عام على العروج

 

حوار: الشيخ قاسم بيلون

هي جريمة العصر بامتياز. جريمة نكراء ارتكبتها يد الغدر الأمريكيّة عند فجر ذلك اليوم الأسود المشؤوم، بحقّ قائدَين من قادة محور المقاومة قلّ نظيرهما في هذا العصر، هما الشهيد القائد الحاجّ قاسم سليمانيّ، والشهيد القائد الحاجّ أبو مهدي المهندس.

للإضاءة على بعض شذرات هذين القائدين العظيمين وإنجازاتهما الجليلة، كانت هذه المقابلة التي أجرتها مجلّة "بقيّة الله" مع سماحة السيّد هاشم الحيدريّ.

في البداية، نرحّب بكم في مجلّتكم "بقّية الله"، عمرٌ طويل قضاه الشهيدان بالجهاد وخُتم بالشهادة، فماذا تحدّثوننا عن جهادهما وشهادتهما؟

 

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى اللّه على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين. شكراً لكم على هذه الاستضافة.

إنّ الشهيد الحاجّ قاسم سليمانيّ والشهيد الحاجّ أبو مهدي المهندس، كانا من رموز المقاومة والجهاد في زماننا؛ فالشهيد الحاجّ قاسم سليمانيّ قضى كلّ عمره وشبابه في الجهاد، وخصوصاً في الحرب المفروضة على الجمهوريّة الإسلاميّة، التي دامت نحو ثماني سنوات، إذ كان من قيادات الحرس الثوريّ في الحرب. وبين عامَي 1997م و1998م، عيّنه سماحة السيّد القائد الإمام عليّ الخامنئيّ دام ظله قائداً لفيلق القدس، ومن هنا، بدأ عمل الشهيد قاسم يتوسّع على ساحات المقاومة؛ فبنى علاقته مع حزب اللّه في لبنان، والمجاهدين في العراق، خصوصاً بعد سقوط صدام حسين، وفي أماكن أخرى أيضاً، وبدأ عمله يتوسّع بتوسّع الهجمة الاستكباريّة وشدّة الطغيان الأمريكيّ والإسرائيليّ وذيولهم وعملائهم في العالم.

وهكذا، تهيّأت الظروف للحاجّ قاسم للانطلاق في مسيرته بلطف اللّه سبحانه وعنايته.

وأمّا الشهيد الحاجّ أبو مهدي المهندس، فبرز دوره وفصائل المقاومة بعد دخول الجيش الأمريكيّ إلى العراق، حينها بات الشهيدان رفيقين، وتوطّدت هذه العلاقة بعد دخول داعش إلى العراق، وسقوط الموصل، وتأسيس الحشد الشعبيّ؛ لأنّهما كانا في الخندق نفسه. وكان الشهيد أبو مهدي يمثّل قيادة الحشد الشعبيّ الفعليّة في مواجهة داعش بعد فتوى آية اللّه العظمى السيّد علي السيستانيّ (حفظه الله). وطبعاً، كان لوجود الحاجّ قاسم هناك في ذلك الوقت دور كبير.

عن الولاية والإمام الخمينيّ قدس سره وعاطفة الشهيدين وعقلهما، ماذا تحدّثنا سماحتكم؟

كان الحاجّ أبو مهديّ يرى نفسه –وهو كذلك- جنديّاً وتلميذاً في مدرسة الإمام الخمينيّ قدس سره والإمام الخامنئيّ دام ظله، خصوصاً أنّه شارك في معارك الدفاع المقدّس، وكان عشقه للإمام قدس سره بالغ الأثر؛ فهو يراه قائده ووليّه. ثمّ سار على هذا النهج نفسه مع قيادة سماحة الإمام الخامنئيّ دام ظله. أمّا الحاج قاسم، فمن صفاته أنّه كان يعشق الإمام الخامنئيّ دام ظله، وكان ولائيّاً جدّاً. والإمام دام ظله، عندما يجد شخصاً بهذه الصفات وبهذا الإقدام، وقد حقّق الانتصارات، ويعرف عمق إيمانه وورعه ودقّته، فمن الطبيعيّ أن يكون مميّزاً بالنسبة إليه.

شاهدنا الحاج قاسم في الجبهة، كما شاهدناه في المصلّى يرتّل الدعاء، ما هو سرّ الرقّة تلك المرافقة للبأس؟

كان الحاجّ قاسم من أهل الإيمان، والصلاة، والبكاء، والدعاء، وكان ليّناً خلوقاً لطيفاً مع إخوانه. في المقابل، كان شجاعاً لا يعرف الخوف. لم يُنقل عنه أو يُشاهد منه في كلّ هذه الميادين الصعبة خوف أو تردّد؛ كان دائماً مقتحماً ومقداماً. وفي مقابل هذه القوّة والشجاعة، بحيث كانت تهابه أمريكا والعدوّ الإسرائيليّ، كان عطوفاً وبكّاءً مع الأيتام وأولاد وعوائل الشهداء، وفي المواقف العاطفيّة والروحيّة، وكثير من هذه المشاهد ظهرت بشكل علنيّ بعد شهادته.

