن يتهيأ من هذا العالم، فإن الدنيا مزرعة الآخرة وإن هذا العالم مادة لكل نعم الجنة ونقم النار.

إذاً، كل عبادة من العبادات وكل منسكٍ من المناسك الشرعية، فضلاً عن إن لها صورة أخروية وملكوتية، وبها يتم عمارة الجنة الجسمانية وقصورها، وتهيئة الغلمان والحور ـ طبقاً للبراهين والأحاديث ـ فإن لكل عبادة من العبادات أيضاً أثراً يحصل في النفس، مما يقوّي الإِرادة شيئاً فشيئاً ويصل بقدرتها إلى حد الكمال.

لذلك كلّما كانت العبادات أشق كانت أرغب: «أَفْضَلُ الأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا» ([12]). فالتنازل عن النوم اللذيذ في ليل الشتاء البارد، والانصراف إلى عبادة الحق المتعال، يزيد من قوة الروح وتغلبها على قوى الجسم، ويقوّي الإرادة. وإذا ك ان هذا في أول الأمر على شيءٍ من المشقة والعناء، فإن ذلك يخف تدريجاً كلّما واصل العبادة، وازدادت طاعة الجسم للنفس. إذ أننا نلاحظ أن أهل العبادة يقومون بالأعمال دون مشقة وتكلف. أما نحن فشعورنا بالكسل وبالمشقة ناشئ من أننا لا نبدأ بالعمل. فلو إننا بدأنا العمل وكررناه عدة مرات، لتبدلت مشقته إلى راحة، بل إن أهلها يلتذون بها أكثر مما نلتذ نحن بمشتهيات الدنيا. إذاً، الأمر يصبح عادياً بالتكرار. والخير عادة.

ولهذه العبادة ثمرات، منها: أن صورة العمل نفسه تصبح على قدر من الجمال في ذلك العالم لا يكون له نظير في هذا العالم، ونكون عاجزين عن تصور مثلها.

ومنها: أن النفس تصبح ذات عزم واقتدار، فتكون لها نتائج كثيرة، وقد سمعت واحدة منها.

ومنها: أيضاً أنها تجعل الإِنسان يأنس بالذكر والفكر والعبادة، فإن المجاز قد يقرّب الإنسان إلى الحقيقة، فيتوجه القلب إلى مالك الملوك، وتحل المحبة لجمال المحبوب الحقيقي، ويخفّ تعلق القلب وحبه للدنيا والآخرة. إذ لو حصلت الجاذبية الربوبية والحال الخاصة، لأمكن إدراك حقيقة العبادة والسر الحقيقي للتذكر والتفكر، ولسقط كِلا العالمين ـ الدنيا والآخرة ـ من نظره، ولأذهب تجلّي الحبيب غبار الرؤية الإثنينيّة من القلب ولا يعر ف أحد سوى الّه الكرامة المعطاة لمثل هذا العبد؟ وكما يقوى عزم الإِنسان بالرياضات الشرعية والعبادات والمناسك وترك الرغبات ويصبح الإنسان ذا عزم وإرادة، فكذلك في المعاصي تتغلب الطبيعة لدى الإنسان وتضعف إرادته وعزمه. كما سبق ذكر شيء منه.

فصل: الإنسان بفطرته يحب الكمال التّام المطلق

لا يخفى على كل ذي وجدان أن الإنسان، بحسب فطرته الأصيلة وجبلّته الذاتية، يعشق الكمال التام المطلق، ويتوجه قل به شطر الجميل على الإطلاق والكامل من جميع الوجوه. وهذا من فطرة الله التي فطر الناس علي ها وبهذا الحب للكمال، تتوفر إرادة المُلك والملكوت، وتتحقق أسباب وصول عشّاق الجمال المطلق إلى معشوقهم.

