الحمد للّه رب العالمين والصلاة والسلام على تمام عدة المرسلين محمد وآله الطاهرين المقدمة:

 

ليست الأحكام الشرعية فقط هي الأوامر والنواهي الصادرة من اللّه تعالى تكليفا على العباد إيجابا أو تحريما أو ترجيحا أو إباحة على القول بالإباحة الشرعية، بل المشروعات التي تتضمن الحلية والحرمة أو الصحة والفساد مثل قوله تعالى: ﴿أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾(1)  و﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ﴾(2) و﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ...﴾(3)، ومثل قوله (عليه السلام): «لا وقف إلا في ملك»(4) و«لا رضاع بعد الفطام»(5)، وكذلك الحدود والتعزيرات وما جعل في اختيار الولي والحاكم بل نفس الولاية المطلقة، كل ذلك أحكام شرعية لابد من رعايتها وعدم التعدي عنها، ولا أقل في هذا المقام وإن كان يصدق على بعضها الحق مع أنه حكم إلهي.

 

وكذلك ليس الوصف الأولي والثانوي للأحكام من الأوصاف الشرعية وحقائقها المجعولة بيد الشارع حتى نتفحص عن ضوابطها وحدودها في لسان الشرع عند جعل الأحكام.

 

بل هما مستعملان في كلمات الأصحاب سيما الأصوليون منهم في تقسيماتهم بملاحظة الخصوصيات الراجعة إليها.

 

تعريف الحكم الأولي والثانوي:

 

وعندهم أن الأحكام الأولية: هي الأحكام المجعولة على نفس طبائع الموضوعات وعناوينها بما هي عليها وتكليف العباد بما هم كذلك من غير ملاحظة ظرف خاص أو حالة خاصة، مثل:

 

الاضطرار والإكراه والحرج والضرر حتى السهو والنسيان، بل العلم والجهل والشك، وكذلك الحقوق المجعولة لهم بما هم كذلك.

 

وعليه فمثل وجوب الصلاة على كل حال ووجوب الحج على المستطيع كذلك وحق القصاص لولي الدم وقطع يد السارق والسارقة، وجعل الديات وعدم تأثير الرضاع بعد الفطام في نشر الحرمة وعدم صحة الوقف في غير الملك، كل ذلك أحكام شرعية أولية وإن كان الفرق بين الحكم والحق كما فصل في محله أن الأول لا يتغير باختيار المكلف والحق قد يكون لصاحبه الغمض عنه.

 

ومن التعريف المذكور يعرف معنى الوصف الذي ذكر؛ فإن المكلف في مقام الامتثال قد يقع في أوضاع وظروف تمنعه عن الإطاعة، فلا يتمكن من الإتيان بها، مثل المرض والحرج والضرر والإكراه وما شابه ذلك، فيترك الواجب أو يقترف الحرام مثل أكل الميتة، فحكمه في هذه الحالات هو الحكم الثانوي.

 

نعم، الحالات الطارئة لابد وأن تكون لا عن اختيار المكلف وإيقاعه نفسه فيها فرارا عن التكليف وإلا يعاقب على ترك الحكم الأولى، قال تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإثْمٍ فَإنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(6) وقال: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ﴾(7)، فالاضطرار إذا كان عن بغي وعدوان أو عن جنف لاثم فلا يكون موضوعا للحكم الثانوي ولا يترتب عليه نفي الإثم وغفران الذنب، بل الإثم في ترك الحكم الأولي باق؛ لأن الحكم باق، ولا وجه لنفيه.

 

وبناء على هذا التعريف للوصف الأولي والثانوي فإن طرو الجهل أو الشك في الأحكام الأولية حال الامتثال أيضا من الحالات المأخوذة في موضوع الحكم الثانوي؛ فإن قوله(عليه السلام): «إذا شككت فابن على الأكثر»(8)، أي في الركعات أو «إذا شككت فابن على ما كان»(9) في الاستصحاب وسائر الأصول العملية قد أخذ الشك في موضوع الحكم، وكذلك قوله (عليه السلام):«كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر»(10) قد أخذ الجهل في موضوع الحكم، وعليه فجميع الأحكام الظاهرية تصلح أن تعد من الأحكام الثانوية الحاكمة ما دام الشك والجهل موجودان.

 

وقد ظهر مما ذكرنا أن الأحكام الثانوية أيضا أحكام شرعية، وأنها محدودة ومقيدة بالحالات الطارئة، فمادامت تلك الحالات متحققة فتلك الأحكام أيضا متحققة؛ فإن الضرورات تتقدر بقدرها.

