الفصل الخامس

 في نبذة من آداب الوضوء الباطنية والقلبية

فمن ذلك ما ورد عن الإمام الرضا (هو الإمام الثامن من أئمة الهدى بضعة سيد الورى مولاي علي بن موسى الرضا صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين المعصومين ، ولد عليه السلام حادي عشر ذي القعدة يوم الخميس أو يوم الجمعة بالمدينة سنة 148 ثمان وأربعين ومئة بعد وفاة جدّه الصادق عليه السلام بأيام قليلة ومكارم أخلاقه ومعالي أموره أكثر من أن تحصى وتذكر فعن إبراهيم بن العباس قال : ما رأيت أبا الحسن الرضا عليه السلام جفا أحدا بكلامه قطّ ولا اتّكى بين يدي جليس له قطّ ولا رأيته شتم أحدا من مواليه ومماليكه قطّ ولا رأيته تفل قط ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط بل كان ضحكه التبسّم وكان إذا خلا ونصبت مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه حتى البواب والسايس، وكان عليه السلام قليل النوم بالليل كثير السهر يحيي أكثر لياليه من أولها إلى الصبح وكان كثير الصيام فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر ويقول ذلك صوم الدهر . وكان عليه السلام كثير المعروف والصدقة في السرّ وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة فمن زعم أنه رأى مثله في فضله فلا تصدقوه ( انتهى ) .

وقبض أبو الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام في آخر صفر كما اختاره ابن الأثير والطبرسي والسيد الشبلنجي من سنة 203 ( رج ) ثلاثة ومئتين وهو ابن خمس وخمسين سنة وتوفي بطوس في قرية يقال لها سناباد من نوقان على دعوة ودفن بها صلوات الله عليه . وكتب المأمون إلى أهل بغداد وبني العباس والموالي يعلمهم بموته عليه السلام وانّهم انّما نقموا ببيعته وقد مات وسألهم الدخول في طاعته فكتبوا إليه أغلظ جواب .

وقال الصدوق: ولعلي بن أبي عبد الله الخوافي يرثي الرضا عليه السلام :

يا أرض طوس سقاك الله رحمته ماذا حويت من الخيرات يا طوس

طابت بقاعك في الدنيا وطاب بها شخص ثوى بسنا آباد مرموس

شخص عزيز على الإسلام مصرعه في رحمة الله مغمور ومغموس

يا قبره أنت قبر قد تضمّنه حلم وعلم وتطهير وتقديس

فخرا بأنك مغبوط بــجثّته لملائكة الأبرار محروس )

عليه السلام: "إنما أمر بالوضوء ليكون العبد طاهرا اذا قام بين يدي الجبّار وعند مناجاته ايّاه مطيعا له فيما أمر نقيّا من الارجاس والنجاسة مع ما فيه من ذهاب الكسل وطرد النعاس وتزكية الفؤاد للقيام بين يدي الجبّار " .

فبيّن عليه السلام إلى هنا النكتة (النُكتهْ: المسألة العلمية الدقيقة، يُتَوَصَلُ إليها بدقة، وانعام فكر (المعجم الوسيط) (الناشر)) من أصل الوضوء ونبّه أهل المعرفة وأصحاب السلوك بأن للوقوف في محضر الحق جلّ وعلا وللمناجاة مع قاضي الحاجات آدابا لابد أن تلاحظ حتى أنه مع القذارات الصورية والكثافات وكسالة العين الظاهرة أيضا لا يحضر في ذلك المحضر فكيف إذا كان القلب معدنا للكثافات ومبتلىً بالقاذورات المعنوية التي هي أصل القذارات مع أن في الرواية: "إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم بل ينظر إلى قلوبكم " . ومع أن ما يتوجّه به الإنسان إلى الحق تعالى وما يليق من العوالم الخلقية أن ينظر إلى كبرياء ونصيب مع ذلك ما أهملت الطهارة الصورية والنظافة الظاهرية فقرروا صورة الطهارة لصورة الإنسان وباطنها لباطنه ومن جعله عليه السلام تزكية القلب في هذا الحديث الشريف من فوائد الوضوء يعلم إن للوضوء باطنا يكون به تزكية الباطن ويعلم أيضا الرابطة بين الظاهر والباطن والشهادة والغيب ويستفاد أيضا أن الطهور الظاهري والوضوء الصوري من العبادات واطاعة للرب ومن هذه الجهة الطهور الظاهر موجب للطهور الباطن ومن الطهارة الصورية تحصل تزكية الفؤاد .

