(يحيى بنو) يتحدث عن قصه اكتشافه للإمام الخميني (2)

تركنا في الأسبوع الماضي الشاب الفرنسي كريستيان بنو , وهو يغادر قلقه الوجودي الذي سكنه منذ كان صغيراً , بعد ان سكنت نفسه إلى  الإسلام , واطمأن قلبه بانتخاب التشيع مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ).

ومع ذلك لم تقف دروب التحول في المسار الصعب الذي سلكه يحيى بنو ( اسمه بعد ان أسلم) عند هذا الحد , بل رام ان يصعد السلم مرقاة بعد أخرى , وهو يزداد إلى سكينته, والى اطمئنانه اطمئناناً, فكانت خطوات التحول الذي فتحه على عالم الإمام  الخميني , وإذا شئنا الدقة على الجانب المعنوي من شخصية الإمام  بحيث لم يقف به شوطه قبل ان يحوله إلى داعية للسلام على منهج أهل البيت والى مبشر بنهج الإمام المعنوي والروحي. فكيف كان ذلك؟

كيف تملأ فرنسا الفراغ المعنوي

 كان المفتاح الثاني لحوارنا مع يحيى بنو هو التوجهات الفكرية والثقافية للشباب الفرنسي, وما يحكيه هذا الواقع في بطانته من مدلولات نفسية واجتماعية, وربما حتى سياسة وحضارية. بصراحة لم يعد يكفي ان يردد علماء الاجتماع والمثقفون في فرنسا " ان الشباب قد ملّو المجتمع الاستهلاكي" كما يقول فرانسوا شاتليه, بل نحن بحاجة إلى تحليل هذا الملال وقراءة مدلولاته على المستوى النفسي والاجتماعي أولا, والسياسي والحضاري ثانيا. أوضح لي محدثي في محاولة منه للنفوذ إلى العمق ان فرنسا تعيش ما يطلق عليه هناك بالعصر الجديد , وهو قرين الألف الميلادي الثالث الذي يحث الخطي سريعا, حيث لم تبق سوى سنوات قليلة وتدخل البشرية, والحضارة الأوروبية بالذات الألف الميلادي الثالث.

فرنسا تريد ان تدشن الألف الميلادي القادم بعصر جديد قوامه حتى الان عشرات الفرق والتيارات , وأكثر من عشرين مجلة .

ما هو قوام هذا العصر ومن يغذيه؟

أوضح بنو ان قوامه الإنفتاح على الروحيات والخيال وحتى السحر في محاولة لإشباع تطلع فطري غريزي لا مفرّ منه, بل زاده الفكر المادي والحضارة المادية, وضوحاً وشخوصاً.

هناك بؤرة قلق تحاول أن تشبع بالمزيد من إشاعة المادية فكراً وسلوكاً, كما تحاول أن تشبع من خلال فتح منافذ لها على عوالم الروح والمعنى. من هنا كثرة استيراد الأديان الشرقية والترويج لها ولجميع "الموضات " الروحية الآتية من أميركا الجنوبية بالإضافة إلى الهند والصين, وحتى من أميركا الشمالية عبر إعادة الاعتبار إلى الهنود الحمر, حيث شاعت الدراسات من حولهم مجدداً, وأخذت بالنمو والرواج.

لقد أغلق الشيطان ـ السماء على الإنسان الغربي ـ أو هكذا يقول محدثنا يحيى بنو ـ بفعل الإفراط بالفكر المادي وكثافة فلسفاته والإمعان في السلوك الاستهلاكي إزاء ذلك اخذ الشوق الفطري يتطلع روحياً ومعنوياً إلى مفردات سفلية هابطة في عالم الروح من قبيل الخيال, العوالم السفلى, تحضير الأرواح , الجن, وحتى ظواهر الهيبز وغيرها من أشكال الانفلات السلوكي, فهي تعبير عن إشباع روحي شاذ إذا نظرنا إليها من زاوية كونها تعبيراً اجتماعياً ـ سلوكياً عن أزمة حضارية معنوية.

وإذا أردنا أن نخلص المعادلة الفاعلة في مضمار التطلع المعنوي فهي تساوي حسب محدثي:ـ علم منور زائداً روحانية محررة غير مقيدة بالشرع أيّاً كان هذا الشرع زائداً أديان شرقية مضافاً إليها علوم السحر والطقوس والخيالات السفلى.

