إن ميزة الثورة الإسلامية العملاقة، التي جعلت منها ظاهرة فريدة على مر القرون الأخيرة في أنظار المراقبين والخبراء، لم تكن قد شوهدت من قبلُ في أيِّ من الثورات الكبرى في العالم، لا في الثورة الفرنسية، ولا في الثورة الشيوعية السوفيتية، ولا في الثورات الصغرى التي كانت تتحرك تبعاً لهاتين الثورتين وعلى خطاهما. فعليكم أن تعرفوا أنّ دأب سياسات الهيمنة قد تركّز ومازال على تمييع الحركات الشعبية الناشدة للعدالة في شتى بقاع العالم في بوتقتها السياسية والثقافية، وهي في الواقع إنما تقضي على هوية هذه الحركات؛ وهذا ما حصل في إيران أيضاً؛ فالحركة الناشدة للعدالة التي انطلقت في إطار الحركة الدستورية([1]) في إيران قبل مئة عامٍ كانت حركة شعبية ودينية، فقام الخط السياسي المهيمن على العالم يومذاك ـ أي الانجليز - بتذويب هذه الحركة القائمة على المبادئ الإسلامية في بوتقته السياسية والثقافية ومسخها وتحويلها إلى حركة دستورية على الطراز الانجليزي، فكانت عاقبة ذلك أنْ آلت الحركة الدستورية - وهي حركة مناهضة للاستبداد - إلى قيام دكتاتورية رضا خان التي فاقت دكتاتورية القاجاريين سوءاً وشقاءً وقساوةً.

وهكذا شأن حركة تأميم النفط([2]) التي التحقت على أيدي القائمين عليها بليبرالية أمريكا، فأضحت النتيجة أنْ غدر الأمريكيون أنفسهم بنهضة التأميم وتواطأوا مع الإنجليز الذين كانوا يمثلون الجهة التي تقف بوجه النهضة الناشدة للعدالة في إيران، وقضوا على حركة التأميم.. وعلى أثرها ألقت دكتاتورية محمد رضا القاسية والسوداء بظلالها الثقيلة على هذا البلد وهذا الشعب معرّضةً إيّاه للضغوط على مدى بضعٍ وثلاثين سنة. فيما صودرت الثورات الناشدة للعدالة لشعوب آسيا وأفريقيا التي دامت عشرات السنين من قبل الشيوعيين وسياسة الهيمنة للاتحاد السوفيتي السابق، وانتهت إلى الدكتاتوريات التي كانت تعمل لصالح الاتحاد السوفيتي. هذا هو المنهج المتبع عالمياً مع الحركات الشعبية التي تنشد العدالة.

كانت براعة إمامنا العظيم في أنه وضع إطاراً متماسكاً لهذه الثورة ولم يسمح بذوبانها في بوتقة القوى والخطوط السياسية السلطوية، فكان مغزى شعار (لا شرقية لا غربية جمهورية إسلامية) أو شعار (استقلال حرية جمهورية إسلامية) - اللذين رسمتهما تعاليم الإمام وإرشاداته على شفاه الجماهير - أنّ هذه الثورة ترتكز إلى أصول ثابتة وصلبة لا صلة لها بالمبادئ الاشتراكية في المعسكر الشرقي يومذاك ولا بأصول الرأسمالية الليبرالية للمعسكر الغربي. وهذا هو السبب في ما أبداه الشرق والغرب من عداء وتزمّت إزاء هذه الثورة.

لقد أقيمت هذه الثورة على قواعد صلبة، فجعلت من تطبيق العدالة والحرية والاستقلال - وهي من أهم القيم بالنسبة للشعوب - ومن المعنويات والأخلاق غايتها. هذه الثورة مزيج من الدعوة للعدالة والتحرر وحاكمية الشعب والمعنويات والأخلاق، ولكن ينبغي عدم الخلط بين هذه العدالة وبين العدالة المزعومة الوهمية التي كان شيوعيو الاتحاد السوفيتي السابق أو الدول التي كانت تدور في فلكه يرفعون شعارها؛ فهذه عدالة إسلامية لها تعريفها الخاص بها، وكذا ينبغي عدم التشبيه بين الحرية في نظام الجمهورية الإسلامية وحرية الغرب بما تعنيه من إطلاق عنان السلطويين والأثرياء ومن تحلل في سلوكيات البشر وأفعالهم؛ فهذه حرية إسلامية تنطوي على حرية اجتماعية ومعنوية وفردية لها قيودها وإدراكها وهديها ومفهومها الإسلامي. كما ينبغي عدم الخلط بين المعنويات والأخلاق التي جعلتها الجمهورية الإسلامية من مبادئها وبين حالات التديّن المتحجر الخالي من المنطق والجامد الذي يسود الكثير من المجتمعات، وهو تديّن قشري يطفو على اللسان فقط ويشوبه الجمود وعدم تلمّس طريق السعادة للمجتمع والإنسان. فقيد (الإسلامية) هذا الذي يأتي بعد العدالة والحرية والمعنويات ثرّ في مغزاه، ولابد من العناية به.