وبالجملة السالك إلى الله لابد أن يتوجه في وقت الوضوء إلى انه يريد التوجّه إلى المحضر المقدّس لحضرة الكبرياء ومع هذه الحالات القلبية التي له لا يليق للمحضر بل أنه يطرد من جناب العزّ الربوبي فيشمّر ذيله بأن يسري الطهارة الظاهرية إلى الباطن ويجعل قلبه موردا لنظر الحق بل منزلا لحضرة القدس ويطهره من غير الحق ويخرج من رأسه التفرعن وحب النفس الذي هو أصل أصول القذارات كي يليق للمقام المقدّس. (أقول: اعلم إن النجاسة التي يجب إزالتها للصلاة على أنواع منها ما هو على اللباس وظاهر البدن، وهذه النجاسة تغسل بالماء المطلق وتحصل الطهارة من الخبث التي هي من شروط الصلاة، ونظير هذه النجاسة في عالم الباطن والمعنى التلوث بقذارة المعاصي الصغيرة التي تصدر من المؤمن، وحيث أن مرتبة النجاسة فيها ضعيفة فتطهّر بالآلام الدنيوية وتوجب رفعها الابتلاءات في عالم الطبيعة . قال تعالى: "إن تجتنوا كبائر ما تُنهون عنه نكفّر عنكم سيئاتكم "(النساء 31 ) ومنها ما يسري ويجري إلى باطن الجسد وهو أيضا على قسمين :

القسم الأول: ما يسري في جميع الجسد وهو ما يسمى بالحدث الأكبر والتطهير من هذه النجاسة والخباثة يحتاج إلى غسل جميع البدن بنيّة القربى إلى الله تعالى والتعبد له حتى يكون بواسطة اقتران الغسل بقصد القربة وانتسابه إلى حضرة الباري جلّ شأنه ، تأثير الماء في رفع النجاسة أقوى وأنفذ وان كان على حساب المقدار والوزن قليلا فيكون مثله مثل الإكسير الذي يؤثر قيراط منه في قنطار من النحاس فيصير ذهبا خالصا، ومن المعاصي ما هو بمنزلة الحدث الأكبر في الروح وهي المعاصي التي رسخت جذورها في القلب وصارت منشأ للملكات الخبيثة والرذائل النفسانية من الكبر والحسد والشرك ونحوها وتسمّى بالموبقات وقد أوعد الله سبحانه صاحبها النار وآثار تلك المعاصي لا تزول عن القلب بسهولة بل لابدّ من التوبة الحقيقة بشرائطها وإلا فآخر الدواء الكيّ، أعاذنا الله منه .

والقسم الثاني: النجاسة التي تسري إلى الباطن ولكن بمرتبة ضعيفة من السراية بحيث لا تصل إلى جميع البدن ويكفي في تطهيرها غسل بعض الأجزاء توأما بقصد القربة والعبودية كما ذكرنا في الغسل وتسمى بالحدث الأصغر ، ونموذج هذه النجاسة في عالم الروح بعض المعاصي الكبيرة التي ليس لها جذر نفساني وكبعض المعاصي الذي قد يتفق للانسان وخصوصا في عهد الشباب ولكن حيث العصيان أمر عارضي وليس ناشئا عن ملكة التعصي لقرب العهد من الفطرة فهو أقرب إلى رحمة الله والتوبة من أسهل . وقد أشير إلى ذلك في الروايات . منها ما رواه الصدوق قدس سره في الامالي عن الصادق عليه السلام أنه قال: "إن العبد لفي فسحة من أمره ما بينه وبين أربعين سنة فاذا بلغ أربعين سنة أوحى الله عزّ وجلّ إلى ملكية انّي قد عمّرت عبدي عمرا فغلّظا عليه وشددا وتحفضا واكتبا عليه قليل عمله وكثيره وصغيره وكبيره . "

فإذا لم يتمكن المصلي من الماء لتطهيره فقد جعل الله سبحانه التراب احد الطهورين لان التراب أذلّ الاشياء على وجه الارض يطؤه الناس بأقدامهم فلا بدّ للعبد أن يتّصف بصفته في جناب الحق فيمسح جبينه ويسمه بسمة الذّلة والافتقار والعبودية ، ويرمز بهذا أيضا إلى أن ناصية الخلق بيد قدرته يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، كما قال سبحانه: "ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها " ( هود 56 ) .فلعله بإظهار الخضوع والمسكنة يجلب رحمة الله يوم يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والإقدام ثم يمسح يديه بالتراب وهما مظهر قدرته فيذلّله في حضرة القادر المطلق ويقف بعد ذلك في صف الحاضرين في المحضر .

