نور الفطرة وطريق الهداية

الشيخ عمّار حمادة

يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "كي تكون إنساناً، ينبغي أن تنسجم مع أصل خلقتك وتعيش فطرة الله التي فطرك عليها، وإلّا فإنَّك تتوجَّه بسيرك الحثيث إلى الحيوانيّة"(1). هل يُعقل أن يفقد الإنسان إنسانيّته؟ كيف ذلك؟ وما هو السبيل لاسترجاع تلك الإنسانيّة؟ هو ما سيعرّفنا عليه الإمام الخمينيّ قدس سره في هذا المقال.

 

•عندما تُحكم الغريزة قبضتها

أفدح الخسران أن يخسر الإنسان إنسانيّته، وأن يفقد ما خلقه الله لأجل الوصول إليه، وذلك عندما يقع فريسة الأوهام الدنيويّة والغريزة الحيوانيّة؛ الأولى هي تلك النزعة التي تجعله يقبل بالفاني والزائل والمحدود، والثانية تلك التي تجعل من حاجاته الجسديّة النتيجة النهائيّة لكلّ فعاليّة وتَحرّك، بل وكلّ اهتمام.

يتحقّق هذا السقوط عندما لا يعمل الإنسان بمقتضى فطرته، بل بمقتضى غريزته التي يشترك بها مع الحيوان، وعندما يركن إلى هذه الدنيا ويكون أسيراً لاعتباراتها وأوهامها.

 

•الحلّ: العودة إلى الإنسانيّة

إنَّ أكمل ما أبدعه الله هو الإنسان، وجعل التكامل المستمرّ والعزم في السعي نحو الكمال سرّ إنسانيّته. وشاءت حكمته أن تكون خلقة هذا الإنسان على نحو يستحيل أن تتبدّل، وأطلق في كتابه العزيز عليها تسمية الفطرة، فقال عزّ من قائل: ﴿فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ (الروم: 30).

فأوضح بصريح ما تقوله هذه الآية، أنَّ الدين هو الفطرة، وأنَّ هذه الفطرة لا تتغيَّر ولا تتبدَّل، فهي صبغة الله للإنسان حتّى يبقى إنساناً.

 

أ- الفطرة ضمان الإنسانيّة

يُبيّن الإمام الخمينيّ قدس سره أثر الابتعاد عن الفطرة في خسارة الإنسانيّة: "وهكذا، بعيداً عن الفطرة واتّباعها، تحصل لك جميع مراتب الخسران، وتقع مقاماتك النورانيّة الثلاثة -أي المعارف الإلهيّة، والأخلاق الفاضلة، والأعمال الصالحة- تحت أقدام الأهواء النفسيّة.

وعندئذٍ، يصبح اتّباع الأهواء النفسيّة والرغبات الحيوانيّة حائلاً دون أن تتجلّى فيك صفات الحقّ، ويطفئُ ظلامُ النفس وأهواؤها كلَّ أنوار العقل والإيمان، ولن تتاح لك ولادة ثانية؛ أي الولادة الإنسانيّة، بل تمكث على تلك الحال ويكون ممنوعاً عنك الحقّ والحقيقة"(2).

وعليه، إن حصل وانجرف الإنسان في طريق حيوانيّته، فإنَّه يحتاج إلى طريق عودة إلى إنسانيّته، العودة القائمة على أساس السلوك المعنويّ والممارسة الأخلاقيّة التي تساهم في كبح جماح الشهوة، ولجم روحيّة طلب الدنيا، والاستغراق في متعها وشؤونها، مضافاً إلى العقل الهادي.

فلا غنى -إذاً- عن منهج ومسلك، يضمن تلك العودة للفطرة السليمة والإنسانيّة الأصيلة.

 

ب- نظريّة الإمام قدس سره في إحياء الفطرة

في إطلالةٍ إجماليّةٍ لإرث الإمام قدس سره، نستطيع تبيُّن بعض ملامح مدرسته الأخلاقيّة، وتحديد مبانٍ وأصول لها تظهر في تحليله لمناشىء الأخلاق الفاسدة وكيفيّة علاجها، وتتبدّى لكثرة تعرّضه للفطرة حين يقوم بالوعظ والإرشاد، منها:

 

1- وعي الإنسان بفطرته: يستوقف المتأمّل المحوريّة الثابتة للفطرة في معظم كتابات الإمام قدس سره وإفاضاته، فهو يرى أنَّ قوّة حضورها في حياتنا هو المحرّك الأوّل لتوجّهنا وسعينا نحو الكمال.

