عقيدة البراءة المفهوم والاطار الحركي في ضوء فكر الامام الخميني(قدس)

ما هي عقيدة البراءة؟

هل تتمثل في ايمان فردي نظري بحيث لا يستحضرها الانسان الا عندما يريد ان يعدد فروع الدين، فيقول:

البراءة من اعداء الله وتولي اولياء الله؟

الى أي مدى تُساهم هذه العقيدة في تحريك بواعث الجهاد لدى الفرد المسلم فيثور على نفسة بتغييرها من الداخل قبل ان تتوسع دائرتها فتتحول الى حركة وانطلاقة داخل المجتمع والامة؟

هل تحولت «البراءة» في مفهوم وعينا السياسي الاسلامي الى ركن من أركان وجودنا الجهادي؟

أخيراً هل نتلمس في حركة مواجهتنا للانظمة التابعة ولقوى السيطرة الدولية حضورا مميز لعقيدة البراءة، ام ان ثمة من «يستهجن» هذا المزج بين مفهوم البراءة واوضاع المسلمين ويحسبه نوعا من السذاجة والخلط الناتج عن الجهل؟

هذه اسئلة بقيت مغيبة وغائمة طوال عصور مديدة الى ان انبثقت نهضة الامام، وعلى ضوء فكر هذه النهضة نحاول ان نتلمس بشكل أولي أركان عقيدة البراءة في محتواها السياسي واطارها الحركي وصلتها بالواقع الاسلامي المعاصر، من خلال النقاط الآتية:

المرتكز التوحيدي

أولاً: ان عقيدة البراءة من اوضح العقائد الاسلامية التي يعكسها الآن بكل وضوح، حتى ان شعار المسلم  التوحيدي يضم بين دفتية مفهوم البراءة كاملا، فقول المسلم في كل لحظة «لا اله الاّ الله» ينفي في جانبه الاول كل الولاءات والولايات، ويثبت في جانبه الثاني الولاية لله فقط. والمسلم يهتف يوميا «قل هو الله أحد» ليعبر عن جانب التولّي، ويهتف {قل يا ايها الكافرون لا اعبد ما تعبدون} ليعبّر عن جانب التبرّي من كل ما لا يدخل في الولاية الإلهية التوحيدية.

ومن هذا الاشارات السريعة يتضح المركز التوحيدي لاعتقاد البراءة، لذلك نرى الامام الخميني ينظر الى البراءة باعتبارها جزءً لا يتجزأ من عقيدة التوحيد، فيقول في بيانه الى حجاج بيت اللة الحرام (1407هـ عام المذبحة): «اعلان البراءة من المشركين التي تعتبر من الاركان التوحيدية والواجبات السياسية للحج» وبعد ان يطلب سماحته الى حجاج المسلمين اطلاق صرخة البراءة بجوار بيت التوحيد «من مشركي الاستكبار العالمي وملحديه، وعلى رأسهم اميركا المجرمة، وألا يغفلوا عن اظهار استيائهم من أعداء الله واعداء خلقة وعدائهم لهم» يتساءل سماحته قائلاً: «فهل تحقيق الديانة هو غير اعلان الغضب والبراءة من الباطل؟

فيستحيل ان يتحقق خلوص حب الموحدين بغير اظهار الاستياء من المشركين والمنافقين».

ثانياً: بعد ان يوضّح الامام الراحل موقع البراءة في عقيدة المسلم وانها تدخل في التوحيد ذاته، اذ لا يستطيع المسلم ان يكون موحدا دون ان يكون متبرئا من الولايات والولاءات غير الإلهية، يعطي لاعتقاد البراءة منطلقة في الممارسات العبادية للامة، لكي تتحرك البراءة عمليا في وجود المسلمين وواقعهم المعاصر. وسماحته يرى الحج افضل منطلق للبراءة اذ: «اي بيت هو افضل من الكعبة، البيت الآمن والطاهر، بيت الناس، لنبذ كل اشكال الظلم والعدوان والاستغفال، والرق والدناءة واللاإنسانية قولا وفعلا، وتحطيم اصنام الآلهة تجديدا لميثاق «الستُ بربكم» واحياء لذكرى أهم واكبر حركة سياسية للرسول التي عبر عنها القرآن بقولة «و اذان من الله ورسوله الى الناس يوم الحج الاكبر» (بيان الحج عام 1407 هـ). وعندما يكون الحج المركز الذي ينطلق منه اذان البراءة، فان في ذلك استحضارا لقاعدة قرآنية «فالله سبحانه وتعالى ورسوله العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ناديا في يوم الحج الاكبر بان الله بريء من المشركين ورسوله» (بيان حج 1404 هـ).

