الشيخ علي متيرك

الإسلامُ نظامٌ حياتيّ متكامل، يتولّى مسؤوليّةَ التكامل البشريّ في أبعاده كافّة، ولا يرى انفكاكاً بين الدارين، بل يرى الدنيا مزرعة الآخرة. لذا، رسم للإنسان صراطاً قويماً شاملاً لنمط العيش في الحياة الدنيا، يستطيع من خلال التزامه تحقيقَ ما تنشده الفطرة من سعادةٍ، قبلَ الموت وبعدَه، قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل: 89).

وفي ظلّ السعي الغربيّ الحثيث لتغيير نمط حياة المسلمين، من خلال ثقافةٍ سَحَرَ بريقُها أعينَ الناس، دُسَّت إلينا ممزوجةً بعسل، في حربٍ هادئةٍ ناعمة، لا بدّ لنا من تسليط الضوء على بعض فروع هذا النمط وشُعَبِه، التي من أهمّها الزهد وعدم التعلّق بالدنيا، الذي يحاربه الغرب بثقافة الترف والرفاهيَة المشوّهة، بل يعمل جاهداً على ترسيخ ثقافة الاستهلاك كحاجةٍ ضروريّة وأساسيّة في الحياة، بينما يقدّم الإسلام ثقافة الاقتصاد والقناعة ركيزةً أساساً في نمطه المنشود.

فما المراد من الزهد في المفهوم الإسلاميّ؟ وهل باتت ثقافة الاستهلاك حاجةً لا يمكن الاستغناء عنها؟ وهل يذمّ الإسلام الرفاهيَة؟

أسئلةٌ وعناوين نجيب عنها ونبيّنها من خلال كلام الإمام الخامنئيّ دام ظله؛ لكونها من أبرز مصاديق نمط العيش وفروعه في ظروفنا وواقعنا الحاليّ.

 

•أوّلاً: من مقوّمات نمط الحياة الإسلاميّ

1- الزهد وعدم التعلّق بالدنيا:

أ- الزهد الفرديّ: "الزهد في الدنيا" من أحبّ الخصال التي يتقرّب بها العبد إلى الله؛ لذلك يسلّط الإمامُ الخامنئيّ دام ظله الضوء عليها بالقول: "إنّ الإسلامَ يوصي الإنسانَ بالزهد من خلال نظرته إليه بصفته فرداً. ومعنى الزهد هو عدم الاستغراق في متاع الدنيا وزخارفها، لكنّه في الوقت ذاته يحذّر من الابتعاد عن الدنيا وقطع الصلة بها. ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ﴾ (الأعراف: 32)؛ أي إنّه لا يجوز الإعراض عن الدنيا. وهذه من بديهيّات الدين ومعارفه الواضحة التي لا تحتاج إلى تفسير. في هذه النظرة، يبيح الإسلام للإنسان الفرد الاستفادة من ملذّات الحياة الدنيا ومباهجها، ولكنّه يذكّره في الوقت ذاته بلذّة أسمى وأرفع، هي لذّة الأنس بالله ومتعة ذكر الله عزّ وجلّ"(1).

 

ب- الزهد ألّا تكون الدنيا هدفاً: إنّ الأساس في الزهد ألّا تكون الدنيا هي الهدف والمطلب. وعليه، قد يعتقد بعض الناس خطأً أنّ ثمّة أموراً لا دخالة لها في باب الزهد، وأنّ الزهد ينحصر في باب المال والممتلكات وما شاكل، يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "لا تقتصر المسائل الدنيويّة المطروحة في باب الزهد على الأموال وهذه الزخارف الحياتيّة المادّية فقط، بل تشمل الشأن والمقام والرتبة والوجاهة والمحبوبيّة وأمثالها؛ فالعمل لأجل الدنيا، والدراسة لأجل الدنيا، والسعي لأجل الدنيا، هذه الأمور كلّها هي نفسها ما يحويه باب الزهد، وقد تمّ التأكيد على هجرها والإعراض عنها"(2).

 

ج- الزهد المجتمعيّ: يتحدّث الإمام الخامنئيّ دام ظله في قِبال تكليف الفرد عن تكليف المجتمع بلحاظ الزمان، فيقول: "إنّ مجتمعَنا اليوم يعيش ظروفاً تستوجب قراءة روايات الزهد عليه... والوضع هو الذي يحدّد تكليف الزمان. وبرأينا، إنّ زمننا اليوم هو زمن يستوجب دعوة مجتمعنا نحو الزهد؛ لأنّ المجتمع يتقدّم باتّجاه التموّل، والثروة في البلد في ازدياد، والساحة مهيّأة لأمثال هؤلاء من أهل الدنيا، ليجنوا الثروة من خلال طرق مختلفة ويكتسبوها وينفقوها على غير حلّه. وإذا جُمعت الثروة من طريق الحلال أيضاً، فإنّهم يُفتَنون بالدنيا ويُبتلَون بسوء عواقب الافتتان"(3).