وهكذا، كان الدافع والمحرّك الأساسيّ للوصول إلى الكمال هو وعي الإنسان وشعوره التامّ بفطرته، بل نور الفطرة هو أعظم هادٍ إلهيّ، وهو موجود في جميع سلالة البشر.

 

2- تربية الفطرة: وحين يتحدّث عن التربية الأخلاقيّة، فلا يمكن إغفال دور الفطرة ومحلّها من البحث، حيث يقول قدس سره: "إنَّ النفس الإنسانيّة مفطورة على التوحيد، بل هي مفطورة على جميع العقائد الحقّة، ولكنّها منذ ولادتها وخروجها إلى هذا العالم، وإذا لم تقع تحت تأثير مربّ أو معلّم، فإنّها تنطفئ فيها جميع الأنوار الفطريّة"(3).

 

3- العلم منبِّه الفطرة: أمّا طلب العلم، الذي قد يُرصف في أعلى سلَّم بيان مقام الإنسان الأخلاقيّ، فإنَّه في عُرف الإمام قدس سره ليس إلّا التعبير الأجلى عن سلامة الفطرة: "العلم يعني كشف الواقع. والواقع يحكي عن جمال وعظمة لا حدّ لهما. ولأنّ الفطرة عاشقة للجمال ومشدودة للعظمة، فإنّ طلب العلم تعبير واضح عن سلامة الفطرة فينا. ومن لم يكن للعلم طالباً -مع وجود كلّ هذه الآيات اللامتناهية التي ملأت أركان كلِّ شيء- فهو محروم من أدنى درجات الفطرة. ومن كان كذلك، خرج عن صراط الإنسانيّة وسلك سبيل البهيميّة، بل أضلّ سبيلاً"(4).

 

4- الفطـرة وتعظيــم المنعــم والـخالق: تشكّل معرفة الله الأساس الذي تقوم عليه الأخلاق، والدلالة المحكمة على هذه المعرفة هي النعم، فكيف تدلّ النعم على المنعم؟ ها هو الإمام قدس سره يوضّح: "واعلم، أنَّ احترام المنعم وتعظيمه هو من الأمور الفطريّة التي جُبل الإنسان عليها، والتي تحكم الفطرة بضرورتها، وإذا تأمّل أيّ شخص في كتاب ذاته، لوجده مسطوراً فيه أنّه يجب تعظيم من أنعم نعمةً على الإنسان. وواضح أنّه كلّما كانت النعمة أكبر وكان المنعم أقلّ غرضاً، كان تعظيمه أوجب وأكثر، حسب ما تحكم به الفطرة"(5).

الدين دينٌ قيمٌ؛ أي أنَّه يتشكّل أخلاقيّاً من مجموعة من القيم، فما هو ميزان القيمة؟ وما أساس الاحترام والتقدير فيه؟ وهل هو -بحسب الإمام قدس سره- الفطرة؟

"ومن الأمور الأخرى التي تقرّها الفطرة، احترام الشخص الكبير العظيم، ويرجع هذا الاحترام والتقدير كلّه الذي يبديه الناس تجاه أهل الدنيا والجاه والثروة والسلاطين والأعيان، إلى أنّهم يرون أولئك كباراً وعظماء، وأيّ عظمة تصل إلى مستوى عظمة مالك الملوك الذي خلق هذه الدنيا الحقيرة الوضيعة، والتي تُعتبر من أصغر العوالم وأضيق النشآت؟"(6).

 

•عمليّاً: خطابه إحياءٌ للفطرة

لكلّ منظومة أخلاقيّة منهجيّة في الوعظ والإرشاد، فكيف كان خطاب الإمام قدس سره عندما أراد أن يؤثّر في المخاطب؟ ألم يُوجّه مناجاةً وخطاباً للفطرة؟ فلنصغِ بأسماع قلوبنا إليه إذ يقول:

"وإذا تلوّث نور الفطرة بالقذارات الصوريّة والمعنويّة، فبمقدار التلوّث يبعد عن بساط القرب ويهجر من حضرة الأنس حتّى يصل إلى مقام ينطفئ فيه نور الفطرة بالكلّية، وتصير المملكة شيطانيّة كلّها، ويكون ظاهرها وباطنها وسرّها وعلنها في تصرّف الشيطان، فيكون الشيطان قلبه وسمعه وبصره ويده ورِجله، وتكون جميع أعماله شيطانيّة. وإذا وصل أحد -والعياذ بالله- إلى هذا المقام فهو الشقيّ المطلق، ولا يرى وجه السعادة أبداً، وبين هاتين المرتبتين مقامات ومراتب لا يحصيها إلّا الله، وكلّ من يكون إلى أفق النبوّة أقرب فهو من أصحاب اليمين، وكلّ من كان إلى أفق الشيطان أقرب فهو من أصحاب الشمال"(7).

