القسم الأول
لقد تبلورت فكرة هذه الدراسة في ذهني عندما أردت أن أدرس وصية الإمام الخميني دراسة مستفيضة, فوجدت أنّ وصية الإمام هي مجموعة كبيرة من العناوين والمفردات والتعبيرات الثقافية والعسكرية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية، أو أنها مختصر لعمل موسوعي ضخم لو أراد المرء تغطيتها، وتغطية كل ما حظي بخصوصية، لاحتاج إلى تركيز استثنائي في سياق هذه الوصية، ولذا فإنني عندما أردت أن أتناول الوصية بالدراسة وقعت في إشكال منهجي؛ لأنني لم أنوِ أساساً، ولا أدّعي لنفسي القدرة على تغطية الوصية في أبعادها الموسوعية, وفي محتواها الشمولي والتفصيلي.. وعندما حاولت أن أرجع الوصية إلى انتمائها الخطابي كمحاولة للتسهيل... وجدت أنّ الخطاب الثوري لدى الإمام هو الآخر يحتاج إلى جهود تحليلية كبرى، لا أدعّي أيضاً أنني قادر لوحدي على القيام بها.
ولكن وإيماناً منّي بأهمية الوصية كمحور, وأهمية الخطاب الثوري كمكوّن من مكوّنات المشروع الإسلامي الكبير, الذي نظّر له الإمام فكرياً وثورياً واقترن اسمه به.. حاولت أن أقف في هذه الدراسة على (بعض) ثوابت خطاب الإمام الثوري, وكان ذلك من خلال مجموعة من المقالات التي كتبتها ونشرتها الصحف، مع إجراء بعض الإضافات عليها.. وأكرر هنا كلمة (بعض) وأؤكّد عليها؛ لأن هذا الخطاب الثوري يبقى أعقد وأشمل من محاولتي الأولية هذه لتحليل بعض صفاته ورصد بعض ثوابته.. هذه الثوابت التي اختزنتها الوصية كعينة شاملة جامعة لهذا الخطاب الثوري، أو المقالة الثورية، ولذا فإن الذي فعلناه هنا هو أننا وقفنا على ثوابت الخطاب الثوري لدى الإمام بناءً على نصوص الوصية المباركة، وبناءً على النصوص العامة المأخوذة من أحاديث وتصريحات الإمام التي قالها في حياته؛ لكي نشكّل بذلك الملامح والسمات والمكوّنات الخطابية من جهة، وتتّضح الصورة المفرزة التي تشكّلها الوصية لهذه السمات والمكوّنات من جهة أخرى.
وبمعنى آخر، لتشكّل (الجسم) الخطابي الثوري لدى الإمام إذا صحّ التعبير، ولنرى كيف تجسّد هذا (الجسم) الخطابي مرّة أخرى من خلال الوصية، أو كيف تحوّلت هذه الوصية إلى عيّنة من عيّنات الخطاب الثوري.. هي الأشمل والأثرى من غيرها، والأصلح مشروع عمل يهدف إلى دراسة الخطاب الثوري لدى الإمام, ومن ثم مكوّنات المشروع الثوري أو النهضوي.
أما فيما يخص الفضاء الذي يتحرّك فيه أو يتعاطاه الخطاب كنموذج متجسّداً بالوصية، وهو ما سميّناه بالفضاء الموسوعي بكل مجالاته الثقافية والسياسية والتربوية، فإننا تحرّكنا في داخله حركة تحددها الإثارة المهمة في ثنايا الوصية تارةً ويحددها الثقل التكراري لأي مفهوم ثقافي أو سياسي أو فكري تارةً ثانية، وتحددها القوة التحليلية التي يجسّدها النص الخطابي ـ نص الوصيةـ تارةً ثالثة، وتحددها ضرورة تكامل المفاهيم المثارة بما تمثّله ثوابتها الخطابية من ثقل أصلي في الشكل الخطابي العام تارةً رابعة. فما يجب أن يقال هنا هو: أنّ ثوابت الخطاب الثوري تبقى أيضاً متفاوتة الأهمية والثقل والمساهمة في تركيب أو رسم الشكل النهائي لهذا الخطاب.
على أية حال: هذه الحالات الأربع, وحالات التعاطي الأخرى كانت تتجاوز في أكثر الأحيان نص الوصية لتشريحه بنصوص أخرى سابقة للإمام.
كما أنها كانت تشكّل في موضوعاتها الثقافية وغير الثقافية نوعاً من الجدلية والتواصل والارتباط التبادلي؛ لتضفي على الخطاب لوناً من ألوان المرونة في إدراك أهدافه وتجعله ينفرد بمثل هذه الجدلية وما تؤدّيه من دور إيضاحي؛ لتركيب النص الخطابي الثوري.
إنها محاولة إذاً لإثبات(لا عفوية) الخطاب الثوري لدى الإمام، ومحاولة لتسليط الضوء على جوانب المنهجية والتخطيط والاتّساق والانتظام التي تحقق الأهداف الفكرية، أو لتترجم المدرسة الفكرية التي يمثلّها الإمام ويروّج لها من خلال خطابه هذا، ومحاولة لتحليل عناصر ومكوّنات الخطاب ودوره في تجسيد الفكرة أو المبدأ الإسلامي.
إنّ الخطاب الثوري لدى الإمام الخميني لم يسقط في قطيعة زمنية مع نفسه، ولم يقع في مطبّات الصعود أو الهبوط أو الاهتزاز أو التناقض، وعبّر عن نفسه بشكل تتطابق فيه البدايات(مراحل العمل الثوري الأولي) والنهايات(الوصية).
وإذا كان لهذا الثبات من معنى: فمعناه يرتبط بسعي الإمام إلى تأسيس دولة ثورية تصبح مصداقاً للخطاب وضمانة لتواصله.
كما أنها تتحوّل إلى جنب الخطاب الثوري إلى أداة من أدوات المشروع الإسلامي الثوري الذي قاده الإمام.. وربما أنّ هذه العلاقة هي التي تقود الباحث إلى الوقوف على جهود الإمام لتأسيس الدولة الثورية, فيما هو يسعى إلى دراسة مكوّنات وثوابت الخطاب الثوري لدى الإمام.. لأن قسماً كبيراً من هذه الثوابت ترتبط بتأسيس الدولة الثورية وما انطوت عليه من نظريات أو خطوط نظريات تحوّلت إلى ممارسة في مجالات الدفاع والثقافة والقيادة والنقد والإعلام وغيرها، لاسيّما في نصوص هذا الخطاب التي جاءت في أحاديث الإمام بعد انتصار الثورة الإسلامية.
باختصار أراد الإمام أن يجعل من الخطاب الثوري عاملاً في بناء الدولة الثورية، وأراد أن يجعل من الدولة الثورية ضمانة لتواصلية هذا الخطاب، وأن يتحوّل الخطاب والدولة إلى أدوات ذات علاقة جدلية في المشروع الإسلامي الثوري.
وهل تؤخذ ملامح ونظريات وخطوط هذا المشروع الإسلامي السياسي من غير الإمام؟ فالإمام بحكم قدراته الفقهية والعلمية.. وبحكم قدراته الحركية السياسية تحوّل إلى مرجع لاستلهام الإسلام السياسي الذي تعرّض إلى مؤامرات دولية كبرى سعت إلى إبعاده عن مسرح السياسة العالمية وبالإضافة إلى هذا.. فإن حياة الإمام السياسة قاربت السبعة أو ثمانية عقود زمنية.. ليست كسواها من حيث التحوّلات الفكرية والسياسية والإنهيارات والنهضات التي شهدتها الإنسانية.
لقد واكب الإمام الخميني هذه التحوّلات بدرجة كبيرة من درجات التماس والتفاعل وعايش انهيار الكيان الإسلامي ـ المتمثّل بالدولة العثمانية ـ والحروب العالمية التي شهدها القرن الماضي، وانبعاث الكثير من الرموز والحركات النهضوية، كما أنه رصد(البدائل) الدولية للإسلام المنهار وعدداً كبيراً من الطروحات القومية واليسارية، ومارس وسط هذه المعايشة والمراقبة دوره السياسي الإسلامي.. وبالتالي فإن وعيه السياسي اختصر زمن تلك التحوّلات، وأنّ فكره السياسي هضم كمّاً كبيراً من التجارب الحركية والسياسية.. وانطلاقاً من هذه الثروة المعرفية والمواكبة استطاع الإمام أن يشخّص تحدّيات المواجهة الإسلامية ـ الدولية واستطاع أن يؤسس للمشروع الإسلامي كخطاب نظري أولاً، وكدولة ثورية في جزء من العالم الإسلامي ـ إيران ـ ثانياً، وكوعي ثوري طامح لأن ينجز مفردات المشروع الإسلامي الكبير ثالثاً.
فهذا الوعي الذي تفجّر في الشارع الإسلامي مع انفجار الثورة الإسلامية في إيران، تحوّل بحدّ ذاته إلى مصدر جدلي لحركة الوعي السياسي الإسلامي إلى جانب الدولة الإسلامية الثورية كممارسة وخطاب سياسي يشكّل امتداداً لخطاب الإمام الخميني في ثوابته وقيمه ومفاهيمه الثورية.
الإمام الخميني إذاً هو رجل القرن الماضي ـ بما استوعبه وعايشه من أحداث القرن الماضي ـ ورجل القرن الجديد ـ على أكثر الاحتمالات ـ لِمْا خلّفه من تراث سياسي ومن تأسيس محكم لمجمل أدوات المشروع النهضوي الإسلامي.
وربما أنّ الإمام نفسه، كان يقرأ أفق حركة المشروع الإسلامي عبر مجموعة استشراقات ورؤى استباقية قائمة على قدرة هائلة في التحليل السياسي، وقائمة على تراكم الخبرة السياسية الكبير الذي أشرنا له.. وهذا الاستباق والاستشراق على أكثر من محور سياسي الذي تحوّل إلى مصاديق أو حقائق على الخريطة السياسية العالمية، يكرّس من ناحية أخرى أهمية قراءة حركة المشروع الإسلامي وموقعه المستقبلي العالمي على ضوء تجربة الإمام، وقيمه السياسية ونظرياته الثورية التي أسسها.
وعلى الرغم من أنّ القرن الماضي شهد انبعاث أحزاب وحركات ورموز إسلامية مهمة بقيت تمارس العمل السياسي الإسلامي، بشكل علني تارةً، وسري تارةً أخرى. قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران إلاّ أنّ هذه الحركات والأحزاب والرموز ما استطاعت بالتأكيد أن تؤسس للإسلام بصفته السياسية العالمية، والإمام الخميني فقط هو الذي استطاع أن يؤسس المشروع الإسلامي العالمي.. وأغلب الظن أنّ فكر الإمام السياسي الذي نحاول أن نسلّط الأضواء هنا على بعض جوانبه وملامحه قد فتح أبواب المواجهة بشكل لم يستطع أحد إغلاقها, وأنّ حلبة الصراع ستشهد أشكالاً وفصولاً قادمة معنونة بإسم الإمام الراحل كرمز غائب .. حاضر.
مصطلح الخطاب الثوري
لقد شكّل الخطاب الثوري واحداً من الأدوات الثورية التغييرية في المشروع الإسلامي العالمي الذي ارتبط بنهضة الإمام واسمه وأفكاره.
وبادئ ذي بدء لابدّ أن نشير إلى ما نعنيه في موضوعة الخطاب الثوري، ومكوّناته الأساسية وصفاته العامة، ثم نحاول أن نسبر غور هذا الخطاب قراءةً وتحليلاً وتنظيراً. وإذ نخوض غمار البحث في النص الخميني الثوري لنرى ما يختزنه هذا النص من مفاهيم وآليات ومحاور وقضايا إسلامية سنسترشد بها إلى فضاء المشروع الإسلامي العالمي، ونرى كيف أنّ الخطاب الثوري كان يمثّل ركيزة من ركائز هذا المشروع.
فماذا نعني بالخطاب الثوري لدى الإمام؟ هل هو النص الديني التقليدي أو الفتوى الشرعية أو الحكم الفقهي الإسلامي أو الخطاب السياسي العام؟ أو هل الخطاب الإسلامي بدلالاته المطلقة السياسية والثقافية والدينية؟
هذه الأسئلة وأخرى كثيرة غيرها ربما تتوالد على الفور أمام عنوان الخطاب الثوري، وللإجابة عليها لابدّ من القول:
1 ـ إنّ مفردة الثورية هي مفردة غير مؤدلجة بحد ذاتها، ولذا فإن استخدامها بشكل مجرد لا يشكل استعارة مضمونية مؤدلجة، ولا إيحاءً مصطلحياً تبعياً من الناحية الثقافية والفكرية.
2ـ ولأن فكر الإمام هو فكر إسلامي فبالتأكيد إننا نعني بالخطاب الخطاب الإسلامي الثوري، ولكن الثورية التي تشكّل محصَلة إضافة نابعة من تجربة الإمام الخميني الخاصة أولاً, ومن فهمه الخاص للإسلام ثانياً، ومن استيعابه لخلفية الصراع الحضاري والفكري وأدوات القوى العدوة للإسلام في هذا الصراع ثالثاً.
ولعلّ هذه العناصر الآنفة الذكر ستشكّل المكوّنات الرئيسية للخطاب الثوري لدى الإمام, فعنصر التجربة الخاصة ستنضوي تحته كل الملامح والخصائص والصفات التي يتّسم بها الخطاب الثوري، وهذه الملامح والخصائص والصفات هي في الحقيقة تعبير عن القدرة الذاتية والملكات الذهنية التي ترتبط إلى حدٍّ ما بالشخص القائد أكثر مما ترتبط بطبيعة الأفكار التي يحملها.. أما العنصر الثاني، وهو عنصر استيعاب الخلفية الصراعية للفكر الإسلامي وتشخيص المؤامرات التي استهدفت الإسلام تاريخياً فهو الآخر يتضمّن بعد الكفاءة الشخصي في قراءة تاريخ المواجهة الإسلامية الاستكبارية مثلما أنّ هذا البعد يتجسّد أيضاً من خلال قراءة الفكر الإسلامي، وذلك بدرجة أقل، وهو ما شكّل العنصر الثالث من مكوّنات الخطاب الرئيسية لدى الإمام. ومن خلال ما تقدم يمكن القول أيضاً: إنّ مفردة الخطاب رابعاً هي مفردة حيادية بحد ذاتها، فنحن نسعى ليس فقط إلى إبراز فهم الإسلام الثوري لدى الإمام، وإنما نسعى أيضاً إلى قراءة القدرة الخمينية على الفن الخطابي، ونسعى إلى الوقوف على ثوابت هذا الخطاب الحيادية، أي: تلك المرتبطة بالخطاب كبنية وإيقاع، بالإضافة إلى قراءة المحتوى الإيديولوجي والفكري من خلال حركة الحدث السياسي، أو من خلال حركة الإسلام السياسية أو عبر الحركة المضادة له.
وانطلاقاً من هذه المقدّمات أطلقنا إسم الخطاب الثوري ليفهم في طيّاته ليس المحتوى الفكري والأيديولوجي للخطاب, وإنما ليبرز الصفات الخطابية البُنيوية التي تشكّل بحد ذاتها علامة على قدرة غير طبيعية.
وهذا ما يمثّل بُعداً خامساً في هذا السياق.
وبناءً على ما تقدّم سيكون المصطلح المتداول في هذا البحث هو الخطاب الثوري لدى الإمام الخميني ببعده الذي يرتبط بخصائصه البنُيوية, وببعده المضموني الأيديولوجي الفكري، وببعده المرتبط بالقراءة الخمينية لحركة الإسلام التاريخية من جهة, والمخططات والأساليب والمؤامرات التي واجهت الإسلام كفكر ذي أبعاد حضارية وأثّرت إلى درجة كبيرة في حركته السياسية من جهة أخرى.
أما أهمية هذا الخطاب، وأهمية قراءته وتحليله بُنيةً ومضموناً، فهي لا تتأتّى من الأسباب المعروفة في الوعي السياسي للأجيال الحالية التي عاصرت وعايشت أحداث الثورة الإسلامية في إيران وما قبلها وما بعدها فقط, ولا من الأفق المستقبلي لحركة المشروع الإسلامي الذي أسسه الإمام فحسب، إنما أيضاً مما شكّلته مرحلة الإمام الخميني، وبالذات الخطاب السياسي لديه من حالة خاصة.
