الإمام الخمينيّ قدس سره روح العظمة والتّقى

حوار مع سماحة السيّد عبد الصاحب الموسويّ (حفظه الله)

حوار: الشيخ موسى منصور

 

التاريخ بستان فيه الأخضر وفيه اليابس، فيه الطيّب وفيه الخبيث، أمّا شجرة السيّد روح الله الموسويّ الخمينيّ قدس سره، فهي شجرة نديّة طريّة دائمة الخضرة، طيّبة تؤتي أُكُلها كلّ حين بإذن ربّها. نقترب منها، نهزّها هزّاً مريميّاً لطيفاً، فتساقط علينا من رطب القيم أطيبها، ويفوح منها شذى هو أقرب إلى رائحة السماء منه إلى رائحة الأرض. وكلّما هبّ نسيم، تتشكّل في ذاكرة محبّي الإمام قدس سره صورة مشرقة مطرّزة باليقين، منسوجة من خيوط العزّ والفخر ملوّنة بالنور، لا تزيدها الأيّام إلّا توهّجاً وتجدّداً وإشراقاً.

 

عن ذلك الإمام العظيم وشخصيّته وثورته ودروسه، كان هذا اللقاء مع سماحة السيّد عبد الصاحب الموسويّ (حفظه الله). 

 

•تتميّز شخصيّة الإمام الخمينيّ قدس سره بأبعاد عدّة (علميّة ومعرفيّة، أخلاقيّة وسلوكيّة، جهاديّة وثوريّة...)، عن تلك الشخصيّة الفريدة حدّثونا.

هذا الإمام العظيم، مَنَّ الله عليه بأمور قلّما تجتمع في غيره:

 

أ- علمه: فقد رزقه علماً واسعاً وبصيرة ودراية والكثير من المزايا. لقد كان هذا الرجل من أفذاذ العلماء، جامعيّته للعلوم قلّ نظيرها. عندما تنظر إليه كفقيه، تعجب من إحاطته الفقهيّة، وكذلك إذا نظرت إليه كفيلسوف، أو كعارف، أو كمفسّر... تراه بحراً زاخراً موّاجاً. 

 

عندما نلقي نظرة سريعة على مؤلّفاته في الفقه، نعرف سَعة فقاهته ودقّة نظره. أمّا في علم الأصول، فله العديد من المؤلّفات والتقريرات الأصوليّة القيّمة.

 

وعلى مستوى الفلسفة، فقد كان فيلسوفاً عظيماً، يدرّس أسفار الملّا صدرا ويعلّق عليها، وكان يجمع بين الفلسفتَين الغربيّة والشرقيّة.

 

أمّا عرفانه، فحدِّث ولا حرج، إذ كانت له صولة وجولة في هذا الباب، وكان من العرفاء الأفذاذ، ومؤلّفاته أكبر دليل على ذلك، مثل شرح فصوص الحكم، وشرح دعاء السحر، وصلاة العارفين ومعراج السالكين وغيرها... لقد كان عارفاً على المستويَين النظريّ والعمليّ.

 

وعلى مستوى التفسير، فقد فسّر بعض السور المباركة، فكان تفسيراً مميّزاً وفريداً في بابه. 

 

وقد امتاز قدس سره أيضاً بقريحة شعريّة رائعة؛ فكان أديباً بارعاً.

 

ومن تراثه أيضاً الوصيّة الخالدة، وهي ذات دلالة على سَعة علمه وتضلّعه في الحقول كلّها. 

 

ب- استقامته وثباته: عندما اتّصل هذا الرجل بالله، أفاض عليه من بركاته وأنواره. إنّه مصداق لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا﴾ (فصّلت: 30). رجل قاوم أعتى طواغيت زمانه، بل قاوم الاستعمار والهيمنة والاستكبار بشرقه وغربه، ولم يسمح لنفسه بأن يتقاعس أو يتراجع ولو بمقدار قيد أنملة.

 

ج- عبادته: أمّا عبادته، فكانت لافتة للنظر؛ التزامه بصلاة الليل طيلة خمسين عاماً، بكاؤه في تهجّده، التزامه بالزيارة الجامعة وزيارة مرقد أمير المؤمنين عليه السلام عندما كان في النجف الأشرف، والتزامه بالنوافل اليوميّة.

 

د- زهده: ومن خصاله زهدُه في الدنيا؛ كان يكتفي بأقلِّ الأشياء، وكنّا نراه عندما كان في النجف يمشي من بيته إلى مدرسة آية الله البروجرديّ على قدمَيه، وكان يرفض أن يمشي أحدٌ خلفه، وإذا شعر أنّ أحداً يمشي خلفه، كان يسأله: هل لك حاجة؟ فإن كان له حاجة قضاها أو أمر بقضائها.