 

وكذلك ظهر أن الأحكام الحكومية الصادرة عن ولي أمر المسلمين والفقيه الولي على أساس مصالح الأمة ودفع المفاسد والمضار عنهم إذا تعارضت مع الأحكام الأولية مثل جعل الضرائب في أموالهم والتصرف في أملاكهم وأراضيهم بل بيوتهم ومساكنهم في حالة إحداث الشوارع والطرق اللازمة، بل حتى تخريب المسجد أو المعبد إذا كان ضرارا بالمسلمين، وتعطيل بعض الشعائر مؤقتا مثل الحج، كل ذلك يكون من الأحكام الثانوية النافذة ما دامت المصلحة باقية، وتبطل بعد زوال الحالة الطارئة مهما كانت.

 

والبحث إلى هنا لا كلام فيه ولا خلاف. إنما الكلام في تحليل الأمر وطريق الجمع بين الحكمين الأولي والثانوي في جميع تلك الموارد.

 

الجمع بين الحكم الأولي والثانوي:

 

لا كلام في أن الأحكام الشرعية لا تكون جزافا، بل تتبع المصالح والمفاسد النفس الآمرية حتى في المخترعات الشرعية الاعتبارية مثل الصلاة والصوم والحج وأكثر العبادات، فإذا كان في وجوب الصلاة والصوم مصلحة وفي حرمة الميتة والدم مفسدة واضطر العبد إلى ترك الصلاة والصوم أو أكل الميتة والدم فكيف الأمر بالنسبة إلى تلك المصالح والمفاسد ؟

 

فقد ذهب كلٌ إلى قول:

 

1 - ظاهر كلمات الشيخ الأعظم الأنصاري (رحمه اللّه) تأثير الحالة الطارئة والحكم الناشئ منها في نفس الحكم الأولي وتبدل ماهيته بالحكومة؛ فيصير الواجب جائز الترك أو الحرام جائز الفعل، إلا أنه (رحمه اللّه) فصل في المقام بما محصله:

 

إن الحكم الأولي قد يثبت لموضوعه من حيث نفسه ومجردا عن ملاحظة عنوان آخر طارئ عليه، كما في أغلب المباحات والمستحبات والمكروهات، فإذا عرض عنوان آخر حيث لا تنافي بين الحكمين يتبدل المباح بالحرمة كما إذا حلف على تركه أو أمر الوالد بتركه، أو بالوجوب كما إذا صار مقدمة للواجب أو نذر فعله.

 

وقد يثبت له لا مع تجرده عن ملاحظة العنوانات الخارجية الطارئة عليه، نظير أغلب المحرمات والواجبات، فإن الحكم بالمنع عن الفعل أو الترك مطلق لا مقيد بحيثية تجرد الموضوع إلا عن بعض العنوانات كالضرر والحرج، ولازم ذلك التنافي، فإذا فرض ورود حكم آخر من غير جهة الحرج والضرر فلا بد من وقوع التعارض بين دليلي الحكمين، فيعمل بالراجح بنفسه وبالخارج.

 

ثم رتب على ذلك وقال ما حاصله: الشرط إذا ورد على ما كان من قبيل الأول لم يكن الالتزام بذلك مخالفا للكتاب والسنة؛ إذ المفروض أنه لا تنافي بين حكم ذلك الشيء في الكتاب والسنة وبين دليل الالتزام بالشرط ووجوب الوفاء به، وإذا ورد على ما كان من قبيل الثاني كان التزامه مخالفا للكتاب والسنة. فإذا شرط على زوجته ترك التزويج والتسري، الشرط باطل؛ لكونه خلافا للكتاب والسنة، ففي رواية إسحاق بن عمار:«المؤمنون عند شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما»(11)، أما إذا نذر الإتيان بصلاة الليل أو صوم يوم كذا يتبدل الحكم ويصير الصوم والصلاة واجبا(12).

 

وقد أجاب الإمام الخميني (رحمه اللّه) في كتاب البيع عن كثير من موارد المناقشة في كلامه (رحمه اللّه)، ولسنا بصدد البحث عنها هنا، فهو(رحمه اللّه) ممن قد حكم بحكومة الأحكام الثانوية على الأحكام الأولية في أكثر الموارد.

 

2 - وعن صاحب الكفاية (رحمه اللّه) قال:«من هنا يلاحظ النسبة بين أدلة نفيه - الضرر - وأدلة الأحكام وتقدم أدلته على أدلتها مع أنه عموم من وجه؛ حيث أنه يوفق بينهما بأن الثابت للعناوين الأولية اقتضائي يمنع عنه فعلا ما عرض عليها من عنوان الضرر بادلته كما هو الحال في التوفيق بين سائر الأدلة المثبتة والنافية لحكم الأفعال بعناوينها الثانوية والأدلة المتكفلة لحكمها بعناوينها الأولية»(13).

