إن أهمية البعد الإيراني للنظام الإسلامي نابعة من أنه نظام سياسي مستقر ثابت أصيل تبلور على أيدي الشعب نفسه وليس نظاماً مفروضاً على الجماهير؛ مناهض لأيديولوجية الملكية؛ فالملكية لها أيديولوجيتها التي تشاهدونها في الأنظمة الملكية القائمة في العالم بشتى أنماطها وضروبها؛ أي الاستبداد، والمنافع الخاصة، والغطرسة حيثما دعتهم الحاجة لهذه الغطرسة؛ فيوم يبرز أمامنا شخص مثل أنو شيروان الذي جرت المحاولات لتسميته (العادل) وهو قد قتل في يوم واحد عشرات الآلاف من المزدكيين بدافع حقد شخصي تولّد لديه منذ شبابه! فهو يروي: أن أبي قباد كان قد أمرني وأنا شاب بتقبيل قدم مزدك - وكان أبوه من أتباع مزدك - ولما تزل رائحة قدم مزدك الكريهة عالقة في مشامّي، وحيث بلغت السلطة الآن فإنني أنتقم، ليس من مزدك نفسه، بل من عشرات الآلاف من المزدكيين!

ونحن نفتخر بملوك الصفويين - وأنتم تعلمون أننا نعظم شأن الملوك الصفويين لأنهم من أتباع أهل البيت وقد حافظوا على استقلال إيران ووحدة ترابها - ولكن انظروا إلى الشاه عباس الشخصية البارزة فيهم، أي ظلم اقترفه بسبب طغيانه! فلقد بالغ في قتل أقاربه وسمل عيونهم ما دفع بعضهم إلى إخفاء بعض الأمراء في الجحور والتكتم عليهم لئلاّ يطلع الشاه عباس على أخبارهم! وقد أمر - على سبيل المثال - بقطع رؤوس أبناء (إمام قلي خان) الأربعة ووضعها أمامه، في حين كان إمام قلي خان من زمرة الذين أسدوا خدمة عظيمة للدولة الصفوية ومن قدامى خدّام الصفويين وقادتهم وسياسييهم، لكن البلاء أصابه بسبب روح الدكتاتورية والاستبدادية المستحكمة لدى الملك! فالظلم والجور لم يقتصر على محمد رضا وأبيه رضا خان، بل هما في قاموس الملكية ناجمان عن الاستبداد والسلطة المطلقة وعدم الالتزام بأية مسؤولية وفقدان العهد مع الله والشعب.

لقد نهض النظام الإسلامي بوجه أيديولوجية الملكية التي ابتلي بها بلدنا قروناً متوالية قبل مجيء الإسلام وبعده؛ فكان الإسلام في المدينة يستبطن الحرية أو ما نعبر عنه اليوم بحاكمية الشعب بالمعنى الحقيقي للكلمة؛ هكذا هو حال مركز النبوة ومنطلقها، أما المناطق النائية عنها من قبيل خراسان أو أصفهان أو فارس حيث يحكمها وال من الأمويين فقد كانت تعوزها هذه الحالة، بل إن كل والٍ جعل من نفسه ملكاً مستبداً يفعل ما يحلو له. ولم يكن - بطبيعة الحال - إيمان الشعب الإيراني بالإسلام من أجل سواد عيون هؤلاء الولاة والأمراء وإنما كان حبّاً لرسالة الإسلام، وتلك قصة لها تفاصيلها. ومنذ مئة عام وما تلاها برزت في بلادنا آفات أخرى ناجمة عن أيديولوجية الملكية التي يمثل الاستبداد ركناً أساسياً فيها، أحدها التبعية والآخر فساد الملك وحاشيته وأزلامه، سواء الفساد الجنسي أو الأخلاقي أو المفاسد المالية الفظيعة.

لقد كانوا ملوكاً ولهم السلطة المطلقة على الشعب، لكنهم أذلاء صاغرون أمام الأجانب، >أسد علَيَّ وفي الحروب نعامة<! وكانت الأدوار ترسم لهم على صعيد أهم القضايا، ليس ذلك من قبل رئيس جمهورية، بل من قبل سفير! فكان السفير البريطاني يأتي إلى البلاط ويقول: إن مصلحتكم تقتضي كذا وكذا؛ والملك يفهم ما تعنيه (مصلحتكم)! وبالإضافة إلى التبعية المطلقة والطاعة للأجانب كان عدم الكفاءة يضرب بأطنابه إلى ما شاء الله.

