وحدة الاستغلال .. ومنهج التعميم

 

كان الخطاب الثوري للإمام في سنوات ما قبل انتصار الثورة يقوم في ثابتة من ثوابته على عدائية الدول الغربية والتشكيك بكل مواقفها إزاء العالم الإسلامي. وتعبئة طاقات الأمة الإسلامية في مواجهتها لا باعتبارها الخصم الأوحد للإسلام في الساحة العالمية, بل باعتبارها الخصم المباشر أو الأكثر تدخّلاً, أو الذي أخذ على عاتقه مسؤولية تفتيت العالم الإسلامي.

 

فالدائرة الأوسع لثابتة العدائية إزاء الغرب هي مقاومة القوى الكبرى والنظام السياسي العالمي الذي فرضته على الشعوب وعلى العالم الإسلامي بطريقة قسرية، فلم تكن بالطبع هذه القوى حيادية إزاء الإسلام بشرقيها وغربيها.

 

إنها قوة قامت نفوذياً ومعنوياً ومادياً على حطام الكيانية السياسية للمسلمين وهي بالتالي مسؤولة بدرجات متفاوتة عن المحنة التي يكابدها هؤلاء المسلمون أي بالضبط مثلما يقول الإمام الخميني في نهضته الأولى ضد شاه إيران أي في 20 جمادى الثانية سنة 1384هـ.

 

يقول الإمام: (أمريكا أسوأ من بريطانيا وبريطانيا أسوأ من أميركا وروسيا أسوأ من كليهما، بعضهم أسوأ وأتعس من بعض, لكننا اليوم متورّطون مع أمريكا.

 

ليعلم الرئيس الأمريكي أنه أبغض إنسان على وجه الأرض في نظر شعبنا؛ لِمْا يمارسه من ظلم بحق شعبنا الإسلامي.

 

القرآن خصمه، وشعب إيران خصمه. لتعلم الحكومة الأمريكية أنها فُضحت في إيران).

 

إنّ هذا الكلام قيل وكان الهدف منه هو شرح سر تركيز خطاب الإمام على الغرب والعالم الغربي، وهل أنّ هذا التركيز يشكّل بحد ذاته نهاية لثابتة من ثوابت الخطاب المذكور، أم أنّ هنالك أفقاً أوسع وإطاراً أشمل تتحرّك فيه تصريحات التنديد بالغرب وزعيمته الولايات المتحدة الأمريكية؟.

 

إنّ القضية ليست قضية الغرب وحده. إنها قضية القوى الكبرى الشرقية والغربية. ولكن لأنّ الخصم المباشر للعالم الإسلامي، أو بتحديد أكثر، لأنّ الخصم الأقرب هو الغرب، فلقد تحوّل إلى ما يوحي وكأنه ثابتة من ثوابت خطاب الإمام والثورة قبل أن تصل إلى نقطة الانتصار, ولم يتغيّر هذا الشكل من الصورة حتى بعد الانتصار، فلقد تورّطت الولايات المتحدة الأمريكية ومن ورائها الدول الغربية في مواجهة الدول الإسلامية أكثر مما تورط الآخرون. ولكن هذا الفارق في درجة العدائية بقي نسبياً وضئيلاً وكأنه أقرب إلى تكرار الفارق في مواقف الأطراف الدولية حيال إيران قبل الثروة. ومهما يكن من أمر فإن حدث الانتصار إذا كان قد أكّد إمكانية الرفض أو وجود القوة الذاتية لدى المسلمين؛ لكي يخوضوا المواجهة أزاء القوى الكبرى ويرفضوا الانضواء تحت نظامها السياسي، فإن حركة الدولة الإسلامية بلورت درساً جديداً من دروس المواجهة, وهو درس إمكانية أن تبقى الثورة صامدة.