اذن، اول المنطلقات الحركية ـ النهضوية للبراءة هي ان تتمثل سلوكا وعملا في مراسم الحج المستضيئة بصورة الحج الابرهيمي ـ المحمدي، وان تأخذ موقعها في مركز توحيد المسلمين (الكعبة). وليس ادّل على هذا الربط القرآني ـ المكاني في البراءة من ان يتوحد مركزها النظري في التوحيد عقيدة، وفي بيت الله سلوكاً وحركة ومنطلقاً.

التعميم الزماني ـ المكاني

ثالثا: في هذة الخطوة ينقل الامام مفهوم البراءة من النظرية الى العمل والى الحركة والسلوك. فما لم يتجسد الاعتقاد التوحيدي حركة وعملا ونهضة في وجود المسلمين، فإنه سيتحول الى اعتقاد بارد لا يملك في نظر الاسلام قيمته الحقّة.

ولا يكفي ان تنتقل البراءة نظريا من التوحيد الاعتقادي الى حيّز العمل والسلوك، وانما يعمد الامام في حركة موازية الى نقل مجالها المكاني ـ الزماني من مكة مركزا ومنطلقا، ومن الحج موسما ومناسبة، الي ان تكون فاعلة في دنيا المسلمين وفي اقاليمهم وأماكن وجودهم في كل وقت وزمان «ذلك ان سنة الرسول واعلان البراءة لن يبْلَيا، لأن اعلان البراءة لا يقتصر فقط على أيام الحج ومراسمة وانما على المسلمين أن يملأوا أجواء جميع أنحاء العالم بالمحبة والعشق لله البارئ، وبالبغض والاستياء والرفض لكل أعداء الله» (بيان الحج عام 1407 هـ).

من الشعار الي منهج للحركة

رابعاً: يتبادر الى أذهان البعض (أصدقاء وأعداء) ان البراءة مجرد شعار او مسيرة تنطلق  سنويا في مكة، فماذا يؤثر الشعار، وماذا تفعل المسيرة في واقع الصراع الراهن وما يواجهه المسلمون من تحديات وولايات أرضية عاتية متمركزة في أوضاع دولية معتقدة تقوم على الهيمنة والقوة؟

يجيب الإمام الراحل موضحا ذلك بقوله: «وعلي أي حال، فان اعلان البراءة في الحج هو تجديد العهد بالجهاد، وتربية المجاهدين لمواصلة الحرب ضد الكفر والشرك وعبادة الأصنام، وهو لا يقتصر علي الشعارات بل يتعداها الي تعبئة جنود الله وتنظيم صفوفهم أمام جنود ابليس وبقية الأبالسة، والبراءة هذه تعتبر من المبادئ الأولية للتوحيد».

البراءة بهذا المعني تتحول الي منهج للحركة والعمل، من خلال تنظيم الطاقات وتحريكها في سياق أهداف مواجهة أعداء المسلمين وما يلاقونه من تحديات، وفي الطليعة تحديات الهيمنة الغربية.

وفي نص آخر نرى الأمّة مدعوّة في كل وقت ومكان الى أن تعتبر البراءة إعلانا للجهاد، ثم تواصل البراءة عبر مواصلة الجهاد بما يناسب ساحتها وخصوصيتها وامكاناتها وقدراتها، وهو ما يمثل في الوقت نفسه تحديدا لإطار الحركة. يقول الامام (رضوان الله عليه): «ان اعلان البراءة هو المرحلة الاولي من الجهاد، ومواصلته هي من المراحل الأخرى لواجبنا، وانه يتطلب في كل عصر وزمان مفاهيم وأساليب وبرامج خاصة» (بيان عام 1407 هـ).

