التأصيل للمشروع الإسلامي

مجموعة محاضرات ألقاها سماحة القائد في شهر رمضان، عام: 1974م.

 

الجلسة الثالثة

 

الإيمان الواعی

 

السبت 4 رمضان المبارك 1394 هجرية

 

30/6/1353 هجرية شمسية

 

من آية سورة البقرة تتبين عدة حقائق أخرى في دائرة الإيمان.

 

الأولى، أن الخصلة البارزة لرسُل الله وأتباعهم هي الإيمان، هي الاعتقاد برسالتهم. وهنا الفرق الكبير بين القادة الإلهيين وسائر حكام العالم. القائد الإلهي يؤمن بأقواله وبمسيرته من أعماق وجوده: بينما سائر ساسة العالم قد يطلقون الشعارات البراقة بأساليب جذابة، لكنهم بما يقولون لا يؤمنون، أو لا يحملون في قرار أنفسهم مايلزم من إيمان.

يروى أن أحد زعماء أكبر بلدان الكتلة الشرقية ــ وهو من الطبيعي يحمل فكرًا إلحاديًا ويرفض كل مدرسة غير المدرسة المادية ــ زار الهند بعد إعلان استقلالها، ليستقطب قلوب الملايين من الهنود الذين تحرّروا حديثًا. لقد أثار دهشة الهنود حين رأوا أن هذا الزعيم الشيوعي يحمل على جبهته صورة «تيلاك». وتيلاك زعيم روحي هندوسي يعتبر من قادة حركة تحرير الهند.

بالمناسبة قادة تحرير الهند كانوا جميعًا، خلال تسعين عامًا من حركة التحرير، رجال دين. منهم المسلمون مثل مولانا شاه محمود دهلوي (ومولانا لقب يطلق على رجال الدين مثل: سماحة الشيخ، وآية الله) ومولانا محمود الحسن، ومولانا أبو الكلام آزاد، ومولانا محمد علي، ومولانا شوكت علي. ومنهم غير المسلمين من رجال الدين مثل المهاتما غاندي، وهو من أتباع مدرسة روحية هندية قديمة.

أعود إلى حديثي وأقول إن «تيلاك» زعيم روحي هندي، توفي قبل تحرير الهند، لكنه ارتسم في أذهان الهنود باعتباره قائدًا روحيًا لتحرير الهند. وبعد استقلال الهند، يأتي هذا الزعيم الشيوعي ليتظاهر أمام الهنود بولائه لتيلاك!! مع كل ما يحمله هذا الشيوعي من فكر يتناقض تمامًا مع روحانية تيلاك.

هذا هو شأن الساسة الذين لا يحملون مسؤولية إيمانية تجاه مدرستهم، أما الأنبياء فهم مؤمنون برسالتهم بكل وجودهم. يقفون في الصف الأمامي فيما يدعون إليه. لا يدعون الناس إلى هدف دون أن يكونوا في طليعة الساعين إليه، ليسوا من النوع الذي يطلبون من شعبهم أن يضحي ويبذل وهم في رغد من العيش ماكثون دونما حراك. من حقّ الناس في هذه الحالة أن يشككوا في نوايا هؤ لاء الزعماء، من حقهم أن يقولوا: لو كنتم صادقين لنزلتم أنتم أيضًا إلى الساحة.

القادة الإلهيون يحملون راية الدعوة في مقدمة الصفوف. إبراهيم الخليل يؤكد أنه في طليعة من استسلم لرب العالمين: (وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِینَ)[1]. رسول الله(ص) كان مع الصحابة يخوض معارك الإسلام مع الشرك، ولاقى ما لاقى في سبيل الدعوة، وكان في مقدمة الصحابة تحمّلًا للأذى والمشاق. هذه هي من خصائص الأنبياء والسائرين على طريقهم. مؤمنون بكل وجودهم، وعاملون بما هم به مؤمنون:(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَیْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ)[2]. إنها قافلة واحدة تسير على طريق واحد، وبقيادة واحدة، وتجاه هدف واحد: (لَا نُفَرِّقُ بَیْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ)، وهذه العبارة الأخيرة هي على لسان المؤمنين. الأنبياء محترمون بأجمعهم إبراهيم وعيسى وموسى ويعقوب وجرجيس ونوح و.. يبشّرون كلهم بمشروع واحد: (لَا نُفَرِّقُ بَیْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ).

(وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) أي تلقينا رسالة الأنبياء بوجودنا كلّه، و«سمعنا» أي فتحنا منافذ فهمنا ووعينا، «وأطعنا» والسياق يعني أن هذه الإطاعة تمّت عن وعي وفهم، وليست إطاعة عمياء. وماذا يتوقع المؤمنون بعد أن استوعبوا رسالة الأنبياء، وانخرطوا فيها عمليًا؟ يتوقعون الغفران: (غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَیْكَ الْمَصِیرُ)، وسنتحدث عن هذا المصير في بحثنا عن المعاد في هذه السلسلة من الأحاديث بإذن الله.

مما تقدم فهمنا أن الإيمان من خصائص المنتمين إلى الدعوة الإسلامية. مَنْ كان إمّعة، من يقول أنا مع الناس أينما ذهبوا فهو ليس من دائرة المؤمنين. لابد أن يكون للإسلام والقرآن مكانة خاصة في قلوب المؤمنين وعقولهم، لابد أن تستولي العقيدة على شغاف قلوبهم وتحيي أفئدتهم بنور الإسلام. هذا هو الأمر الأول.

والأمر الثاني، أن هناك من يرتبط بالدين عن تقليد وعصبية، هؤلاء رأوا آباءهم على طريقة وهم على آثارهم مقتدون، دونما برهان ودليل. والمتعصبون يرتبطون بالدين دونما وعي وإدراك، وتراهم يخالفون الدين أحيانًا لأنهم يرون ما ساور ذهنهم هو الدين. لا يعبأون بما يقوله الله ورسوله بل يتمسكون بما رسخ في أذهانهم. والتعصّب قد يطال من تتوقع منه أن يكون على مستوى أرقى من الفهم. وهذا مشهود في أوساطنا اليوم. ومثل هؤلاء منغلقون على أنفسهم، لا ينفتحون على الآخر، بل يرون ما يفعلونه هو الصواب، وما يفعله الآخر مرفوض عندهم، دونما دليل.

ولابد من التأكيد على أن الإيمان في الإسلام لا يكون عن تقليد أو تعصب، فمثل هذا الإيمان لا قيمة له في ميزان الدين المبين. وهو عرضة للزوال أو الانحراف. الأخطار التي تهدد الإيمان الإسلامي اليوم كثيرة، والسهام الموجهة إلى معتقدات المسلمين هائلة، ولا يمكن للإيمان التقليدي أن يصمد أمامها. لابد من إيمان راسخ قائم على أساس وعي وشعور وإدراك كي يصمد أمام الإغراءات والشبهات. كما لا يمكن حصر المجتمع خلف جدران لا يصل إليها تأثير العدوّ المتربّص، فلابدّ أن يكون إيمان الأمة عن شعور وانتخاب ووعي كي يقاوم التحديات. إذا أردنا الحفاظ على الإيمان عن طريق منع الفرد عن كل مؤثر خارجي، فهو مستحيل اليوم، لابد من إيمان قائم على انتخاب واع، عندئذ سيكون راسخًا، وسيكون لمن يحمل هذا الإيمان مثل مواقف المسلمين الأوائل كعمار بن ياسر وخباب بن الأرت وأمثالهما، لا يتراجع مهما واجه من مصائب ومصاعب ومغريات.

وهذه آيات من أواخر سورة آل عمران توضّح لنا الإيمان الواعي.