 

ففي السنوات الأولى بعد انتصار الثورة كان لا يزال هنالك في الساحة السياسية القومية والعلمانية من يشك في إمكانية أن تبقى الثورة خارجة فعلاً على إرادة القوى الكبرى. وكان هذا البعض يرى بأن الثورة ستعجز بعد سنة أو سنتين, وستقع في أحضان الغرب أو الشرق من جديد, وسيكيف الخطاب السياسي والثوري لها مع ذلك التطور. كان الرهان داخل وخارج الساحة الإسلامية والعربية مقصوراً على ذلك، ولكن بعد أن مضى على الثورة السنوات الأربع أو الخمس الأولى من عمرها تراجع الرهان, وثبت أنّ الثورة لم تقع في فجوات أو فواصل بين الخطاب الثوري والممارسة السياسية ـ الميدانية. ففي نص من نصوص هذا الخطاب الذي جاء بتاريخ 21/3/1980م يمكن أن نقرأ ما يلي:

 

(إنّ واجبنا هو أن نقف في وجه الدول العظمى ولدينا القدرة على الوقوف بشرط أن يتخلّى مثقفونا عن الانبهار بثقافة الشرق والغرب، وأن يتّبعوا صراط الإسلام المستقيم, ويلحقوا بركب أمتنا، إننا معادون للشيوعية بنفس الدرجة التي نعادي بها الاستعمار الغربي وعلى رأسه أميركا، إننا الآن في صراع شديد مع الصهيونية وإسرائيل).

 

وفي نص آخر قاله الإمام بتاريخ 11 تموز 1979م جاء ما يلي:

 

(علينا أن نصنع من إيران بلداً مستقلاً سياسيا وعسكرياً وثقافياً واقتصادياً ومتحرراً من الاتّكاء على أمريكا والاتحاد السوفيتي وبريطانيا هذه القوى الدولية الطامعة. وعلينا أن نعلن هويتنا الأصلية للعالم.. ومع الأسف أن (المثقفين) لا يستطيعون أن يتحرروا من تبعيتهم للشرق والغرب. ونأمل أن يعود هؤلاء الموتورون في الأمة إلى رشدهم في ظل التغيير الثقافي الإسلامي القائم، وأن يستعيدوا أصالتهم).

 

ومنذ العام 1979م وحتى العام 1988م تواصل خطاب الإمام بنفس القوة وبما يُكرّس ثابتة مقاومة الدول الكبرى العدوانية مجتمعة, فهو يقول في بيان تاريخي هام بعد مرور عام واحد على مجزرة مكة 1407هـ يقول:

 

(إنّ الواجب الأساسي لنا ولثورتنا الإسلامية هو أن نهتف في أرجاء المعمورة. أن يا أيها النائمون ويا أيها الغافلون استيقظوا وانظروا إلى ما حولكم فأنتم تحلّون يبن أوكار الذئاب انتفضوا فما الآن بوقت نوم.

 

إنّ واجبنا الأساسي أن نصرخ، أن ثوروا سراعاً، فليس العالم بأمن من شر الصيادين إن أميركا وروسيا كَمِنا لكم ولن يدعاكم إلا بعد إبادتكم كاملاً).

 

وفي وصيته يقول الإمام في هذا المجال ما يلي:

 

(إنّ مخطط نزع البلدان المستعمرة من هويتها وتغريبها وتشريقها هو من المخططات التي كان لها مع الأسف تأثير بالغ على البلدان وعلى بلدنا العزيز، وقد بقيت نسبة كبيرة من آثارها حتى عادت هذه البلدان لا ترى نفسها ولا ثقافتها وقوّتها شيئاً, وترى في القطبين القويين الغرب والشرق العنصر الأفضل, وثقافتهما هي الأسمى, وإنهما قبلتا العالم وصوّروا التبعية لأحدهما بأنها من الفرائض التي لا مناص منها، وقصة هذا المخطط مؤلمة طويلة والضربات التي وجهها إلينا هذا المخطط وما زال مهلكة قاصمة).

 

إنّ رصد رؤية الإمام إلى الدول الكبرى والغرب من خلال خطابه الثوري يتطلب تحديداً أوضح، فيما إذا كانت هذه الرؤية واحدة موحّدة، أم أنها تستبطن الفوارق التي أشرنا إليها وتفترض إمكانية لتفاعل مشروط مع الغرب.

 

ولكن قبل الخوض بهذا الجانب نحاول أن نكمّل خطوط الرؤية العامة للإمام فيما يتعلّق بالنظام الدولي أيضاً، باعتباره إفرازاً تفاهمياً بين هذه الدول الكبرى, وتعبيراً عن توازن مصالحها في العالم. وبعد ذلك فهم الإمام للتبعية كمفهوم عام، وكمفاهيم مّجزأة.