 

وقال فقيه الفرقة الناجية الشهيد الثاني ( قدّس سره ) :

فأمّا الطهارة، فليستحضر في قلبه ان تكليفه فيه بغسل الأطراف الظاهرة و تنظيفها لاطلاع الناس عليها و لكون تلك الأعضاء مباشرة للأمور الدنيوية منهمكة في الكدورات الدنية فلأن يطهر مع ذلك قلبه الذي هو موضع نظر الحق تعالى فإنه لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم .. و لأنه الرئيس الأعظم لهذه الجوارح و المستخدم لها في تلك الأمور المبعدة عن جنابه تعالى و تقدس أولى وأحرى ، بل هذا تنبيه واضح على ذلك و بيان شاف على ما هنالك، وليعلم من تطهير تلك الأعضاء عند الاشتغال بعبادة الله تعالى و الاقبال عليه و الالتفات عن الدنيا بالقلب والحواس لتلقي السعادة في الأخرى إن الدنيا والآخرة ضرتان كلما قربت من إحداهما بعدت عن الأخرى ، فلذلك أمر بالتطهير من الدنيا عند الاشتغال و الإقبال على الأخرى. فأمر في الوضوء بغسل الوجه لأن التوجه والإقبال بوجه القلب على الله تعالى به و فيه أكثر الحواس الظاهرة التي هي أعظم الأسباب الباعثة على مطالب الدنيا فأمر بغسله ليتوجه به و هو خال من تلك الأدناس و يترقى بذلك إلى تطهيرها ما هو الركن الأعظم في القياس ثم أمر بغسل اليدين لمباشرتهما أكثر أحوال الدنيا الدنية و المشتهيات الطبيعية ثم بمسح الرأس لان فيه القوة المفكرة التي يحصل بواسطتها القصد إلى تناول المرادات الطبيعية و تنبعث الحواس للإقبال على الأمور الدنيوية المانع من الإقبال على الآخرة السنية، ثم يمسح الرجلين لأن بهما يتوصل إلى مطالبة و يتوصل إلى تحصيل مآربه على نحو ما ذكر في باقي الأعضاء ، فيسوغ له الدخول في العبادة والإقبال عليها فائزا بالسعادة ، و أمر في الغسل بغسل جميع البشرة لأن أدنى حالات الإنسان وأشدها تعلقا بالملكات الشهوية حالة الجماع و موجبات الغسل ولجميع بدنه مدخل في تلك الحالة ولهذا قال صلى الله عليه و آله: "إن تحت كل شعرة جنابة" .. فحيث كان جميع بدنه بعيدا عن المرتبة العلية منغمسا في اللذات الدنية كان غسله أجمع من أهم المطالب الشرعية ليتأهل لمقابلة الجهة الشريفة و الدخول في العبادة المنيفة ويبعد عن القوى الحيوانية واللذات الدنيوية. ولما كان للقلب من ذلك الحظ الأوفر والنصيب الأكمل كان الاشتغال بتطهيره من الرذائل والتوجهات المانعة من درك الفضائل أولى من تطهير تلك الأعضاء الظاهرة عند اللبيب العاقل . وأمر في التيمم بمسح تلك الأعضاء بالتراب عند تعذر غسلها بالماء الطهور وضعا لتلك الأعضاء الرئيسية و هضما لها بتلقيها بأثر التربة الخسيسة، وهكذا يخطر أن القلب إذا لم يمكن تطهيره من الأخلاق والرذيلة و تحليته بالأوصاف الجميلة فليقمه في مقام الهضم ويسقه بسياط الذل والأعضاء عسى أن يطلع عليه مولاه الرحيم و سيده الكريم وهو منكسر متواضع فيهبه نفحة من نفحات نوره اللامع فإنه عند القلوب المنكسرة كما ورد في الأثر فترق من هذه الاشارات و نحوها إلى ما يوجب لك الاقبال أو تلافي سالف الاهمال .)