إنني أقولها لكم: إنه في السنوات المئة الأخيرة التي سبقت الثورة لم تتخذ في البلاد أية خطوة جادة بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، واليوم حيث تفتحت بصائركم في الوسط الجامعي نحو الحقائق العلمية فإنكم تعاينون مدى تخلفنا وتأخرنا؛ لقد كان بالإمكان قطع هذه الأشواط والالتحاق بقافلة العلم، وكان بالإمكان تجربة العلم والعلماء والمحققين وبلوغ الاستقلال في العلم والتحقيق في بلادنا، لكنهم لم يفعلوا، بل قاموا بما يعاكسه.

ما وردنا خلال فترة دخول العلم الحديث إلى بلادنا كان عبارة عن التقليد والاقتباس، - ولا أقصد اقتباس أثر نفيس فهو ضروري، وإنما اقتباس الفكر والذوق - وذلك ما يعني سلب القدرة على الإبداع من الشعب وإفراغه من الشجاعة على قول ما هو حديث، وأخذوا يطرقون على رأسه ويلقنونه: أن إذا ما رمت أن ترتقي وتحقق آدميتك فعليك أن تفعل ما فعله الغربيون ولا تتعداه قيد أنملة! وهكذا لقنوا شعبنا وأوساطنا العلمية، وسدُّوا الأبواب أمام الإبداع والتطور والازدهار العلمي.. فلابد من إبداع العلم والفكر، فهؤلاء هم الذين لم يفسحوا المجال للإبداع العلمي لا على صعيد العلوم التجريبية ولا العلوم الإنسانية ولا السياسية ولا الاجتماعية، لذلك كان الوضع كما ترونه الآن.

لقد طويت هذه الصفحة في غضون السنوات العشرين التي أعقبت انتصار الثورة بالرغم من المصاعب التي برزت، وإلا فإن غاية آمال وطموحات المرء قبل مجيء الثورة وازدهار البلاد بالشجاعة والعزيمة والقدرة على التفكير والثقة بالنفس والاعتماد على مواهب الفرد الإيراني ـ وهذه كلها من بركات الثورة - لم تكن تتعدى القدرة على العمل بالوصفة التي طبقها الغربيون؛ أي لم يسمح أي أحد لنفسه بتجاوز هذا السياق. إذن فما كان سائداً هو الاستبداد والتبعية وفقدان الإبداع والتطور والكفاءة، غير أن الثورة الإسلامية وقفت بوجه كل ذلك وتمردت عليه، ولم تكن هذه الثورة وهذا النظام من فعل فئة أو طبقة معينة بل فعل الشعب بأكمله([1]).

سبيل الإمام سبيل الرسول

مع أن الكثير من التحركات الإصلاحية للقادة الإسلاميين تهدف إلى أمر واحد أو أمور متقاربة جدا إلا أننا نجد أن حركة الإمام الخميني (ره) استطاعت أن تصل إلى هدفها مما يجعل لها ميزة على النهضات الإسلامية وخاصة في هذا العصر الحديث ,بنظركم ما هي أوجه الاختلاف بين نهضة الإمام وباقي التحركات الإسلامية من حيث استخدام الوسائل وطريقة التفكير؟ طبعا هذا لا يعني أننا ننتقص من دور أولئك العظام وإن لم يصلوا إلى ما كانوا يبتغون ويهدفون .

إن النهضة الإسلامية في إيران بقيادة منقذ العصر سماحة الإمام الخميني (رضوان الله عليه) وتبعاً لأسلوب النبي الأعظم والرسول الخاتم وقمة الخلقة العالمية والآدمية الرسول الأكرم محمد (ص) تجلّت في شكل ثورة تامّة المعالم وتلك هي طبيعة الثورة. فهي إن قامت على أساس منطقي متين فإنها انطلقت مثل الكبركان وزلزلت كلّ أركان البيئة، وأصابت بحرارتها ولهيبها كلّ مكان وكل شخص.