 

رؤية الإمام للنظام الدولي

 

 نحاول أن نقف معكم هنا على رؤية الإمام, من خلال الخطاب الثوري على مقاومة الدول العظمى، والنظام الدولي، الذي قامت حركة الإمام على تشخيصه أولاً، وعلى مقاومته ثانياً، على تقديم بدائله ثالثاً، وقبل أن نخوض في رؤية الإمام حول النظام الدولي، لابدّ أن نقف على معنى هذا(النظام الدولي) كمصطلح سياسي دخل عالم الأدبيات السياسية العالمية، وقاموس الفكر السياسي العالمي بشكل متأخر نسبياً، إلا أنه كان مجسّداً من حيث المعنى والفعل منذ الحرب العالمية الأولى التي تمخّضت عن اختفاء الدولة العثمانية.

 

والنظام الدولي كمصطلح تبلور منذ بداية العقدين الخامس والسادس من القرن العشرين, وطرح على أنماط متعددة من التعريفات التي تطورت من معنى (التفاعلات والعلاقات بين الدول التي تتواجد خلال وقت واحد)، إلى معنى (هذه التفاعلات والعلاقات بين هذه الدول بالإضافة إلى فواعل أخرى كالشركات المتعددة الجنسيات، والمؤسسات والاتحادات الدولية، والمنظمات الدولية)، والى معنى أعم من ذلك يتبلور في ثلاثة مستويات، هي: (مستوى الدول العظمى, ومستوى النظام الإقليمي التابع أو الفرعي ويقصد به التفاعلات الدولية التي تتم في منطقة ما، ومستوى الفواعل غير الدولية، هي بشكل أساسي المنظمات الدولية، والشركات الدولية متعددة الجنسيات)[1].

 

والنتيجة هي: أنّ هذا النظام يشكّل هيكلية للسيطرة الدولية على العالم، سواء تمظهر بالشكل المباشر أو الوجود المباشر للدول العظمى، أو تمظهر بالشكل المؤسساتي أو الحقوقي، أو بالشكل الإقليمي الذي يظهر التفاعلات الدولية في نقطة جغرافية إقليمية معيّنة.

 

والنظام الدولي هو إفراز لهيمنة الدول الكبرى على العالم، وبالتالي هو غطاء لا أكثر للنهب الدولي، وآلية مبرمجة لاستضعاف الشعوب الفقيرة من قِبَل المسيطرين الكبار، وهذا هو معنى أو مضمون النظام الدولي كما يفهمه الإمام الخميني، وآلية تمثيله للدول الكبرى الشرقية والغربية، ووفق هذا الفهم فإن العالم هو عبارة عن معسكرين: استكباري، ومستضعف، لا ثالث لهما، والدول الكبرى هي التي تمثّل المعسكر الأول، فيما الشعوب المظلومة والمستضعفة تمثل المعسكر الثاني، وعودةً إلى خطاب الإمام الثوري الذي يكرّس هذه الرؤية للعالم, توقّفنا عند النص التالي: (الواقع أنّ دول الاستكبار الشرقية والغربية وبخاصة أميركا وروسيا قد قسّمت العالم عملياً إلى قسمين: قسم حر وقسم حجر سياسي. ففي القسم الحر من العالم، هناك الدول الكبرى التي لا تعترف بأي مدى أو حدّ أو قانون، وتعتبر الإعتداء على مصالح الآخرين واستعمار الشعوب واستثمارها واستبعادها أمراً ضرورياً ومبرراً ومنطقياً، ومنطبقاً على جميع المبادئ والموازين الدولية، والموضوعة من قبلها هي.

 

أما في قسم الحجر السياسي الذي تحاصر وتسجن فيه ألسن معظم شعوب العالم الضعيفة وبخاصة المسلمين منها، فلا وجود إطلاقاً لحق الحياة وإبداء الرأي.

 

إنّ القوانين والمقررات والأنظمة جميعها هي القوانين المفروضة والمنسجمة مع أهواء النظم العميلة والمؤمنة لمصالح المستكبرين.

 

والمؤسف أنّ معظم متولّي السلطات التنفيذية في هذا القسم هم الحكّام المفروضون, أو أتباع النهج الاستكباري العام، الذين يعدّون حتى صرخة الألم من داخل جدران هذه السجون والسلاسل جريمة لا تغتفر، فمنافع ناهبي الشعوب تمنع على أي كان حتى التلفّظ بأي كلمة يُشمّ منها إضعافهم أو تعكير صفو راحة نومهم)[2].