 

2. القصد والقناعة:

يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "وَعَلَيْكَ بِالقَصْدِ، فَإِنَّهُ أَعْوَنُ شَيْءٍ عَلَى حُسْنِ العَيْشِ"(4)؛ أي الموازنة والاعتدال، فلا إسراف ولا إقتار. والإسراف هو صرف الشيء في غير المصلحة المقرَّرة له، أمّا الإقتار، فهو التضييق على النفس والعيال.

في هذا الشأن، يحذّر الإمام الخامنئيّ دام ظله بشدّة من خطورة جنوح المجتمع نحو الاستهلاك، فيقول: "إنّ الجنوحَ نحو الاستهلاك وبالٌ عظيم بالنسبة إلى المجتمع؛ فالإسراف يضاعف الفوارقَ الطبقيّة بين الفقير والغني، ويعمّقها يوماً بعد يوم. وإنّ من الأمور التي يتعيّن على أبناء الشعب اعتبارها واجباً بالنسبة إليهم هو تجنّب الإسراف، بل يجب دعوة الناس وسوقهم نحو القناعة والاكتفاء والإنفاق بحسب الحاجة وتجنّب الإفراط والإسراف، فروح الاستهلاك تدمِّر المجتمع. إنّ المجتمع الذي يفوق استهلاكُه إنتاجَه ستحيق به الهزيمة، وعلينا أن نتعوّد على موازنة استهلاكنا والحدِّ منه، وأن نسعى للتقليل من الإسراف"(5).

 

•ثانياً: مظاهر انحطاط نمط الحياة الغربيّ

بينما نجد الإسلام ينبّه ويحذّر من ثقافة الترف والاستهلاك، لما لهما من تداعيات خطرة على الإنسان والمجتمع البشريّ، نجد أنّ نمط الحياة الغربيّ قد رسم ملامح انحطاطه بترسيخه وتصديره إلى الشعوب الأخرى، مثلاً:

 

1- ثقافة الاستهلاك:

أ- الاستهلاك المفرط من مظاهر الشرك: إنّ العالم اليوم تحكمه الشركات، منها شركات تجاريّة تعمل على تحويل الأذواق والميول وسوقها نحو صور نمطيّة تبغي من خلالها زيادة نسبة الاستهلاك والربح.

يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله محذّراً من أمثال هذه الثقافات المخالفة لنظامنا الإسلاميّ التوحيديّ: "ثقافة الفساد والفحشاء التي يتمّ ترويجها بين الشعوب بواسطة أيادي الاستعمار، وثقافة الاستهلاك التي يوماً بعد يوم، تجذب شعوبَنا أكثر فأكثر نحو مستنقعها، حتّى يزداد ربح الشركات الغربيّة التي تشكّل عقل محور الاستكبار وقلبه... هذه الأمثال وغيرها هي جميعها مظاهر لذلك الشرك ولعبادة الأصنام التي تخالف تماماً النظام التوحيديّ والحياة التوحيديّة التي أرادها الإسلام للمسلمين"(6).

 

ب- لا اكتناز ولا تبذير في الإسلام: في المقابل، يبيّن الإمام الخامنئيّ دام ظله نظرة الإسلام إلى قضيّة إنتاج الثروة والاستهلاك، فيقول: "إنّ الإسلامَ لا يحرّم إنتاج الثروة... إذا كانت الطرق قانونيّة، فإنّ إنتاج الثروة يكون مستحسناً ومطلوباً في نظر الإسلام، وفي رأي الشارع المقدّس. فلتنتج الثروة، لكن دونما إسراف. فالاستهلاك المفرط لا يقبله الإسلام؛ وما يمكن الحصول عليه من خلال إنتاج الثروة يمكن توظيفه بالأسلوب نفسه في إنتاج آخر للثروة. فلا تجمّدوا الأموال -وهو ما يعبّر عنه في الإسلام بالاكتناز-، ولا تبذّروها تبذيراً بأن تنفقوها في ما لا ضرورة له في الحياة"(7).

