أدبُ الإخلاص في العبادة (2)

مراتب الإخلاص(*)

 

إنّ الوصول دفعةً واحدةً إلى الإخلاص الكامل لمن كان محجوباً أمرٌ نادر الحدوث، ولا ينبغي التعويل وترك المجاهدة لتحصيله، كأن يجلس السالك ويصرّ على الدعاء حتّى يبلغه؛ لهذا يحتاج السالك إلى عبور مراتب المجاهدة ومراحل التصفية لكي يصل إليه.

 

مراتب السير نحو الإخلاص

1- تصفية العمل من رضى المخلوق: قلباً كان أم قالبيّاً، ينبغي تصفيته من شائبة رضى المخلوق وجذب قلوب المخلوقين، سواء كان للمَحمَدة أو المنفعة أو لغيرها، وفي مقابل هذه المرتبة إتيان العمل رياءً، وهذا هو الرياء الفقهيّ، وهو أحطّ وأدنى مراتب الرياء، وصاحبه أرذل المرائين وأخسّهم.

 

2- تصفيته من تحصيل المقاصد الدنيويّة: والمآرب الزائلة الفانية، وإن كان الداعي أنّ اللّه تعالى يعطيها بواسطة هذا العمل، كإتيان صلاة الليل لتوسعة الرزق، وإتيان صلاة أوّل الشهر للسلامة من الآفات في ذلك الشهر، وإعطاء الصدقات للعافية، وسائر المقاصد الدنيويّة. وقد عدّ بعض الفقهاء (عليهم الرحمة) هذه المرتبة من الإخلاص شرطاً لصحّة العبادة، إذا كان إتيان العمل للوصول إلى ذلك المقصود. وهذا الرأي خلاف التحقيق حسب القواعد الفقهيّة، وإن كانت هذه الصلاة عند أهل المعرفة لا قيمة لها أصلاً، وهي كسائر المكاسب المشروعة، بل لعلّها تكون أقلّ منها أيضاً.

 

3- تصفيته من الوصول إلى اللذّات الجسمانيّة: ينبغي تصفية العمل من الجنّات الجسمانيّة والحور والقصور وأمثالها من اللذّات الجسمانيّة، وفي مقابلها عبادة الأُجَرَاء كما في الروايات الشريفة. وهذا أيضاً في نظر أهل اللّه كسائر المكاسب؛ إلّا أنّ أجرة عمل هذا الكاسب أكثر وأعلى إذا قام بالأمر وخلّصه من المفسدات الصوريّة.

 

4- تصفيته من العقاب والعذاب الجسمانيّ: أن يصفّي العمل من خوف العقاب والعذاب الجسمانيّ الموعود، وفي مقابلها عبادة العبيد كما في الروايات. وهذه العبادة أيضاً في نظر أصحاب القلوب لا قيمة لها وخارجة عن نطاق عبوديّة الله.

 

ولا فرق، في نظر أهل المعرفة، بين أن يعمل الإنسان عملاً من خوف الحدود والتعزيرات في الدين أو خوف العقاب والعذاب الأخرويّ، أو للوصول إلى نساء الدنيا، أو الحصول على الحور ونساء الجنّة... فالعمل في جميع ذلك ليس لله، والداعي إلى هذا الأمر يُخرج العمل عن البطلان الصوريّ طبقاً للقواعد الفقهيّة [أي يكون صحيحاً]؛ ولكن ليس لهذا المتاع قيمةٌ في سوق أهل المعرفة.

 

5- تصفيته من الوصول إلى السعادات العقليّة: واللذّات الروحانيّة الدائمة الأزليّة الأبديّة، والانسلاك في سلك الكروبيّين (المقرّبين إلى اللّه من الملائكة)، والانخراط في زمرة العقول القادسة والملائكة المقرّبين، وفي مقابلها العمل لهذا المقصد.

 

وهذه الدرجة، وإن كانت درجة عظيمة وهدفاً عالياً ومهمّاً، والحكماء والمحقّقون يهتمّون بهذه المرتبة من السعادة اهتماماً كثيراً ويرون لها قيمة، ولكن في مسلك أهل الله، هذه المرتبة هي من نقصان السلوك أيضاً، وسالكها يُعدّ كاسباً ومن الأُجَرَاء أيضاً، وإن كان بفروق مع سائر الناس في المتجر والمكسب.

 

6- تصفيته من خوف الحرمان من اللذّات المعنويّة: وهي بإزاء هذه المرتبة السابعة؛ وهي تصفية العمل من خوف عدم الوصول إلى اللذّات والحرمان من هذه السعادات، وفي مقابلها العمل لهذه المرتبة من الخوف، وهذه وإن كانت مرتبة عالية وخارجة عن حدّ اشتهاء أمثال هذا الكاتب، ولكنّها في نظر أهل اللّه عبادة العبيد أيضاً، وهي عبادة عليلة.

 

7- تصفيته من الوصول إلى لذّات جمال الله: والوصول إلى بهجات أنوار السبحات غير المتناهية، وهي جنّة اللقاء. وهذه المرتبة؛ أي جنّة اللقاء، هي من مهمّات مقاصد أهل المعرفة وأصحاب القلوب وأيدي آمال النوع عنها قاصرة، والأوحديّ من أهل المعرفة يتشرّف بشرف هذه السعادة، وهم أهل الحبّ والجذبة من كُمّل أهل الله وأصفيائه تعالى.

ولكن هذه المرتبة ليست هي كمال مرتبة الكُمّل من أهل الله، بل هي من مقاماتهم العاديّة، وما في الأدعية كالمناجاة الشعبانيّة من أنّ أمير المؤمنين وأولاده الطاهرين عليهم السلام استدعوا هذه المرتبة من اللّه أو أشاروا بكونهم متحقّقين بها، فليس من جهة أنّ مقاماتهم منحصرة بهذه المرتبة.

 

8- تصفيته من خوف الفراق: كما أنّ المرتبة الثامنة في إزاء المرتبة السابقة، وهي عبارة عن تصفية العمل من خوف الفراق، وهي أيضاً ليست من كمال مقامات الكُمّل، وما قاله أمير المؤمنين عليه السلام: "فكيف أصبر على فراقك.."(1)، فمن مقاماته العادية ومقامات أمثاله كذلك.

وبالجملة، إنّ تصفية العمل في هاتين المرتبتين أيضاً لازمة عند أهل الله، والعمل معهما عليل، وليس خارجاً عن الحظوظ النفسانيّة. والتصفية منهما كمال الخلوص.

 

(*) من كتاب: الآداب المعنويّة للصلاة، الإمام الخمينيّ قدس سره، الباب الثالث، في سرّ النيّة وآدابها، فصل الإخلاص.

1-إقبال الأعمال، ابن طاووس، ج2، ص708.

 

المصدر: مجلة بقية الله