نقول: إنّ خصوصية هذه الحالة بالإضافة إلى الأسباب المذكورة تأتي من الواقع الخاص لخطاب الإمام الخميني على نسق حركة الإسلام السياسية التاريخية، إذ إنّ نسق هذه الحركة بما اختزنته من نماذج للخطاب الإسلامي تاريخياً، كان متجانساً بغض النظر عن إيجابية أو سلبية التجانس، ولقد جاء الخطاب الثوري للإمام ليشكّل خروجاً أو بتعبير أدق لوناً جديداً من ألوان الخطاب الثوري الإسلامي، وهو لون ليس كلون القرون الزمنية السابقة من حيث حركة البشرية، وحركة الأفكار، وطبيعة هذه الأفكار، ومجمل التحدّيات التي تواجهها الحالة الإسلامية، وكذلك التطوّر الإنساني العلمي و التقني والصناعي، ولا يخفى أنّ كل هذه الأمور صبغت القرن العشرين بصبغة خاصة، فانطلق الإمام الخميني في خطابه في هذا القرن ليطرح الإسلام على ضوئه.
لقد بدأت حياة الإمام السياسية في لحظة سلبية سوداوية من لحظات الإسلام السياسي، هذا الإسلام الذي كان مجسّداً في الدولة العثمانية، ككيان مركزي للمسلمين، ولقد وعى الإمام الخميني مسوؤليته الإسلامية والإنسانية في مرحلة الهزيمة تلك ليعايش آثارها المدمّرة في تحطيم ذلك الكيان على يد قوى دولية كبرى، وفي ضوء معادلات سياسية صعبة حكمت بدايات القرن الماضي بتحوّلاتها الكبرى وحروبها العالمية، لتقذف فيما بعد مصير هذا العالم في معادلة سياسية أقسى وأبشع من المراحل التي سبقتها، وهي مرحلة: القطبين الأميركي ـ السوفييتي السابق، أو ما يسمّى بمرحلة القطبية الثنائية التي بدأت بالإنهيار قبل رحيل الإمام الخميني إلى الملكوت الأعلى.
هذا المقطع السبعيني أو الثمانيني من الزمن من عمر الإمام الخميني السياسي، بدا من خلفية سوداوية لوضع الإسلام السياسي، ولاشكّ أنّ هذه السوداوية تحوّلت إلى محفّز لدى الإمام؛ لصياغة خطابه الثوري فيما بعد بالشكل الذي يستوعب مجموع المخاطر التي يتعرّض لها الإسلام والعالم الإسلامي.
سر الخطاب الخميني
لقد اتّصف خطاب الإمام بنوع من أنواع القوة الشمولية؛ بفعل الملكات الذاتية, زائداً الملكات العرفانية والفهم الصحيح للإسلام المحمدي، ولكن مع هذا لابدّ أن نخرج من هذا الوصف العام إلى الولوج في العمق الحقيقي لسر قوة هذا الخطاب, الذي اقتحم جمود الإنسانية، وتجاوز بمسافات شاسعة كل المحاولات المخلصة التي أرادت أن تنتشل الإنسانية من جمودها، تجاوزها ليطرح الإسلام بإيقاع خطابي غريب الطراز بعد أكثر من ألف عام على انقطاع القوة في الخطاب الديني السياسي, التي كانت مجسّدة آنذاك بالنص النبوي أو النص الإمامي الإثني عشر, التي مثّلت بعد النص القرآني ثلاثية النص الإسلامي الأبدية، في إبقاء الإسلام حيّاً في وجدان الأجيال، رغم كل الاحتيال والدسّ والظلم الذي تعرّض له الإسلام على يد الطواغيت وعملائهم من صنّاع النص المحرّفين لمفهوم الإسلام الحقيقي.
ولقد جاء النص الخميني ليزيح ركام مئات السنين من هذا الاحتيال والدسّ, ويكشف مرّة أخرى عن المضمون الأبدي للإسلام؛ من خلال خطابه الثوري. والسر كما قلنا يتجاوز كل الملكات إلى ملكة اليقين.
فاليقين كما هو معلوم، ينتمي أساساً إلى عالم الروح والقوى الروحية، ومن ثم قدرة النفس الإنسانية على تجاوز عالم الماديات التي تحول دون انطلاق المرء إلى مواقف التفاني والتضحية.
واليقين والعلم( لا يتأتيّان إلاّ من النظر إلى النفس وقواها ومدى حاجتها إلى ربّها وفقرها إليه، وهذا ليس من العلم الفكري، ولكنه من العلم النفساني الحضوري)، وبهذا العلم النفساني الحضوري تحصل المعرفة الحقّة أي (معرفة الله بالله)، حيث يشعر الإنسان بالاقتراب من الله سبحانه وتعالى، وتزول الحجب التي أمامه.( وهنا يجد المرء أمراً عجيباً فيرى نفسه متعلّقة بالكبرياء والعظمة متّصلة في وجودها وحياتها وعملها وقدرتها وحبّها وسائر صفاتها وأفعالها بما لا يتناهى بهاءً وسناءً وجمالاً وجلالاً وكمالاً من الوجود والحياة والعلم والقدرة وغيرها من كل كمال) كما يقول صاحب تفسير الميزان[1].
ويرى الإمام الخميني: (إنّ هذه المعرفة الإلهية الفيضية والنورانية تصل الإنسان في حدود الزمان والمكان بالمطلق والكمال فيغيب في الحضرة الربّانية وينسى أو يغفل عن كل ما حوله ويذوب في المعشوق الإلهي)[2].
لقد شاء الله سبحانه وتعالى أن يذوب الإمام الخميني في عشقه، ليتسرّب هذا العشق إلى حيث ما ينطق به هذا الراحل، ولينسج عبر هذا العشق الإلهي مفردات النص وبنى الخطاب، لاستنهاض اليقين الفطري لدى أبناء الأمة الإسلامية، وليصنع ملحمة الشهادة والاستشهاد، بعد أن يبحث الإمام عبر اليقين عن رمزية اليقين التاريخية الرسالية، ليأتي الخطاب نسيجاً من كلمات العشق ورمزية القين الساعية إلى توجيه حركة البشرية بكل تعبيراتها على طريق الله الواحد الأحد، بعد أن يعمل هذا الخطاب بقوّته اليقينية على تحطيم رموز الألوهية المزيّفة وأشكال الطاغوتية التي تحول دون انطلاق الإنسان إلى ربّه وجرّه إلى وحل المادة.
يقول الإمام الخميني في ندائه الذي وجهه لحجاج بيت الله الحرام: (وإعلان البراءة لا ينحصر بأيام الحج ومراسيمه، بل على المسلمين أن يملأوا كل أجواء العالم بالمحبة والعشق تجاه الله سبحانه، والبغض العملي بالنسبة لأعداء الله)[3]. هكذا يتحوّل البغض لأمريكا والصهيونية إلى لون من ألوان العشق تجاه الله سبحانه وتعالى، فالحركة الإنسانية البشرية التي تتعدد بأشكالها المقاومة للطاغوت كالمظاهرات والمسيرات، أو الكفاح المسلح هي في لغة اليقين الخمينية مظهر من مظاهر العشق الإلهي، وهكذا يسمو الخطاب الخميني على كل الماديات؛ ليعطيه هذا السمو قوّته الإسقاطية في القلوب والضمائر.
يواصل الإمام الخميني كلامه في ذلك النداء التاريخي فيقول: (وأن يسمو الحجاج من أفضل وأقدس بقاع العشق والنور والجهاد إلى كعبة أرفع، وأن يتّجهوا كما فعل سيد الشهداء أبو عبد الله الحسين (عليه السلام) من إحرام الحج إلى إحرام الحرب، ومن طواف الكعبة والحرام إلى طواف صاحب البيت ومن الوضوء بزمزم إلى غسل الشهادة والدم.
وأي أمة كالبنيان المرصوص لا تعرف الهزيمة، ولا تستطيع القوى الكبرى الشرقية أو الغربية أن تقف بوجهها.. ومن المؤكّد أنّ روح الجهاد ورسالته ليست سوى أن يتلقّى المسلمون منهج الجهاد مع النفس وهكذا منهج الكفاح ضد الكفر والشرك).
إنّ الإمام الخميني يستدعي الرمز اليقيني التاريخي، كمثال للهيام بمعاني العشق في الله. واستدعاء لحضوره في الخطاب في ثنائية اليقين التي يتشكّل طرفها الثاني إلى جانب دم الحسين(عليه السلام)، ماء زمزم، كرمز آخر لليقين ومصدر ذي دلالات زمانية ومكانية، في يقينية أبي الأنبياء إبراهيم(عليه السلام)، مصدر تحوّل إلى استلهام يقيني خالد ودوري للأجيال الإسلامية، لترتوي منه معنى العشق الربّاني، ولتجسّد هذا اليقين بصرخة الغضب التي تطلقها بوجه الألوهية المزيّفة لأمريكا و(إسرائيل).
ويقول الإمام الخميني في ندائه هذا: (صرخة ندائنا صرخة أمة تجمّعت قوى الكفر والاستكبار للقضاء عليها، واتّجهت كل السهام والحراب نحو قرآنها وعترة نبيها العظيم، ولكن هيهات أن تخضع أمة محمد(صلى الله عليه وسلم) التي انتهلت من كوثر عاشوراء وتنتظر وراثة الصالحين للأرض.. وهيهات أن يبقى الخميني ساكتاً أمام ما يرتكبه المتغطرسون والمشركون والكافرون من عدوان على حرمة القرآن الكريم وعترة رسول رب العالمين وأمة محمد وأتباع إبراهيم الحنيف، أو أن يبقى متفرّجاً على مشاهدة ذل المسلمين وتحقيرهم، أنا أعددت نفسي ودمي المتواضع لأداء الواجب الإلهي وفريضة الدفاع عن المسلمين، وأنا في انتظار الفوز العظيم بالشهادة).
ومرة أخرى يستدعي الإمام الخميني اليقين الإبراهيمي وكوثر عاشوراء، دلالة اليقين الحسيني ليجسّد معرفته النورانية بالمعشوق، ويستلهم دوره ليسجّله في ملف العشق الإلهي عناءً وصبراً وخطاباً، مستعيناً باليقين بالغائب، يقين الإمام المنتظر(عج)، وساعياً إلى التمهيد لعهده ووراثة المستضعفين في الأرض.
لقد استطاع الإمام الخميني أن يؤدّي هذا الدور لتتشكّل على يديه فريضة العشق واليقين في معناها الاستشهادي الملحمي، وجيش العشق الإلهي الذي خاطبه يوماً ما قائلاً: (إنّ قوات التعبئة هي الشجرة الطيّبة ذات الثمار التي يفوح من براعمها ربيع الوصل وطراوة اليقين وجدّية العشق. قوات التعبئة هي مدرسة العشق والشهود والشهداء المجهولين التي ينادي السائرون على نهجها بأذان الشهداء والاستبسال. قوات التعبئة هي ميقات المستضعفين ومعراج الفكر الإسلامي الطاهر الذي يربّي جنوداً مجهولين. قوات التعبئة هم جند الله الخلّص الذي ضمّ سجله أسماء كافة المجاهدين من الأولين والآخرين.
إنني إغبط قوات التعبئة دائماً على خلوصهم وصفاء قلبهم, وأسأل الله أن يحشرني وإيّاهم، إنه لمن دواعي فخري واعتزازي أن أكون في هذه الدنيا أحد أفراد هذه القوات)[4].
لقد صبغت يقينية الإمام الخميني خطابه الثوري بمصطلحات: اليقين، والعشق، والشهادة، والاستشهاد، والميقات، والمعراج، ولقد شكّلت هذه اليقينية الأرض الصلبة، والعنصر المعنوي والروحي الذي أعطى هذا الخطاب قوّته الحقيقية، إذ بقي يجول في رحلة الرمز اليقيني ليشكّل امتداداً في القراءة الكلية لخط اليقين على طول التاريخ الإنساني، امتداداً لخط اليقين، سواء تجسّد في هجرة أبي الأنبياء إبراهيم (عليه السلام)، أو في الواقعة الكربلائية، أو في مظلومية( نهج البلاغة) وغربة أمير المؤمنين علي أبن أبي طالب(عليه السلام): (هذا العبد المتحرر في جميع القيود، المكلف بتحرير البشر من جميع الأغلال وأنواع الاسترقاق)[5].
هكذا تتجسّد أسس الخطاب الثوري للإمام المعنوية والروحية، بما احتاج إليه من صبر في الأداء؛ وبما احتاج إليه منهج الحضوري والإحضار الثوري في المسيرة الإسلامية للإمام من تصابر وصبر، فهذا الصبر الثوري هو ثمرة من ثمرات اليقين وهذا (اليقين بالحق يستصحب العلم والإيمان، والصبر يلازم اليقين ولا يفارقه، وإن جاز العكس، فإذا اجتمعا، أي الصبر واليقين، يرجع المؤمن الواحد على عشرة من أمثاله).
كما يقول الدكتور قاسم صفا, ويضيف: (هذا اليقين الذي يكون بالمعرفة الإلهية الإشراقية يميّز الفلسفة الإسلامية الإلهية، ويميّز الخطاب القرآني التحريضي والخطاب السياسي الثوري، هذا الخطاب المعرفي يصل بالمرء إلى ما هو أسمى وأبهى)[6].
من هنا ندرك أنّ خطاب الإمام الخميني هو امتداد لنص الرسول (صلى الله عليه وسلم) وامتداد لنص الإمامة وفق نظرية ولاية الفقيه، وهو بالتالي ـ أي الخطاب ـ يأخذ حيويته وديمومته وتأثيره، ويتميّز عن الخطاب الآخر أمميّاً كان أو إقليمياً والى أي المدارس الفلسفية والفكرية انتمى، من هذا الامتداد الروحي الذي يعطيه عناصر الخلود، ومن ثم ليتحوّل الخطاب إلى عامل نهضوي في المشروع الخميني الإسلامي ذي الصفة العالمية، والذي كرّس بقوة حضارية الصراع الدائر في عالم اليوم، على الرغم من رحيل الإمام إلى الملكوت الأعلى.
الخطاب الثابت.. الخطاب المتغيّر
بعد ثلاث أو أربع سنوات من عمر الثورة الإسلامية في إيران وجد العالم نفسه أمام لون من ألوان الخطاب الثوري الجديد.
لون لم يكن سائداً من قبل من حيث عنصر الثبات فيه، ومن حيث مقوّمات وعناصر تعاطيه مع الأحداث العالمية ورموزها والجهات المعنية بها.. لون يسير على وتيرة واحدة ولا يقع في أية فجوة بين الإدّعاء الثوري والممارسة الميدانية الثورية، كما لا يعرض نفسه بأي شكل من أشكال الخلل التناقضي الذي يؤدّي في نهاية المطاف إلى غياب مصداقية الثورة، فالخطاب العلماني أو الخطاب القومي والوطني أو الخطاب(الإسلامي ـ القومي) لم يسلم من خلال التجارب الرافعة للشعار الثوري من الوقوع في تلك الفجوة أو ذلك الخلل التناقضي، وعالم اليوم عالم معقّد، ولعلّ أحد أساليب التعقيد فيه بالنسبة لأي خطاب ثوري هو أن يجمع هذا الخطاب في تعاطيه مع الشعوب ومع الأنظمة الرسمية محاور مفهومية واحدة, لا تفقده المعنى الثوري، لا يجامل على حساب هذا المعنى من خلال المجال الدبلوماسي وما يمليه من مفردات مجاملة بين الدول، أو ما يمليه من غضّ النظر عن أشكال الظلم التي يمارسها الطرف الدولي الآخر.