ثم بيّن الرضا سلام الله عليه وجه اختصاص الاعضاء المخصوصة للوضوء فقال :

" وانّما وجب على الوجه واليدين والرأس والرجلين لان العبد اذا قام بين يدي الجبار فانما يكشف من جوارحه ويظهر ما وجب به الوضوء وذلك أنه بوجهه يسجد ويخضع وبيده يسأل ويرغب ويرهب ويتبتّل وبرأسه يستقبله في ركوعه وسجوده ، وبرجليه يقوم ويقعد " .

وحاصل ما قاله عليه السلام انه حيث أن لهذه الاعضاء دخلا في عبودية الحق تعالى والعبودية تظهر من هذه الاعضاء فلهذا وجب تطهيرها .. وبعد هذا بيّن عليه السلام الأمور التي تظهر من هذه الاعضاء ، وبهذا فتح باب الاعتبار والاستفادة لاهلهما ، وأرشد أهل المعارف إلى أسرارها بأن ما هو محل للعبودية في محضر الحق تبارك لا بد أن  يكون طاهرا ومطهرا والاعضاء والجوارح الظاهرية التي يكون لها حظ ناقص من تلك المعاني لا تليق لذلك المقام من دون طهارتها ومع أن الخضوع ليس من صفات الوجه على الحقيقة والسؤال والرغبة والرهبة والتبتل والاستقبال ليس شيء منها من شؤون الاعضاء الحسيّة ولكن حيث أن هذه الاعضاء مظاهر تلك الامور لزم تطهيرها ، فعلى هذا فإنّ تطهير القلب الذي هو محل حقيقي للعبودية ومركز واقعي لتلك المعاني يكون ألزم ، وبدون تطهير القلب لو غسلت الاعضاء الصورية بسبعة أبحر ما تطهّرت ولا توجد فيها لياقة لذلك المقام بل يكون للشيطان فيها تصرّف ويكون المرء مطرودا من حضرة العزّة . ( يجب على السالك الطالب أن يراعي آداب الوضوء كما قال الصادق عليه السلام : " وات بآدابها في فرائضه و سننه " ليستعد للحضور و يستفيد من عيون فوائده كما وعدها الامام الصادق عليه السلام فالأدب الأول أن يتوجه إلى القبلة و مركز العبادة و نقطة التوحيد التي هي من عمدة الشرائط الصلاتية ليستفيد من فوائد الاستقبال التي سنذكرها في محلها ، و قد أشير إلى هذا الأدب في الرواية : " و ان من توضأ حيال القبلة كان له ثواب صلاة ركعتين " و ينبغي أن يكون وقوفه الوقوف في مقام الحمد حيث أذن له رب العزة و السلطان بالحضور و هو الآن في مقام تحصيل مقدمات التشرف لينال هذا الشرف فيأخذ غرفة من الماء و يغسل يديه من المرفقين و ليتفطن أنه كما يغسل بالماء الظاهر الذي هو سبب حياة لكل حي ظاهره كذلك يغسل باطنه بالعلم و هو الموجب لحياة القلوب و الأرواح فينور به قلبه وروحه، فأخذه الماء صورة تناول الرحمة الإلهية ليطهر بها من كل عيب و نقص و يغسل يديه من العيوب ومن حوله و قوته اشواك طريق السلوك و لعل غسل اليد اليسرى يرمز إلى أنه لا حول عن المعاصي إلا بالله ، و اليد اليمنى إلى أنه لا قوة على الطاعات إلا بالله .

وأيضا أن اليد مظهر الامساك والقبض وبواسطة الحرص والبخل تمسك عن البسط في الخيرات ، قال تعالى: "وقالت اليهود يد الله مغلولة غلّت أيديهم ولعنوا بها قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء " ( المائدة 64 ) . فليتنبه بأن قبض اليد الظاهرية مانع عن اغتراف الماء النازل من سماء الدنيا كذلك قبض اليد المعنوية مانع عن تناول ماء الرحمة النازل من سماء العلم والحكمة وبصبّ الماء باليمنى على اليسرى يتنبّه انه لابد له من بسط اليد في البذل والاعطاء والايثار في سبيل رضى المحبوب ، ولا يمسك يده ، قال تعالى : " لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا ممّا تحبون " ( آل عمران 92 ) .