(إِنَّ فِی خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّیْلِ وَالنَّهَارِ لآیَاتٍ لِّأُوْلِی الألْبَابِ)[3] آيات الله لا يستوعبها إلاّ ذوو الألباب، إلاّ أصحاب العقول المنفتحة. وذوو الألباب ليسوا مجموعة خاصة من البشر، بل إن أبناء البشرية بأجمعهم قد خلقهم الله سبحانه ليكونوا ذوي ألباب. ولكن المشكلة هي أن مِنَ الناس من لا يستخدم عقله، فيظل راكدًا، يتراكم عليه الصدأ ويفقد قدرته على النظر الصحيح. إذا تركت سيارتك دون حركة لمدة طويلة، فإن محركها يصدأ، أو لا يعمل بشكل صحيح، والمحرك ليس مقصرًا هنا، بل هو عدم التشغيل والاستخدام. أولوا الألباب هم الذين يستثيرون قواهم الفكرية والعقلية، ولا يتركونها عاطلة.

ومن هم أولو الألباب؟ قد يخطر في الذهن بادي الرأي أنهم الأذكياء السباقون في أعمالهم الاقتصادية والإدارية والسياسية، وأنهم الذين يتفوقون على منافسيهم في شتى المجالات. القرآن يرفض هذا اللون من فهم معنى اللب وأولي الألباب، ويرى أولي الألباب من خلال القيم الكبرى التي تميّز الإنسان، وهي الارتباط بالله سبحانه. في تعريف أولي الألباب يقول سبحانه: (الَّذِینَ یَذْكُرُونَ اللهَ قِیَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ)، وليس ذكر الله هنا على طريقة الدراويش، وليس الاكتفاء بلقلقة اللسان، بل هو الذكر الذي يستتبعه الشعور بالمسؤولية في الحياة، ويدفع إلى العمل بهذه المسؤولية.

وتوضح الآية ذلك إذ تقول: (وَیَتَفَكَّرُونَ فِی خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) أهمّ محور في المنظومة الفكرية للمدرسة الإسلامية هو (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلًا) هذه قاعدة للحياة الفردية والاجتماعية. هذا الكون لم يُخلق باطلًا، بل خُلق لهدف معين، وفق نظام معين يجعل الإنسان أمام مسؤولية، وأمام سلوك خاص ينسجم مع هذا النظام الهادف. وإذا سار خلاف هذا النظام يتعرض إلى غضب الله وغضب المنظومة الكونية: (سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).

إذن من خصال الإيمان التفكير في الكون والحياة، والخروج من هذا التفكير بنتيجة هي أن خلق السماوات والأرض كان وفق نظام وهدف يستوجب مسؤولية وسلوكًا خاصًا ينسجم مع هذا النظام، ومَنْ خرج عن هذا النظام فإنه مهزوم لا محالة، إذ لا يوجد في الكون من يحميه وينصره: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَیْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِینَ مِنْ أَنصَارٍ).

ومن خصال الإيمان الأخرى أن المؤمنين يستجيبون لنداء الدعوة إلى الإيمان، سواء كان صاحب الدعوة نبيًا وهو الداعي الظاهر، أو كان التفكير والعقل وهو الداعي الباطن، فهم يتجهون إلى الإيمان عن وعي وتعقل. وهذا هو الإيمان المطلوب في الإسلام: (رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِیًا یُنَادِی لِلإِیمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) فقد استجبنا لنداء التكوين.

وفي سياق الآيات التي تذكر الإيمان القائم على الوعي، ورفض ذلك الإيمان المقرون بالتقليد والتعصب، يذم القرآن أولئك الذين يلغون قدرة تفكيرهم ويرفضون ترك ما ألفوه من نهج حتى لو كان ذلك النهج لا يقوم على علم ولا على هدى: (وَإِذَا قِیلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَیْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا یَعْلَمُونَ شَیْئًا وَلَا یَهْتَدُونَ)[4].

هؤلاء هم الرجعيون والمتحجرون الجامدون القابعون على ما ألفوه من عادات وتقاليد موروثة حتى لو كانت متعارضة مع العلم ومع هداية ربّ العالمين. وهؤلاء لا يمكن أن يكونوا في زمرة المؤمنين.

 

والحمد لله رب العالمين

 

[1] ـ الأنعام/ 163

 

[2] ـ البقرة/ 285

 

[3] ـ آل عمران/ 190-193

 

[4] ـ المائده/ 104