هذه المبادئ انبرى الإمام لبيانها أمام الجماهير والواعين قبل انتصار الثورة، وعلى أساسها أرسى الجمهورية الإسلامية بعد انتصار الثورة، وظلّ متمسكاً بهذه المبادئ وجاهد من أجلها مادام على قيد الحياة.

ولهذا فقد استطاعت الجمهورية الإسلامية كظاهرة عصرية فريدة إحياءَ الآمال في قلوب المسلمين، حيث أدرك الجميع في أرجاء العالم الإسلامي وخارجه أنها ليست نسخة تقليدية لما كانوا سمعوا من شعارات أطلقتها الألسن المتزلزلة لأنظمة الشرق أو الغرب، بل هي ظاهرة عصرية تتميز بحيويتها واقتدارها وحداثة حركتها. وعليه فمع قيام الجمهورية الإسلامية تجددت الحركة والآمال في نفوس المسلمين في ربوع العالم الإسلامي. وهكذا في الوقت الحاضر؛ فالأمل الذي أحياه النظام الإسلامي في قلوب المسلمين ما يزال حياً بالرغم من السموم والعراقيل التي تفتعلها أبواق الدعاية الاستكبارية ضد الجمهورية الإسلامية على الصعيد العالمي، وقد وضع المثقفون المسلمون والشبيبة المسلمة والأجيال الناهضة في البلدان الإسلامية هذا المعْلَم اللاحب الزاخر بالأمل نصب أعينهم.

إنّ الغاية من كل هذه المحاولات التي تبذلها مراكز الهيمنة الدولية والسياسات الاستكبارية - وعلى رأسها أمريكا - ضد الجمهورية الإسلامية هي أنهم يحاولون القضاء على هذه الجهود وهذا المنهل لعلمهم بعجزهم عن بثّ روح اليأس لدى شعوب العالم التي تنشد العدالة والحق مادام هذا النبع متدفقاً ومادام مهد هذا الفكر حياً، لذا فإنهم يسعون للقيام بأحد أمرين: إمّا القضاء على هذا النبع قضاءً كلياً، وإمّا السعي لاستلاب ماهيّة الجمهورية الإسلامية.. ولعلمهم بتعذّر الأول في ظل وعي الشعب ويقظته، فإنهم يقومون باستبدال التوجهات وتشويه المفاهيم التي تعدّ من مسلّمات وبيّنات الثورة الإسلامية والجمهورية الإسلامية، وإن بقيت محافظة على ظاهرها.

إنهم مافتئوا يروّجون على الصعيد العالمي أن الجمهورية الإسلامية تسير نحو الضعف والزوال يوماً بعد يوم، وهذا من الدعايات الدائمية لأعداء هذه الثورة وهذا النظام؛ ولعلّ من السذّج مَنْ يصدقها، وربما تدخل هذه الدعايات الفتور والحزن والأسى لدى بعض الأصدقاء في أرجاء المعمورة، وتدخل السرور على الأعداء، لكن ذلك ليس نبوءَة تاريخية ولا هو تكهن علمي بل هو مؤامرة إعلامية؛ فإذا كانت الثورة الإسلامية قد أصابها الضعف والهرم والعجز فلماذا ينفقون المليارات لمواجهتها؟ وإذا كانت الثورة الإسلامية قد لفظت أنفاسها فلماذا تلقي أمريكا بكل ثقلها السياسي والإعلامي في ساحة المواجهة مع هذه الثورة وتزداد عنجهية في منطقها يوماً بعد يوم؟ كلا، فهذه الثورة حيّة وعارمة وماضية إلى الأمام، وكذلك مازالت حركة الثورة وخطوطها الأساسية حيّة.

([1]) هي المشروطة, وقد تقدم ذكرها.

([2]) حركة تأميم النفط في إيران إبان حكومة الدكتور مصدق، إنه اقترح من جانبه لأول مرة موضوع التأميم في ديسمبر- كانون الأول عام 1950. لدى إقرار البرلمان الإيراني بمجلسيه الشورى الوطني والشيوخ، مبدأ تأميم النفط, إلا أنّ حكومة العمال البريطانية آنذاك، عارضت منذ الوهلة الأولى المصادقة على مبدأ تأميم النفط في مجلسي إيران الشورى الوطني والشيوخ باعتباره قراراً باطلاً وغير مشروع. لاسترضاء الحكومة الجديدة الإيرانية، وكسب موافقتها على توقيع إتفاقية جديدة، دعت شركة النفط الإنكليزية - الإيرانية، أي: الإنكلو- ايرانية علناً لمناصفة الأرباح (مبدأ خمسين – خمسين).. هذه الدعوة كانت قد طرحت أولاً أواخر أيام حكومة رزم آرا... تقدمت الشركة في 25 ابريل- نيسان 1951 باقتراح جديد يتضمن 3 بنود. الإقتراح وان كان يلحظ مزايا جديدة لإيران يتنافى ومبادئ تأميم النفط.. ، لذا أقرت لجنة النفط في مجلس الشورى الوطني (النواب) بالإجماع نتيجة إصرار الدكتور مصدق طرح قانون تأميم النفط يوم السادس والعشرين من ابريل نيسان عام 1951. يوم الجمعة السابع والعشرين من ابريل – نيسان عام 1951.