 

•ملوّثات الفطرة

إذا أردنا اجتناء فائدة عمليّة لأخلاقنا وتوجّهاتنا، والحؤول دون إطفاء نور الفطرة في وجودنا، فلا بد من الالتفات إلى نكات أساسيّة في مسيرنا المعنويّ، يسهم تفاديها في المحافظة على هذه العطيّة الإلهيّة السامية صافية خالية من الكدورات والتلوّث، لم يغفلها الإمام قدس سره أيضاً، نذكر منها:

 

1- حبّ الرئاسة: فحبّ الرئاسة يقضي على دين المؤمن بسرعة قياسيّة؛ أي أنّه يقضي على الفطرة الصافية؛ لأنّ الفطرة طالبة للكمال المطلق، وحبّ الرئاسة هو حبّ وتعلّق وتوجّه نحو النقص. فإذا كنت للرئاسة معظّماً وللرؤساء مكرّماً، لا لأنّهم وسيلة لإحقاق الحقّ وإبطال الباطل، ونشر الخير، والدفاع عن المظلومين، وتقوية الإبداع، وتثبيت العدالة، وتفعيل الطاقات، ومواجهة الأعداء، فأنت بعيد كلّ البعد عن الفطرة الإلهيّة. بالتالي، فأنت لا تسلك طريق التكامل(8).

 

2- إنكار مقامات أهل الله: وكذلك إنكار مقامات أهل الله وأرباب المعرفة، الناشئ من مبدأ سوء الظنّ، هو من الحجب عند أصحاب القلوب، فما دام الإنسان ملوّثاً بهذه القذارة لا يتقدّم خطوة إلى المعارف الحقّة النورانيّة، بل ربّما تطفىء هذه الكدورة نور الفطرة الذي هو مصباح طريق الهداية، وينطفئ بها نار العشق التي هي براق العروج إلى المقامات(9).

 

3- مراكمة الحُجُب: فعندما تتراكم الحجب على الفطرة، يخبو نداؤها في أسماع قلوبنا ومشاعرنا، فإن تلك الغفلة وذاك الاحتجاب يعني أنّنا نسير في طريق آخر لا يخدم الإنسانيّة ولا يخدمنا.

 

4- تحريف توجّهات الفطرة: نحن لا نخلق الفطرة ولا نوجدها؛ لأنّها موجودة معنا مثل أيّ قوة أخرى، كالبصر والتفكّر والحواس، لكنّ تفعيلها وتقويتها ومنع ضعفها وذبولها، هذا كلّه بيدنا ونحن مسؤولون عنه. وأهمّ سبب لضعف الفطرة وانطفاء شعلتها في النفس، هو تحريف توجّهاتها!(10).

وختاماً، إذا استرسلنا بالولوج في المدرسة الأخلاقيّة للإمام قدس سره، ملامح وقيماً ومواعظ، فسنجد أنّ الفطرة ومقتضياتها تشكّل حجر الرحى، وما ذلك إلا لمحلّها من الإسلام الذي لم يكن الإمام قدس سره ليتبنَّى غيره أو ليرى سواه حقّاً أحقَّ أن يُتَّبع.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1.الأربعون حديثاً، الإمام الخمينيّ قدس سره، حديث اتّباع الهوى وطول الأمل، ص195.

2.(م.ن).

3.(م.ن)، ص196.

4.(م.ن).

5.(م.ن)، ص33.

6.(م.ن)، ص34.

7.الآداب المعنويّة للصلاة، الفصل الثاني، آداب الطهارة، ص28.

8.راجع: الأربعون حديثاً، (م.س)، ص591- الحديث 32.

9.(م.ن)، ص148- حديث حبّ الدنيا.

10.(م.ن)، ص155- الحديث 6.