يقول بنو موضحاً : " لما كانت فطرة الإنسان هي لوحدها عنصر مقاومة الفكر المادي فكان من المتوقع ان الإنسان لم يكن ليتصل على الدوام بحضارة في عالم حده الحس والجسم " . يضيف : " ان الشوق الكامن في ذاته ( الإنسان ) كان يتطلب التحقيق غير ان مكائد الشيطان ان يوجه ذلك الشوق نحو طرق منحرفة. فيقوده الآن – الشيطان – إلى  أفكار تدعي الروحانية والقداسة " كما عبرت عن ذلك مكونات المعادلة أعلاه.

القراءة الفكرية لأوجه الأزمة

ومع ذلك لا تقصر ظاهرة الفراغ المعنوي بتبعاتها على حالات السلوك الإنساني في المجتمع الفرنسي بل تعود لتعبر عن نفسها بأوجه فكرية ملتبسة. فشيئاً مهماً من التيارات بل لِنَقل النزعات والرموز الثقافية وتلك التي تنتحل الصفة الفلسفية, ظهرت كرد فعل على ذلك الفراغ وهي بمثابة قراءات فكرية متباينة للأزمة.

من الأوجه الفكرية التي نشأت في مناخات الأزمة ظهور من يُعرف بالساحة الفرنسية بفلاسفة الرغبة أو فلاسفة اللاعقلانية ومن بينهم جيل دوللوز وفرانسوا ليوتار وغاتاري. كما تبدي احد وجوهها بالتأكيد المفرط على الديانات الشرقية, والهندية بالتحديد كالبوذية والهندوكية وباستعادة البحث عن التصرف الهندي والهنود الحمر.

وكان من نتائجها في عالم الفكر تنوع الخطابات وثراء الساحة الفرنسية المذهل بنزعات الخروج على السائد وبلورة بدائل يصفها البعض أنها ثورات معرفية أو فلسفات بديلة وهي على أي حال تعبير في وجه بارز من أوجهها عن ذلك الفراغ الهائل وضياع الدالة والمعيار في الحضارة الغربية التي تمثلها الساحة الفرنسية خير تمثيل. ومن تلك النزعات التي نعنيها, النزعة اللغوية التي ظهرت مكثفة في الساحة الفرنسية والنزعة الايستمولوجية التي " أحلت فلسفة التصور محل فلسفة الوعي " والنزعة التأريخية التي تبلورت بالذات عن فوكو وجاءت مناهضة للمنهج السائد الذي كان يُقرأ به التاريخ الفلسفي للأفكار وقد أسرف الاتجاه الأخير في الانقلاب على " اصول الفلسفة ", كما أسرف في التنكر للنسق والمنظومة والمؤسسة والعقل حتى وبخ بعضهم الشأن الفلسفي من باب دراسة الجنون ومظاهر اللاعقل نكايةً بما عُرف في الغرب بصرامة العقل أو بمركزية العقل بحيث دخلت الساحة في فوضى رهيبة يرى فيها بعض الباحثين العرب فضيلة الإنجاز!

من نتائج النزاعات الأخيرة ان العلم لم يعد يشكل أساس الحضارة كما لم يعد العقل كذلك وأخذ أولئك يشيعون الحديث عن العصر ما بعد المادي الذي يلج الروحانيات بالصيغة التي أشرنا إليها آنفاً. وكان من ثمار ذلك التبشير بالبايلوجية الجديدة وبفلسفة أخلاقية بدون ما وراء الطبيعة.

المدلول الحضاري

أردت منه ان يقرأ لي باختصار المدلول الحضاري لهذا الواقع بحيث يقدم تفسيراً يبدو مقنعاً ويتضمن في الوقت نفسه عناصر تسمح بالنفوذ إلى حلول مقبولة. وأوضح ان الحضارة في فهمه الخاص تتمثل في شخص مثالي أو هكذا تعلم من انتمائه إلى الإسلام. والحضارة الغربية برأية تفتقد من هذا المنظور للدالة وللرمز وهي بالتالي حضارة تعيش أزمة معيار, إذ الكل فيها موكل إلى نفسه.