وإننا نجد المصلحين الإسلاميين والمفكرين الذين ثاروا في المائة والخمسين سنة الأخيرة بدوافع متعددة وحملوا لواء الدولة الإسلامية وإحياء الفكر الإسلامي من أمثال السيد جمال الدين([2]) ومحمد إقبال([3]) والآخرين رغم ما حملوا من قداسة ثمينة غالية, ابتلوا بنقص كبير في عملهم يتلخص في أنهم بدلاً من إشعال ثورة إسلامية, اكتفوا بدعوة إسلامية، وراحوا يبتغون إصلاح المجتمعات المسلمة لا بالقوة والقدرة الثورية وإنما بالسعي التوعوي وبمجرد الوسائل القلمية والخطابية، وهو أسلوب محمود ومثاب عليه إلا أننا يجب أن لا نتوقع منه نتائج كتلك التي أنتجها عمل الأنبياء أولي العزم الذين صنعوا المنعطفات الأصلية للتاريخ. إن أسلوبهم في حالة صحته وتخلصه من العيوب السياسية والنفسانية إنما يستطيع فقط أن يشكّل أرضية لحركة ثورية لا أكثر. ولذا يلاحظ أن سعي المخلصين من هذه المجموعة الدائب واللامحدود لم يستطع مطلقاً أن يوقف الحركة المعاكسة والمتجهة نحو انحطاط الشعوب المسلمة، أو يرجع للمسلمين العزة والعظمة اللتين ذكرهما هؤلاء وذرفوا الدموع على أمل تحققهما دون جدوى، بل حتى لم يستطع ذلك السعي أن يقوي من عقيدة الجماهير المسلمة، ويسخّر طاقاتها لخدمة الهدف الكبير أو يوسع من المساحة الجغرافية الإسلامية، وهو أمر يبتعد كليّاً عن أسلوب الرسول الأعظم (ص) كما هو واضح لكل من امتلك بعض الإطلاع على تاريخ البعثة والهجرة النبوية الشريفة.

إمامنا وتجديد الحياة الإسلامية

إن إمامنا الراحل - ولكي يجدّد حياة الإسلام - اتّبع بكلّ دقّة ذلك الطريق الذي طواه الرسول الأكرم (ص) أي طريق الثورة.. ذلك أن الحركة مبدأ في الثورة؛ الحركة الهادفة المدروسة المتصلة، التي لا تعرف الكلل والملل والمترعة بالإيمان والإخلاص.

وفي أتون الثورة لا يكتفى بالكلام والكتابة والتوضيح وإنما يُعدُّ طيّ المواقع خندقاً خندقاً للوصول إلى الهدف مبدأ ومحوراً لها، أما الكلام والكتابة فهما يخدمان هذه الحركة لكي تصل إلى هدفها وهو تحكيم دين الله والقضاء على القوى الشيطانية للطاغوت.

{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}([4]).

ولقد تمتعت الثورة الإسلامية الإيرانية بخصائص مهمة تنسجم كلّها مع الحركة الإسلامية في الصدر الأوّل:

الأولى: الهدفية السياسية أي الإرادة الحازمة لتحيكم دين الله، وسحب القدرة من يد الشياطين الظلمة الفاسدين وإقامة الحاكمية والقدرة السياسية للمجتمع على أساس من القيم الإسلامية.

أما الثانية: فهي استمداد القوى الإنسانية اللازمة لتحقيق هذا الهدف من الجماهير المؤمنة الواعية والمتحرقة والمضحية - لا من الأحزاب والتجمعات والتكتلات السياسية - فكان القائد الحكيم يبحث عن عوامل النصر بعل التوكل على الله بين القوة الشعبية العارمة ويعمل خلال جهاده طوال خمسة عشر عاماً على تكوين جند الرحمن من عباد الله وزجّهم في زحمة الصراع في سبيل الله {هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}([5]).

والثالثة: هي وضوح الخطوط العامة الأصيلة للمجتمع المطلوب أمام الجميع، وتعني استقرار الشريعة الإسلامية المتضمنة للعدل الاجتماعي والاستقلال السياسي والغنى الاقتصادي والتكامل العلمي والأخلاق، وطرح شعار (لا شرقية ولا غربية جمهورية إسلامية) ويعني التبديل الواقعي والشامل لأسس الحياة الجاهلية إلى أسس إسلامية قويمة.

أما الرابعة: فهي أن القائد الحكيم والفقيه وهو العبد الصالح والنموذج الإسلامي كان في طليعة هذه الحركة إيمانا وعملاً، وقد حوّل الإيمان روحه إلى روح كبرى استطاعت أن تترع القلوب الفارغة من الإيمان والأوعية الخالية وتملأها من فيضان إيمانها في الساحة العملية واخترق شعاع إيمانها الجُدر السميكة الرفيعة لحالة اليأس واللاإيمان، فملأ آفاق الكفاح والمحبّة بالحيوية, {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مِن رَّبِّهِ...}([6]).

