تحقيق: فاطمة خشّاب درويش

 

أن يرتفع من بيتك شهيدٌ، لهو فخر، لكن أن يرتفع كلّ أبنائك شهداء، لهو اختبارٌ إلهي، وانتقاءٌ حكيم مصحوبٌ بكثير من الصبر والعزّة.

 

ثمّة لائحة طويلة من الأسر التي قدّمت ولدها الوحيد شهيداً، وأسرٌ قدّمت ولديها الوحيدين، وأسرٌ حظيت بثلاثة أبناء، ارتفعوا كلّهم شهداء.

 

نطلّ في هذا التحقيق على تجارب بعض هذه الأسر الشامخة، وذكرياتهم المفعمة بالشوق والحنين لفلذات أكبادهم... وهم يردّدون: "بكل طيب خاطر".

 

* الابن الوحيد

تزهر مسيرة المقاومة، التي ناهز عمرها الأربعين عاماً، بدماء الشهداء الذين تزاحموا لنيل شرف الشهادة. ولطالما كان ثمّة خصوصيّة للابن الوحيد عند والديه، ولذلك، تحرص قيادة المقاومة على اتّباع بعض الإجراءات حفاظاً منها على تلك الخصوصيّة. وعلى الرغم من ذلك، يسعى عددٌ من هؤلاء المجاهدين للوصول إلى المواقع الجهاديّة المتقدّمة بغية تحقيق حلم الشهادة، ولا يكون ذلك دون رضى الأهل، بل تجب موافقتهم خطيّاً على ذلك. وغالباً ما تُذيّل موافقة الأهل بعبارة "بكلّ طيب خاطر".

 

* ثلاثة أبناء وحفيد

في محضر الشهادة، تحضر بقوّة عائلة الشهيد عماد مغنيّة؛ حيث قدّم الوالدان الشهداء الثلاثة: القائد الجهاديّ الكبير الحاج عماد، والحاج فؤاد، والحاج جهاد، كما قدّما الحفيد الشهيد جهاد عماد مغنيّة. الوالدان مغنيّة شكّلا نموذجاً مشرّفاً من عوائل الشهداء، من الذين قدّموا كلّ أولادهم في سبيل نصرة الحقّ والمقاومة.

 

شهدت الحاجة أمّ عماد مغنيّة، بكلّ عنفوانها وشموخها الذي يشبه شموخ الجبال، معارك المقاومة الإسلاميّة ضدّ العدوّ الصهيونيّ، فنأنس بصلابة موقفها المستمدّ من صلابة السيّدة زينب عليها السلام، وهي التي كانت في مقدّمَةِ النسوة اللّواتي اخترنَ منذُ شبابِهِنَّ العملَ في أنشطةِ العملِ الإسلاميّ والدَعَويّ منذ انطلاقةِ الحالةِ الإسلاميّة في لبنان. غرست في قلوب أبنائها، وحتّى حفيدها الشهيد جهاد حبّ الأرض والوطن والتضحية من أجله والدفاع عنه.

 

تبقى كلماتها التي لطالما ردّدتها عند سؤالها عن شهادة أبنائها: "أعزّي نفسي بأمّهات الشهداء والمجاهدين والجرحى، فصبرنا نحن الأمّهات، ودعاؤنا لهم مع كلّ تغريدة صباح وانتهاء يوم، هو أنسهم ومداد ذكراهم".

 

* بين شهادتهما أربع سنوات

وعلى المنوال نفسه، نستحضر شهيدين عزيزين، هما علي ومهدي ياغي، فيذكر والداهما أنّهما كانا يتسابقان إلى ميدان الشهادة؛ فنال مهديّ، وهو الأصغر، هذا الشرف، وهو لم ينهِ سنته الثانية في اختصاص computer science.. أمّا علي، مهندس الميكانيك، فالتحق بركب الشهداء بعد أخيه الشهيد بأربع سنوات فقط.

 

يحار الوالد، الذي قدّم ولديه الوحيدين، ماذا يقول في هذا المجال ومن أين يبدأ، فهو يعيش حالة اعتزاز وفخر بولديه اللذين قدّمهما على مذبح الشهادة، معتبراً أنّ "المعركة كانت ولا تزال بين الحقّ والباطل، فإمّا أن نكون مع الإمام الحسين عليه السلام أو لا نكون. يجب أن ننصر الحقّ ونزهق الباطل بدمائنا ودماء أولادنا، ونحن فداءٌ للمقاومة التي جاهدت في سبيل عزّة هذه الأمّة، وكلّ ما قدمناه قليل".