لقد كان الإمام الخميني باعتباره يمثّل خطاب الثورة يرفض أي ازدواجية في عرض الأهداف الثورية في صور الخطاب المتعددة لديه، فهو لم يتراجع عن عرض هذه الأهداف لمجرد الضرورة الدبلوماسية التي تتحوّل لدى الآخرين إلى سبب كافٍ من أسباب تحوّل طرف دولي إلى صديق.. إنّ الإمام كان لا يتعاطى هذه اللغة ولا يبررها بأصول الدبلوماسية الدولية، أو ضوابط عرف المخاطبة الدولي، أو أي شكل من أشكال التبرير الأخرى، فبإمكان من يتابع ويقرأ ويحلل صور خطاب الإمام الثوري أن يضع يده على التعددية الإيجابية التي تضمّ في طيّاتها دهاءً (مشروعاً).. والتعددية التي تطرح المبدأ الإسلامي الواحد بأساليب وصيغ خطابية مختلفة.. والتعددية التي تبدو ثابتة عند هذا المبدأ أمام أشكال متغيّرة من الخطاب السياسي الدولي والإقليمي الذي يتبادل معها الحديث في المناسبات الرسمية وغير الرسمية.
ومن خلال مجموعة نصوص متقابلة من حيث الجهات المخاطبة يمكن أن نقرأ بسهولة صفة الثبات المذكورة في خطاب الثورة منذ (بهمن) الأول لها وحتى وفاة الإمام، وقبل أن ندخل في هذه النصوص لابدّ أن نقول هنا: بأن المجال الذي بإمكانه أن يبلور صفة الثبات بصورة واضحة هو مجال التعاطي بالحديث مع الشعوب وحركات التحرر من جهة، والحكومات والأنظمة السياسية من جهة أخرى، أو ما يقال عنه لغة الثورة التي تخاطب الشعوب وتحثّها للتمرّد على الواقع المأساوي الذي يلفّها، ولغة الدولة التي تسعى إلى علاقات سياسية ودبلوماسية مستقرّة.
إننا نعني بصفة الثبات في خطاب الثورة ما يتحرّك عليه هذا الخطاب من محاور تعاطي مبدئية وإسلامية واحدة في كلتا الحالتين، أي سواء كان موجّهاً إلى الشعوب وحركات التحرر العالمية، أو موجهّاً إلى الأنظمة السياسية ورموزها، ولنقرأ الآن نماذج من خطاب الإمام الراحل موجهاً إلى الشعوب.
يقول الإمام في حديث له بمناسبة الذكرى الأولى لانتصار الثورة الإسلامية: (ها إني من المستشفى الذي أعالج فيه، أوجّه تحذيري إلى جميع الشعوب المضطهدة، وأدعوها إلى الوحدة لتحرير أوطانها من سطوة الظلّ الأمريكي وسائر القوى المتجبّرة التي غمست يدها حتى المرفقين بدماء جميع المظلومين المكافحين في العالم)[7].
ويقول في نداء له بمناسبة بدء أسبوع التعبئة الجماهيرية: (يا مستضعفي العالم انهضوا وأنقذوا أنفسكم من مخالب الظالمين، المجرمين، ويا مسلمي العالم الغيارى استيقظوا من سبات الغفلة، وحرروا الإسلام والبلدان الإسلامية من مخالب المستعمرين وعملائهم)[8].
وفي نداء لحجاج بيت الله الحرام، يقول الإمام: (دافعوا حيثما كنتم عن إسلامكم ووطنكم وقاوموا عدوكم المتمثّل في أميركا والصهيونية العالمية والقوى الكبرى الشرقية والغربية، ولا تأخذكم في ذلك لومة لائم)[9].
وفي مكان آخر، وفي نداء لحجاج بيت الله الحرام: (أيها المسلون المؤمنون بحقيقة الإسلام، انهضوا، ووحّدوا، صفوفكم تحت راية التوحيد، وفي ظل تعاليم الإسلام، واقطعوا أيدي القوى الكبرى الخائنة عن بلدانكم وثرواتكم الوفيرة، وأعيدوا مجد الإسلام، وتجنّبوا الاختلافات والأهواء النفسية فإنكم تملكون كل شيء.. اعتمدوا على الفكر الإسلامي، وحاربوا الغرب والتغرّب، وقفوا على أقدامكم، واحملوا على المثقفين الموالين للغرب والشرق، وجددوا هويتكم)[10].
إنّ المحاور التي تحرّكت عليها صور خطاب الإمام الثوري هذه هي:
1ـ الدعوة إلى المبادرة الثورية.
2ـ الدعوة إلى الوحدة الإسلامية ونبذ الاختلافات.
3ـ محور مقاومة الصهيونية، أو محور فلسطين.
4ـ محور مقاومة التغريب والقوى الغربية والشرقية.
5ـ محور العودة إلى الذات الفكرية الإسلامية الأصيلة.
وواضح أنّ هذه المحاور هي جزء من مجموعة المحاور التي تتحرّك على أساسها مبادئ ومفاهيم الثورة الإسلامية في إيران.. ولكن هل أنّ الخطاب الثوري الذي جسّد هذه المحاور من خلال تعاطيه مع الشعوب، جسّدها بنفس القوة عندما تعاطى مع الأنظمة السياسية أو من يمثّلها.. أم أنها اندثرت تحت ضرورات المجاملة الدبلوماسية التي يفرضها التعاطي مع (الدولة).
وللإجابة، لابدّ أن نعود ثانية لخطاب الإمام، الذي يمثّل خطاب الثورة أو مقياسها الأعلى، ولنقف على بعض نصوصه الموجّهة إلى تلك الأنظمة، أو إلى بعض رموزها السياسية، يقول الإمام في حديث له أمام وزير خارجية تركيا: (إنّ الأجواء المفتعلة في بلدان الشرق أدّت إلى أن تكون المظاهر الغربية هدفاً ينشده شباب الشرق, حتى إنّ بعض هؤلاء الشباب ضحّوا بكل كيان أمتهم من أجل الغرب وهذه الهزيمة الروحية أفظع من كل هزائمنا)[11].
وفي حديث للإمام أمام سفراء البلدان الإسلامية في عيد الفطر المبارك: (إننا عندما نقول بأننا نريد أن نصدّر ثورتنا إلى جميع البلدان الإسلامية.. بل إلى كافة البلدان التي يسيطر فيها المستكبرون على المستضعفين، فإننا نريد إيجاد وضع كهذا... أي وضع تنتفي فيه الحكومات الظالمة المجرمة ويزول فيه العداء بين الشعب والحكومة)[12].
وفي نص ثالث للإمام أمام سفراء سوريا في طهران جاء ما يلي: (كل ضعف في المسلمين، وكل فساد في الدول الإسلامية، نابع من الحكومات. إنّ الحكومات ـ بسبب أنانيتها ـ تقف أمام الأجانب كالعبيد، وأمام شعوبها كالمتسلّط، وروح العبودية هذه وروح التسلّط، خلقتا كل المفاسد في الدول الإسلامية.. والحل هو بِيَد الشعوب، وعلى الشعوب أن تعامل الحكومات التي تعمل ضد مصالح الإسلام والمسلمين نفس المعاملة التي عامل بها، الشعب الإيراني الشاه المخلوع)[13].
وفي نص رابع يقول الإمام مخاطباً وزير الخارجية السوري: (لو اجتمع المسلمون وأدلى كل واحد منهم بدلو من الماء لتشكّل سيلٌ أزال إسرائيل، ومع ذلك فهم ضعفاء في مقابلها، إنّ في ذلك للغزاً وهو علمهم بأن مصلحتهم في اتفّاقهم ووحدتهم، فلماذا لا يتحرّكون لذلك؟ فمتى يحلّ هذا اللغز؟ وعند من؟ ومن الذي سيحلّه غير دول الإسلام والمسلمين؟)[14].
أربعة نماذج من أحاديث الإمام مع رموز للأنظمة السياسية القائمة تكرر نفس المفاهيم الثورية والمبادئ التي عكستها النصوص الأولى التي كان الإمام يخاطب الشعوب فيها.. والخطاب في كلا الحالتين يتطابق أولاً في قوة الدعوة إلى المبدأ الثوري الذي يدعو إليه الإمام ويمارس هذه الدعوة بنفس الوضوح، ويتحرّك على نفس المحاور التي هي في حديثنا هذا: التغريب، الوحدة الإسلامية، الفكر الإسلامي، فلسطين... ولا يوجد فاصل سلبي أو فجوة بين الحالتين في قوة طرح المفهوم والمبدأ الإسلامي.. إنها إذاً صفة الثبات التي ينفرد بها خطاب الثورة.. حيث يعبّر هذا الخطاب عن نفسه بنفس القوة حينما يوجّه إلى الشعوب أو إلى الحكومات.
على أية حال، لقد كانت الوصية نموذجاً للخطاب الثوري.. وفي إطار(الثبات) جاء فيها: (وأما وصيّتي للشعوب الإسلامية فهي: أن اتخذوا حكم الجمهورية الإسلامية والشعب الإيراني المجاهد نموذجاً وقدوة لكم، وضعوا حدّاً بكل قوة لممارسات حكوماتكم الجائرة إن هي رفضت الانصياع لمطالب الشعوب، وهي كمطالب شعب إيران، فالحكومات التابعة للشرق والغرب هي علّة مسكّنة المسلمين).
إنّ هذا النص يكرّر الدعوة إلى الثورة، ولأن الوصية خارجة عن صور المخاطبة التقليدية ينعدم فيها عنصر المقارنة الذي اعتمدناه لبلورة عامل (الثبات) المتقدّم في (جسم) الخطاب الثوري العام لدى الإمام، ويتبلور هذا الثبات من خلال مقارنة (الوصية) ذاتها, وهي تدعو إلى المبادرة الثورية مع الخطاب الثوري ممثّلاً بتصريحات ونصوص الإمام أيام حياته، وهي تدعو الشعوب كذلك إلى ذات المبادرة الثورية، فحتى عندما يرحل الإمام عن الحياة لا تهتزّ اللغة الثورية التي يتحدّث بها, وواضح أنّ الخطاب الثوري الذي اتّصف بالثبات كصفة من صفاته اختزن التعددية الأسلوبية، ولم يختزن التعددية المضمونة المتناقضة، كما أنه خطاب لم يعط خصوصية لمرحلة معيّنة من الثورة على حساب مضمون المبادئ الثورية، ولم يخضع لمنطق التأويل أو التفسير أو الضغط السياسي، فالضغط لا يزيده إلاّ إصراراً وتأكيداً على مبادئه الأساسية، وإذا كان لنا أن نقف على نماذج من نماذجه الرافضة لتطويعه على أساس الضغط والابتزاز، فيمكن أن نأخذ هذا النموذج من مثال الموقف من المرتد (سلمان رشدي)، وإذ إنّ قضية(سلمان رشدي) وكتابه(آيات شيطانية) جاءت بعد قبول الإمام الخميني بالقرار 598 لإيقاف الحرب بين إيران والعراق، ولقد خيّل للدول الغربية الكبرى أنّ هذا القبول أنهى عهداً من عمر الدول الإسلامية، وبدأ عهداً جديداً، يتّسم بالضعف العسكري الذي سينعكس ضعفاً على ثورة الإمام الخميني، وخطابه الثوري وقد خيّل للغرب أنّ فتوى الإمام بإعدام هذا المرتد وفّرت له أرضية مناسبة للابتزاز والضغط على الثورة والإمام، لإنهاء مصداقية الثورة، ولذا جاء الموقف الغربي قاسياً في سياق الرد على فتوى الإمام، حيث سحبت دول السوق الأوروبية المشتركة سفراءها من إيران دفعة واحدة، وذلك في محاولة للضغط من أجل سحب الفتوى، ولكن عندما بدأ واضحاً أنّ هذا الضغط لم ينجح في الوصول إلى أهدافه الأوروبية، قررت هذه الدول إعادة السفراء إلى إيران.
لنرى الإمام الخميني كيف واجه هذا التراجع الغربي، بأية لغة وبأي خطاب؟ وقبل ذلك لنرى الإمام كيف واجه محاولة الخطوة الأوروبية الضاغطة برمّتها؟
يقول الإمام الخميني حول قضية المرتد(سلمان رشدي) ما يلي: (إنه لطريف جداً ومثير جداً أنّ هؤلاء الذين هم في الظاهر متمدّنون ومفكّرون عندما يجرح كاتب مرتزق بإبرة قلمه المسموم مشاعر أكثر من مليار إنسان مسلم, ويستشهد عدد في سبيل ذلك فإن هذا ليس مهماً، بل إنّ هذه الفاجعة هي عين الديمقراطية والتمدّن، أما عندما يجري الحديث عن تنفيذ الحكم وتطبيق العدالة فإنهم يقيمون مناحة الرأفة وحب الإنسان.
إننا نستنتج حقد دنيا الغرب ضد العالم الإسلامي والفقاهة من هذه اللقطات.
إنّ هدف هؤلاء ليس الدفاع عن شخص, بل هدفهم الدفاع عن تيار معاد للإسلام والقيم. وهذا ما حرّك المحافل الصهيونية والإنجليزية والأميركية وجعلهم يضعون أنفسهم بسرعة وحماقة ضد العالم الإسلامي كله).
ويحلل الإمام الخميني أهداف الغرب الأخرى ويواصل الكلام قائلاً: (لا ضرورة أبداً أن نهتمّ في هذه الظروف والأجواء بعلاقات وروابط واسعة، إذ قد يتصوّر الأعداء أننا أصبحنا نهتمّ بالعلاقة معهم والحاجة إليهم بحيث أننا نسكت ولا نحرّك ساكناً عند إهانة معتقداتنا ومقدساتنا الدينية، أولئك الذين ما يزالون يعتقدون ويحللون أننا كنّا بسطاء في سياستنا ومبادئنا الدبلوماسية، وأنه ينبغي أن نعيد النظر فيها وأن لا نكرر الأخطاء السابقة، ويعتقدون أنّ شعارات الحرب الحادّة بسبب إساءة ظن الغرب والشرق بنا، مما أدّى في نتيجته إلى انزواء البلد، ولو أننا كنّا اعتمدنا سياسة واقعية لكانوا عاملونا معاملة إنسانية وكانوا احترموا الإسلام والمسلمين كما احترمناهم)[15].
من خلال هذه النصوص يمكن أن نتلمّس عنصر الثبات في خطاب الإمام الخميني على أساس المرحلة، فخطابه بالشعار والمصطلح والمضمون لا يتلوّن بلون مرحلة معيّنة، كمرحلة الحرب العراقية ـ الإيرانية، ليعلن بعد انتهائها لوناً آخر؛ وذلك لأن هذا الخطاب قام على أسس كافية من الوعي بخلفيات المواجهة مع الغرب، وعلى النوايا السيئة لأكلة العالم، كما يسمّيهم الإمام، وإذاً فخطاب وشعارات مرحلة الحرب هي ليست استثناءً في الخطاب الخميني العام.
ولا يمكن أن يقال عنها: شعارات تعبوية طارئة. ولقد جاء تحليل الإمام في هذه القضية ليساهم بشكل حاسم في فرز القناعات ووضع النقاط على الحروف، ودحر المراهنات الساذجة التي كانت ترى أنّ المواجهة مع الغرب قد انتهت مع الحرب، وأنّ الخطاب الثوري سيتغيّر إلى ما يوائم العهد الجديد، وجاءت قضية المرتد سلمان رشدي لتضع اللمسة اليقينية على بعض القناعات المرتبكة، بأن خطاب الإمام لا يتحرّك مؤشّره المضموني قوةً وضعفاً بناءً على مرحلة معيّنة، بل هو كتلة مضمونية ذات إيقاع مبدئي واحد في المصطلح والشعار، إنه خطاب لا يتأثّر بالمرحلة كما مرّ في مثال (سلمان رشدي)، ولا يتأثّر بالمرحلة كما أثبت من خلال أحداث عديدة مرّت بها الثورة الإسلامية، فهو أيضاً قبل وبعد نجاح هذه الثورة، عبّر عن نفسه بمفهوم الكتلة المضمونية السابق ذات الإيقاع الواحد، فلم يناور في معركة كسب الوقت للتأسيس، إنما هو كان قبل وبعد نجاح الثورة يسير بوتيرة إيقاعية واحدة.