وأيضا يرمز بغسل اليد إلى غسل يده عّما نهى عنه الشارع وبالخصوص المنهيات التي تتحقق باليد كالسرقة والتعدّي والغصب وأمثالها .

ويتفطن أيضا إلى أنه كما أن النوم في الليل أو النهار حدث يوجب هذا الوضوء الذي هو بصدده كذلك الغفلة عن مقام الغيب والشهود حدث لابد لك من رفعة فبغسل يديه مستمدا من مقام الرحمانية والرحيمية للحق تعالى شأنه يرفع ذاك الحدث . وقد ورد في الحديث " لا وضوء لمن لا يسمّ الله " فيغسل يديه قائلا بسم الله الرحمن الرحيم ثم يقول : " الحمد لله الذي جعل الماء طهمورا ولم يجعله نجسا " وهذا اشارة إلى مقام الحمد الذي ذكرناه ، ثم يتنبه إلى الجهات التي ذكرها الاستاذ في الطهارة ويقول :" اللهم اجعلنى من التوابين واجعلني من المتطهرين " ويجدّد التوبة على حسب المرتبة التي هو فيها ويسأل التوبة من الله ثم يتمضمض ويجري ذكره الجميل على اللسان بقوله : " اللهم لقّنّي حجّتي يوم ألقاك وأطلق لساني بذكرك " ومعنى تلك المضمضة التي يطّهر بها فمه من فضول الطعام أنه يطهر فمه ولسانه من الذكر القبيح ومن فضول الكلام ( وفضول الكلام يميت القلب ) وممّا يجري على لسانه ويخرج من فمه ممّا يمقته الله ويدخله النار كما قال صلى الله عليه وآله : " وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار الا حصائد ألسنتهم" . فيزيده بذكر الله وتلاوة القرآن .

ثم يستنشق، وحقيقة اخراج الكبر والتعالى من دماغه كما يخرج بالاستنشاق فضولات الدماغ من طريق أنفه وينقي مجراه ويستعد لشم الروائح العطرة المعنوية التي تهب من حي الحبيب ووجدان نفس الرحمن من جانب اليمن والوادي الايمن ، ويقول بلسانه رمزا لذلك المعنى :

" اللهم لا تحرمني ريح الجنة وأجعلني ممن يشم ريحها وروحها وطيبها " ثم يغسل وجهه ويتوجّه إلى أنّ ذلك يرمز إلى بياض الوجه وتحصيل ماء الوجه عند الله سبحانه فيتذكّر قصوره وتقصير وخجلته وسواد وجهه ويستجير بالله من أن يلقى الله سبحانه بهذه الحالة كما يحكيها الله سبحانه :

" ويوم القيامة . ترى الذين كذبوا على الله وجوهمم مسودّة " ( الزمر 60 ) .. وقال تعالى : " وجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة " ( عبس 40 - 41 ) . وليستحي من الله سبحانه لما رآه حيث نهاه ولما توجّه إلى غير مولاه . ونعم ما قيل :

قالوا غدا نأتي ديار الحمى وننزل الركب بمغناهم

فكلّ من كان محبّا لهم يصبح مسرورا بلقياهم

قلت فلي ذنب وما حيلتي بأي وجه أتلقّاهم

قالوا أليس العفو من شأنهم لاسيما عمّن ترجّاهم

وقد ورد في الحديث أنه يقول عند غسل وجهه " اللهم بيّض وجههي يوم تسودّ الوجوه ولا تسوّد وجهي يوم تبيضّ الوجوه " .

ويتذكر عندما يغسل اليدين ان باطنه غسل الايدي من مرافق رؤية الاسباب التي هي أيادي صنع المعبود إلى منتهى أنامل المباشرة والاكتساب .

وأيضا هو غسل اليد عن الخلق وتفويض الامر إلى الله والاستعداد للتمسك بذيل المحبوب وقرع بابه كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في حق عباد الله وأصحاب الذكر " لكل باب رغبة إلى الله منهم يد قارعة " .

ويتذكر أيضا موقف القيامة وتطاير الكتب وأحوال الناس في ذاك الوقت كما قال تعالى : " فأمّا من أوتي كتابه بيمينه " ( الحاقة 25 ) " وأمّا من أوتي كتابه بشماله " ( الحاقة 25 ) .. فيقول عند غسله اليمنى " اللهم اعطنى كتابي بيميني والخلد في الجنان بيسارى وحاسبني حسابا يسيرا " .