 

يعود أبو الشهيدين إلى ذاكرته، مستحضراً لحظة تلقّيه خبر شهادة ولديه في سوريا، فابنه الأصغر مهدي، استشهد في ليلة القدر الكبرى عام 2013م، أمّا علي، فاستشهد في 10 شهر رمضان في العام 2017م. لم يكن هذا الخبر مفاجئاً للأهل، يقول الوالد: "فمن ينخرط في العمل الجهاديّ، سيعود إمّا جريحاً أو شهيداً، ومن يسلك دروب المجاهدين الشرفاء، لا بدّ له من نيل هذا المقام الرفيع عند الله".

 

كان علي ومهدي شابّان محبّان للحياة، يعملان بكلّ نشاط وشغف، ويمتلكان شخصيّة محبّة لكلّ من حولها. أمّا عن علاقة الشهيدين ببعضهما بعضاً، فكانت مميّزة جدّاً. عندما استشهد مهدي، كان علي يتوق إلى ذلك اليوم الذي سيرقد فيه إلى جانب أخيه شهيداً. ولكن، هل تبدّلت قناعات الوالد مع استشهاد ولده الأصغر مهدي؟ وهل دفعته خسارته إلى التمسّك بولده علي الذي بات وحيده؟

 

في الحقيقة، لم يغيّر ذلك الواقع شيئاً من قناعاته الثابتة والراسخة حيال المقاومة، فبقي داعماً لولده الوحيد في خياره بأن يكمل مسيرة الجهاد في المقاومة الإسلاميّة، وعينه على الشهادة. أمّا والدة الشهيدين، المرأة المؤمنة الصابرة المحتسبة عند الله، والمحبّة لأهل البيت عليهم السلام، فتجد في خيار الشهادة لولديها مرتبةً رفيعةً لا ينالها إلّا كلّ ذي حظّ عظيم.

 

* مواسي الحسين عليه السلام

في لحظات العودة إلى الزمن الجميل، يحلو لوالدة الشهيد محمّد علي تامر الكلام المغمّس بعبق الشهادة وأريج العشق لوحيدها، فتتحدّث عن ولدها ابن الـ 21 عاماً، الذي استشهد في تدمر في العام 2017م، بعد أيّام قليلة من تخرّجه في اختصاص الهندسة. كان "تامر" عاشقاً للإمام الحسين عليه السلام منذ طفولته، فكان شعاره: "يا عدّتي في كربتي، بلّغ الحسين نصرتي"، وكان يقتني منذ صغره عصبة صغيرة حمراء مكتوب عليها "يا حسين" يُعصّب بها جبينه في عاشوراء. لذا، ترى والدته، أنّ توقيت شهادته في يوم العاشر من محرّم لم يكن صدفة.

 

تعود الوالدة بذاكرتها إلى طفولته في فترة العمل الكشفيّ في جمعيّة كشّافة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، ومن ثمّ انتسابه إلى التعبئة التربويّة. ولأنّه كان وحيداً، لم يكن حينها منتسباً إلى العمل الجهاديّ، ولكنّ عينه كانت دوماً مصوّبة نحو الشهادة. تتحدّث والدة الشهيد تامر عن خوفها على ولدها الوحيد، فهي كانت تمانع ممارسته هواية الغطس في مياه ذات غور عميق، وتحرص على إبعاده عن كلّ مواطن الخطر أو الضرر المحتمل.

 

أتقن تامر فنّ تحديد الأهداف والوصول إليها، فدفع أهله، بحنكته وذكائه، إلى تقبّل فكرة الجهاد ومن ثمّ الشهادة. وعندما طلب تامر من والدته كتابة عبارة على الورقة تعبّر فيها عن موافقتها لكي يشارك في العمل الجهاديّ، استحضرت عبارة والدة الشهيد مهدي أبو حمدان "بكلّ طيب خاطر"، عندها، استبشر تامر خيراً، فذهب وعاد مستشهداً.