 

هذا هو العالم في مفهوم الإمام الخميني: معسكر الاستكبار، ومعسكر الاستضعاف. معسكر الظالمين، ومعسكر المظلومين.. عالم من فريقين: فريق الناهبين الدوليين، وفريق المنهوبين أينما كانوا في إيران، أو الاتحاد السوفييتي، أو حتى الولايات المتحدة الأمريكية، وإذا ما اعتبرنا هذا التقسيم تقسيماً قائماً على الكم البشري والعدالة الاجتماعية فإنه تقسيم ينطوي على توضيح هائل لاختفاء هذه العدالة الاجتماعية، وبروز مفهوم النهب والاستغلال البشع، وبالتالي فهو تقسيم يقوم على رؤية عميقة لوجود البديل عن النظام الدولي بقياس كتلة الظالمين إلى كتلة المظلومين، وهي الكتلة الأكبر، حتى وإن بدت الآليات لهذا البديل ـ أي: آليات التطبيق ـ تحتاج إلى زمن طويل وربما ثمن كبير، وهي آليات تعتمد على حثّ المستضعفين على الثورة والتمرّد والمقاومة، مقاومة هذا الظلم الدولي بكل الأشكال.

 

إنّ الدول الكبرى، وبالتحديد حكوماتها وما يختبئ وراءها من عصابات وشركات ومستفيدين، والنظام الدولي بمؤسساته الظاهرية وهيئاته التي ترفع شعارات حقوق الإنسان، والعمل على إشاعة الديمقراطية والسلم العالمي، هذا النظام الذي يمثّل غطاء الظلم الشرعي، بإمكانه أن يمارس حق الفيتو؛ ليمرر إرادته ومصالحه على إرادة ومصالح العالم، وهذه الدول الكبرى هي التي توجّه عمل المؤسسات الدولية بالطريقة التي تريد، وهي التي توجّه الحكومات التابعة في شتّى أرجاء العالم بما ينسجم مع طبيعة هذا النظام.

 

وإذاً فالخطاب الثوري لدى الإمام الخميني ـ وهو يركّز على مقاومة الدول الكبرى ـ يرفض هذا النظام جملةً وتفصيلاً، ويدعو الشعوب والحركات التحررية إلى المبادرة الثورية في معظم المناسبات؛ لتحطيم أركان هذا النظام، وتأسيس نظام بديل، قائم على تحقيق العدالة الاجتماعية. ولتوضيح هذه الرؤية أكثر يقول الإمام الخميني:

 

(إنهم يملكون حق الفيتو، فحيثما رأى الكبار أنّ قانوناً ما يعارض مصالحهم, فإنهم يستفيدون من حق الفيتو؛ لرفضه، فنحن لا نملك حقاً سوى تحمّل المصائب دون أن نتفوّه بكلمة)[3] . وما يرتبط بدور المؤسسات الحقوقية يقول الإمام: (إنّ أمثال منظمة حقوق الإنسان والهيئات الأخرى المشابهة تعمل اليوم لاستخدام العالم من أجل مصالح القوى الكبرى المستبدة، وجرّ الأنظمة الإلهية وعلى رأسها النظام الإسلامي نحو الاستضعاف)[4].

 

إنّ الإمام يضع في هذا النص مفردة الاستضعاف في مقابل المنظمات الحقوقية، ليكرّس الفهم الأصيل لتابعية هذه المنظمات، حتى وإن استعارات المهمة الحقوقية والنظام الدولي الذي تنضوي تحت هيكليته لخط الاستكبار، فمفردة الاستضعاف لا يضعها الإمام فقط إزاء الدول الكبرى؛ بتمظهراتها الكبيرة فقط، إنما ينزل بها إلى كل أشكال التمظهرات، صغرت أم كبرت، ليعمّق ويكرّس الرؤية إلى العالم اليوم، التي يجب أن تقوم على ثنائية الاستضعاف والاستكبار، وليس ثنائية المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي السائدة، أو الرؤية القائمة على التقسيمات الثلاثية لهذا العالم وهي العالم الرأسمالي، والعالم الاشتراكي، ودول العالم الثالث.

 

ويندرج موقف الإمام الخميني إزاء الحكومات في الدول الإسلامية في سياق هذا الفهم للعالم, فهي حكومات تابعة لنهج الاستكبار، وهي بالتالي تفقد أي دور حقيقي لها في النظام الدولي إلاّ بما يكرّس تعزيز هذا النظام, بما ترتئيه أطرافه الدولية الكبرى الشرقية والغربية والتي تمثّل خط الاستكبار.