ويقول أيضا عند غسله اليسرى : " اللهم لاتعطني كتابي بشمالي ولا من وراء ظهري ولاتجهلها مغلولة إلى عنفي وأعوذ بل من مقطّعات النيران "

ويمسح رأسه من الخضوع لغير الله ومن الكبرياء العارضة له اذ عدّ نفسه شيئا ومن التشمخ الذي عرض له من النظر إلى نفسه ويتذكر عند مسح رأسه خطيئة أبيه آدم وميله إلى الشجرة المنهية ووضعه يد الذّلة والافتقار على أمّ رأسه كما في الرواية يجيء شرحها وينادي ربه كما نادى أبوه ربّنا ظلمنا أنفسنا ليشمله غفران الرب الرحيم من قرنه إلى قدمه ، ويتحقق معنى الدعاء الوارد عند مسح الرأس من قوله : " اللهم غشّني برحمتك وبركاتك وعفوك ومغفرتك ".

ويمسح رجليه من المشي إلى دار الغربة وأرض المذّلة ، ويطهّرها أيضا عن المشي بالكبر . قال تعالى : " ولا تمش في الأرض مرحا " ( الاسراء 37 ) ويمشي بقدم العبودية والهوان ليصدق عبوديته للرب الرحمن .. قال تعالى : " وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا ( الفرقان 63 ) " ويلزم تصميماً على الثبات في طريق الجهاد وميدان الجهاد الأصغر والأكبر والمشي على الصراط المستقيم ويقول بلسان قاله " اللهم ثبّت قدمي على الصراط يوم تزلّ فيه الاقدام واجعل سعيي فيما يرضيك عني " .

وبالجملة ، فانه يراعي حالة الخضوع والحضور في جميع حالات الوضوء فانه من العبادات ، والعبادة بلا حضور كجسم بلا روح .

ونتبرك في ختام هذا البحث بذكر رواية شريفة حاوية لاسرار عظيمة وهي ما وراه العارف السعيد القاضي سعيد القمّي بعد كلام له قال في كتاب المعراج للشيخ أبي محمد الحسن رضي الله عنه في حديث طويل ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله : " ثم قال لي ربي يا محمد مدّ يديك فيتلقاك ما يسيل من ساق العرش الايمن فنزل الماء فتلقيته باليمين ثم قال : يا محمد خذ ذاك الماء فاغسل به وجهك وعلة غسل الوجه انك تريد أن تنظر إلى عظمتي وأنت طاهر ثم اغسل ذراعيك اليمين واليسار وعلة ذلك أنك تريد أن تتلقى بيديك كلامي وامسح رأسك بفضل ما بيدك من الماء ورجليك إلى كعبيك وعلة المسح أني أريد اوطئك موطئا لم يطأه أحد قبلك ولا يطؤه أحد غيرك " .)

وصل: ومن ذلك ما عن العلل باسناده قال : " جاء نفر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألوه عن مسائل ، وكان فيما سألوه أخبرنا يا محمد لايّ علّة نتوضأ هذه الجوارح الاربع وهي أنظف المواضع في الجسد ؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله : لما أن وسوس الشيطان إلى آدم ودنا من الشجرة فنظر اليها فذهب ماء وجهه ثم قام ومشى اليها وهي أول قدم مشت الى الخطيئة ثم تناول بيده منها ماعليها وأكل فتطاير الحلي والحلل عن جسده فوضع آدم يده على أمّ رأسه وبكى فلما تاب الله عليه فرض الله عليه وعلى ذريته تطهير هذه الجوارح الاربع فأمر الله عزّ وجلّ بغسل الوجه لما نظر الى الشجرة وأمره بغسل اليدين الى المرفقين لما تناول بهما وأمر بمسح الرأس لما وضع يده على أمِّ رأسه وأمره بمسح القدمين لما مشى بهما الى الخطيئة " .

وفي باب علّة وجوب الصوم ايضا :

عن الحسن بن علي بن ابي طالب عليهما السلام قال :

" جاء نفر من اليهود الى رسول الله صلى الله عليه وآله فسأله أعلمهم عن مسائل ، فكان فيما سأله أن قال له : لايّ شيء فرض الله عز وجل الصوم على أمّتك بالنهار ثلاثين يوما وفرض على الامم السالفة أكثر من ذلك ؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله ان آدم لما أكل من الشجرة بقي في بطنه ثلاثين يوما ففرض الله تعالى على ذرّيته ثلاثين يوما الجوع والعطش والذي يأكلونه تفضّل من الله تعالى عليهم " ( الحديث ) .