 

فكأنه (رحمه اللّه) - كما ترى - يعتقد بأن الشارع في مقام جعل الأحكام الأولية لا يرى إلا الموضوع والمصلحة أو المفسدة المقتضية للوجوب أو الحرمة، ولا يحكم بشيء، بل ينتظر حتى يرى المكلف في مقام الامتثال والعمل إن لم يعارضه مانع فيحكم بالوجوب أو الحرمة فعلا وألا يحكم بما تقتضيه الحالة الطارئة الفعلية من الامتثال. وهذه عبارة أخرى عن الحكم الاقتضائي والفعلي. وفيه ما ترى، وسيأتي الجواب عنه.

 

3 ـ وعن المحقق النائيني (رحمه اللّه) ما ظاهره الميل إلى مذهب الشيخ (رحمه اللّه) حيث قال في مسألة أخبار من بلغ:«أن تكون أخبار «من بلغ» مسوقة لبيان أن البلوغ يحدث مصلحة في العمل بها يكون مستحبا، فيكون البلوغ كسائر العناوين الطارئة على الأفعال الموجبة لحسنها وقبحها والمقتضية لتغيير أحكامها كالضرر والعسر والنذر والإكراه وغير ذلك من العناوين الثانوية»(14).

 

فإنه (رحمه اللّه) وإن لم يصرح بالحكومة ولكن معنى قوله «للعناوين الطارئة على الأفعال الموجبة لحسنها وقبحها والمقتضية لتغيير أحكامها» ليس إلا حكومة الأحكام الثانوية على الأولية.

 

وقد ذهب إليه كثير من الفقهاء والأصوليين من المعاصرين، فقد قال:«علاقة أدلة العناوين الثانوية بأدلة الأحكام الثابتة لمتعلقاتها بالعنوان الأولي، هي علاقة الحكومة؛ فإن أدلة العناوين الثانوية مثل دليل نفي الضرر ونفي العسر والحرج ناظرة إلى أدلة الأحكام الثابتة للعناوين الأولية مثل وجوب الصيام والحج والوضوء»(15).

 

وقال في موضوع آخر وبعبارة أصرح: «... فيرتفع بذلك الحكم المتعلق بذلك الفعل ويحل محله حكم آخر بموجب الدليل الوارد في حكم هذا الفعل بعنوانه الثانوي»(16).

 

وقال زميلنا الفاضل الگيلاني - بعد كلام له في المقام: «ومحصل البحث أن قواعد الأحكام الثانوية حاكمة على قواعد الأحكام الأولية»(17).

 

وقريب مما عرفت ما في كلمات الآخرين مع اختلاف يسير في التعابير والمناقشات الجارية والقول بالتخصيص أو التقييد وأن الأحكام الثانوية وأدلتها يخصص عموم دليل الحكم الأولي أو يقيده، فيكون الحكم الأولي في غير مورد الضرر والحرج مثلا وموارد الثانوي كانت خارجة عن شمول دليل الأولي ثبوتا كما في الجمع في كثير من موارد أدلة الأحكام.

 

وهناك ما نقل عن الشهيد الصدر (رحمه اللّه) في اصطلاحه «منطقة الفراغ» وأن الأمر فيما إذا لم يكن في الموضوع اقتضاء للحكم وتكون الإباحة عقلية فتأثير الحالة الطارئة مثل الاضطرار مثلا لا كلام فيه نفيا أو إثباتاً، أما في الإباحة الشرعية واقتضاء الإباحة فيعارض حكم الحالة الطارئة مع اقتضائه وتأثيره في تبديل الاقتضاء إلى المصلحة الملزمة مثلا في الإتيان أو المفسدة الملزمة للترك.

 

فيناقش في اختصاصه البحث بذلك، والكلام جار في مطلق الأحكام الأولية مع الثانوية(18) .

 

إذا عرفت ذلك فالعمدة في المقام والغرض الأصلي في تسطير هذه السطور هو بيان مبنى الأستاذ الأعظم والفقيه الأقوم الأصولي الفلسفي الحكيم النحرير قائد الثورة الإسلامية ومؤسس نظام الجمهورية الإسلامية في إيران الإمام الراحل الخميني (قدس سره).