 

وكثيرة هي النصوص التي تكرّس هذا الفهم في خطاب الإمام الثوري، وآخرها هو ما جاء في وصيته السياسية الإلهية في هذا الإطار، يقول الإمام: (وأما وصيتي إلى الشعوب الإسلامية فهي: اجعلوا حكومة الجمهورية الإسلامية وشعب إيران المجاهد قدوة لكم وإذا لم تستجيب حكوماتكم الجائرة لإرادة الشعوب التي هي إرادة شعب إيران فأجبروها بكل قوة على الاستجابة لذلك, فإن أساس شقاء المسلمين هو الحكومات المرتبطة بالشرق والغرب)[5]. من هنا يتّضح حجم تصدّي الإمام (للتغريب الذي جعله الشاه أساس سياسته الداخلية والخارجية)[6]. من خلال ما تقدم تتجمّع الرؤية الكلية للإمام الخميني حول القوى الكبرى, وهي رؤية تتلخّص بما يلي:

 

1ـ إنّ منهج المواجهة والاقتحام والمقاومة هو المنهج الوحيد المتاح أمام عالم الاستضعاف إزاء عالم الاستكبار، برموزه الغربية والشرقية، فالعداء للإسلام وروح الاستغلال وسياسة النهب المنظمة، هي أمور متأصّلة في النفسية الاستكبارية.

 

2ـ إنّ الإمام الخميني ينظر إلى النظام الدولي على أنه هيكلية مرسومة يراد إعطاؤها صفة المشروعية؛ لتمرير الجشع الاستكباري ومخططات الدول الكبرى, التي تشكّل خطّه.

 

3ـ إنّ الإمام يقسّم العالم في مقابل مصطلح النظام الدولي إلى عالمين أو خطين، هما: خط الاستكبار بألوانه الشرقية والغربية، وخط الاستضعاف الذي ينضوي تحته كل المظلومين والمنهوبين في العالم، حتى في داخل أمريكا أو أي دول كبرى أخرى.

 

4ـ والإمام يعتبر الدول الأخرى الإسلامية وغير الإسلامية تابعة لفلك الاستكبار العالمي، وإنّ حكومات المنطقة، لا إرادة لها في النظام، إنما هي تحقق إرادة الكبار، وتمرر مصالحهم، وبالتالي فإن منهج المواجهة الذي يجب أن يسود مع هؤلاء الكبار ينسحب ليتعمّم على الحكومات العميلة.

 

5ـ وكلّ المؤسسات الحقوقية والمجالس الاقتصادية والاجتماعية التابعة للأمم المتحدة لا تملك صلاحيات اتخاذ القرار الحر الحيادي؛ لأنها تمارس مهمتها على ضوء قوانين الاستكبار الممنهجة عبر هذه المؤسسات.

 

6ـ ورؤية الإمام لا تتخذ سياسة عامة غير مميّزة إزاء رموز النظام الدولي، أو رموز الخط الاستكباري، فلأمريكا دائماً خصوصية في مسؤولية الظلم الممارس إزاء الشعوب.

 

7ـ ويلاحظ أنّ الإمام يطرح (إسرائيل) إلى جانب أمريكا وبموازاتها عندما يتحدث عن الاستكبار ودوره في العالم الإسلامي، وذلك نابع من واقع الارتباط المصيري بينهما، في المهمة والدور والوجود المخترق لدول المنطقة.

 

8ـ إنّ مفهوم التبعية يرتبط ارتباطاً عضوياً مع الدول الكبرى، فأينما كان نفوذ لهذه الدول من العالم كانت التبعية.

 

9 ـ إنّ الإمام يلوّح تارةً ويطرح تارة أخرى بشكل واضح بديل النظام الدولي، ونظام الهيمنة السائد، عبر المبادرة الثورية، والدعوة المتواصلة لأحرار العالم وشعوبه بتحطيم هذا النظام، وإقامة نظام قائم على العدالة الاجتماعية، ويصرّح بشكل واضح بإمكانية تحقيق ذلك.