 

قبل أيّام قليلة من مغادرته إلى تدمر، طلب تامر من والدته مشاهدة فيديو لأمّ شهيد تودّع جثمان شهيدها بالزغاريد والصلوات المحمّديّة، قائلاً لها: "بدّي هيك تودّعيني"؛ وهذا ما حصل يوم تشييعه، فقد وجدت والدته نفسها صلبة قويّة وأخذت تردّد عبارة: "أتُثكل الزهراء بولدها ولا أُثكل بولدي؟!"، وتبوح بشعور خاص؛ بأنّ كلّ ما تقدّمه قليل؛ فولدها لم يُترك وحيداً؛ لأنّه كان محاطاً بالمحبّين يوم تشييعه، أمّا الإمام عليه السلام، فقد كان وحيداً لا ناصر له ولا معين. تقول والدة الشهيد: "نحن لا نندم على قرابين قدّمناها للإمام الحسين عليه السلام، فهديّتنا الأغلى قدّمناها فداءً لهذا الخطّ، ولا نقبل أن نسترجعها. حتّى لو عاد الزمان بنا إلى الوراء، سنقدّمها فداءً للمقاومة ولسيّدها بكلّ طيب خاطر".

 

* وحيد والديه ومفقود الأثر

أمّا الشهيد رعد صالح وحيد والديه، أو "رائد" كما ينادونه، فتختلف قصّته عن غيره من الشهداء، فهو وحيد والديه وما زال مفقود الأثر، الأمر الذي زاد من حرقة قلب والدته؛ فهو لم يُدفن ولم يحتضنه نعش ولا قبر.

 

نجح "رائد"، بعد محاولات حثيثة وإصرار كبير، في الحضور في الصفوف القتاليّة الأماميّة. وقد هيّأ والدته لتقبّل فكرة الشهادة، إذ كان يقول لها: "إنّ الأجل إذا حان لا يمنعه أحد، فالشهادة هي المقام الذي يجب أن نسعى إليه"، فوافقت الوالدة "بكلّ طيب خاطر" على تحقيق أمنية ولدها الوحيد. كان الشهيد رائد محبّاً لأهل البيت عليهم السلام، وقد تمنّى أن يستشهد في البرد القارس وأن يكون مفقود الأثر مواساةً للسيّدة الزهراء عليها السلام، وقد أعطاه الله ما تمنّى في شهادته.

 

تسبقها الدمعة عند كلامها عن وحيدها وسندها في الحياة، فهو لا يزال يعيش معها كلّ لحظات حياتها رغم شهادته؛ إذ لم ينجح الوقت في التخفيف من حرارة الشوق لمن نذرت له حياتها. وعندما تشتاق إلى ولدها الوحيد، تفتح خزانته، تحتضن قميصه، وتشمّ رائحته.

 

رغم قساوة الفقد، تقول الحاجة أمّ رائد إنّ شهادة ولدها الوحيد جعلتها تواسي السيّدة الزهراء عليها السلام؛ فهي قدّمت أغلى ما تملك في سبيل الله.

 

تعيش اليوم الحاجة أم رائد مع الأثر الجميل الذي تركه ولدها في هذه الدنيا، مع أولاده الأربعة (فاطمة، وكوثر، وزهراء، ومحمّد). لقد عوّضها الله بهم حتّى يخفّف عنها لوعة فراق وحيدها، وهي تعيش معهم تفاصيل حياتهم، وتربّيهم على خُطى والدهم الشهيد. وابنه محمّد لا ينفكّ يرتدي بزّة والده العسكريّة من حين إلى آخر، وينتظر بشوق أن يكبر حتّى يسير على خطّ والده الجهاديّ. تختم الحاجة أم رائد بالقول: "مسيرة المقاومة تستمرّ بدماء الشهداء، وقد قدّمت وحيدي فداء لها، ولن نبخل عليها أبداً؛ فلولا المقاومة لم نكن لنعيش في عزّة وإباء".

 

* صلابة وعزم

يتوقّع المتحدّث مع أهالي الشهداء، خصوصاً من قدّم أبناءه الوحيدين، أن يجدهم ضعافاً برحيل فلذات أكبادهم، ولكنّ الحقيقة مغايرة تماماً؛ إذ يستمدّ منهم القوّة والصلابة والعزم، ويزداد قناعةً أنّ خيار الموافقة على إرسال أبنائهم إلى الخطوط الأماميّة لم يكن صدفة أو قراراً عشوائيّاً، إنّما هو نتاج قناعة راسخة وتربية ثابتة على مبادىء التضحية والإيثار في سبيل نصرة الحقّ ومقاومة العدوّ؛ فالأهل كانوا البوصلة لأبنائهم في درب الشهادة، فلا حسرة على الفقد، بل شوق كبير للقاء قريب مع الشهداء في جنّات الخلد إن شاء الله.

 

المصدر: مجلة بقية الله