ولكن وقبل أن نعزز هذا الشكل من أشكال الثبات في الخطاب الثوري للإمام الخميني لابدّ أن نعود إلى مثال المرتد(سلمان رشدي)، فماذا قال الإمام بعد عودة سفراء المجموعة الأوروبية إلى طهران؟ هل أنّ الإمام قابل هذا التراجع الأوروبي بليونة خطابية من نوع ما؟
للإجابة نعود للخطاب، حيث إنّ الإمام على الفور ـ تعليقاً على هذا التراجع كما نشرته الصحافة الإيرانية والعربية[16] ـ ونقلاً عن وكالة الأنباء الإيرانية قال: (إنّ سفراء دول المجموعة الأوروبية يعودون إلى طهران مجللين بالعار، إنهم يرجعون اليوم مهانين مجللين بالعار نادمين على ما فعلوا، وربما أنّ دول المجموعة الأوروبية لم تكن تتوقّع هذا الخزي والعار في محاولة تحقيق هدفها المشؤوم) وأضاف الإمام: (إنّ ثورة الشعب الإيراني هي نقطة البداية للثورة الإسلامية العالمية العظمى، وعلى المسؤولين الإيرانيين أن يربطوا الأحزمة وألا يتوقّفوا عن الجهاد في مواجهة فساد الرأسمالية وعدوانية الشيوعية، فنحن ما نزال في الخطوات الأولى للصراع العالمي مع الغرب والشرق).
ومن هنا، ينسجم الخطاب الثوري للإمام مع نفسه، فهو قبل وأثناء وبعد قضية المرتد(سلمان رشدي)، يتحرّك بإيقاع متصاعد في تبيين مفاهيمه الثورية، ولا يقع في الجمود أو الانزواء تحت ثقل الابتزاز السياسي، وضغط المرحلة.
وعودة إلى شكل الخطاب قبل وبعد نجاح الثورة الإسلامية، فثبات الخطاب في ذلك المقطع الزمني له دلالات مهمة أيضاً من حيث ما تفرضه عادةً مرحلة التحوّل من الثورة إلى الدولة من ضرورات لكسب الوقت، في إشاعة الهدوء وبداية التأسيس وانعكاس ذلك على الخطاب الثوري.
لنقف على نماذج هذا الشكل من أشكال الثبات.
يقول الإمام الخميني في بيان له: (في يومنا هذا تقوم كل من الصين الشيوعية والتي تدّعي الثورية والشعبية وأميركا مثال الاستكبار العالمي، وروسيا مصدر الكذب والرياء، وبريطانيا العجوز بدعم الشاه ضد ثورة ونهضة شعبنا المطالب بالحرية والاستقلال، لكنّي على يقين كبير بأن انتصار شعبنا حتمي وقريب بإذنه تعالى)[17].
وبعد يومين يقول الإمام: (يجب أن يكون هدفنا الأول والأخير هو قطع يد الأجانب والمستعمرين وعملائهم الخونة وعلى رأسهم الشاه)[18]. كان الإمام يقول: (لقد وقفنا دائماً مع الثوار الفلسطينيين ضد إسرائيل ومواقف الشاه ولم نتوان عن تقديم أي دعم للثورة الفلسطينية على مرأى ومسمع شعوب العالم).
إنّ محورين أساسيين يركّز عليهما الإمام من خلال هذه النصوص، وهما: مقاومة الدول الكبرى والتنديد بدورها، ومناصرة القضية الفلسطينية ومقاومة(إسرائيل) الغاصبة، لنأخذ كذلك نماذج لهذا الخطاب بعد الانتصار.
يقول الإمام في اليوم الذي أعلن فيه عن يوم القدس العالمي: (إنّ يوم القدس يوم عالمي لا يختصّ بالقدس، بل هو يوم مواجهة المستضعفين للمستكبرين، إنه يوم مواجهة الشعوب التي رزحت طويلاً تحت نير الظلم الأمريكي وغير الأمريكي)[19].
وهذا النص الذي قيل بعد الانتصار يجمع المحورين: محور مقاومة الصهيونية، ومحور مقاومة الدول الكبرى معاً، وهو نص يوضّح الثبات في الخطاب الثوري قبل وبعد انتصار الثورة الإسلامية. ومن هنا يمكن القول: إنّ خطاب الإمام بقي ثابتاً في المضمون والمبادئ الثورية بمجمل الأشكال والمستويات التي تبرز معنى هذا الثبات:
1ـ إنه خطاب ثابت في مضمونة الثوري الفكري والسياسي عندما يتحدّث إلى الشعوب أو إلى الدول والجهات الرسمية.
2ـ ويعكس الثبات في هذا المضمون قبل وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران.
3ـ وهو ثابت بمعنى أنه لا يقع في (ضرورات) المرحلة فيضطر إلى المناورة أو التأجيل في عرض أهدافه الثورية، كما في مثال الحرب العراقية ـ الإيرانية.
4ـ هو خطاب يسير على وحدة مضمونية ثورية قبل وبعد أي ابتزاز وضغط سياسي خارجي، كما في مثال قضية المرتد(سلمان رشدي).
5ـ وهو ثابت المضمون منذ إرهاصات الولادة الأولى له، وحتى الوصية السياسية الإلهية[20].
المفردة الثورية
ونحاول أن نقف الآن على ثابتة جديدة من ثوابت الخطاب الثوري ألا وهي ثابتة تمييز الخطاب من خلال المفردة ذات المضمون الثوري الخاص أو المضمون القرآني أو الأيدولوجي الخاص، فالإمام لم يكتف بإقصاء استعارة مفردة الآخر، بل إنه حاول أن يؤسس للخطاب الثوري الإسلامي من خلال تأسيسه للمفردة، انطلاقاً من موقع هذه المفردة في المنظومة الثقافية الكلية، بشقّيها الثقافي الإسلامي، والثقافي التبعي الذي يريد الإمام إقصاءه من واقع الحياة الإسلامية، وانطلاقاً من شمولية الرؤية التي تفرض لوناً من ألوان الصرامة في وضع حدود التبعية، وإطلاق الإشارات حتى على الأمور الجزئية، دون الاكتفاء بالكليات والتعابير العريضة لمفهوم التبعية.
يضاف إلى ذلك أنّ الإمام وهو يمارس تأسيس الخطاب، يحاول أن يوجد شخصية ثورية وثقافية وفكرية لهذا الخطاب، وسط عالم فكري وسياسي معقّد ودقيق في صياغة خطابه ومفرداته، وبالتالي فإن هذه الشخصية أو الهوية لا تتمّ إلاّ عبر المفردة القرآنية أو المفردة الثورية التي تحمل مدلولاً أيديولوجياً, أو تنطوي على إيحاء فكري أو تحقيق مفهوماً ثقافياً، وبالتالي فإنها ترسم نسقاً من الدلالات أو الإشارات التي تعطي الخطاب لونه وتحدد هويته الثقافية، فلذا جاءت مفردة الاستكبار كإسم للقوى الدولية الكبرى الظالمة في اللغة الثورية للإمام كاستعارة قرآنية، فهذه الدلالة التاريخية هي ضرورية التحقيق كأسلمة خطابية؛ لأن هذا الخطاب مثلما يحاول أن يحقق حضوراً فكرياً، فهو يحاول أيضاً أن يحيل إلى الخلفيات التاريخية لهذا المضمون الفكري وطبيعة دوره التاريخي.
بالتأكيد إنّ هذا الحضور المكثّف لمفردة الاستكبار في خطاب الإمام الثوري لم يكن حضورياً عفوياً, بل إنه حضور تقتضيه شخصية الخطاب المبدئية أو الثقافية، وكذلك الحال بالنسبة إلى مفردة الاستضعاف، فهي الأخرى مفردة قرآنية، تحقق إحالة الخطاب الثوري إليها بالإضافة إلى المضمون القرآني، ضمن نسق تفكيري تقتضيه الثقافة القرآنية أولاً، وفهم خلفيات المواجهة القائمة بين الإسلام من جهة وأعدائه من جهة أخرى ثانياً.
وهنالك دلالة أخرى لا تقل أهمية عن الدلالات المذكورة في مفردتي الاستكبار والاستضعاف وهي دلالة تشخيصية لواقع حالة الاستكبار وحالة الاستضعاف، إذ إنّ القوى الدولية المتجبّرة إنما تمارس القهر والظلم انطلاقاً من صفة الاستعلاء على الإرادة الإلهية، وليس جهلاً بهذه الإرادة، وهذا المعنى يحيل إلى آليات فهم طبيعة هذه القوى تماماً مثلما تتحقق هذه الآليات الفهمية في حالة الاستضعاف عندما تأتي كنتيجة لهذا النوع من أنواع القهر الطاغوتي.
إنّ هذه الإحالات للمفردة التي تأتي في الخطاب الثوري لدى الإمام هي تأسيس لشخصية هذا الخطاب، وهكذا يتّضح هذا التأسيس عندما نمرّ مروراً سريعاً على عدد محدد من المفردات التي دخلت في اللغة الثورية لدى الإمام كمفردة(الطاغوت)، أو مفردة( الأخلاق)، أو مفردة (المعنويات)، وما إلى ذلك من مفردات, فلكل مفردة هنالك إحالة أو إشارة أو دلالة تصبّ إما في تأصيل الاتجاه الفكري، أو الاستفادة من الاستدلال التاريخي، أو أنها تؤدّي عملية كشف آخر، أو أنها تحقق وظيفة توازنية لهذا الخطاب بين ما هو معنوي وما هو سياسي، وعليه فإن المفردة في هذا الحالة قد تحقق بنية مضمونية صغيرة تنتمي إلى بنية أكبر من بنى هذا الخطاب المضمونية، وبهذا الشكل يحقق الخطاب الثوري لدى الإمام الخميني هدفه على مستويات متعددة.
فمفردات مثل الأخلاق أو المعنويات أو الروحانيات عندما تتكثّف في الخطاب الثوري لدى الإمام, أو عندما تسجّل حضوراً بمستوى من المستويات، فإنها تشير أولاً إلى أزمة الخطاب الآخر مهما كان فكرياً أو سياسياً أو ثقافياً، فتؤدّي مهمة الكشف، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإنها تؤدّي مهمة أو دوراً توازنياً بين ما هو مادي ومعنوي في بنية الخطاب الإسلامي الثوري ذاته، ونعني بالتوازن هو التوازن المفهومي للمفردات، أو أنّ هذا الوجود يحيل إلى مفهوم خطير عملت عليه القوى الكبرى العدوّة للإسلام وأدواتها المحلّية، ألا وهو مفهوم فصل الدين عن السياسة، أو عندما تأتي مفردة الأخلاق في سياق السلوك السياسي ضمن الخطاب فهي قد تحيل في بعض الأحيان إلى ضرورة أخلقة السياسة، كَرَد على أشكال السياسة الانتهازية والنفعية والمصلحية والذاتية التي تسود عالم اليوم، دون أن تحسب حساب الأخلاق.
من هنا تتضح الرؤية الكلّية للإمام الخميني، ويتّضح جانب الشمولية في التفكير, فهو في موضوع التبعية لا يتحدّث عن التبعية الفكرية أو الثقافية أو الاقتصادية أو العلمية فحسب, إنما هو يلاحق التبعية إلى المفردة، أو المصطلح ليعمل على إزاحتها, مثلما يلاحق التقليد والتبعية في مجال آخر إلى الزيّ واللباس، أو إلى الأسماء، أسماء الأشخاص أو الشوارع أو المحلاّت.. وبالتأكيد فإن الإمام عندما ينزل إلى أصغر الجزئيات، فإنه من ناحية أخرى يسعى إلى التأسيس.. تأسيس أدوات النهوض الإسلامي وأدوات المشروع الإسلامي والأدوات الأساسية العامة، وكذلك الأدوات الفرعية الصغيرة، وفي سياق هذا التأسيس تجد المفردة أو المصطلح مكانهما في البناء الكلّي في الخطاب الثوري, مثلما يحتل هذا الخطاب مكانه في المشروع الإسلامي الذي سعى الإمام الخميني إلى بلورة مقوّماته من خلال حياته السياسية.
وفي سياق هذا الفهم للمفردة الثورية الإسلامية لابدّ لنا من الوقوف على نماذج من خطابات الإمام الخميني، إذ يقول: (إنّ قوات التعبئة هي الشجرة الطيّبة ذات الثمار التي يفوح من براعمها أريج ربيع الوصل وطراوة اليقين ووجدية العشق، قوات التعبئة هي مدرسة العشق والشهود والشهداء المجهولين التي ينادي السائرون على نهجها بآذان الشهداء والاستبسال، قوات التعبئة هي ميقات المستضعفين ومعراج الفكر الإسلامي الطاهر الذي يُربّي جنوداً مجهولين، قوات التعبئة هم جند الله الخفي الذي ضمّ سجله أسماء كافة المجاهدين من الأولين والآخرين، إنني أغبط قوات التعبئة دائماً على خلوصهم وصفاء قلوبهم واسأل الله أن يحشرني وإياهم، إنه لمن دواعي فخري واعتزازي أن أكون في هذه الدنيا أحد أفراد هذه القوات.
إنني أؤكد ثانية لكافة أبناء الشعب الإيراني العظيم وكافة المسؤولين أنه لمن ذروة السذاجة أن تظنّ في الحرب أو زمن السلم أنّ القوات المتجبّرة في العالم وخاصة أميركا وروسيا سيكفّون عنّا وعن الإسلام العزيز، وعلينا أن لا نغفل ولو للحظة كيد الأعداء؛ ذلك أنّ الكيد والعداوة للإسلام المحمدي الأصيل تتأصّل في فطرة أميركا وروسيا، يجب علينا التسلّح بسلاح الصبر والإيمان الفولاذي؛ للوقوف بوجه الفتن وسيل الآفات, حيث يجب على الشعب الذي يسير في خط الإسلام المحمدي الأصيل مقارعة الاستكبار ونبذ حب المال..إلخ).
إنّ هذا النص النموذج من خطاب الإمام الخميني الثوري يوقفنا على عدد كبير من المفردات الإسلامية الثورية التي تؤشّر كل واحدة منها إلى مجموعة من المفاهيم والمضامين المختلفة والموحّدة في آن معاً، مختلفة في مجالاتها، وموحّدة في رسم الهوية الثقافية للخطاب الثوري. ومن هذه المفردات: (الاستكبار)، (المستضعفين)، (اليقين)، (العشق)، (الشهادة)، (ميقات)، (معراج)، (الإسلام المحمدي الأصيل). فكل واحدة من هذه المفردات والمصطلحات لها إشارة ثقافية أو إشارات مختلفة في إطار مفهومي واحد.
الشعار الثوري
نحاول أن نقف هنا على ثابتة جديدة من هذه الثوابت، ألا وهي ثابتة الشعار الثوري كجزء من وحدات الخطاب البنيوية الشكلية وكمضمون ثوري فكري.
فالشعار الثوري، بمعنى الجملة الثورية أو العبارة الثورية التي تبلور هدفاً أو موقفاً أو حالة في السياق الحركي ضمن الخطاب، وبالتالي يمكن مجازاً أن نقول عنه: إنه عنوان ثوري من عناوين الخطاب يقوم بمهام ويسعى إلى تحقيق أهداف مختلفة في حركة المشروع الإسلامي، أهداف ثابتة، وأهداف متحرّكة.
لقد امتازت الثورة الإسلامية في إيران وخطابها الثوري بطرح مجموعة كبيرة من الشعارات الثورية، رددها جمهور الثورة في المناسبات العامة والمؤتمرات وتجمّعات صلاة الجمعة والجماعة والمظاهرات، ومن هذه الشعارات:
1ـ الموت لأميركا وللاتحاد السوفييتي.
2ـ لا شرقية لا غربية، جمهورية إسلامية.
3ـ فليسقط الشاه.
4ـ الاستقلال، الحرية، الجمهورية الإسلامية.
هذه عيّنة من الشعارات الثورية التي شكّلت عناوين للمواجهة، وتعبيرات صارمة للخطاب الثوري لدى الإمام الخميني.
