"الثورة الفقهية عند الإمام الخميني"

ان البعد العرفاني والفقهي من أبعاد شخصية الإمام أكثر مجهولية من أي بعد آخر. فالإمام من خلال تعرضه للمسائل المستجدة ولو بإيجاز، كان يهدف الى إيجاد حلول للمعضلات التي تواجه النظام من خلال الإطار الفقهي العام. غير أن الحرب والقضايا الداخلية الطارئة لم تمنح الفرصة الكافية للاستفادة من آراء الإمام ونظرياته على أفضل نحو، والتي من أبرزها:

أولاً: الإسلام دين عالمي جامع وشامل، اختاره الله تعالى لإدارة العالم وجعله آخر الأديان. فنحن نؤمن بأن الإسلام قادر على إدارة العالم بأفضل صورة، نهضت بذلك أحكامه الأولية. أما الأحكام الثانوية فهي للحالات الاضطرارية التي تتطلب حلولاً عاجلة لمعضلات المجتمع الإسلامي. ولكن إدارة المجتمع بواسطة الدين تعتمد في الأساس على الأحكام الأولية، وإلا لما أُطلق عليها سمة الأولية.

فأحكام الإسلام الأولية تجيب عن كل شيء إلا الحالات النادرة التي تتطلب عنواناً ثانوياً. فإذا ما وجدت مسألة لا نجد حلاً لها في أحكام الإسلام الأولية، وكان لا بد للفرد أو المجتمع من اتخاذ حكم اضطراري من وجهة النظر الدينية، فذلك يعني أن عدة من الأحكام الكلية لأي دين تكفي، وما يتبقى يقع على عاتق ولي أمر المسلمين وممثليه في المحافظات والأقاليم. فعلى سبيل المثال عندما يقول المسؤولون في النظام: إذا حذفنا الربا من البنوك فسوف تعلن إفلاسها، وما لم تفرض الضرائب إضافة الى الخمس والزكاة فسوف تعجز الحكومة عن إدارة البلاد، لذا لا بد من أخذ الضرائب بالقوة..

ان فحوى هذا الكلام أن أحكام الإسلام الأولية عاجزة عن إدارة المجتمع، وينبغي للمسلمين أن يفكروا في سبل لتنظيم شؤونهم، أو أن يتولى أحد الأفراد بوصفه ولي أمر المسلمين وضع القوانين! فإذا كان الأمر كذلك فما هو دور الدين إذاًَ في إدارة شؤون الناس؟

ثانياً: من جهة أخرى ان مواكبة الحياة تتطلب اتخاذ قرار جديد في كل لحظة، ولا بد من اختيار سبل سليمة لإيجاد حلول لمعضلات النظام والناس. فعلى سبيل المثال إذا ما اعتنق الصينيون الإسلام، فكيف يتمكن الإسلام من توفير اللحوم التي يحتاجها هذا العدد الهائل من الناس؟ هل يتمكن من إطعام مليار شخص من اللحوم التي يحتاجها هذا العدد الهائل من الناس؟ هل يتمكن من إطعام مليار شخص من لحوم الأغنام والأبقار والجمال وغير ذلك من الحيوانات المحللة؟ فالذين قدموا من تلك البلاد يذكرون أن الناس هناك يأكلون كل ما يجدونه في البر والبحر والجو، بدءاً بالدواب والحيتان وانتهاءً بالفئران والحشرات. ومع ذلك لا تُسد حاجة المجتمع الصيني من اللحوم.. وفي الوقت نفسه يصرّح الأطباء والخبراء أنه إذا لم يأخذ الإنسان كفايته من اللحوم فسوف يصاب بأمراض عديدة وخطيرة. فإذا ما أفتى ولي أمر المسلمين بأن كل شيء جائز أكله حتى إشعار آخر: هل باستطاعتنا أن نقول ان الإسلام يلبي حاجة المجتمع؟ فإذا لم نقل بذلك فالمسؤولون الصينيون هم الذين سيدعون الى ذلك، وإن لم يدعوا الى ذلك فإن الناس أنفسهم سيفعلونه.