 

هـ- حنكته السياسيّة: وفيما يتعلّق بالسياسة، فهنا مكمن الغرابة؛ فهذا الرجل العابد والزاهد، سياسته قهرت الشرق والغرب، وقاومت السياسات العالميّة، فكلّما حاكوا مؤامرة، فنّدها بحكمته، وكلّما أوقدوا ناراً، أطفأها بحنكته.

 

و- جهاده: أمّا جهاده، فقد كان عجيباً؛ إذ لم يتأخّر عن الجهاد لحظةً واحدةً، لهذا كان يقول بروحه الثوريّة المعهودة: "لو فرض أنّني أُنقل من مطار إلى مطار ومن مكان إلى مكان، فإنّني لن أتراجع عن غايتي ورسالتي وهدفي، وهو نصرة الإسلام والمسلمين".

 

•من أين استمدّ الإمام هذه الروحيّة العالية، التي يقول عنها الإمام الخامنئيّ دام ظله: "لقد شاخ الإمام، لكنّ روحه ظلّت شابّة"؟

باعتقادي، إنّ الإمام قدس سره استمدّ هذه الروح العظيمة من أمرَين أساسيّين: الأوّل، معرفته بالإسلام المحمّديّ الأصيل الذي كان يؤكّد دائماً عليه، وكان يُحذّر من الاسلام المزيّف، الذي لا يُزاحم المستكبرين ولا يُقارع الظالمين، وكان يعبّر عنه بالإسلام الأمريكيّ. ومن امتيازات الإمام قدس سره أنّه كان يعرف جوهر الإسلام وواقعه، ولهذا كانت انطلاقاته وحركاته مميّزة، ولم يكن يشغله شيء عن شيء.

 

أمّا الأمر الثاني، فكان دراسته لحياة أهل البيت عليهم السلام ومعرفته بهم، واستناده إلى سيرتهم في مقاومته وثباته. ومن الأمثلة التي كان يؤكّد عليها الإمام: سيرة الإمام الحسين عليه السلام، وقوله: "ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة"؛ لذلك كان الإمام قدس سره يحذّر المسلمين من الذلّة والهوان. الإمام عرف جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واقتدى به في قوله: "لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري..."، وكذلك اقتدى بمقاومة جدّه أمير المؤمنين عليه السلام، التي انطلق منها ليجسّد هذه السيرة المباركة في أبعاد حياته كلّها.

 

•ما هي الدروس التي علّمنا إيّاها الإمام الخمينيّ قدس سره وثورته المباركة؟ 

سيرة الإمام قدس سره حافلة بأمور يجب علينا أن نجسّدها في حياتنا كي يكون بحقّ إماماً لنا؛ لأنّ الإمام هو القائد، ونحن كمأمومين علينا أن ندرس سيرته ونحقّقها في حياتنا. الإمام أراد العزّة والكرامة والاستقلال والوحدة والأخوّة لهذه الامة. أراد لهذه الأمّة أن تحفظ هيبتها ومجدها، وأن ترجع إلى كتابها ودينها وسنّة نبيّها، وأن تحتفظ بثرواتها لمصالحها. الإمام أراد أن يُخرج هذه الأمّة من الذلّ والهوان وهيمنة العدوّ الإسرائيليّ وغطرسة أمريكا، وأن نقف في وجه هذا الاستكبار العالميّ. فهل استفدنا من هذه الدروس وحاولنا تطبيقها؟ هذه هي الأمور التي أراد الإمام قدس سره أن يخلّفها لشعبه وأمّته، بل للبشريّة جمعاء، ونحن يجب علينا إن نجعلها إرثاً وتراثاً وسيرة.

 

•ما نشاهده من تطوّر الجمهوريّة الإسلاميّة وثباتها ومواجهتها لمختلف أنواع الحرب المفروضة عليها، إنّما هو باستمرارها على نهج الإمام الخمينيّ قدس سره وخطّه؛ ما هي أبرز معالم هذا النهج وخصائصه؟

لقد قفزت إيران قفزة رهيبة في مجالات عدّة وعلى مستويات كثيرة، وهي تعدّ الآن من الدول المتطوّرة والمتقدّمة، وقد أدهشت العالم برقيّها على الرغم من الحصار المفروض عليها. على أيّة حال، هذه الأمور التي نشاهدها قائمة على أسس ومنهجيّة خاصّة، ونحن نعتقد أنّ هذه المنهجيّة هي التي أوصلت إيران إلى هذه العزّة مع كثرة أعدائها. أحد معالم هذا المنهج هو الاستقلال؛ أن تكون الجمهوريّة مستقلّة لا شرقيّة ولا غربيّة، هذا الشعار رُفع منذ انطلاقة الثورة، ولهذا كان الإمام يقول إنّه من المعيب أن نحتاج إلى الشرق أو إلى الغرب ونحن ندّعي الاستقلال. كذلك يتميّز هذا المنهج في الاعتماد على الله وعلى الناس، وهو ما يمكن أن نطلق عليه محوريّة الشعب، ولهذا كان الإمام يؤكّد على الانتخابات في كلّ التفاصيل؛ بدءاً من التصويت على الجمهوريّة، مروراً بانتخاب رئيس الجمهوريّة، وصولاً إلى الكثير من المفاصل التي كان الشعب يقوم بالتصويت عليها.