وعملياً فإن الشعار الثوري يقوم بوظائف متعددة, ويسعى إلى أهداف متحرّكة وثابتة، ففي مجال الوظائف:
1ـ يقوم بمهمة تكرارية لمضمون الشعار السياسي أو الفكري أو الثقافي العام، تكرار يبرز أهمية العبارة الثورية التي تشكّل هذا الشعار في المنظومة المفاهيمية للثورة، وهذا التكرار يؤدّي إلى ترسيخ تلك المضامين في الوعي الثقافي العام لتلك المجاميع البشرية التي تردده.
2ـ وهو غالباً ـ أي الشعار الثوري ـ يقوم بوظيفة تعبوية أو تحريكية مطلوبة في محطّات المسار الثوري.
3ـ ويقوم بوظيفة كشف التفاعل القائم بين المضمون الثوري الذي يختزنه الشعار وبين القلوب والأيادي والحناجر الهاتفة به والمرددة له.
4ـ وانطلاقاً من ذلك هو يؤدّي بالنتيجة إلى كشف آخر لقوة الحركة الثورية العامة أمام خصومها، وهذا هو الآخر مطلوب في صياغة الموقف النفسي للثورة، أو الموقف النفسي لخصومها.
5ـ كما أنّ الشعار الثوري قد يوظّف بغية تحقيق هدف ثوري مرحلي أو استراتيجي؛ يوجّه الجهود الثورية نحو تحقيقه، كما يتّضح جانب الهدفية مثلاً في شعار إسقاط الشاه, أو في شعار لا شرقية لا غريبة بشكل أكبر من بعض الشعارات الأخرى.
إنّ فلسفة إبراز وصياغة الشعار الثوري في بنية الخطاب الثوري للإمام حقق أهداف بشكل ناجح، وأدّى دوره على أكثر من صعيد، وإنّ هذا الشعار كان مهماً في تشكيل وعي الحشود المليونية التي تحوّلت إلى ظاهرة في حياة الثورة الإسلامية في إيران قبل وبعد انتصارها، إذ إنّ الملايين أو عشرات الملايين في بعض الأحيان من الحناجر الهاتفة بالشعار الثوري، كانت تعطي هذا الشعار مفعولاً سحرياً في بعض الحالات في دلالاته التعبوية، أو أنها ترسم لوناً من ألوان القدسية الهدفية التي تنتج حماساً وإصراراً في المسيرة الثورية نحو تحقيق كل أهدافها.
ولا يخفى أنه بفعل هذه القدسية وهذا الوقع السحري فإن هنالك العديد من الشعارات الثورية المرحلية, أو ذات الطابع المرحلي أو الاستراتيجي قد تحققت، كشعار إسقاط الشاه، وشعار سياسة لا شرقية ولا غريبة, أو شعار الجمهورية الإسلامية التي تحوّلت إلى حقيقة.
لقد كان الإمام الخميني يرصد الشعار الثوري في إطار ما حقق أو يحقق من الأهداف, مثلما هو أبرز فلسفة الشعار بشكله الذي لا يحقق فقط المضمون الإسلامي فحسب، بل بشكّله أيضاً, الذي يمثّل مجموعة إجابات لحاجات مرحلة المواجهة.
لاحظ الإمام ماذا يقول في هذا المجال. يقول في خطاب تاريخي له لعلماء وطلبة وأساتذة الحوزة العلمية: (كنّا مأمورون بأداء تكليفنا وواجبنا، ولسنا مأمورين بالنتيجة، لو أنّ كل الأنبياء والمعصومين(عليهم السلام) كانوا مكلّفين في زمانهم ومكانهم بالنتيجة لما كان ينبغي أبداً أن يتحدّثوا عن أهداف تفوق استطاعتهم، ولا أن يتطرّقوا أبداً لذكر الأهداف العامة طويلة الأمد التي لم تتحقق أبداً في حياتهم الظاهرية، في حين أنّ شعبنا تمكّن بلطف الله الكبير أن يحقق إنجازات في أكثر المجالات التي رفع شعاراتها).
ويضيف الإمام الخميني قائلاً: (نحن لمسنا عملياً آثار شعار( إسقاط الشاه) وقد زيّنا بعملنا شعار( الحرية والاستقلال)، نحن شاهدنا عملياً شعار (الموت لأميركا) في قيام شبابنا الثوار والأبطال المسلمين باحتلال وكر الفساد والتجسس الأميركي، نحن اختبرنا شعاراتنا عبر الممارسة العملية)[21]. هكذا إذاً يسير الشعار لدى الإمام الخميني وفق انطلاقة وتكوين وفلسفة ومن ثم اختيار، أي في بعض الأحيان هناك ما يعطي الشعار مصداقية مرحلية مطلوبة، حتى وإن كان يصبّ في بُعد من أبعاده في رؤية إستراتيجية بعيدة المدى.
وأخيراً فإن هذا الشعار لدى الإمام يقرأ على صعيد النتيجة عبر العملية الاختبارية. وربما أنّ مروراً سريعاً على وصية الإمام الخميني الإلهية في سياق الخطاب العام، يشكف ذلك في تجسيد مضموني لواحد من هذه الشعارات، حيث يقول في وصيته: (إنني أوصي هنا الشعوب الشريفة المظلومة والشعب الإيراني العزيز الذي منّ الله عليهم بهذا الصراط المستقيم الإلهي، صراط عدم الارتباط بالشرق الملحد ولا الغرب الكافر أن يظلّوا أوفياء لهذا النهج، وأن لا يغفلوا لحظة عن شكر هذه النعمة)[22].. وفي نص آخر من نصوص الوصية المباركة يقول الإمام الخميني: (نصيحتي المشفقة لكم أيها الفتيان والشباب في الداخل والخارج هي أن ارجعوا عن طريق الخطأ واتّحدوا مع محرومي المجتمع الذين يخدمون الجمهورية الإسلامية بكل وجودهم واعملوا من أجل إيران حرة مستقلة)[23].
وهذا النص هو الآخر يجسّد في المضمون شعاراً من شعارات الثورة وخطابها، إذ مثلما جسّد النص الأول شعار( لا شرقية ولا غريبة جمهورية إسلامية)، جسّد النص الثاني شعار(استقلال، حرية، جمهورية إسلامية)[24].
إنّ الشعار الثوري لدى الإمام الخميني يختزن ويختزل المضمون الكلّي للمشروع الإسلامي بدلالاته السياسية والفكرية والحضارية، مهما كان المجال الذي يتحرّك فيه هذا الشعار، كعبارة أو جملة ثورية مضغوطة.
فشعار(لا شرقية، لا غربية، جمهورية إسلامية)، يختصر المشروع النهضوي الإسلامي، أو المشروع الثوري الإسلامي بكل دلالاته، ويرتّب أو يحيل إلى معظم الدلالات وما يرتبط منها بمفهوم التبعية بكل أنواعها، وهو بالتالي يمكن أن يقال عنه: إنه عنوان مركز للخطاب الثوري لدى الإمام، كما أنه عبارة ثورية مركّزة ينزل المشروع برمّته متجاوزاً مستوياته العليا إلى التمثّل بها، وهكذا الحال بالنسبة إلى معظم شعارات الثورة التي تضمّنها الخطاب الثوري للإمام، فأي شعار إذا لم يكن قادراً على اختزان المضمون الكلّي للمشروع، فهو يختزن بالتأكيد الجزء الأكبر من هذا المضمون، ومن خلال فلسفة الشعار هذه وآلياته وشبكة العلاقة التي تربطها بالمنظومة المفاهيمية للثورة والمشروع الإسلامي، تتضح قوة هذا المشروع وقوة الذهنية التي بلورته.
إذاً كيف نفهم الخطاب كشعار ومصطلح ومفردة، تشكّل امتداداً للأدبيات الإسلامية، ونصوص الفكر الإسلامي، من النص القرآني والنص الحديثي، والنص الفقهي، وبما يصوغ اللغة الثقافية والثورية المعاصرة ذات الشخصية والخصوصية، وذات المضمون الفكري الذي يشكّل أساس المشروع الإلهي؟ لقد عكس الإمام الخميني وضوح الإسلام كرسالة ونص، على خطابه الثوري، ونزل بهذا الوضوح إلى مستوى المفردة والمصطلح والشعار، ولقد فتح الإمام الخميني لأول مرّة أمام رجال الفكر الباب لترشيد هذا الخطاب، وصياغة وحداته من المفردة، والمصطلح والشعار، صياغات محكمة، ولا سيّما أنّ الثورة الإسلامية اجتازت مرحلة من التحدّي والتجربة والاجتهاد الثوري بما أفرز بعض المصطلحات والشعارات التي كانت بحاجة إلى ترشيد وتصويب فكري وثقافي.
بصدد وضوح مصطلح(المستضعفين) مثلاً الذي أشاعه الإمام وأدبيات الثورة الإسلامية وانتمائه إلى المشروع الإلهي يقول أحد الكتاب:
(إنّ المصطلح السياسي لجماعة من الجماعات يجب أن ينسجم مع المصطلح الأخلاقي والمصطلح الثقافي والمصطلح اللغوي والفقهي، وعلى هذا الأساس لم يكن بوسع أي مصطلح مرادف لمصطلح المستضعفين مثل كادحي أو بروليتاريا عمال أو فقراء أن ينوب عن هذا المصطلح الشامل الدقيق، في التعبير عن حركة الصراع داخل المجتمعات وعلى امتداد التاريخ البشري، فحتى مفردتا(محرومين) والـ(مساكين) مع أنهما قرآنيتان فهما في سياق شبه مشخّص, ولا تعبّران بوضوح عن حالة سياسية.
فبدل أن تنصّب الماركسية زوراً وبهتاناً نفسها ممثّلة لهذا الجانب الكبير من الناس وتفرض قاموسها ومصطلحها الناقص، جاءت الثورة الإسلامية المباركة لتعرّي زيف هذه الماركسية وغيرها, وتسحب البساط من تحت أرجل كل الذين يحاولون المتاجرة بمتاعب الناس وإنسانية الناس, وربما تكفينا نظرة واحدة إلى ستين سنة من وجود الماركسية بين أبناء شعبنا دون أن يفهم مصطلح بروليتاريا رجل واحد أو أمرأة واحدة, حتى من الذين فقدوا فطريتهم وتشوّهوا وتبعوا واعتبروا أنفسهم حزبيين.
وغني من هذا القول: إنّ مصطلح بروليتاريا الذي أطلق إبّان الثورة الصناعية في أوروبا بالتحديد (العمال الصناعيين) بعيد كل البعد عن حياتنا وعن شعبنا, لجهة الظروف التاريخية والاجتماعية التي تربّى عليها عقلنا الجمعي ومعاييرنا ومثلنا)[25].
لقد استنبط الإمام للأمة الإسلامية الخطاب الذي يمثّل وجدانها الفطري وخطّها الديني، وترى من خلاله ذاتها الفكرية والثقافية والتاريخية، وما مفردة الاستضعاف القرآنية مقابل مفردة البروليتاريا الماركسية إلاّ نموذج يعكسه النص المتقدّم من آلاف المصطلحات والمفردات التي يسهر ما يسمّى العقل النخبوي على نقلها وترويجها في القاموس الثقافي والمصطلحي الغربي إلى ساحاتنا الإسلامية، يوماً بعنوان الفكر الماركسي، ويوماً آخر بعنوان الحداثوي الفوضوي، وليس الحداثوي الذي يشكّل المعنى الطبيعي لسنّة التطوّر والتحديث في الحياة، وكل ذلك على حساب طمس الشخصية الإسلامية، وهويتها الثقافية، وانتمائها الفكري، وربطها بعجلة الخضوع والتبعية، ولعل الإثارة التي يثيرها النص المذكور، من أنّ أفراد الأمة الإسلامية ولسبعين سنة لم يتعاطوا مصطلح البروليتاريا، على رغم وجود الأحزاب الشيوعية والماركسية في العالم الإسلامي طوال تلك الفترة، تدلل على قوة انتماء هذه الأمة في العمق إلى دين وتراث وحضارة وفكر وثقافة تشكّل بالمجموع حالة من الانتماء إلى المشروع الإلهي لم تتفجّر بعد بكامل أشكالها.
يقول محمد حسين فضل في هذا الإطار:
(إنّ الثورة الإسلامية قد استطاعت أن تحدد للجماهير المفاهيم الأساسية الحقيقية للأشياء في نطاق الكلمات القرآنية التي استخدمها القرآن للتعبير عنها, حتى كادت أن تتحوّل إلى مصطلحات إسلامية تحدد للشخص هويّته من خلال استعمالها في حديثه، فكان أن ابتعدت أو كادت تبتعد الكلمات المرتبطة باتجاهات أخرى، عن اللغة الشائعة للناس في حديثهم عن الواقع، فأصبحنا نسمع كلمة( المستضعفين) تعبيراً عن الفئات المحرومة المسحوقة الضعيفة التي لا تملك من أمرها شيئاً أمام المتكبرّين الذين يملكون أعلى الامتيازات التي لا يستحقونها، أو المتسكبرين الذين يحاولون أن يعطوا لنفسهم ذلك أو يتظاهرون به، وبرزت في الساحة كلمة (الطاغوت) تعبيراً عن الطغيان في مواقع السياسة والاجتماع والاقتصاد وتحرّكت كلمة (الشيطان) في نطاق النماذج الشيطانية اللاعبة بمصائر الأفراد والمجتمعات في الداخل وفي الخارج في تعبير(الشيطان الأكبر) عن الاستعمار و(الشيطان الصغير) عن عملائه).
ويضيف السيد فضل الله قائلاً: (وبذلك أصبح الجو الداخلي في اللغة الشائعة جواً إسلامياً في تقييم الواقع وفي حركة الشعارات التي تؤكد على قضية المستضعفين في الأرض وإذلال المستكبرين، وإبطال حكم الطاغوت وتدمير مواقعه بدلاً من كلمات الطبقية والبرجوازية والرأسمالية والكادحة وغيرها مما لا نتنكّر لمدلوله من حيث طبيعة المعنى، ولكننا نشعر بأنها ولدت في غير الأجواء الإسلامية، وتحرّكت في خطوط فكرية معيّنة تتمثّل في رموز غير إسلامية من جانب الفكرة والمسار والهدف.. وعادت للكلمات الإسلامية حيويتها ونظارتها وفاعليتها بعد أن أبلاها الزمن غير الإسلامي وجعلها في متاحف الكلمات البائدة حتى كان استعمالها يوحي بالشفقة والرثاء من خلال نظرة التقدّميين الذين يحاولون الإيحاء بأن حركة التاريخ في مدلولها الفلسفي والاجتماعي لا تسمح بعودة هذه الكلمات؛ لأنها لا تسمح بعودة الأفكار التي تعبّر عنها وتدلّ عليها.
وقد توفّرت الثورة الإسلامية في هذا الاتجاه على إبعاد الكلمات غير الإسلامية المحمّلة بمفاهيم قانونية وسياسية واجتماعية تختلف عن المفاهيم الإسلامية، وذلك مثل كلمة(الديمقراطية) التي أصبحت من الكلمات المألوفة المحببة لدى المسلمين حيث اتخذت لنفسها داخل أفكارهم صفة تلتصق بالشخص أو الأسلوب لتعبّر عنها)[26].
ونعود إلى ضرورة تقصّي المصطلح ودراسته وتهذيبه بما ينقل شخصيته، إذ البعض يرى أنّ الاجتهاد الثوري في اندفاعات المواجهة التي عاشها الثوار، لم يكن بالضرورة قد أفرز شعاراته كلّها بدقّة التصويب الثقافي والفكري المطلوبة، ولا سيّما أنّ هنالك عدداً من الشعارات المرحلية التي يجب أن تصاغ على امتداد الإسقاطات الثقافية الأصلية، لم تراعَ فيها الدقّة الكافية.
ويخوض الدكتور(سمير سليمان) ـ مثلاً ـ بحثاً مطوّلاً حول مصطلح(الحرب المفروضة) لإثبات أنّ هذا المصطلح، هو مصطلح هزيل، ولا يعكس الشخصية الفكرية والثقافية للمصطلح الإسلامي.