 

التبعية

 

إنّ التبعية في رؤية الإمام تأخذ بُعداً شمولياً ترابطياً، إذ لا يمكن في لغة الإمام الثورية أن نتحدّث عن كثير من المفردات، ما لم تأتِ التبعية كمحور عام، تتحرك عليه في هذا المفردات، فالحديث عن الدول الكبرى وسياستها، يستدعي وجود التبعية في طيّاته، والكلام عن الاستقلال، والأصالة الإسلامية، والتغريب، والإعلام، وكل عنوان ثفافي أو محور ثقافي، يستدعي مكافحة التبعية، ومن هنا تأتي شموليتها في حديث الإمام، إذ لا يتحقق الاستقلال الحقيقي دون التخلّص من هذه التبعية، ولا يمكن إبراز الأصالة الإسلامية ما لم يتم تطهير المجتمع من المضمون والمظهر التبعي.

 

ولا يمكن للإعلام الإسلامي أن يؤدّي دوره بالشكل المطلوب، ما لم يلاحق هذه التبعية بكل أشكالها وإفرازاتها وتمظهراتها، وصيحة التمدّن لا يمكن فهمها إلا كعنوان يراد له تكريس التبعية بشكل أو بآخر.

 

إنّ شمولية رؤية الإمام لملاحقة التبعية ومكافحتها، تدلل على حضورها الفعلي في كل مرافق الحياة الإسلامية، كما تدلل بالإضافة إلى حضورها الفكري العام، سواء السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، على حضورها النفسي، وشمولية الإمام نابعة من معناها الشمولي من وجهة نظره، فهي حالة من الهيمنة والإخضاع الذي يتكرّس في الشعور العام إلى انبهار وتأثّر بالأفكار الخارجية، وكل أمور وتفصيلات الحياة, كما يتحوّل إلى ابتعاد عن الذات والأصالة, ويكرّس معنى الهزيمة الداخلية.

 

إنّ التبعية كمصطلح كانت وما زالت متداولة في الأدبيات الماركسية على أنها ذات معنى اقتصادي، ويرى أحد الكتّاب (أنّ إدراج أفكار مدرسة التبعية ضمن المراحل المعتمدة في دراسة الظواهر السياسية في المجتمعات المتخلّفة، ومنها مجتمعات العالم الإسلامي يعود إلى اعتقاد واضح بأهمية العنصر الخارجي في تشكيل مجمل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية في تلك المجتمعات)[7].

 

ويقدّم (دوسانتوس) تعريفين للتبعية هما:

 

1ـ (التبعية هي الموقف الذي تكون فيه اقتصاديات مجموعة معيّنة من الدول مشروطة بنمو وتوسّع اقتصاد آخر تخضع له.

 

2ـ إنّ التبعية تتعلّق بتكثيف البناء الداخلي لمجتمع معيّن, بحيث يعاد تشكيله وفقاً للإمكانات البنيوية لاقتصاديات قومية محددة)[8].

 

ويرى السيد الشهيد محمد باقر الصدر في كتابه (اقتصادنا) أنّ هنالك ثلاثة أشكال من التبعية هي: التبعية الاقتصادية، والتبعية السياسية، وتبعية المنهج، ومهما يكن من أمر، فإن التبعية لدى الإمام الخميني هي عائق دون الاستقلال بمعناه الحقيقي، وعائق دون الأصالة الإسلامية، وهي تجسيد للفكر الغربي بأسسه ومظاهره، وهي بالتالي حالة من الهيمنة والإخضاع الشمولي. وتتمظهر بأشكال مختلفة، ومجالات متعددة[9]. ويرى مصطفى الحاج علي في دراسة له بهذا الصدد أنّ مرتكزات التبعية وآثارها تكمن بالنقاط التالية:

 

1ـ تعميق الإدراك من خلال الآخر، واعتبار أنّ أي إدراك لا يمرّ من خلال قناة الشرق أو الغرب لن يكون له قوام أو تشكّل منتج.

 

2ـ تداعيات هذا الإدراك التي تتمثّل بفقدان الهوية أو الإنتماء للأصل وتعطيل الإبداع، وتحوّل البلدان المستضعفة إلى بلدان مستهلكة[10]. ولكي نقف على تصوّرات الإمام حول التبعية والقضاء عليها، لابدّ أن نعود إلى خطابه الثوري.