 

2- ثقافة الترفيه:

أ- الرفاهيَة الغربيّة المشوّهة: يروّج الغرب اليوم ثقافة الترفيه كوسيلة يصل من خلالها إلى ترويج الأفكار والإيديولوجيّات، كالاستهلاك والموضة والانغماس في الدنيا وملذّاتها، والابتعاد عن المعنويّات، بل عمل على الفصل بين الرفاهيَة والمعنويّات. يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "إنّ العدوَّ والأجانب يزعمون أنّه لو أرادت مجموعة أن تعمل على تحقيق الرفاهيَة للناس وحلّ مشاكلهم، فإنّ هذا يستدعي الابتعاد عن المعنويّات والأهداف! وهذا خطأ. إنّ هذا هو تصوّر السُذّج والمغرضين ذوي المغالطة والتسويل. فالإسلام له خطّة وهدف من أجل دنيا الناس وآخرتهم".

 

ب- الرفاه في المنظور الإسلاميّ: يرى الإمام الخامنئيّ دام ظله أنّ رفاهيَة الحياة هي استراتيجيّة الاقتصاد الإسلاميّ، وأنّ الرفاه أمرٌ ضروريّ في الحياة، ولم ينهنا الإسلام عن ذلك، لكنّه ليس هدفاً بذاته. يقول: "لا نعني بالرّفاه المادّي الترويج لروحيّة الاستهلاك، بل أن يصل البلد من حيث العمران، والاستفادة من الثروات الطبيعيّة، وتأمين سلامة المجتمع وصحّته،... إلى حدٍّ مقبول"(8). ويقول: "كثيرون هم الناس الذين ينعمون بحياة مريحة، وليس لديهم مشكلة من ناحية العيش والغذاء والراحة، لكن لم يشمّوا رائحة الإنسانيّة. الإنسان يشعر باللذّة الروحيّة من النورانيّة والصفاء والعبوديّة لله"(9).

 

ج- التوأمة بين الرفاه والنموّ المعنويّ: في المنظور الإسلاميّ، لا انفكاك بين الدنيا والآخرة، بل ثمّة توأمة بينهما، لكن على قاعدة أنّ الدنيا مقدّمة وليست هدفاً، بل الهدف رضى الله تعالى. يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "إنّ ميزة دين الإسلام المقدّس، أنّه يحوي في نفسه سائر العوامل اللازمة لنموّ الإنسان الفرديّ والاجتماعيّ. وهذه مسألة غاية في الأهميّة. ففيه التطوّر المادّي، وكذلك التكامل المعنويّ؛ أي يوجد في الإسلام ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً﴾ (البقرة: 29)، ويوجد ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ﴾ (الأعراف: 32)"(10).

 

•توصية

يحذّر الإمام الخامنئيّ دام ظله من التحوّل الذي يُحدِثه تقليدُ الغرب في نمط حياة الشعوب الأخرى، قائلاً: "إنّ تقليد الغرب، بالنسبة إلى الدول التي استحسنَت هذا التقليد لنفسها وعملَت به، لم يَعُد عليها إلّا بالضرر والفاجعة، بما في ذلك الدول التي وصلَت -بحسب الظاهر- إلى الصناعات والاختراعات والثروة، لكنّها كانت مقلِّدة. والسبب هو أنّ ثقافة الغرب هي ثقافة هجوميّة. هذه الثقافة هي ثقافةٌ لإبادة الثقافات. فأينما جاء الغربيّون، أبادوا الثقافات المحلّيّة، واجتثّوا الأسُس الاجتماعيّة، وغيّروا تاريخ الشعوب ولغاتها وحروفها (خطوطها) ما استطاعوا"(11).

 

 

1.في لقاءٍ مع أساتذة جامعات إقليم خراسان، في جامعة الفردوسي، مشهد، بتاريخ 15/5/2007م.

2.في لقاء مجموعة من نخبة أساتذة وفضلاء وطلاب حوزة قم العلميّة في المدرسة الفيضيّة، بتاريخ 24/10/2010م.

3.في بداية درس فقه الخارج، بتاريخ 05/9/1995م.

4.عيون الحكم والمواعظ، الليثيّ الواسطيّ، ص335.

5.رسالة النيروز بمناسبة حلول العام الجديد، بتاريخ 21/2/1995م.

6.رسالة إلى حجّاج بيت الله الحرام، بتاريخ 16/6/1991م.

7.في اجتماع كبير مع زوّار ومجاوري الحرم الرضويّ المطهّر، بتاريخ 21/3/2007م.

8.رسالة إلى الشعب الإيرانيّ الشريف في ختام أربعينيّة رحيل الإمام الخمينيّ قدس سره، بتاريخ 14/7/1989م.

9.في اجتماعٍ كبيرٍ مع أهالي مشهد وزوّار الإمام الرضا عليه السلام، بتاريخ 18/4/1991م.

10.1في اجتماعٍ كبيرٍ مع أهالي مشهد وزوّار الإمام الرضا عليه السلام، بتاريخ 18/4/1991م.

11.1من كلام له دام ظله، بتاريخ 14/10/2012م.

 

المصدر: مجلة بقية الله