كان يُعرف عن الحاجّ قاسم دقّته في بيت المال والحفاظ على المجاهدين. ماذا لديكم من شواهد حول هذا الموضوع؟

في موضوع المال والحقوق، أشير إلى الرسالة التي جرى تداولها عنه في مكان ما في جبهة العراق، وجدت في أحد البيوت الذي اضطرّ إلى استخدامه في المعركة، حيث كتب الرسالة بخطّ يده، طالباً من أصحاب هذا البيت المسامحة والاستئذان، وعرض أن يعوّض عليهم ما يطلبون. وكان يحتاط في حال دخلوا إلى كرم من كروم الفواكه أو مزرعة، فلا يمسّ هذه الأرزاق، ويوصي رفاقه بذلك، إلّا في حالات الاضطرار الشديد، شرط التعويض على أصحابها. كان شديد الحرص على كلّ شابّ ومجاهد، حيث كان يقدّم نفسه دائماً في المقدّمة. مثلاً: بعد سقوط الموصل، كانت سامرّاء في خطر، فسار الحشد الشعبيّ إليها للدفاع (في الأيّام الأولى من تأسيسه)، وكان الشهيد قاسم في السيّارة الأولى التي انطلقت إلى هناك، وبقي في الخطوط الأماميّة.

لا يمكن العبور على مشهد دعاء السيّد القائد دام ظله للشهيد قاسم وبكائه مرور الكرام، ما هو سرّ هذه المودّة؟

ما ذكرناه سببٌ كفيل لحبّ الإمام الخامنئيّ دام ظله له، ليحترمه ويعتمد عليه، فهو كان يده اليمنى وأحد تلاميذه في هذه المدرسة. وأنا أعتبر أنّ دموع سماحته أمانةً ومسؤوليّةً كبيرة في أعناقنا، إذ تحمّلنا مسؤوليّة أن ننتفض ونثأر لهذا الدم؛ بمعنى أن نحمل أهداف الشهيدين والغايات التي استشهدا لأجلها، ونعمل على تحقيقها. ومن أهمّ أهداف الحاجّ قاسم هي تحرير القدس، وطرد أمريكا من المنطقة، ولهذا أعلن سماحة الإمام القائد دام ظله بعد ساعات من شهادتهما أنّ الانتقام الشديد يتمثّل بإخراج أمريكا من المنطقة. وهذه المسؤوليّة يجب أن نتحمّلها جميعاً في الفضاء المجازيّ، وفي خطاباتنا، وكتاباتنا، وسلاحنا، ودمائنا، وفي كلّ شيء.

يوجد تشابه كبير بين هاتين الشخصيّتين، وعلاقة مميّزة جمعتهما، ما هو برأيكم سرّ ذلك؟

لا شكّ في أنّ هناك توفيقات إلهيّة جمعت هاتين الشخصيّتين، ولكنّ التوفيق الأكبر الذي يبقى حاضراً هو استشهادهما معاً، وهذا مرتبط بالعلاقة القائمة بينهما، ولعلّ في الأمر سرّاً غيبيّاً لإفشال مؤامرة الأعداء للفصل بين الشعبين العراقيّ والإيرانيّ، وتمزيق جبهة المقاومة. فالله تعالى قدّر أن يُستشهدا معاً في بغداد، وبعد 40 عاماً من الجهاد، وفي مكان واحد، وبصاروخ واحد، وفي سيّارة واحدة، لكي يستفيق الغافلون عن هذه المؤامرة. وحتّى بعد الشهادة، ونتيجة شدّة الانفجار، اختلط الدمّ واللحم معاً، وربّما وُضعا في نعشٍ واحد، وبعد ذلك أُجريت التحليلات لتمييز الرفات عن بعضها بعضاً. وأنا أقول بجرأة إنّه لو ذهبنا إلى كرمان وعاينّا القبر، لوجدنا أنّ هناك جزءاً من دماء ولحم وجسد الحاجّ أبو مهدي موجوداً فيه، ولو ذهبنا إلى النجف عند وادي السلام، عند قبر أبو مهدي وفتحنا القبر، لوجدنا أن جزءاً من دم وجسد الحاجّ قاسم موجود فيه أيضاً!

كان كلّ من الحاجّ قاسم والحاجّ أبو مهدي يُظهر المودّة للآخر. وفي بعض المشاهدات، كان كلّ منهما يحاول تقبيل يد الآخر، وهذا دليل على تواضعهما وانصهارهما وانسجامهما، والمحبّة الشديدة بينهما.