 

يقول الإمام: (إنكم ـ مسؤولو البلاد ـ تدّعون التحضّر والرقي لكن ما إن يدخل البلد هذا الرقي حتى نرى الحرام ينقلب إلى حلال والحلال إلى حرام! هل هذا تحضّر وتمدّن حينما تقوم الإذاعة ببثّ برامج مسمومة كهذه؟! هل هذا تحضّر حينما أصبحت الصحف والمجلات تنشر تلك الصور المبتذلة؟!.. ألم تكن هذه أفكار استعمارية لإفساد الشباب وحرفهم عن الصواب؟ لا شكّ أنّ الأمور كلّها خطط استعمارية بحتة, لا تريد وجود شباب متميّز وأيدٍ عاملة نظيفة ومفكرة في البلاد، الاستعمار هو الذي يرتّب برامج الإذاعة والتلفزة حسب أهدافه الخاصة فيعمد إلى فتح طرق شريرة لإرهاق وإضعاف أعصاب المستمعين والمشاهدين، ولإيهان قواهم، وتشويش أذهانهم وأفكارهم. نحن نخالف هذا التحضّر.. نحن نؤكّد على سلامة الجامعات، وعدم التعرّض للشباب وإلقائهم في بؤر الشبهات والانحرافات والفساد. نحن نريد من جامعاتنا أن تصنع وتنتج عقولاً مفكرة مخلصة للأمة والوطن، تخرّج شباباً يسيّرون البلاد بإخلاص وأمانة, ويقفون في وجه أي خطر أجنبي, أو نوع من أنواع الاستعمار. وأما ما أشيع عن المرجعية بأنها تخالف أو تعارض (حرية المرأة) من قِبَل وكالات الإعلام الشرقية والغربية، فهو مردود عليها)[11].

 

ويقول الإمام في وصيته المباركة(وإذا كان المراد من التجدد والتمدّن ذلك المعنى الذي يطرحه بعض المثقفين المحترفين، وهو الحرية في جميع المنكرات والفحشاء حتى الشذوذ الجنسي، وما شاكل ذلك فإن جميع الأديان السماوية والعلماء والعقلاء يعارضون ذلك بالرغم من أنّ المنبهرين بالغرب أو بالشرق يروّجون لذلك بناءً لتقليدهم الأعمى)[12].

 

ومن خلال هذين النصّين تتبلور أشكال من التبعيات، تبعية الإعلام عندما يروّج لأفكار الاستعمار، وتبعية المنبهرين بالغرب والشرق الذين يسعون إلى نقل الحرية الإفسادية إلى عالمنا الإسلامي، والتبعية التي يراد تمريرها من خلال عنوان التمدّن.

 

ويقول الإمام في وصيته: (والأدهى من ذلك أنّ هؤلاء حرصوا على إبقاء الدول المظلومة المستعبدة متخلّفة في كل شيء. ودولاً استهلاكية، وخوّفونا من مظاهر تقدّمهم وتقدّم ثوراتهم الشيطانية إلى حد كبير, بحيث لم نعد نجرؤ على المبادرة إلى أي إبداع, وسلّمنا لهم كل شيء وأودعناهم مصيرنا وبلادنا وأغمضنا عيوننا وسددنا آذاننا مطيعين للأوامر. وهذا الخواء والفراغ العقلي المصطنع أوجب أن لا نعتمد على فكرنا وعلمنا في أي أمر, وأن نقلّد الشرق والغرب تقليداً أعمى، بل كان الكتّاب والخطباء الجهلة المنبهرون بالغرب والشرق وما يزالون ينتقدون ويسخرون من ثقافتنا وأدبنا وصناعتنا واختراعنا ـ إن كان ـ ويقللون من شأن فكرنا وإمكاناتنا المحلية, ويزرعون فيها اليأس, ويروّجون بأعمالهم وأقوالهم وكتاباتهم العادات والتقاليد الأجنبية مهما كانت مبتذلة منحطّة، وقد عملوا وما يزالون على تسويقها بين الشعوب بالمدح والثناء، وعلى سبيل المثال: إذا كان في كتاب ما أو مقالة أو خطابة عدّة مفردات أجنبية فإنهم يقبلونه بإعجاب دون التحقيق في محتواه, ويعتبرون الكاتب أو الخطيب عالماً ومثقفاً)[13].

 

ويكفي هذا النص للتدليل على شمولية مصطلح التبعية أولاً, فهي تتجلّى في كل شيء، وبما يؤدي إلى إزاحة فكرنا وقدرتنا النفسية، ونهب ثرواتنا وإبقائنا في حالة من الخضوع والانبهار، والانشداد والتقليد وبالتالي القضاء على أصالتنا الإسلامية.