ثالثاً: المطلعون على الفقه الإسلامي يدركون جيداً مدى صعوبة تجاوز أو اختراق الفقيه للأحكام الإسلامية حتى في مسألة اجتماعية واحدة. ولكن برغم هذه الصعوبة فثمة سابقة طويلة في أوساط الفقهاء وتوجد حالات غير قليلة في هذا المجال. فمثلاً كان لدى الفقهاء فتوى معينة في موضوع ما الى فترة ما، ثم تغيرت في ما بعد.. مثلاً بالنسبة الى ما يسمى بمنزوحات البئر، كان هناك إجماع حتى عصر العلامة الحلي (قدس سره) على نجاسة البئر، وأن الأئمة الأطهار كانوا قد أوضحوا الحالات التي يتنجس فيها ماء البئر وأعطوا أحكاماً مختلفة لكل حالة حتى تتطهر البئر، وأن فئة كبيرة من الفقهاء الذين سبقوا العلامة كانوا قد أجمعوا على نجاسة ماء البئر إذا لامس النجاسة.. ومما يذكر أن أحاديث نجاسة ماء البئر بدرجة من الوضوح لا مجال للطعن فيها لكثرة حالات الابتلاء بها. فقد ذكرت أكثر من خمسين حالة وأنواع الحيوانات والنجاسات التي تسقط في البئر بنحو من الأنحاء، وحدد لكل حالة حكمها من الطهارة. مثلاً إذا سقط فأر في البئر استخرج من مائه عدد معين من الدلاء المملوءة حتى يطهر. وإذا كان جسده متفسخاً تستخرج كمية الماء دفعة واحدة وهكذا.. بيد أن المرحوم العلامة (قدس سره) أفتى بأن بئر الماء لا يتنجس، وأن الأحاديث الواردة بهذا الشأن هي من باب الاستحباب. ومن حينها أجمع المتأخرون عن عصر العلامة بطهارة ماء البئر. وكما ترون هذان إجماعان متناقضان.. أي أن أحكام الأئمة الأطهار في هذه المسألة كانت واجبة الطاعة حتى عصر العلامة، وبعدها أصبحت تفيد الاستحباب. صحيح أن العلامة استند الى أحاديث من قبيل "ماء البئر واسع لا يفسده شيء"، ولكن هذه الأحاديث نفسها كانت بين يدي القدماء أيضاً. يذكر أحد الفقهاء المعاصرين بهذا الصدد: حاول العلامة أن يجد حلاً لمعضلة المسلمين، وإلا فلا يوجد أدنى شك في صحة الأحاديث التي تتحدث عن نجاسة ماء البئر. فالناس كانوا يعانون من هذا الابتلاء، وفي كل يوم كان يسقط في آبارهم فأر أو كلب أو قطة وغير ذلك ويموت فيه. وكان لا بد من استخراج ماء البئر والتخلص منه، في وقت كان الناس في أمسّ الحاجة الى الماء، وغير مستعدين لفعل ذلك في كل مرّة، فجاء العلامة وأوجد حلاً للمعضلة وأفتى بعدم وجوب استخراج ماء البئر والتخلص منه، لأن البئر أصلاً لم يتنجس في الفروض التي ذُكرت.

في عصرنا الحاضر أفتى سماحة الإمام في مسائل من هذا القبيل. ومع أن هذه الفتاوى كانت موضع سخرية البعض، إلا أنها تحدثت عن رؤية جديدة الى العديد من الموضوعات. فنحن جميعاً نعلم أن القاضي في الإسلام يتمتع بمطلق الحرية في اتخاذ الحكم. مثلاً لو ارتكب أحد الأشخاص في تبريز ذنباً ما، فإن قاضي تبريز يصدر الحكم الذي يراه مناسباً مع الذنب. ولكن إذا ارتكب هذا الذنب نفسه أحد الأشخاص في بندر عباس مثلاً، فمن الممكن أن يختلف الحكم الذي يصدره قاضي المدينة، فذلك يعود إليه ولا شأن لأحد به. ولكن في نظامنا الإسلامي طُرح موضوع توحيد الأحكام فصادق عليه الإمام.. فهل يحق لنا القول: من الآن فصاعداً ينبغي أن تسود وحدة الرأي طبقاً لفتوى الإمام نظراً للظروف الاجتماعية والسياسية الاستثنائية حتى تعود الظروف الى ما كانت عليه في السابق أو تستجد ظروف أخرى، في حين نحن نعلم أن الظروف تتعقد يوماً بعد آخر، ومن المستحيل أن تعود الى سابق عهدها أبداً.. كما ان التطلع لحلول ظروف جديدة يحتاج الى زمن طويل.. وأن نظير هذا الوضع يمكن أن نجده بالنسبة الى الأحكام الأخرى. فعلى سبيل المثال التراضي بين العامل ورب العمل من الأصول الثابتة في الإسلام. ولكن نحن نقول ان أرباب العمل يجحفون حقوق العمال، ولذا هم مجبرون على اتباع ما يفرض عليهم في وقت قد يكون العامل راضياً عن رب العمل ومستعداً للعمل معه من دون الحاجة الى فرض شروط معينة عليه.. قد نزعم أن هذه الشروط فرضت استثناءً لردع أرباب العمل، بيد ان الأوضاع العالمية هي على نحو أن الأمل المرتجى في الإصلاح لا يتعدى الوسائل.