خامساً: كأمثلة تكشف الإطار الكلي للبراءة في المستوى الحركي الذي ينتقل فيه المفهوم من العقيدة النظرية الى الحركة والعمل، وفي المستوى النهضوي الذي تنتقل فيه البراءة من نطاق المحدودية في المناسبة (الحج) والمكان (ايران) الى آفاق العالم الاسلامي الوسيع نقف على مثالين محدودين من بين أمثلة واسعة يضعها الامام (رضوان الله عليه). ففي بيانه الى المسلمين سنة 1407هـ وبعد ان يتحدث سماحته عن ابعاد مفهوم البراءة، ويستعرض شبهات الجهلة وعقبات الأعداء؛ يحدد الامام جانبا من وظيفة هذه العقيدة وشمولها، فيقول: «ان صرخة براءتنا من المشركين والكفار اليوم، هي صرخة براءة من الظلم والظالمين، وصرخة امة ضاقت ذرعا باعتداءات الشرق والغرب، وعلى رأسهم أميركا واذنابها، وغضبت لنهب بيتها وثرواتها».

وفي آخر يتجلى مضمون البراءة في خط جهادي عميق يتصدي للهيمنة الغربية ـ الاميركية على قيمنا الثقافية والسياسية والوطنية، ويواجه عمليات النهب الدولي لثرواتنا والانتهاك اليومي لكرامة شعوبنا وحقها في الوجود: «ان صرخة براءة تناهي صرخة الدفاع عن الشعوب والكرامات والنواميس؛ صرخة الدفاع عن الثروات والرساميل صرخة براءة تناهي صرخة الفقر والفاقة والجياع والمحرومين الذين نهب الجشعون والقراصنة الدوليون حصيلة كدّ يمينهم وعرق جبينهم، اولئك الذين امتصوا دماء الشعوب الفقيرة من الفلاحين والعمال والكادحين باسم الرأسمالية والاشتراكية والشيوعية، وربطوا العصب الحيوي لاقتصاد العالم بهم أنفسهم، وحرموا شعوبه من استيفاء ابسط حقوقها المشروعة».

يري الامام في جهاد مسلمي افغانستان، ومقاومة الشعبين اللبناني والفلسطيني، تمثّلا لعقيدة البراءة. وبكلام واضح ينظر الامام الى نهضة المسلمين لاستعادة مجدهم وكسر قيود السيطرة الشرقية والغربية المفروضة علي وجودهم وكيانهم، انها تمثل دقيق لعقيدة البراءة.

سادساً: تدرك القوى الدولية المعاني النهضوية والحركية في مبادئ الاسلام واحكامه الحقة، لذلك تسعى الى ان لا تتحول هذا المبادئ الى مستوى الحركة والعمل. وعندما أصر الامام الراحل (رضوان الله عليه) على انزال مفهوم البراءة الى حيّز الفعل والعمل بادرت هذه القوى للحيلولة دون ذلك بكل السبل، كجزء من مهمتها الكبرى في مواجهة حركة الاسلام المعاصر.

لقد وعت هذة القوى خطورة عقيدة البراءة، وان جهلها في اوطاننا بعض المسلمين، فاعلنت الحرب عليها، وشددت الحصار على منطلقها، فكان في هذا السياق، مذبحة البيت الحرام سنة 1407 هـ.

في هذا الصدد يوضح الامام (رضوان الله عليه) بعض هذه الامور، فيقول: «نعم، ففي منطق الاستكبار العالمي يتهم بالشرك كل من يريد تجسيد البراءة من الكفر والشرك، فيحكم عليه المفتون من احفاد بلعم بن باعورا، بالقتل والكفر» (بيان 1408 هـ بمناسبة موافقة ايران على القرار 598، ومرور عام على مذبحة البيت الحرام).

والامام الراحل يشير في كلامه الى اميركا التي ظهرت أيديها من اكمام الفرقة الوهابية المتحجرة التي تشيع في الأمة الضلال، وتصدر من مشارب خرفة منحرفة واردة على اصول الاسلام ودخيلة عليه؛ ببدع لا يعرفها المسلمون. والذي يؤسف له ان هذه الفرقة أكدت مركزها عبر التحالف السياسي مع بعض الأنظمة وان كانت جسور هذا التحالف قد بدأت بالتصدع الذي يرسم علامات الاستفهام على مصيرها ومستقبلها.