غير أن كل امرئ يرى الكمال في شيء ما، حسب حاله ومقامه، فيتوجه قلبه إليه. فأهل الآخرة يرون الكمال في مقامات الآخرة ودرجاتها، فقلوبهم متوجهة إليها. وأهل اللّه يرون الكمال في جمال الحق، والجمال في كماله سبحانه يقولون (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ) ([13]). ويقولون: «لي مَعَ اللَّهِ حال» ([14]) وفيهم حب وصاله وعشق جماله. وأهل الدنيا عندما رأوا أن الكمال في لذائذها، وتبيّن لأعينهم جمالها، اتجهوا فطرياً نحوها. ولكن على الرغم من كل ذلك، فإنه لمّا كانَ التوجه الفطري والعشق لذاتي قد تعلقا بالكمال المطلق، كان ما عدا ذلك من التعلقات عرضياً ومن باب الخطأ في التطبيق. إن الإنسان مهما كثر مُلكه وملكوته، ومهما نال من الكمالات النفسية أو الكنوز الدنيوية أو الجاه والسلطان، ازداد اشتياقه شدّه، ونار عشقه التهاباً. فصاحب الشهوة، كلّما ازدادت أمامه المشتهيات، ازداد تعلق قلبه بمشتهيات أخرى ليست في متناول يده، واشتدّت نار شوقه إليها. وكذلك النفس التي تطلب الرئاسة، فهي عندما تبسط لواء قدرتها على قطر من الأقطار، تتوجه بنظرة طامعة إلى آخر، بل لو أنها سيطرت على الكرة الأرضية برمتها، لرغبت في التحليق نحو الكرات الأخرى للاستيلاء عليها. إلاّ أن هذه النفس المسكينة لا تدري بأن الفطرة إنّما تتطلع إلى شيءٍ آخر. إن العشق الفطري الجبلّي يتجه إلى المحبوب المطلق، إن جميع الحركات الجوهرية والطبيعية والإرادية، وجميع التوجهات القلبية والميول النفسية تتوجه نحو جمال الجميل الأعلى على الإِطلاق، ولكنهم لا يعلمون، فينحرفون بهذا الحب والعشق والاشتياق ـ التي هي براق المعراج وأجنحة الوصول ـ إلى وجهة هي خلاف وجهتها، فيحرّروها ويقيدوها بلا فائدة.

لقد بعدنا عن القصد، وهو أنه لمّا كان الإنسان متوجهاً قلبياً إلى الكمال المطلق، فإنه مهما جمع من زخرف الحياة فإن قلبه يزداد تعلقاً بها. فإذا اعتقد أن الدنيا وزخارفها هي الكمال ازداد ولعه بها، واشتدت حاجته إليها، وتجلّى أمام بصره فقره إليها. بعكس أهل الآخرة الذين أشاحوا بوجوههم عن الدنيا، فكلّما ازداد توجههم نحو الآخرة، قلّ التفاتهم واهتمامهم بهذه الدنيا، وتلاشت حاجتهم إليها، وظهر في قلوبهم الغِنى، وزهدوا في الدنيا وزخارفها. كما أن أهل الله مستغنون عن كلا العالمين (الدنيا والآخرة)، متحررون من كلتا النشأتين وكل حاجتهم نحو الغنى المطلق، متجلّياً الغِنَى بالذات في قوبهم، فهنيئاً لهم.

إذاً، مضمون الحديث الشريف يمكن أن يكون إشارة لما مرّ شرحه من قوله: «مَنْ أَصْبَحَ وَأَمْسَى وَالدُّنْيَا أَكْبَرُ هَمِّهِ جَعَلَ اللَّهُ الفقرَ بَيْنَ عَيَْيْهِ، وَشَتَّتَ أَمْرَه، وَلَمْ يَنَلْ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قُسِمَ لَهُ، وَمَنْ أَصْبَحَ وَأَمْسَى وَالآخِرَةُ أَكْبَرُ هَمِّهِ جَعَلَ اللَّهُ الغِنَى فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ أَمْرَهُ».

ومن المعلوم، أن من يتجه قلبه إلى الآخرة، تغدو أمور الدنيا وصعابها في نظره حقيرة سهلة، ويجد هذه الدنيا متصرّمة، ومتغيرة، ويراها معبراً ومتجراً وداراً للابتلاء والتربية، ولا يهتم بما فيها من ألم وسرور، فتخف حاجاته ويقل افتقاره إلى أمور الدنيا وإلى الناس، بل يصل إلى حيث لا تبقى له حاجة، فيجتمع له أمره، وتنتظم أعماله، ويفوز بالغِنى الذاتي والقلبي.