والحل برأيه ان يخرج الإنسان الغربي من هذا الشعور المفرط الذي يعيشه الموغل بالفردية والذاتية, وأن يغادر طوق النفس , ويحس بالأمان في لجوئه إلى معيار. والى دالة ورمز كبير, له القدرة على منح السكينة والاطمئنان لجميع أفراد هذه الحضارة.

وبصراحة تبقى الحضارات الناهضة على أساس الفكر الديني الإلهي, هي الوحيدة التي بمقدورها ان تملاً فراغ إنسان الحضارة الغربية وتخرجه من القلق إلى السكينة.

تعرفي على الإمام 

عند هذه النقطة وصلنا في حياة كريستيان بنو إلى المنعطف الثاني في حياته المتمثل باكتشافه للإمام الخميني, وبالذات للبعد المعنوي في هذه الشخصية, وذلك بعد المنعطف الأول الذي قاده  إلى  الإسلام.

عن كيفية الاكتشاف وفعله نترك الكلام لـ" لبنو " يحدثنا بقوله: كان اكتشافي للإمام وتعرفي عليه, مسألة مهمة جداً ومؤثرة بالنسبة لي, لقد سمعت بالإمام منذ ان انبثقت أحداث الثورة, وحين كان في نوفل لوشاتو كنت أنا في جنوب فرنسا. لقد اعتنقت الإسلام في نفس السنة التي انطلقت فيها أحداث الثورة الإسلامية, بيد أني لم أكن على دراية كافية بالمسائل السياسية وبالتشيع, ولم أكن أعتن بذلك جيداً, والآن أشعر بالأسف لضياع تلك الفرصة التي لم أفد منها ولم أحسن استثمارها.

عندما تقدمت في دراستي الجامعية أكثر, وتطورت معرفتي باللغة العربية بحيث أصبحت أقرأ النصوص العربية بمفردي وبالإعتماد على نفسي, حصل لي أمر, إذ كنت يوماً في مكتبة لبيع الكتب لأحد أصدقائي اللبنانيين, فعثرت فيها على كتاب " مصباح الهداية ", للإمام وعلى كتاب آخر له. فتحت الكتاب وأنا في المكتبة, فتصفحته وتأملته فرأيته ينطوي على أمر عجيب , فجميعه شرح لكلمات ابن عربي, بل رأيته من اكثر النصوص إحكاماً من بين نصوص المعاصرين بل حتى من أهم النصوص التي صدرت في السنوات الماضية, حتى ينتهي الأمر إلى تلامذة ابن عربي نفسه. أصابتني الدهشة وحل بي العجب, ثم اشتريت الكتابين. كانت هذه الواقعة تعبيراً عن أول تعاطي مباشر لي مع اثر من آثار الإمام, وقد قاد هذا الاكتشاف آنذاك إلى أن اعيش تحولاً عجيباً, ومرد هذه الحال يعود إلى السؤال التالي : كيف يمكن لهذا الرجل الذي يجمع الكل على انه رجل سياسي, أو هكذا تشيع الدعاية الغربية أن تكون له مثل هذه الكتابات؟

اذكر عندما كتب في فرنسا عن ابن عربي, كتبوا في الصحف الفرنسية , أن مثل هذا الإسلام جيد, أما الإسلام الذي يريده الخميني, فهو إسلام سياسي لا فائدة ترجى منه, إذ هو شبيه بإسلام الأخوان المسلمين, وبإزاء ذلك لم يكن بيد اخوتي من المسلمين الفرنسيين , شيئا يواجهوا به ـ المنطق الغربي هذا ـ من خلال المقارنة , لكي يعرفوا أن الواقع ليس كذلك, لماذا؟  لأنّا جميعاً كنا نتوهم , وما يزال هذا الوهم بالنسبة للآخرين, أن الإمام الخميني هو مثل بعض الأخوان المسلمين ممن لا يعرف شيئا بالأساس عن العرفان والفلسفة والجانب المعنوي في الإسلام, وان غاية ما يحسنوه هو العمل السياسي, وان الإمام الخميني مثلهم, هو رجل سياسة وحسب.