فيقول: (لكنا نتحفّظ على صيغة المصطلح بأبعادها الإيديولوجية والسياسية والثقافية لأنها هزيلة البنية وضعيفة الحجّة والتأثير داخل العالم الإسلامي وخارجه)[27]، ويعني الدكتور سليمان مصطلح (الحرب المفروضة)، وهو بعد ذلك يستنتج من خلال البحث أنّ مصطلح (الحرب الدفاعية) أكثر تحقيقاً للحق الإسلامي على مستوى الطرح الدولي، وأكثر ربطاً وارتباطاً من مصطلح (الحرب المفروضة) بالأصول الفكرية.
ومهما يكن من أمر فإن إحدى الثمار العظمية للخطاب الثوري للإمام الخميني، هي ليست فقط بلورة شخصية هذا الخطاب وشخصية المفردة والمصطلح والشعار الإسلامي الثوري فحسب، إنما إثارة وعي المفكرين، ودفعهم للمساهمة الفعّالة في رصد الحركة الثورية وترشيدها في كافة المجالات، ومن ثم إثراء اللغة الثورية وتهذيبها، ولا سيّما أنّ حساسية هذا الجانب تتبلور بدرجة أكبر في خطاب الثقافات الأخرى الرائجة في عالم اليوم، ودقّة الصياغات التي يقوم عليها هذا الخطاب، في إظهار اللباس الإنساني والحقوقي المزيّف، وتأتي هذه الحساسية أيضاً، حساسية الخطاب بصورة عامة، والشعار والمصطلح والمفردة بشكل خاص، من تداخلها في أبعاد سياسية وحقوقية وإعلامية متعددة, فبإمكان دقّة المصطلح أو الشعار أن تعرقل أو تدفع المسيرة الثورية الإسلامية، عندما تتمثّل هذه المسيرة في قضية ما، أو تهدف إلى حالة تعبوية، أو تمارس دوراً إثباتياً معيّناً.
وإذا كان مصطلح شعار(حرب الدفاع عن الإسلام) ومصطلح (جيش الدفاع عن الإسلام) ومصطلح (حرس الثورة الإسلامية) إذا كانت هذه المصطلحات ـ كما يقول أحد المفكرين السياسيين ـ:
(الخاضعة لشعارات مقدسة أو المعبّرة عنها لا تكفي حاجات حركة فكرنا السياسي ومسار مشروعنا الإسلامي الكبير في العالم، فلا تزال أدبياتنا القرآنية والتاريخية ونصوص أئمتنا وقادتنا، على مدى تاريخ حربنا مع الباطل حافلة بالمزيد من تلك المصطلحات الأصيلة أو التي يمكن استنباطها من نصوص القرآن أو من توليفات فقهائنا ومفكرينا، أين من دقتّها وعمقها وإحاطتها بعض أو كثير من مصطلحاتنا/ شعاراتنا الحالية)[28]. وهكذا يفتح الإمام الخميني أبواب النهضة الإسلامية على مصراعيها، ويطرح المشروع الإسلامي بكل مفرداته؛ ليقرأ المفكرون الإسلاميون التجربة الثورية وهذه المفردات ويثروها بحثاً وإنضاجاً.
التكرار .. وتكثيف المعنى الثوري
نقف الآن على الموقف المكرر والعبارة المكررة في الثورة كخطاب قيادي مثّل الإمام من خلال أحاديثه وتصريحاته الصورة الأوضح والأكثر تمثيلاً لها، فمن الواضح أنّ العبارة الثورية والنداء الثوري أو المفردة الثورية التي تحثّ الآخرين على التحرّك والإفلات من القيود السلطوية لم تتعرض للإحباط في خطاب الإمام الذي لم يكن يتردد عن تكرارها.
ذلك التكرار الذي يبدو للوهلة الأولى وكأنه زائد عن الحاجة أو يبدو وكأنه خيار مفروض أو ملازم لأي لغة ثورية.
كما أنه يحتاج لممارسته إلى صبر استثنائي، لا سيّما في ظل عدم الاستجابة الفورية لثورية الخطاب، .
إلاّ أنّ إحدى عشرة سنة من عمر الثورة الإسلامية في إيران أظهرت أنّ ذلك التكرار أسراراً لا يفقهها إلاّ من يفقه أسرار القيادة، فالوعي الثوري لا يتشكّل بين عشيّة وضحاها، فلكي يتحوّل هذا الوعي هذا إلى قرار حركة رافضة للظلم فإنه يحتاج إلى وقت كبير.
ولكي تصل هذه الحركة إلى حالة النضج والشمولية وعلى مستوى التأثير والتهديد... تهديد المواقع الرسمية الانحرافية.. سيتضاعف هذا الزمن.
وعليه فإن أي تفكير قيادي منطقي يطمح إلى تثوير المنطقة والعالم الإسلامي لابدّ أن يتحلّى بالصبر والمثابرة وطول النفس والابتعاد عن منطق التسرّع في جَنْي الثمار.. وقد يقول قائل: بأن ذلك هو سنّة العمل الدولي أو الحركي الطوعي, أو المفروض بحكم الظروف التي يتعرّض لها أي نظام أو حركة.. ونحن نقول: إنّ الصبر والمثابرة اللذين يقعان في الإطار الدافعي أو بالأحرى الحفاظ على النفس، يختلفان عن الصبر الثوري إذا صحّ التعبير.. الصبر على تكرار المفردة أو العبارة الثورية الحاثّة للآخرين على الثورة.
إنّ عدم الاستجابة لهذه المفردة والعبارة لابدّ أن ينعكس على أي خطاب على شكل تراجع وإحباط أو تأجيل للتعاطي بالعبارة الثورية على أقل تقدير.
لكن هل أجلّ الإمام الخميني عبارته الثورية في مقطع زمني من مقاطع خطابه الثوري؟
إنّ تكرار العبارة الثورية تحوّل إلى سمة أساسية من سمات خطاب الإمام، وثابتة من ثوابته، ويمكن القول: أنها الثابتة المحور أو الأساس التي يقوم عليه بناء الخطاب العام، فكل صفات وثوابت هذا الخطاب الأخرى كانت ممزوجة بالعبارة الثورية، أو بمعنى أكثر تحديداً العبارة الداعية إلى رفض النظام السياسي العالمي المفروض بقوة الحديد والنار على العالم الإسلامي. هكذا إذاً يأخذ التكرار معناه الإيجابي، أو ربّما يتحوّل إلى سر من أسرار القيادة وشروط نجاحها.
فكما أثبتت سنوات قبل الثورة، أنّ عملية الوعي السياسي لا تتشكّل عبر مفردة عاطفية واحدة، أو عبر دفعة وضوح لحقيقة الموقف العالمي المستغل للساحة الإسلامية، أو عبر تكرار محسوب لهذه الدفعة على شكل حدثي أو خطابي.
فإن عملية الوعي تحتاج إلى وقت طويل إذ هي أشبه بالخبرة التي تأتي عبر الممارسة أو لاتأتي إلاّ عبر تراكم النداء الثوري، والحدث الثوري الشارح لهذا النداء، والذي يشكّل مصداقاً له.
كما أنها ـ أي عملية الوعي ـ تخضع من ناحية أخرى لشروط وظروف متفاوتة بين نقطة ونقطة أخرى من نقاط العالم الإسلامي الجغرافية، فلربما أنّ مستوى الوعي ودرجة الانحراف الاجتماعي وقوة القيود الإرهابية المفروضة على هذه النقطة، كلها أسباب ترتبط ـ أولاً ـ بعملية تكوين الوعي الثوري، وترتبط ـ ثانياً ـ بتحويل هذا الوعي إلى قرار ثوري، ولربما أنّ البداية التكوينية للوعي الثوري قد تأسّست مع تاريخ انتصار الثورة.
وربما رافقت هذا التأسيس محاولات تحويل لهذا الوعي سريعة أو غير ناضجة إلى قرارات ثورية، لكن القانون الطبيعي والحركة الطبيعية للثورة بشروط خطابها (التكرارية) حددت فواصل زمنية بين وصول أي نقطة من نقاط العالم الإسلامي إلى الانفجار المحسوب, أو العفوي وبين زمن الانتصار في بهمن.
فبين انفجار الجنوب اللبناني وانتصار الثورة في إيران هنالك فاصل زمني تكويني لعملية الوعي المطلوبة في لبنان.
وبين الانتفاضة الفلسطينية وانتصار الثورة هنالك فاصل زمني تكويني ايضاً.
وهذه الفواصل كما قلنا: تخضع لشروط ذاتية مرتبطة بنقطة الانفجار، وظروف طارئة تتعرّض لها هذه النقطة, بالإضافة إلى مفعول تكرار العبارة في خطاب الإمام الثوري في تشكيل أساس الوعي وعمليته التي تحتاج إلى تراكم حدثي وزمني.
الخطاب الثوري ـ كما قلنا سابقاً ـ هو الأساس النظري في المشروع الإسلامي الخميني، وفي مواصلة الحديث عن ظواهره تأتي ظاهرة التكرار، تكرار المبادرة الثورية، والدعوة الثورية فيه، دون كلل أو ملل، إذ إنّ هذه الظاهرة، وبدلاً من أن تصاب بالضمور إزاء إحباطات المسيرة الجهادية، فهي تتكثّف وتتركّز في هذا الخطاب بشكل تصاعدي؛ وهذا التصاعد حتى وإن بدا ضبطه وتلمّسه عملياً أمراً صعباً، إلاّ أنه يتبدّى بالنهاية كمحصلة مرئية من محصّلات الخطاب الكلية، أي: أننا إذا ما سلّمنا بمبدأ تكرار الدعوة الثورية في الخطاب، وحاولنا أن نرصد مؤشّر صعود التمسّك بهذه الدعوة، وليس التَرَهّل فيها، فسنجد صعوبة في انتقاء المقياس الدقيق لقياس هذا الصعود، إلاّ أنّ نصوص الإمام في آخر حياته تعدّ مقياساً مقبولاً، ليس فقط لبلورة التكرار كمبدأ، وإنما لرصد صعود التمسّك بهذا المبدأ. ولبيان ذلك عملياً لابدّ أن نعود إلى آخر نص من نصوص الإمام قبل رحيله إلى الملكوت الأعلى؛ لنقف على هذا التكرار وصعوده، وهو نص الوصية، كنص أخير، في حياة الإمام.
يقول الإمام الخميني في وصيته المباركة ما يلي:
ـ (إنّي هنا أوصي الشعوب الشريفة المظلومة والشعب الإيراني العزيز الذين منَّ الله عليهم بهذا الصراط المستقيم الإلهي، صراط عدم الارتباط بالشرق الملحد ولا بالغرب الظالم الكافر أن يظلّوا أوفياء لهذا المنهج بكل صلابة واستقامة والتزام وثبات).
ـ (إنني أوصي جميع الأجيال، الحاضر منها والآتي، إذا أردتم أن يستمر الإسلام وحكومة الله وأن تقطع يد المستعمرين والمستغلّين الداخلين والخارجين من بلدكم فلا تضيّعوا هذا الدافع الإلهي الذي أوصى الله به في القرآن الكريم).
ـ (ووصيتي للمسلمين وخصوصاً الإيرانيين سيّما في عصرنا الحاضر أن يتصدّوا لهذه المؤامرات ويقوّوا انسجامهم ووحدتهم بكل طريق ممكن؛ ليزرعوا اليأس في قلوب الكفار والمنافقين).
ـ (يجب أن يجهض شعب إيران اليقظ والواعي هذه المؤامرات بالرؤية الإسلامية، ولينهض الخطباء الملتزمون لمؤازرة الشعب؛ ليقطعوا أيدي الشياطين المتآمرين).
إنّ هذه النصوص تأخذ قيمتها التكرارية، كونها تمثّل عيّنة صغيرة من عشرات النصوص التي جاءت في الوصية الإلهية السياسية للإمام، لا من حيث تكرار الدعوة فقط إلى حفظ مبادئ الثورة الإسلامية والدفاع عن قيمها فحسب، بل من حيث انتمائها للوصية، كآخر كلام للإمام قبل أن يودّع الحياة، يتداعى حرصاً وصبراً ثورياً وتكراراً مكثّفاً ومقصوداً للمفهوم الثوري والدعوة إلى التمسّك به، أما كيف نعرف قصدية التكرار وأهميتها؟ لابدّ من أن نعود إلى الوصية ثانية، يقول الإمام في وصيته المباركة:
ـ (كوصية للجيل الحاضر والأجيال العزيزة القادمة أعرض بعض المسائل، وإن كانت تكراراً، سائلاً الله الرحمن أن يمّن عليّ بخلوص النية في هذه التذكيرات).
ـ(ومن مؤامراتهم الكبيرة، كما تقدّمت الإشارة وذكرت مراراً السيطرة على مراكز التعليم والتربية خصوصاً الجامعات، حيث إنّ مقدرات الدول بأيدي شبابها).
ـ (ووصيتي إلى الحوزات العلمية المقدسة هو ما عرضته مراراً، أي: أنه في هذا الزمان الذي عقد فيه أعداء الإسلام والجمهورية الإسلامية العزم على إسقاط الإسلام، وهم يعتمدون كل طريق ممكن لتحقيق هذا الهدف الشيطاني).
ـ (من الأمور الهامة جداً والمصيرية مسألة مراكز التعليم والتربية من دور الحضانة حتى الجامعات ولأهميتها الاستثنائية أكرر ذكرها).
ـ (مرة أخرى في نهاية هذه الوصية أوصي شعب إيران الشريف أنّ حجم تحمّل المشقّات والآلام والتضحيات وبذل الأرواح والحرمان من العالم يتناسب مع حجم عظمة الهدف وسموّه وعلو مرتبته).
إنّ الإمام الخميني، وهو يسطّر حروف وكلمات هذه الوصية المباركة، يضع منذ البدء ملاحظته بأن هذه الوصية، هي نص مكرر من حيث المفاهيم والمضمون، وفي السياق العام للوصية يكشف هذا الإيحاء بالتكرار مع الكثير من فقراتها، وإذا كان لهذه الملاحظة وهذا التكثيف من معنى فمعناها يرتبط بقصدية التكرار، كأسلوب له أسبابه المرتبطة بتركيز الوعي، وبمبدأ التذكير الذي هو مبدأ قرآني، يجسّده الخطاب القرآني، كدلالة على أهمية التذكير ومفاعيله في انتشال السلوك الإنساني من انحرافاته.
وأخيراً فإن التكرار هو في الخطاب الثوري تعبير حي عن الإصرار الخميني في مواصلة المسيرة الثورية، وهو أقصى أنواع الصبر، ويمكن القول: إنه الجهاد الأكبر عندما يكون أداءً للتكليف والخروج من مخاطر الدنيا وإغراءاتها، وحيث يقول الإمام في وصيته: (إنني وأنا أصعّد أنفاس آخر عمري وعملاً بالواجب أعرض للجيل الحاضر والأجيال القادمة شطراً مما له دخل في حفظ هذه الوديعة الإلهية وبقائها وشطراً من الموانع والأخطار التي تهددها).
لقد تجاوز الإمام بحور الكلام الواجب، ليصل إلى كلامه الأخير أداءً لهذا الواجب، وفيما بين بداية الكلام الثوري ونهايته آلام تحرق الكبد، إلاّ أنّ الإمام تجاوزها بصبره اليقيني.
ولنمض في وسط هذا الكلام الخميني، ما بين أول الخطاب وآخره لنقتطف عيّنات من آلام الإمام الثورية وخطّه الثوري.
يقول الإمام: (إنني لعاجز عن إبداء مشاعري القلبية، إنّ قلبي تعتريه حالة من الضغط والغليان، منذ أن اطّلعت على الدسائس والمؤامرة الأخيرة وعلى ما يداهم البلاد، لقد تبدّلت حياتي بأسرها وإنّ نومي لقليل، وقلبي عليل، أصبحت كئيباً حزيناً، إنني انتظر الموت ساعة بعد أخرى)[29].
وبعد 35 عاماً من هذه الكلمات والعبارات وفي خطابٍ تاريخي له للحوزات العلمية يقول الإمام: (إنّ الغصص التي تجرّعها أبوكم الشيخ من هذا النوع المتحجّر لم يتجرّع مثلها أبداً من غيرهم)[30].