إذاً، كلّما نظرتَ إلى هذه الدن يا بعين المحبة والتعظيم، وتعلق قلبَك بها، ازدادت حاجتك بحسب درجات حبك لها، وبان الفقر في باطنك وعلى ظاهرك، وتشتّت أمورك واضطربت، وتزلزل قلبك، واستولى عليه الخوف والهم، ولا تجري أمورك كما تشتهي، وتكثر تمنياتك ويزداد جشعك، ويغلبك الغم والتحسر، ويتمكن اليأس من قلبك والحيرة، كما وردت الإشارة إلى بعض ذلك في الحديث

الشريف. فقد روي في «الكافي» بإسناده عن حفص بن قرط، عن أبي عبد الله الإمام الصادق عليه السلام أنه قال:

«مَنْ كَثُرَ اشْتبَاكُه بالدُّنْيَا كَانَ أَشَدَّ لِحَسْرِتَهِ عِنْدَ فِرَاقِهَا» ([15]).

وعن أبي يعفور قال، سمعت أبا عبد الله (الصادق) عليه السلام يقول:

«مَنْ تَعَلَّق قَلْبُهُ بِالدُّنْيا تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِثَلاثِ خِصَا لٍ هَمٍّ لاَ يَفْنَى وَأَمَلٍ لاَ يُدْرَكُ وَرَجَاءٍ لا يُنالُ» ([16]).

أما أهل الآخرة، فإنهم كلّ ما ازدادوا قرباً من دار كرم الله، ازدادت قلوبهم سروراً واطمئناناً، وازداد انصرافهم عن الدنيا وما فيها. ولولا أن الله قد عين لهم آجالهم لما مكثوا في هذه الدنيا لحظة واحدة. فَهُم، كما يقول أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب عليه السّلام: «نُزِّلَتْ أَنْفُسَهُ فِي البَلاءِ، كَالَّتِي نُزِّلَتْ فِي الرَّخَاءِ، وَلَوْلا الأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ عَلَيهم، لَمْ تَسْتَقِر أّرْوَاحُهُم فِي أَجْسَ ادِهم طَرَفَةَ عَيْنٍ شَوْقً إِلَى الثَّوَابِ» ([17]). جعلنا الله وإياكم منهم، إن شاء الله.

إذاً، يا عزيزي، بعد أن عرفت مفاسد هذا التعلق والحب، وأدركت أن ذلك يفضي بالإنسان إلى الهلاك، ويجرّده من الإيمان، ويجعل دنياه وآخرته متشابكتين مضطربتين، فشم ّر عن ساعد الجد، وقّل حسب طاقتك، التعلق بهذه الدنيا، واقتلع جذور حبها من نفسك، واحتقر الأيام القليلة التي تقضيها في الحياة، وأزهد في خيراتها المشوبة بالألم والعذاب والنقمة، واطلب من اللّه أن يعينك على الخلاص من هذا العذاب وهذه المحنة، ويجعل قلبك يأنس بدارِ كرمه تعالى: «وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى».

([1]) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب حب الدنيا، ح 15.

([2]) بحار الأنوار، المجلد 73، باب حب الدنيا، ص 63.

([3]) بحار الأنوار، المجلد 73، باب حب الدنيا، ص 25.

([4]) نهج البلاغة، الحكمة رقم 131 (الشيخ صبحي الصالح).

([5]) سورة النمل، آية: 30.

([6]) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب حب الدنيا، ح1 و3.

([7]) نهج البلاغة ـ الخطبة 5 ـ (الشيخ صبحي الصالح).

([8]) نهج البلاغة ـ الخطبة 5 ـ (الشيخ صبحي الصالح).

([9]) نهاية ابن أثير، ص 180، ج 3. الجامع الصغير، ج 1 ص 103. صحيح مسلم، ج 8 ص 72.

([10]) أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب ذم الدنيا ح 54.

([11]) قبسات ميرداماد، ص 72.

([12]) نهاية ابن الأثير، المجلد الأول، ص 440، مادة " همز " أهمزها أي أقواها وأشدّها.

([13]) سورة الأنعام، آية: 79.

([14]) إشارة إلى الحديث المشهور المنقول عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم (لي مع اللّه وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل) راجع كتاب أحاديث المنوي.

([15]) أصول الكافي، كتاب الإيمان والكفر، باب حب الدنيا، ح 16 وح17.

([16]) أصول الكافي، كتاب الإيمان والكفر، باب حب الدنيا، ح 16 وح17.

([17]) نهج البلاغة ـ الخطبة 193 (الشيخ صبحي الصالح).