 لقد كنت شخصياً أعيش مثل هذا التصور عن الإمام , إلى  ان رأيت هذين الكتابين, فأدركت الحقيقة وارتبطت بعلاقة وثيقة بالإمام .

قررت مع نفسي ان أُعَرِّفَ الآخرين بآثار الإمام هذه, وقد تعلمت اللغة الفارسية بيد ان المشكلة ان أولئك الذين يجهلون اللغة العربية واللغة الفارسية لا يستطيعون ان يعرفوا من هو هذا السيّد, ومن هو الإمام .

الغرب الذي تعب من السياسية

انطلق محدثي من تصور يسود في الغرب حول الإمام  الخميني مؤداه انه رجل سياسة من دون قاعدة فكرية ومعنوية. وأن يكون رجل دين مسلم من طراز الإمام  الخميني, عنصراً سياسياً فتلك في الغرب تهمة تراد للنيل من شخصيته , لذلك سمعناه يقول في حديثه قبل قليل , اننا نحتاج لإعادة التوازن في النظرة الغربية إلى الإمام, ان نكشف عن أبعاد شخصيته المعنوية والروحية, وعن القاعدة الفكرية.

هذه نقطة, أما النقطة الثانية المهمة التي أشار لها بشأن كيفية الدعوة إلى الإسلام في الغرب, فقد أكد على أهمية الجانب المعنوي والروحي كمفتاح للتغلغل إلى  نفسية الإنسان الأوروبي والتأثير على عقله. لماذا؟ لنصغي إلى  يحيي بنو يحدثنا عن النقطتين معاً بقوله : لقد اكتشفت الإمام  عن حقيقة مغايرة لما تروج له الدعاية, فالدعاية التي يبثها الغربيون تذهب إلى  حد القول ان ابن عربي كافر بنظر الإمام , لذلك قررت ان ادخل لجَّة العمل وان أشرع بكتابة أطروحة دكتوراه أطرح من خلالها الشخصية العرفانية للإمام الخميني , لأن هذا الجانب من شخصية الإمام  وهذا الوجه فيه يمكن ان يكون له أثر كبير جداً في الغرب.

الغربيون تعبوا الآن من الكلام السياسي والاقتصادي , فمنذ مائتي سنة أي منذ الثورة الفرنسية وحتى الثورة الروسية وهم يسمعون لحديث الاقتصاد والسياسة, وقد ملّوا هذه النبرة وتعبوا منها, هم الآن عطشى للبعد المعنوي, وهم في سعي وراء المعنويات ونحن المقصرون حين لا نعرض لهم هذه المعنويات والعرفان الأصيل المنبعث من تعاليم أئمة أهل البيت(ع) .

لقد جاء الاخرون وعرضوا بضاعتهم ,حيث نشطت في الغرب البوذية والصوفية والبهائية. وهذه الاتجاهات جاءت وهي تحمل إلى ـ الإنسان الغربي رسالة مؤداها ـ نحن لدينا الجانب المعنوي الذي تبغونه ـ أما نحن المسلمون لقد دخلنا الساحة من بعد آخر, حيث قلنا : نحن عندنا سياسة والشيء الذي يبعث على الأسف ان جميع الغربيين الذي اقتربوا من الجانب المعنوي وانتخبوا الطريق المعنوي أو أغلبهم لم يتحولوا إلى الإسلام , بل راحوا إلى الفرق الضالة الهندية والبوذية , ومن أسلم منهم نزع إلى الفرق الصوفية ومجاميع أهل الحق وغيرها, والتقصير في ذلك هو في نهاية المطاف تقصيرنا نحن , حيث لم نطرح رؤيتنا الكونية الكاملة. بل اعتقدنا ان من المهم ان نقول ان لدينا ـ في الإسلام ـ سياسة واقتصاد, في حين ان المهم هو القلب وان نعرف العرفان والفلسفة الإسلامية التي لدينا من الأئمة .

صحيح ان للإسلام شيء يهبه لكل جزء من بدن الإنسان ولقلبه وعقله وبقية أعضائه, إلا ان الصحيح أيضا أننا اقتصرنا في طرح الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية, وقد عزفنا إلا قليلا عن طرح الأمور التي جاء بها الإسلام إلى منطقة قلب الإنسان وعقله.