هاتان اللقطتان من خطاب الإمام يشيران إلى نوع المتاعب والغصص والآلام التي اعتصرت قلب الإمام, ولكن دون أن تهزّه أو تعوق مسيرته الجهادية الثورية؛ وذلك لأن الصبر الثوري الذي تحلّى به الإمام لأداء مهامه هو ملازم أو مرادف لدرجة اليقين العليا، وإسقاطاتها على لغته الثورية، فالقضية تتعلّق(بالمائز النوعي الذي امتاز به الإمام, وهو قدرته على اصطناع لغة عرفانية إسلامية أصيلة تتجاوز حالات الوجد الوصفي المنعزل والفردي إلى مقام الجمع بين الوحدة والكثرة في الوجود.
بكلام أوضح، استطاع الإمام، وعلى نحو فذ وفريد في تاريخ العرفان الإسلامي الأصيل أن يمزج بين روحية العرفانية ومشاكل وقضايا الناس والمجتمع، والحقيقة أنّ هذه القدرة لدى الإمام ما كانت لتكون لولا ذوبانه المطلق في الإسلام فكراً وممارسةً وتاريخاً ونصّاً وروحاً وشهادةً وغيباً)[31].
إنّ أصل الصبر الثوري والجهادي الذي مارسه الإمام الخميني هو من هذا الذوبان في الغيب ومن هذه الدرجة اليقينية التي تزول في ظلّها الحواجز والحجب عن نور الله سبحانه وتعالى.
وأصل التكرار في خطاب الإمام الثوري هو من هذا الصبر الحقيقي في إحياء الإسلام المحمدي الأصيل، ومقاومة أشكال الإسلام المزيّفة, ونفاق فريق الرافعين لشعار القداسة والقدسية وخبثهم ودسائسهم التي يصف الإمام آلامها بالقول: (إنه لم يتجرّع مثلها أبداً) لا من أميركا، ولا من شاه إيران، ولا من مصاصي دماء العالم، وأكلة الشعوب المستضعفة.
هكذا يتكثّف التكرار تبعاً لفلسفة الصبر؛ ليأخذ شكله في المفهوم الثوري من أصله العقائدي العبادي، الصبر على الطاعة وأداء الفرائض، والصبر على ترك المعصية وهجرانها، وهذان الصبران جسّدهما الإمام الخميني من خلال الممارسة الثورية، كأداء للتكليف، ومن خلال الخطاب الثوري كأداء آخر.
ولقد تقصّد الإمام في إبراز التكرار في خطابه كأسلوب من أساليب الإصرار على الفكرة الربّانية، وتقصّد الإشارة إليه؛ لأنه يدرك أنّ القوة النفسية، والقوة المعنوية والروحية خاضعة في تكويناتها ونموّها وتصاعدها إلى التكرار، تكرار الفريضة صوماً وصلاةً وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر وجهاداً، وفي تعبيراته النظرية والكلامية، وباختصار تكرار الفكرة والدعوة إليها في الكلام والخطاب الثوري، وتلك مدرسة القرآن والخطاب القرآني الذي يكرر الفكرة، ويدعو إليها بصياغات مختلفة ومناسبات مختلفة، وبخلاف ذلك فإن الخطاب سيتحوّل إلى شظايا من المفاهيم التي لا جدوى لها، وكما يقول هربرت. آ. شيللر: (على أنّ الأحداث ذات المغزى تحتاج لاستيعابها فترة من الزمن) وإنّ (الانشغال التام باللحظة يدمّر الروابط بالماضي) ويضيف شيللر: (إنّ من السهل أن نتخيّل نوع التصميمات الالكترونية التي تستخدم فورية المتابعة بوصفها إضافة وإكمالاً لبناء سياقات ذات معنى، لكننا لا نستطيع أن نعتقد بنفس السهولة أنّ فورية المتابعة، بوصفها أداة تضليل، سوف يتمّ التخلّي عنها في الوقت الذي تخدم فيه سائسي العقول من خلال إعاقتها الفعالة للفهم الشعبي)[32].
ويوضّح كلام شيللر هذا في كتابه( المتلاعبون بالعقول) أهمية التكرار أو إحالة الحدث الطارئ واليومي إلى أصوله الكلّية في إفهام الشعب وتثقيفه، بخلاف سائسي العقول الذين يمارسون الخطاب الإعلامي بمعناه اللحظوي الطارئي.
ولابدّ من الإشارة إلى أنّ الصبر كقيمة إسلامية عظمة اتخذ طابعاً سلبياً(نتيجة لأوضاع التخلّف في العالم الإسلامي، فأصبح الصبر عبارة عن الاستكانة وتحمّل المكاره بروح اللامبالاة، وعدم التفاعل مع قضايا الأمة الكبيرة وهمومها العظيمة) كما يقول السيد الشهيد محمد باقر الصدر.
ويضيف: (ولن تستطيع الأمة أن تحقق نهضة شاملة في حياتها ما لم تغيّر مفهومها عن الصبر, وتؤمن بأن الصبر هو الصبر على أداء الواجب وتحمّل المكاره في سبيل مقاومة الظلم والطغيان, والترفّع عن الهموم الصغيرة من أجل الهموم الكبيرة)[33].
وهذا هو بالتحديد الصبر الخميني الذي مارسه وعمل له وتبدّى بشكل واضح جداً صبراً ثورياً من خلال صفة التكرار ودلالاتها في الخطاب الثوري.
الوضوح
إنّ خطاب الإمام كان في ثابتة من ثوابته أو في صفة من صفاته واضحاً في المفردة ويسيراً في الاستيعاب، وجامعاً لكل الاعتبارات التي ترتبط بمستوى المخاطب الفكري والثقافي والسياسي.
أي أنه خطاب يهدف إلى تغطية كل المستويات الثقافية المخاطبة؛ لأنه موجّه إلى الشعوب أكثر من غيرها, فهو بدرجة من السهولة الاستيعابية بحيث أنّ أي إنسان حتى الأمّي الذي لا يعرف القراءة والكتابة يستوعب ما يصبو إليه هذا الخطاب, ويتقبّل مفرداته دون عناء أو حاجة إلى موضّحات خارجية, ويفهم عبارته كما لو أنها لا تستفزّه بتعقيدات الألفاظ والمصطلحات العلمية والأجنبية التي غالباً ما تميّز الخطاب الفكري والثقافي والسياسي والثوري للرموز الفكرية الأخرى الإسلامية وغير الإسلامية.. إنه خطاب ينسجم في بساطة المفردة اللغوية التي يقوم عليها من مكانة العلماء لدى الشعوب.. حيث تذوي التعقيدات والإحساسات السلبية التي غالباً ما تميّز علاقة الشعوب برجال السياسة العلمانيين، وحيث تسقط كل الحواجز النفسية ويطغى المناخ التفاهمي بديلاً لها في العلاقة بين الشعوب والعلماء ورجال الدين والتبسيط, أو سهولة المفردة اللغوية التي تميّز الخطاب لغوياً لدى الإمام لا تعني شيئاً سوى أنها فن خطابي, يصل إلى درجة الامتياز الخاص والخاص جداً، أي ما يسمّى بـ(السهل الممتنع) الذي يمكن استيعاب محتواه ومقاصده بسهولة, لكن ليس بالإمكان العمل به كطريقة خطابية أو كمذهب خطابي.. إذ هو يحتاج إلى أرضية تكوينية فكرية وثقافية خاصة وشروط وعي خاصة أيضاً.
ومهما يكن من أمر فإن أهل اللغة يدركون أسرار ذلك أكثر مما ندركه نحن.. ولكن يبقى الإمام وبالإضافة إلى كل ما تقدّم حريصاً على إبقاء خطابه الثوري ممثّلاً لأصالة الفكرة الإسلامية التي يؤمن بها, ونابذاً لكل أشكال تطعيم الخطاب بالمصطلحات الأجنبية التي تحمل معها ظلاًّ ثقافياً تبعياً، والتي تضفي طابعاً تعقيدياً على النص الخطابي إلى الدرجة التي يكون من الصعب معها جداً استيعاب معناه اللغوي, أو يبقى هذا الخطاب حكراً في استيعابه على طبقة معيّنة إن لم يكن على نخبة ثقافية محددة، وهذا ما يفقد الخطاب مساحة كبرى من الوسط الجماهيري ويعدم فاعليته فيه، وبالتالي فإنه يقلّص من دائرة أهدافه الثورية أو أنه يسقط مادة هذه الأهداف البشرية.
إذاً تجاوز خطاب الإمام كل الإشكالات التي يمكن أن تحوّله إلى لون من ألوان الخطاب الجامد الدائر في حدود نخبة معيّنة ليست هي مادة الثورة، حتى ولو كانت هي الصانع النظري لَمْا يمكن أن يساهم في استقلال الأمة أو تبعيتها، واختار الإمام الطريقة التي تلبّي الحاجة إلى تحريك الشعوب ولولا هذه الطريقة لَمْا كان للثورة الإسلامية أن تكون، فهذه الثورة مدينة في جزء منها إلى خطاب الإمام الثوري ودرجة وضوحه التي استطاعت أن تطرح بسهولة كلما يدور من أشكال ظلم واستغلال داخلي وحالات صراع لا يمكن لذهنية الشارع أن تحيط بأسرارها ما لم تخاطب بمفردة واضحة.. ولولا هذا الوضوح الخطابي لما استطاعت الثورة أن تسجّل هذا التأثير الذي سجّلته حتى الآن في العالم الإسلامي والعالم بأسره، فخطاب الإمام لا يحتاج إلى واسطة أو أداة تفسيرية؛ ولذا فإن فعله في الوسط الشعبي كان مباشراً وسريعاً وكبيراً, ثم إنّ وضوح هذا الخطاب تحوّل إلى ضمانة من ضمانات الثورة, كمشروع عالمي يطمح إلى إنقاذ المظلومين من أسر القوى الطاغوتية, وتحرير الإنسانية المعذّبة وتوحيدها تحت لواء الإسلام.
كما أنّ الوضوح الطاغي على أي نص من نصوص خطاب الإمام سواء تمثّل بالوصية أو الأحاديث الأخرى أسقط الحاجة الاستشهادية بهذا النص هنا.
الشمولية
من الواضح أنّ خطاب الثورة الإسلامية قبل وبعد الانتصار كان في ثابتة من ثوابته يجسّد البعد الاهتمامي الشمولي للعالم الإسلامي.. وهذا الخطاب الذي يلخّصه الإمام كان يواجه النظام (الشاهنشاهي) انطلاقاً من مواقفه حيال قضايا العالم الإسلامي ذات الطابع التآمري, أو أنه يعلن الموقف ويردده مباشرة بما يعطيه بعداً شمولياً، وبعد الانتصار لم تشغل أحداث الثورة المتتالية الإمام عن قضايا العالم الإسلامي الأخرى، ولم تدفع به إلى الانكفاء نحو الساحة الإيرانية فقط وإهمال ما يدور في هذا العالم، فبقدر ما كان الخطاب الثوري للإمام يعطيه حقّه, من خلال ما أسميناه بمثابة شمولية الاهتمام به وما يدور فيه من حركة دولية معادية، فإن هذا الخطاب واصل اهتمامه بالساحة الإيرانية وانطلق يخطط أو ينظّر لها من خلال تجربة الانتصار، أو عبر مصيرها كأحد عناصر أرضية التخطيط والتنظير المذكور.
لاحظ الإمام ـ أولاً ـ كيف يتعاطى في قضايا المواجهة من خلال كلامه الذي جاء في أول مؤتمر عقد بطهران لدراسة القضية الفلسطينية، يقول الإمام: (إنّ مشكلة المسلمين، ليست مشكلة القدس وحدها، إذ هي واحدة من مشاكل المسلمين، أليست أفغانستان من مشاكل المسلمين؟! أليست باكستان من مشاكل المسلمين؟! أليست تركيا من مشاكل المسلمين؟! ينبغي أن نفكّر بدقّة في جذور هذه المشاكل التي تعمّ المسلمين ونجد لها الحلول اللازمة)[34].
هكذا إذاً يجب أن نعي موقع أية معالجة لحدث يرتبط بالقضية الفلسطينية أو الأفغانية من خلال خطاب الإمام.
فهذه المعالجة لا يمكن أن تدرج في محور المشكلة الفلسطينية أو الأفغانية مثلاً كثابتة جزئية فقط, إنما هي تترابط مع ثوابت أخرى من ثوابت الخطاب المذكور, على رغم أهمية وخطورة المشكلتين, وعلى رغم تكرار التعاطي بهما بصورة متعددة في خطاب الإمام الثوري وبالأخص المشكلة الأولى.
إنّ هذه المعالجة تنتمي إلى ثابتة أوسع وأشمل هي ثابتة الشمولية في تفكير الإمام المجسّد لشمولية وعالمية الإسلام.
إنّ الإمام راح ينظّر من خلال خطابه إلى ما يحوّل هذه الشمولية إلى مشروع ثوري متكامل يتحرّك خارج إيران على إيقاع الأحداث في داخلها.
ومن هنا فهو يقول: (إننا لا يمكننا فصل أنفسنا عن سائر المسلمين، فكل ما قدّمناه من شهداء ومعوقين ومشرّدين كان من أجل الإسلام.
ونحن لا نعتبر مصير الشعب العربي ومصائر الشعوب الأخرى منفصلة عن مصيرنا ومقدّراتنا.
فالإسلام هو لكل مكان ونحن من ضمن المسلمين، وعلينا أن نحافظ على الإسلام أينما كان، ويتعيّن علينا أن نقوم بواجبنا تجاه الدول الإسلامية التي تفكّر حكوماتها اليوم في إقرار هذا المشروع المضر جداً وتريد فرضه على الجماهير.
إنّ علينا أن نذكّر الشعوب المسلمة والدول الإسلامية بهذا الضرر, وإنني أحذّر الجميع مما في هذا المشروع (مشروع فهد) من خطر على الإسلام..)[35].
كما أنّ الإمام راح يحدّد مفردات هذا التنظير ويضع أطره وقواعده.
والملاحظة أنه حتى في المفردة الواحدة أو الثابتة الواحدة يتداخل الأمر إلى ما يراكب هذه الثوابت بتداخل معانيها ودلالاتها, فتجد أنها توزّعت على مجموعة من المحاور حتى لو كان لها عنوان محوري واحد.
فيوم القدس العالمي كمفردة تنظيرية تتحرّك في خطاب الإمام داخل ثابتة الشمولية وبعنوان القضية الفلسطينية.
هذا اليوم لا يريد الإمام يجعله مقفولاً أو مغلقاً على القضية الفلسطينية كثابتة من ثوابت خطابه, لا بل إنّ الإمام يجد معنى الاهتمام الشمولي حتى داخل هذه الثابتة التي تشكّل نقطة من نقاط البناء التنظيري لأساليب ونظريات المواجهة مع القوى الكبرى وعملائها الإقليميين.
ولنقف معاً على نماذج لهذا المعنى الشمولي داخل الثابتة أو المفردة الواحدة من خلال النص التالي(يوم القدس ليس يوم فلسطين فحسب. إنه يوم الإسلام. يوم يجب أن ترفرف فيه راية الجمهورية الإسلامية في جميع الأقطار يوم نعلن فيه للقوى العظمى أنها لن تتمكّن من التقدم في البلاد الإسلامية. إننا نعتبر يوم القدس يوم الإسلام ويوم الرسول الأكرم(ص) ويوماً لابدّ لنا من تجهيز القوى وإخراج المسلمين من حالة الانزواء ومواجهة الأجانب بكامل قوّتهم في أقطارنا، ولا يجوز للمسلمين أن يسمحوا لغيرهم بالتدخل في شؤون بلادهم)[36].