 

أيضاً من معالم هذا النهج الاعتماد على النفس؛ كان الإمام يدرّب الناس على أن يعتمدوا على أنفسهم؛ لأنّ الاعتماد على الغير يعوق الازدهار والرقيّ، ولهذا كان يلقّن الشعب دائماً: إنّكم قادرون، إنّكم تستطيعون... وكان يوصيهم بعدم اليأس وعدم الخوف.

 

ومن جملة معالم هذا المنهج صدق القيادة مع الشعب ومع نفسها، وصدق القيادة عملة نادرة اليوم، إلّا أنّنا نجدها بقوّة عند الإمام الراحل قدس سره.

 

•كيف استفادت الأمّة الإسلاميّة من نهج الإمام قدس سره، وما هي وصيّتكم لها؟

أقول آسفاً إنّ الأمّة بالأغلب ما عرفت الإمام حقّ معرفته، وثمّة من يتجاهل هذه الشخصيّة على الرغم من مساعيها الوحدويّة التي تصبّ في قوّتها وعزّتها ومنعتها وكرامتها، ولهذا أعلن عن أسبوع الوحدة الإسلاميّة. ومع الأسف الشديد، فإنّ العالم الإسلاميّ كان بعيداً وغريباً عن مطالب الإمام، ولهذا -جهلاً أو تجاهلاً- لم يستفد من هذه الشخصيّة الكريمة، بل حاول مواجهتها بكلّ ما أوتي من قوّة. مثلاً: الإمام كان من دعاة تحرير فلسطين، وكان يجب على المسلمين أن يلاقوا الإمام إلى منتصف الطريق، وهو من قام بتحويل سفارة الكيان الغاصب إلى سفارة لفلسطين، بل نجد أنّ الأمّة فرضت عليه حرباً كونيّة استمرّت لثماني سنوات.

 

أمّا الذين استفادوا وهم قلّة، فإنّ الله تعالى أعطاهم العزّة والكرامة والمجد والنصر، مثل حزب الله في لبنان، الذي استنار بأنوار الإمام، فأيّده الله بنصره ومرّغ من خلاله آناف العدوّ بالتراب. كذلك المقاومة الفلسطينيّة التي ثبتت وانتصرت على الرغم من خذلان العالم لها. وها هي إيران التي سارت على خطى الإمام، نجدها ازدهرت وتطوّرت وصمدت على الرغم من التحدّيات الكثيرة.

 

ثمّة جمع اقتدوا بالإمام فنالوا المجد والسؤدد، ومن تخلّف عن نهجه، نلاحظ كيف ضربت عليهم الذلّة والمسكنة والهوان.

 

•هل لكم بعض الذكريات حوله قدس سره؟

عندما كنّا في النجف الأشرف، كنّا بالقرب من الإمام، وكنّا نشاهد حركاته وسكناته، أقواله وأفعاله، وهذه كانت ذكريات جميلة لنا، وكنّا نحضر بعض خطاباته، فنلمس منه روح العظمة والعطاء والتقى. ومن ذكرياتي أنّني كنت أجمع مالاً لأحد الفقراء المؤمنين، فقصدت الإمام، وبعد أن قبّلت يده قلت له: "هذا الفقير ليس له إلّا الله وأنت"، فقال مبتسماً: "اذهب إلى الله"، فقلت له: "ذهبت إلى الله فأرجعني إليك"، فأمر بمساعدة هذا الفقير.

 

•بماذا توصون الذين لم يعاصروا الإمام قدس سره؟

أوصي إخواني ممّن لم يعاصروا الإمام قدس سره أن يدرسوا حياته وشخصيّته جيّداً، ويطالعوا كتبه وكلماته، ويتفحّصوا إنسانيّته وحرقة قلبه على الإسلام والمسلمين؛ لأنّ معرفة هذا الإمام تعطينا رؤية واسعة وروحيّة خاصّة، ودروساً مختلفة في ميادين حياتنا كافّة. كما أوصي الناس جميعاً بدراسة شخصيّة الإمام الخامنئيّ دام ظله والاقتداء به؛ لأنّ هذا التلميذ نسخة مطابقة للأصل عن أستاذه. وهو قد استطاع أن يجسّد شخصيّة الإمام قدس سره بتفاصيلها، وأن يحقّق آمال الإمام، وأن يكون قائداً كما أراد الإمام.

 

المصدر: مجلة بقية الله