فمن هذه الاحاديث لاهل الاشارات واصحاب القلوب استفادات منها أن خطيئة آدم عليه السلام مع أنها ما كانت من قبيل خطايا غيره بل لعلها كانت خطيئة طبيعية أو أنها كانت خطيئة التوجّه إلى الكثرة التي هي شجرة الطبيعة أو كانت خطيئة التوجّه إلى الكثرة الاسمائية ، بعد جاذبة الفناء الذاتي ولكنها ما كانت متوقعة من مثل آدم عليه السلام الذي كان صفيّ الله والمخصوص بالقرب والفناء الذاتي ولهذا أعلن الذات المقدسة وأذاع بمقتضى الغيرة الحبية عصيانه وغوايته في جميع العوالم وعلى لسان الانبياء عليهم السلام ، وقال تعالى : " وعصى آدم ربّه فغوى " . ( طه - 2 ) . ومع ذلك لا بد من التطهير والتنبيه بهذه المثابة له ولذرّيته التي كانت مستكنة في صلبه ومشتركة في خطيئته بل اشتركوا في الخطيئة بعد الخروج من صلبه أيضا فكما أن لخطيئة آدم وأبنائه مراتب ومظاهر فأول مرتبتها التوجه إلى الكثرات الاسمائية وآخر مظهرها الاكل من الشجرة المنهية التي صورتها الملكوتية شجرة فيها أنواع الثمار والفواكة وصورتها الملكية هي الطبيعة وشؤونها ، وان حب الدنيا والنفس هما موجودان ياستمرار في الذرية لمن شؤون هذا الميل إلى الشجرة والأكل منها كذلك لتطهيرهم وتنزيههم وطهارتهم وصلاتهم وصيامهم للخروج من خطيئة الاب الذي كان هو الاصل ايضا مراتب كثيرة مطابقة لمراتب الخطيئة .

وقد علم من هذا البيان ان جميع أنواع المعاصي القالبية لابن آدم هي من شؤون أكل الشجرة ، وتطهيرها على نحو خاص : وان جميع أنواع المعاصي القلبية لهم ايضا من شؤون تلك الشجرة وتطهيرها بطور آخر . وان جميع أنواع المعاصي الروحية من تلك وتطهيرها بطور خاص وان تطهير الاعضاء الظاهرية هو ظلّ الطهارات القلبية والروحية للكمّل ووظيفة ووسيلة لتطهير القلب والروح لاهل السلوك . وما دام الانسان في حجاب تعيّن الاعضاء وطهارتها وواقف في ذلك الحد فليس هو من أهل السلوك ، وهو باق في الخطيئة ، فاذا اشتغل بمراتب الطهارات الظاهرية والباطنية وجعل الطهارات الصورية القشرية وسيلة للطهارات المعنوية اللبية ولاحظ في جميع العبادات والمناسك حظوظها القلبية وتمتع منها بل اهتم بالجهات الباطنية أكثر من الظاهرية وعرف أنها هي المقصد الاعلى دخل في باب سلوك الانسانية كما أشار اليه في الحديث الشريف في مصباح الشريعة حيث يقول فيه : " وطهّر قلبك بالتقوى واليقين عند طهارة جوارحك بالماء " فيلزم للانسان السالك العلمي كي يشخص ببركة أهل الذكر عليهم السلام مراتب العبادات ويرى العبادات الصورية مرتبة نازلة للعبادات القلبية والروحية ثم يشرع في السلوك العملي الذي هو حقيقة السلوك ، وغاية هذا السلوك هي تخلية النفس عن غير الحق وتحليتها بالتجليات الاسمائية والصفاتية والذاتية ، فاذا حصل للسالك هذا المقام فحينئذ ينتهي سلوكه وتحصل له الغاية في السير الكمالي فينال اسرار النسك والعبادات ولطائف السلوك وهي التجليات الجلالية التي هي اسرار الطهارات والتجليات الجمالية التي هي غايات العبادات الأخر، وتفصيلها خارج عن مجال هذه الاوراق .