والخامسة: إن صدق القائد وصفاءه ووعيه وقفت أمام أيّ اعوجاج ومساومة وتعامل مع العدو وبالتالي لا يوجد مقتضى للانحراف عن الهدف وبذلك اتّجه صراط الثورة المستقيم نحو أهدافه بكلّ ثقة واستقامة ودونما أيّ اعوجاج.

هذا هو بالضبط ما حدث في إيران حيث استطاعت القيادة بتقواها وصدقها في العمل أن تتمتع بالتأييد وتبدأ حركتها وتستطيع من خلال جهاد وسعي متواصل على مد خمس عشرة سنة أن تكتّل الجماهير الشعبية العظيمة وبشكل تدريجي في خدمة الهدف وهو إقامة الحكم الإسلامي وتشكيل النظام الإسلام وتطبيق الأحكام الإسلامية وإسقاط الحكومة الطاغوتية الفاسدة العميلة في إيران والتي كانت تدعمها القوى الاستكبارية الناهبة لثروات بلادنا.. خلال أحد عشر عاماً مرّت بعد انتصار الثورة الإسلامية, استطاع أن يواجه بصلابة مجموعة معقّدة لا سابقة لها من المؤامرات وأنواع العداء والخيانة والهجوم والحصار والمقاطعة والهجوم العسكري والتشويش الإعلامي وغير ذلك ويخرج من حلبة هذا الصراع التاريخي منصوراً مظفراً.

 

المصدر: كتاب الثورة النظام الإسلامي

إصدار: دار الولاية للثقافة والإعلام

([1]) ) 17 شعبان 1422ﻫ ـ أصفهان (جامعة العلوم الطبية).

([2]) ولد جمال الدين الحسيني الأسد آبادي (1838 – 1897) وعندما بلغ الثامنة انتقل إلى العاصمة مع والده وتعلم اللغة العربية، وتلقى علوم الدين، والتاريخ، والمنطق، والفلسفة، والرياضيات، وفي الثامنة عشر من عمره سافر إلي الهند ، وأقام بها سنة وبضعة أشهر يدرس العلوم الحديثة على الطريقة الأوروبية. غادرها إلى مصر عام 1870م، ومكث فيها ثمانية أعوام قبل أن يرغمه الخديوي توفيق باشا على مغادرتها بسبب دعوته لإصلاح النظام السياسي، فغادر إلى الهند ثم فرنسا حيث التقى محمد عبده وأخرجا معاً جريدة (العروة الوثقى)، ثم انتقل إلى طهران بدعوة من حاكمها ناصر الدين، واضطر لمغادرتها إلى روسيا بعد شيوع أفكاره، وعاد إليها مرة أخرى عام 1889 بدعوة من الحاكم الذي انقلب عليه مجددا ورحله إلى تركيا، وقد استمر في التنقل إلى أن وصل لندن وشنّ هجوماً على شاه إيران وسياساته الفاسدة عبر كتاباته الصحفية، وفي عام 1892 دعاه السلطان عبد الحميد للإقامة في الآستانة، وبقي فيها إلى حين وفاته في مدينة اسطنبول في تركيا.

([3]) هو إقبال بن نور محمد، ولد في سيالكوت ـ إحدى مدن البنجاب الغربية ولد في الثالث من ذي القعدة 1294ﻫ الموافق 9 من تشرين أول نوفمبر 1877م. اعتنق الإسلام أحد أجداده في عهد السلطان زين العابدين بادشاه (1421 ـ 1473م). رحل إقبال إلى أوروبا وحصل على درجة الدكتورا من جامعة ميونخ في ألمانيا ، وعاد إلى وطنه ولم يشعر إلا انه خلق للأدب الرفيع والشعر البديع وكان وثيق الصلة بأحداث المجتمع الهندي حتى أصبح رئيسا لحزب العصبة الإسلامية في الهند, ثم العضو البارز في مؤتمر الله أباد التاريخي حيث نادى بضرورة انفصال المسلمين عن الهندوس ورأى تأسيس دولة إسلامية اقترح لها اسم باكستان ، توفي إقبال 1938 بعد أن ملأ الآفاق بشعره البليغ وفلسفته العالية.

([4]) سورة التوبة, الآية: 33.

 ([5])سورة الأنفال, الآية: 62.

([6]) سورة البقرة, الآية: 285.