إنّ هذا الكلام لا يحتاج إلى تعليق أو تسليط للأضواء على معناه الشمولي على صعيد الجهد التنظيري الذي يبذله الإمام في سياقه، حتى من خلال المفردة الواحدة، وينطبق هذا المعنى على مفردة البراءة من المشركين. حيث يقول الإمام في إطارها: (إنّ صرخة براءتنا من المشركين والكفار والظالمين، صرخة أمة ضاقت ذرعاً باعتداءات الشرق والغرب على رأسهم أميركا وأذنابها.. إنّ صرخة براءتنا هي صرخة الشعب الأفغاني المظلوم. إنّ صرخة براءتنا هي صرخة الشعوب المسلمة في إفريقيا.. إنّ صرخة براءتنا هي صرخة الشعبين اللبناني والفلسطيني، إنّ صرخة براءتنا هي صرخة أمة يتربّص الكفر والاستكبار بها ويتحين الفرصة لقتلها ويصوّب بنباله وحرابه نحو القرآن والعترة)[37]. هكذا إذاً من داخل هذه المفردة يحاول الإمام أن يجسّد المشكلة الإسلامية بكل أبعادها, ويغطّي كل نقاطها الجغرافية فيذهب بها إلى لبنان وفلسطين وأفغانستان وإفريقيا.
وهكذا تتضح الصورة الشمولية لخطاب الإمام في إطار المفردة المحدودة, وفي البناء التنظيري الذي تشكّل هذه المفردات والثوابت وحداته العامة.
يوم القدس كان واضحاً من خلال مواقعه في خطاب الإمام في أبعاده الشمولية، ومسيرة البراءة من المشركين هي الأخرى كانت واضحة، وأي نصّ من نصوص الوحدة الإسلامية التي يتعاطاها يجسّد المعنى الشمولي المذكور.
ولا فرق في ذلك بين الخطاب الثوري قبل انتصار الثورة الإسلامية أو بعد هذا الانتصار، وما يمكن أن يقال بعد في هذا المجال هو: أنّ الإمام لم يجسّد الشمولية من خلال الخطاب فحسب, بل إنه نقل النظرية والتنظير إلى واقع ممارسة من خلال مسيرته ومواقفه العملية إزاء العالم الإسلامي.. فدول العالم الكبرى أرادت في واحد من أهدافها أن تحصر اهتمامات الثورة التي قادها في قضاياها الخاصة, وأن تجرّد البُعد العالمي لها عن معناه من خلال إيجاد فجوة بين خطاب الإمام الثوري وبين واقع الممارسة.. كانت الحرب التي فرضت عليها من قِبَل النظام الحاكم في العراق ربما تندرج في هذا الإطار الهدفي للدول الكبرى، وكانت مشاكل الداخل التي تفتعلها هذه الدول تندرج أيضاً في ذلك الإطار.. وكانت هناك جهود دعائية ضخمة تشويهية لحركة الثورة؛ تستهدف إظهارها بالوجه القطري أو القومي.. لكن كل ذلك لم ينجح في إعاقة تحويل ثابتة أو صفة الشمولية في الخطاب الثور إلى ممارسة عملية بعد الانتصار.. كما أنّ كل ذلك دفع الإمام إلى التركيز على بُعد آخر من أبعاد خطابه الشمولي وهو البعد المتمثل بشمولية الصراع بين الجبهة الإسلامية والجبهة الاستكبارية، والذي يحرص الأعداء على تصغيره عبر عناوين محددة.
ولنقف على بعض نماذج هذا اللون الثالث من ألوان الشمولية في خطاب الإمام في حديث له أمام مجموعة من الضباط الحجاج الباكستانيين: (هل تتصوّرون أنّ القضية قضية إيران والعراق وصدام؟ إنّ القضية قضية الإسلام وكل المستضعفين في العالم.. إنهم يريدون تفرقة المسلمين والسيطرة على العالم الإسلامي)[38].
وفي نداء له إلى حجاج بيت الله الحرام: (أيها المسلمون المتضرّعون إلى الله قرب بيت الله أدعو إلى الصامدين بوجه أمريكا وسائر القوى الكبرى، واعلموا أننا لسنا في حرب مع العراق، بل إنّ شعب العراق يساند ثورتنا الإسلامية، نحن في صراع مع أميركا، واليوم فإن يد أميركا تجسّدت في حكومة العراق وسيستمر هذا الصراع بإذن الله حتى نحقق استقلالنا الحقيقي)[39].
وفي مجال آخر يقول الإمام في وصيته(إنكم يا أبناء الشعب المجاهد تسيرون في ظل راية تخفق في أرجاء العالمين ـ المادي والمعنوي ـ وسواء عرفتم أم لم تعرفوا فأنتم سائرون في درب هو وحده درب جميع الأنبياء (عليهم سلام الله) وهو وحده درب السعادة المطلقة ومن أجله يندفع كافة الأولياء لاحتضان الشهادة ويرون الموت الأحمر أحلى من العسل).. ويلاحظ في هذا النص من وصية الإمام الخميني بُعده الشمولي في النظرة إلى الصراع القائم بواقعه الحالي وخلفياته وتاريخه، فالصراع الآني هو امتداد طبيعي لأدوار جهادية مضت ولرسالات سماوية أدّت دورها، ولأنبياء قاموا بمهمّتهم التبليغية لهذه الرسالات، وبالتالي فإنه امتداد لوحدة الهدف النبوي.
وحدة هدف الأنبياء(ع) على رغم الاختلاف في زمن التبليغ ووسيلته وأدواته وخصوصيات المرحلة التي يحصل فيها، ولا نعتقد أنّ تأكيد الإمام هنا على هذا البعد الشمولي في رؤية الصراع وإفرازه في الحرص على توحيد الجبهة الإنسانية المظلومة ضد طغاة الأرض وناهبي شعوبها. إنّ هذا التأكيد لم يكن عفوياً.. إنما هو صورة من صور التعبير عن ثقافة الإمام الوحدوية والتوحيدية وموقع هذه الثقافة في شخصية أية قيادة إسلامية.. إذ لا يمكن لهذه القيادة أن تؤدّي دورها الرسالي دون أن تجسّد الحرص الإسلامي ونصوصه الفكري في توحيد المظلومين إلى ممارسة معاشة ومكررة من خلال السلوك الحياتي، ودون أن تحوّل هذا الهدف التوحيدي إلى عنصر سلوكي أساسي يعبّر عنه مباشرة أو تأتي في (الظل) لأي حديث من أحاديث القيادة الإسلامية..
إذاً ليس الصراع هو بين حالة (متطرّفة) وحالة دولية (عادية) في تعاطيها مع الأمور. إنما (التطرّف) هنا لا يعبّر إلاّ عن إسم أو حجة أو ذريعة في سياق جهود الأطراف العدوّة وهي تمارس إجراءات ومستلزمات التحشيد والتعبئة ضد تيار المظلومين.. حجة تنسجم مع الوضع القائم وتؤدّي نفس دور الحجج التاريخية التي رفعت بوجه الأنبياء (عليهم السلام).
وليس هنالك صراع في التاريخ أو الحاضر دون حجج أو ذرائع ايهامية وتمويهية.
كما ليس هنالك مواجهة دون أسماء وعناوين احتياطية.. والتطرّف هو عنوان (عصري) ضد تيار توحيدي يغوص في أعماق التاريخ.. مع قدم الرسالات السماوية ومع قدم الأنبياء (عليهم السلام).. عنوان ضد مبادئ الأنبياء (صلوات الله عليهم) مثلما كانت مفردتا (الجنون) و(السحر) تمثّل عنوانين في سياق المسيرة الإنسانية وضد الأهداف النبوية أيضاً.
هذا معنى من المعاني التي يثيرها النص المذكور من وصية الإمام فهو يسلّط الضوء هنا على انتماء مسيرة الشعب الإيراني... ومسألة الانتماء إذا كانت واضحة لشريحة من الشعب فإن هذا الوضوح يبقى ذا نسب متفاوتة وذا درجات مختلفة.. كما أنّ هنالك من لا يملك رصيد الوضوح الثقافي المطلوب, ومن هو بحاجة إلى توضيح هذا الانتماء.. ومن هنا يمكن أن نفهم عبارة الإمام التي يخاطب بها الشعب الإيراني (سواء عرفتم أم لم تعرفوا فأنتم سائرون في درب هو وحده درب جميع الأنبياء).
فقد يكون الإنسان مدركاً أنه داخل مسيرة الحق لكن الإدراك متفاوتاً لآفاق هذا الحق وفلسفته وجذوره التاريخية ومداخلات التحدّي الذي يتعرّض له من قوى الباطل.
متفاوتاً بتفاوت الوعي الثقافي والدرجة المعرفية لدى أبناء المجتمع.. فهذا المجتمع ليس حالة وعي واحدة ولا مستوى التزامياً واحداً.
من خلال ما تقدّم يمكن القول:
1ـ الإمام شمولي في خطابه، أي بمعنى أنه يتجاوز الدائرة الوطنية والقومية ويسبح في قلب الدائرة الإسلامية.
2ـ خطاب الإمام شمولي، أي بمعنى أنه يجسّد الشمولية حتى في دائرة الثابتة أو المفردة الصغيرة الواحدة التي تشكّل جزءاً محدوداً من البناء التنظيري العام.
3ـ اللون الثالث من ألوان الشمولية يتجسّد في خطاب الإمام من خلال شمولية الصراع بين الجبهة الإسلامية من جهة والجبهة الدولية المعادية من جهة آخرى.
4ـ أما اللون الرابع.. فهو لون يمتد مع تاريخ هذا الصراع.. وتاريخ المعاناة التي يختزنها.. وربط يضفي مسحة من الشمولية في إدراك أبعاد وخلفية الصراع القائم.
5ـ إنّ الشمولية كما تقدمّت كصفة عامة للخطاب جاءت متجسّدة في الثابتة الواحدة لهذا الخطاب أو في النص الرابط والمجسّد لأكثر من ثابتة من ثوابته.
ــــــــــــــــــ
[1] مجلة المنطلق، العدد 56، 101.
[2] الإمام الخميني. أسرار الصلاة.
[3] في موسم الحج 1407هـ.
[4] في خطاب تاريخي للإمام إلى قوات التعبئة في 22 ربيع الثاني 1409هـ.
[5] الوصية السياسية ـ الإلهية.
[6] قاسم صفا، سر الثورة في خطاب الإمام، المنطلق، العدد(56).
[7] 11 شباط 1980م.
[8] 3 ربيع الثاني 1400هـ.
[9] في 1399هـ.
[10] في 1400هـ.
[11] في 10 حزيران 1979م.
[12] 1400هـ.
[13] 23رمضان 1399هـ.
[14] في 16/8/1979م.
[15] في 21/3/1989م.
[16] في 23/3/1989م، نقلاً عن صحيفة السفير البيروتية.
[17] في 19/9/1978م.
[18] في 21/9/1978م.
[19] في العام 1979.
[20] فيما يخص ثوابت الإمام الخميني يقول د. زهير غزاوي في بحث لمؤتمر الجهاد والنهضة، حزب الله لبنان بعنوان دور إيران الإستراتيجي في الصراع مع الكيان الصهيوني والقوى الكبرى الداعمة له في نظر الإمام الخميني يقول ما يلي: (وقد تمكن الإمام عبر طرحه للفكر الثوري خلال السنوات الممتدة منذ عام 1963 حتى قبيل شباط 1979من صنع ثورة بدت كالمعجزة في العصر الأميركي عبر إيمان جماهير إيران بصوابية هذا الفكر. وإذا استعرضنا حصاد فكر الإمام خلال ستة عشر عاماً فيما يختص بدور إيران في الصراع مع الكيان الصهيوني وأميركا، امكننا استخلاص الخطوط العامة لأساليب العمل التي أنتهجها الإمام بعيد نجاح الثورة وتوليه القيادة، فقد باشر فوراً بالعمل لتحقيق أفكاره على أرض الواقع، ولم يتنازل عن فكرة واحدة منها رغم معرفته بوضع إيران الداخلي وانحلال الجيش النظامي، وإعادة بناء المؤسسات جميعاً على أسس جديدة تتفق والإسلام، ناهيك عن تكييف النظام الإجتماعي برمته مع الأسس الجديدة والحالة الثورية، والاقتصاد المتغير جذرياً إلى آخر ما هنالك من متغيرات ومستجدات.
وإذا نظرنا إلى حالات مشابهة لثورات كبرى في العالم والمنطقة لمسنا أتباع الإمام لنهج مناقض بإطلاق في أساليب العمل، فهو كرجل متمسك بالثوابت بدأ الهجوم فوراً، في حين مارس قادة كبارة غيره أسلوب مهادنة الخصم انتظاراً لاستقرار النظام الجديد، وهو ما فعله لينين، وماوتسي تونغ على سبيل المثال، وهكذا حدد الإمام معسكري الأصدقاء والأعداء مباشرة، وأعلن مجدداً عداءه المباشر للولايات المتحدة الأمريكية(أكبر متحكم في سوق النفط في العالم، وإيران تعتمد جذرياً على هذه المادة) فقطع علاقات إيران مباشرة مع تلك الدول عبر احتلال الجماهير للسفارة الأمريكية عام 1979، وأغلق سفارة (إسرائيل) وأعطاها لمنظمة التحرير الفلسطينية.
وقف المراقبون يومها في حيرة بالغة أمام أسلوب كهذا يتسم بالتناقض مع منطق مصلحة الثورة الناشئة(ظاهرياً)، ولكن العالم الإسلامي والقوى الثورية في العالم بأسره أيدت موقف الإمام).
[21] في 22 ربيع الثاني 1409هـ.
[22] في خطاب تاريخي للإمام بعلماء وأساتذة وطلبة الحوزة العلمية بتاريخ21/3/1989م.
[23] الوصية الإلهية ـ السياسية.
[24] إن (فالمصطلح التجديدي عند الإمام مستوحى من القرآن الكريم وبالتحديد من الآية: > الله نور السموات والأرض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة، زيتونة لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضي ولو لم تمسه نار، نور على نور، يهدي الله لنوره من يشاء، ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم< .
والموقف هنا ليس مجرد موقف سلبي بعدم الانحياز بل هو اختيار وانتماء إلى تلك الشجرة المباركة، شجرة النور الإلهية، وهو ما يشكل المضمون الفعلي لهذا الشعار الأصيل، المتضمن إدراك الذات والهوية لدى الأفراد والأمة، وهذا الإدراك لا يتم من خلال الآخر، بل من خلال تجديد الانتماء التاريخي والثقافي لمبادئها ومعتقداتها. ويؤكد الإمام أن جوهر مبدأ اللاشرقية واللاغربية، إنما يقوم على كونه نوعاً من تجديد لميثاق الكفاح، وتمرين لتنظيم صفوف المجاهدين من أجل مواصلة الصراع ضد الكفر والشرك والوثنية ولا ينحصر أيضاً بالشعار، إذ هو بداية الإعلان عن ميثاق الكفاح وتعبئة جنود الله، أمام جنود إبليس وأتباع إبليس وهو يعتبر من الأصول الأولية للتوحيد).
النائب عبد اله قصير، من بحث بعنوان(التبعية والاستقلال) في فكر الإمام الخميني(قدس سره)، مبدأ اللاشرقية واللاغربية، مؤتمر حزب الله، مصدر سابق.
[25] صحيفة العهد، في 10 ذي الحجة 1404هـ.
[26] مجلة الثقافة الإسلامية، العدد(41) ص 79.
[27] مجلة المنطلق، العدد 50، ص 51.
[28] المصدر نفسه، ص 58.
[29] في أيلول 1964.
[30] في 21/3/1989م.
[31] مصطفى الحاج علي، الإمام ومشكلة التبعية، مجلة المنطلق، العدد(56)
[32] المتلاعبون بالعقول، سلسلة عالم المعرفة ص 39.
[33] الإسلام يقود الحياة.
[34] رمضان 1399هـ.
[35] في 17/10/1981م.
[36] في 22 رمضان1399هـ.
[37] في 1408هـ.
[38] محرم 1401هـ.
[39] في 2/11/1400هـ.
دراسات الكاتب:
الخطاب الثوري.. البنية.. الثوابت.. الملامح[2]
الدول الكبرى.. النظام الدولي..
الغرب والحضارة الغربية خطوط المواجهة.. وشروط التفاعل
التخريب الثقافي والفكري: الجامعة ـ الحوزة
الإمام الخميني والنظام الدفاعي
الجذر المعتقدي للاستشراف الخميني
تعليقات الزوار