وعليه فإذا اقتضى الأمر ان نشرّع قانوناً بدلاً من قوانين شرعنا المقدس ونبرره بأنه حال اضطرارية.. إلخ، فلا يحق لنا إذاً أن نعترض على أولئك الذين يزعمون أن الإسلام غير قادر على إدارة العالم.

رابعاً: نعلم جميعاً أن أي موضوع إذا حصل له تغيير جوهري فإنه سيكتسب حكماً جديداً. وأن هذا الحكم الجديد يعدّ من الأحكام الأولية له.

إن محور البحث يبدأ من هنا وهو: إذا لم يكن الموضوع قد تغير تغيراً جوهرياً ذاتياً، وإنما مجرد تغيير في الصورة والشكل، فما هو حكمه في هذه الحالة؟ أي إذا ما تبدلت الظروف الاجتماعية لمجتمع ما، أو أن الأوضاع الاقتصادية تغيّرت بنحو غيرت فيه العلاقات الاجتماعية والسياسية الموجودة في المجتمع! فهل تكتسب الموضوعات حكماً جديداً وإن لم يحصل لها أدنى تغيير؟ طبعاً أنا أتحدث بصورة عامة، ولكن دعوني أشير الى مثال: إذا ما تحولت الخمرة الى خل، فإن كل الأواني والوسائل المرتبطة به تصبح طاهرة من دون تغيير آخر. وكلما بقيت الخمرة في إناء آخر فإن ما يتصل بها فقط ينطبق عليه حكم النجاسة.

لنعد الى أصل الموضوع.. يقول سماحة الإمام: "بالنسبة الى أسلوب الدراسة في الحوزات وتحصيل العلوم فيها، أنا أؤمن بالفقه التقليدي والاجتهاد الجواهري، وأعتبر التخلف عن ذلك غير جائز. فالاجتهاد بهذا الأسلوب هو الصحيح، ولكن هذا لا يعني أن الفقه الإسلامي غير حركي، فالزمان والمكان عنصران أساسيان في الاجتهاد، والمسألة التي كان لها حكم ظاهري في السابق يمكن أن يكون لها حكم جديد بسبب العلاقات السائدة بين السياسة والاجتماع والاقتصاد في نظام ما.. فمن خلال المعرفة الدقيقة بالعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمسألة يتبين أن المسألة موضوع البحث التي تبدو في ظاهر أمرها كأنها لا تختلف عما كانت عليه في ما مضى، غدت في الحقيقة مسألة جديدة تقتضي حكماً جديداً بلا شك".

ان قول الإمام: "الزمان والمكان عنصران أساسيان في الاجتهاد"، لا يعني بالتأكيد أن أكل لحم الكلب المحرم مثلاً قد يكون حلالاً إذا دفع الهلاك. فمثل هذا ذكره جميع العلماء، ولم يهدف الإمام لأن يضمن منشوراً سياسياً عقائدياً مثل هذه المسألة المعلومة للجميع. بل المسألة شيء آخر، والإمام يتطرق إليها من هذا المنطلق، وهو أن مسألة لها حكم معين يصبح لها حكم جديد من دون أن يطرأ لها ـ حسب الظاهر ـ أي تغيير. فالموضوع نفسه لم يتغير، إلا أن العلاقات الاجتماعية لم تعد هي نفسها، أو أن الأوضاع الاقتصادية قد تغيرت وأصبحت معقدة. عموماً لم تعد العلاقات الاقتصادية السابقة نافذة في المجتمع وكذلك العلاقات السياسية.