 

والاستقلال هو الآخر لا يتحقق في ظل الحكومات التابعة كما يقول الإمام في وصيته السياسية الإلهية:

 

(شاهدنا أو حدّثتنا به التواريخ الصحيحة أنّ أيّاً من الدول الحاكمة في هذه البلاد لم تكن وليست تفكر بحرية شعوبها واستقلالها ورفاهيتها, بل إنّ أكثريتها الساحقة إما أنها تمارس على شعوبها الظلم والكبت, وكل ما فعلته فهو لمصالحها الشخصية أو الفئوية, وإما أنها تسعى لرفاهية الشريحة المرفّهة والمترفة, فيما بقيت الطبقات المظلومة من ساكني الأكواخ والأقبية محرومة من كل مواهب الحياة، حتى مثل الأكل والخبز وما يسدّ الرمق، وقد سخّرت الحكومات أولئك البائسين لخدمة الطبقة المرفّهة والماجنة, أو أنها كانت أدوات للقوى الكبرى التي استعملتها لتحقيق المزيد من تبعية الدول والشعوب فحولوا هذه الدول بالحيل المختلفة إلى سوق للشرق والغرب, وتأمين مصالحها وإبقاء الشعوب متخلّفة استهلاكية, وهم الآن يسيرون وفق هذه الخطّة, وأنتم ـ يا مستضعفي العالم وأيتها الدول الإسلامية ومسلمي العالم ـ انهضوا وخذوا حقّكم بقبضاتكم وأسنانكم, ولا تخافوا الضجيج الإعلامي للقوى الكبرى وعملائها العبيد, واطردوا من بلادكم الحكام الجناة الذين يسلّمون حصيلة أتعابكم إلى أعدائكم وأعداء الإسلام العزيز, ولتأخذ الطبقات المخلصة الملتزمة بزمام الأمور، واتّحدوا جميعاً تحت راية الإسلام المجيدة, وهبّوا للدفاع في مقابل أعداء الإسلام وحرروا العالم)[14].

 

وبهذا النص، يتّضح أنّ أي حل ترقيعي للخلاص من التبعية هو حل غير مجدٍ، فالحل يجب أن يكون حلاًّ جذرياً وشمولياً، وعبر عمل ثوري جرئ ضد أدوات هذه التبعية ومنفّذيها في عالمنا الإسلامي، لا حل سوى المبادرة الثورية الساعية إلى التحرر، ومن ثم التأسيس على أساس الفكر الإسلامي، وعبر هذا الطريق ستتحقق الأصالة الإسلامية والاستقلال وتطهير البلاد من تمظهرات التغريب في كافة شؤون الحياة، كما يرى الإمام الخميني.

 

  

 

ـــــــــ

 

[1] للمزيد من المعلومات حول تعريفات مصطلح النظام الدولي راجع المنطلق العدد (56).

 

[2] في 5 ذي الحجة 1408هـ.

 

[3] في 17/12/1979م.

 

[4] في 19/11/1401هـ.

 

[5] الوصية الإلهية ـ السياسية.

 

[6] منح الصلح، مجلة الرصد، العدد (52)، 1995م، ص 87.

 

[7] الدكتور أسامة غزالي حرب: الأحزاب السياسية في العامل الثالث، ص 63.

 

[8] المصدر نفسه.

 

[9] راجع مقال محمد عبد الجبار في المنطلق، العدد (56).

 

[10] راجع المنطلق، العدد (56)

 

[11] في نيسان 1964م.

 

[12] الوصية الإلهية ـ السياسية.

 

[13] المصدر نفسه.

 

[14] المصدر نفسه.

 

دراسات الكاتب:

 

الخطاب الثوري.. البنية، الثوابت، الملامح [1]

 

الخطاب الثوري.. البنية.. الثوابت.. الملامح[2]

 

الإمام الخميني والمنهج الثوري

 

الغرب والحضارة الغربية خطوط المواجهة.. وشروط التفاعل

 

التخريب الثقافي والفكري: الجامعة ـ الحوزة

 

القيادة الإسلامية

 

الإمام الخميني والإعلام

 

الإمام الخميني والنظام الدفاعي

 

الإمام الخميني رجل القرن العشرين، ورجل القرن الحادي والعشرين

 

الجذر المعتقدي للاستشراف الخميني