 

كيف ترون محور المقاومة بعد شهادة هذين القائدين؟

لدينا يقينٌ راسخ في عقيدتنا، ومن خلال مدرسة أهل البيت عليهم السلام، أنّ الدم ينتصر، فالحاجّ قاسم مثلاً، ضحّى بحياته في سبيل هذه المسيرة، وقدّم الكثير، ووصل بالتالي إلى مبتغاه؛ إذ كان يبكي الليالي من أجل نيل الشهادة، فهل نقول إنّ تأثيره انتهى؟! يقول سماحة الإمام القائد دام ظله: إنّ الشهيد يبدأ تأثيره بعد شهادته. صحيح أنّ شهادته خسارة وألم وحسرة لهذه الأمّة، ولكن يمكن تحويل هذه الحسرة إلى فرصة.

وهذا ما حصل بالفعل، إذ إنّ العدوّ مرعوب من دم الحاجّ قاسم ودم الحاج أبو مهدي! أنا أعتقد أنّ شهادتهما سيكون لها أثر كبير إن شاء الله، كما حصل بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام ؛ على الرغم من أنّه قُتل وذُبح في كربلاء، وقطّع أولاده وأصحابه إرباً إرباً. من هنا، إنّنا نؤمن أنّ دماءهما هي بشارة نصر كبير آتٍ إن شاء الله.

أمام هرولة بعض حكّام العرب للتطبيع مع العدوّ الصهيونيّ بوصفه خيانة لهذه الدماء والتضحيات الجليلة، كيف ترون هذا المشهد؟

لقد ظلّوا لسنوات ينافقون ويكذبون على فلسطين، إلى أن جاء زمن كشف الأقنعة! إنّ ما حصل امتحان إلهيّ للحُكّام وللشعوب: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ﴾ (الملك: 2)، ليهلك من هلك على بيّنة، ويؤمن من آمن على بيّنة، وعرف عن بيّنة، واتّبع عن بيّنة. وهنا يبرز دور البصيرة التي يؤكّد عليها سماحة الإمام القائد دام ظله من عشرات السنين.

عندما تسقط الأقنعة، يتبيّن موقف الإنسان الحقيقيّ، فلا يعود هناك مجال للخداع؛ فنعرف عندها من مع الحقّ، ومن مع الباطل. هناك من علا صوته ضدّ التطبيع وضدّ تصفية القضيّة الفلسطينيّة، وهذا أمر مطلوب، فوعي الشعب الفلسطينيّ اليوم قطعاً أفضل من البارحة وقبلها؛ لأنّه أدرك من كان يخدعه ويطعنه في الظهر، ومن كان يقف ولا يزال إلى جانب قضيّته المحقّة ويدافع عنها، أمثال الإمام الخامنئيّ دام ظله والحاجّ قاسم والحاجّ أبو مهدي، الذين كانت فلسطين شعارهم. وأنا كنت قد عبّرت في بيان سابق أنّهم "ها هم العبيد من جديد يطيعون أسيادهم، فلننظر غداً من العبد الآخر الذي سيطيع السيّد الأمريكيّ بالتطبيع!".

ماذا تقولون لأبناء الحاجّ قاسم والحاجّ أبو مهدي، سواء في إيران أو العراق أو سوريا أو لبنان أو اليمن أو فلسطين؟

أنا أيضاً أتشرّف أن أكون من أبناء وجنود الحاجّ قاسم والحاجّ أبو مهدي، وأقول إنّ أهمّ ومضة في حياتهما وعقيدتهما ومسيرتهما أنّهما عرفا القائد، وعرفا وليّهما، وعرفا الإمام الخمينيّ قدس سره والإمام الخامنئيّ دام ظله، وخطّ الإمام، واتّبعوه. ولو لم يدرك هذان الشهيدان هذا القائد وهذا الخطّ، لما كان الحاجّ قاسم هو الحاجّ قاسم اليوم، وكذلك بالنسبة إلى الحاجّ أبو مهدي؛ فهذا هو مفتاح الانتصارات والعزّة والكرامة. نحن كأبناء يجب أن نتمسّك بهذه الراية، راية الولاية وراية المقاومة، وهؤلاء القادة كانوا من حملة راية الولاية؛ فالشهيد قاسم كان جنديّاً للوليّ الفقيه، وكان يفتخر بذلك، كما ذكر في وصيّته.

وهنا، أتوجّه لقرّاء مجلّتكم العزيزة، وأدعوهم أن يقرأوا وصيّة الحاجّ قاسم؛ فهو يوصي بالقائد، ويدعو أن تُرفع عنه المظلوميّة، وأن لا يُترك وحيداً غريباً، وأن لا يتكرّر مشهد كربلاء؛ فهو والشهيد أبو مهدي لم يسمحا بذلك، ولا سماحة السيّد حسن نصر اللّه (حفظه الله) سيسمح بذلك، ولا حتّى محور المقاومة الذي أعزّ الإسلام ومدرسة الحسين عليه السلام.

 

المصدر: مجلة بقية الله