ومن هنا فإن الموضوع الأول لم يمسه أي تغيير، وكان حكمه الحرمة حتى الأمس، إلا أنه صار حلالاً بسبب تغيير العلاقات السائدة اليوم على السياسة والاقتصاد والاجتماع. فهل استند الإمام الى تغيّر هذه العلاقات؟ لنضرب مثلاً: ان معدناً ما كان حتى الأمس ملكاً لصاحبه، ثم تنتقل ملكيته للدولة وتضع الدولة يدها عليه وتعتبره ثروة وطنية. فمثل هذا لا يعد حكماً اضطرارياً أو ثانوياً، بل حكم أولي. فالحكم الأولي للمعدن في الظروف السابقة يؤكد الملكية، بينما الحكم الأولي له في ظل الظروف الجديدة التي طرأت يسقط عنه الملكية الشخصية. صحيح أن الموضوع لم يتغير في ما يبدو، إلا أن حكمه تغير نتيجة لتغير الظروف الخارجية المحطية به.

وفي هذا يقول الإمام: "المسألة التي كان لها حكم ظاهري في السابق يمكن أن يكون لها حكم جديد بسبب العلاقات السائدة بين السياسة والاجتماع والاقتصاد في نظام ما، فمن خلال المعرفة الدقيقة بالعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمسألة يتبين لنا أن المسألة موضوع البحث التي تبدو في ظاهر أمرها كأنها لا تختلف عما كانت عليه في ما مضى، يتبين لنا أنها غدت في الحقيقة مسألة جديدة تقتضي حكماً جديداً بلا شك".

* نص الكلمة التي ألقاها حجة الإسلام والمسلمين السيد أحمد الخميني في الجلسة الختامية لمؤتمر الفكر الإسلامي (1998).

الإمام الخميني (قده) في أقوال الشهيد السيد عباس الموسوي

 ـ من الذي صنع هذا الشعور، شعور العزة والقوة والكرامة؟ الذي صنع هذا الشعور العزيز والقوي هو صوت الإمام الخميني.

هذه الرؤية الواضحة والبصيرة الواضحة أمام أعيننا، تعتبر من أعظم النعم الإلهية. وهذه ما كانت لتكون لولا قيادة الإمام الخميني (رض).

 ـ لا تخافوا أيها المسلمون، هذا العصر ليس عصر "إسرائيل"، هذا عصرنا، هذا الزمن زمننا، زمن الإمام الخميني (رض).

 ـ وأقول لكم بعد رحيل الإمام الخميني (رض) بشكل خاص، لم تعد الحياة طيبة، اطلبوا الشهادة، لتكن الشهادة مطلبنا جميعاً.

 ـ هذا هو حلم الإمام موسى الصدر، وهذا هو القرار الذي تعلّمناه من الإمام الخميني قائد هذه المسيرة، مسيرة المستضعفين في كل أنحاء العالم.. لذلك فالذي يريد أن يحافظ على خط الإمام موسى الصدر، فلا يجوز إلا أن يحافظ على الأيدي المؤمنة. وإذا قطعت الأيدي المؤمنة في المقاومة الإسلامية والمقاومة المؤمنة، فمن سيحرّر القدس؟

 ـ بهذا الإسلام المحمدي الأصيل بنى الإمام الخميني (رض) مجتمعه المسلم في إيران، وبنى أمة عزيزة قوية تشعر بعزتها وقوتها حتى لو لم تملك بيدها إلا حجراً في داخل فلسطين.

 ـ ألهب الإمام الخميني (رض) بوفاته مشاعر المسلمين وعواطف المسلمين، كما ألهب الإمام الحسين عليه السلام مشاعر وعواطف المسلمين على امتداد الأجيال.

 ـ هؤلاء الشباب لن يكونوا إلا عند أمل الإمام الخميني (رض)، وعند أمل آية الله الخامنئي كقائد لهم. كما أنهم سيكونون أملاً لكل الأمة الإسلامية بإذن الله.

 ـ على مستوى نهج الإمام الخميني (رض)، أنتم تعرفون جميعاً أن الإمام سلام الله عليه لم يركز على مسألة كما ركّز على مواجهة الخطر الإسرائيلي، واعتبر أن مسألة المقاومة هي أوجب الواجبات.