 

وهذا المبنى من مبتكراته العلمية في شتات المباحث الأصولية. وملخص ذلك: أن اللّه تعالى لدى تشريعه وجعله الأحكام حيث يكون عالما حكيما ولا تكون أفعاله عبثا وجزافا قد جعل الأحكام على موضوعاتها حسب تناسب المصالح والمفاسد الموجودة فيها وبسببها سواء كانت الموضوعات من الأعيان الخارجية أو المخترعات الشرعية من غير لحاظ شيء آخر أو حالة من حالات المكلفين وكذلك المخاطب، والمكلف بهذه الأحكام طبيعة الناس أو المؤمنين بما هي كذلك من غير لحاظ الطوارئ والعوارض، فإذا حكم بنجاسة الدم وحرمة الميتة ووجوب الصلاة وحرمة الربا وصحة البيع وشرطية الطهارة ومانعية الموانع واستحباب المستحبات وكراهة المكروهات وحتى إباحة المباحات الشرعية، لم يلاحظ في الجعل والتشريع إلا أصل الحكم المتناسب مع الملاكات الموجبة لطلب الفعل أو الترك أو المقتضية لأمور عرضية.

 

وتلك الأمور والملاكات مما لا يتغير في نفس الأمر، وهي ليست بالحالات الطارئة على المكلف مثل الضرر والعسر والحرج أو النذر والعهد والقسم، ولا وجه ولا معنى للتغيير والتأثير فيها سواء ما كانت في الأعيان أو في المعتبرات والمخترعات التي يكون أمرها بيد المعتبر وضعا ورفعا؛ فإنها أيضا حقائق لها وجودات بعد اعتبارها في ذلك العالم يشبه الوجود الذهني.

 

هذا في الأحكام الأولية على العناوين وطبائعها الكلية، وقريب من ذلك الأحكام المجعولة على العناوين الطارئة مثل الحرج والضرر والإكراه وما ورد في حديث الرفع؛ فإنه تعالى لم يجعل حكما يعارض الأحكام الأولية حتى يخصصها أو يقيدها أو يصير حاكما عليها أو يجمع بينهما بالاقتضاء والفعلية.

 

بل رفع الإثم وغفر الذنب وقال: ﴿فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(19) وفي حديث الرفع كذلك رفع المؤاخذة والعقاب على ما فعل من الحرام أو ترك من الواجب، فراجع الأبحاث المبسوطة في الحديث الشريف كما هو مطروح في الأصول. فكان الشارع عندما يرى المكلف في مقام الامتثال والإطاعة مبتلى بحالة من تلك الحالات التي تمنعه عن الامتثال ويراه أنه غير عامد في ذلك وغير متجانف لاثم في ذلك الابتلاء، يراه متعذرا معذورا من غير تغيير في نفس الأحكام وتغير في المصالح والمفاسد فيراه مبتلى بفوات المصلحة أو الوقوع في المفسدة لا عن اختيار، فهذه الحالات أعذار غير إرادية توجب فوات الأحكام، وليس الكلام في تقابل المصلحتين أو المصلحة والمفسدة وتعارضهما وتقدم الأهم والمهم؛ فإنه لم يجعل في مقام الامتثال والابتلاء بالحالات حكما خاصا بملاك خاص.

 

ويمكن أن يعبر عن ذلك بأن المولى العادي يتحمل فوات المصالح والابتلاء بالمفاسد، ولا طريق له للعقاب، فيعفو عن العبد في ارتكابه الخلاف أو تركه الواجب.

 

وعليه فلم يتغير الحكم الأولي عما كان عليه من قبل، وقريب من ذلك الأمر في الأحكام الظاهرية، فإنها لا توجب التغيير في الأحكام الأولية الواقعية وإن كان على المكلف العمل بما هو تكليفه في حال الجهل أو الشك.

 

هذا بتقريب منا، ونشير إلى بعض عبارات الإمام الراحل(قدس سره) شاهدا على ذلك:

 

1 - قال الأستاذ الأكبر الإمام الراحل(رحمه اللّه) ـ عند الكلام في الشرط ضمن العقد: «... عدم تغير أحكام الموضوعات الثابتة لها بالأدلة الأولية بعروض الطوارئ المتعلقة بها الأحكام الثانوية عليها كالشرط والنذر وغيرهما»(20).

 

2 - وقال في مقام آخر:«إن العناوين الثانوية كالشرط والنذر والعهد إذا تعلقت بشيء لا تغير حكمه، فإذا نذر صلاة الليل أو شرط فعلها على غيره لا تصير الصلاة واجبة، بل هي مستحبة وكما كانت قبل التعلق، وإنما الواجب هو الوفاء بالشرط، ومعنى وجوبه لزوم الإتيان بها بعنوان الاستحباب، فالوجوب متعلق بعنوان والاستحباب متعلق بعنوان آخر، ولا يعقل سراية الحكم من أحد العنوانين إلى الآخر، والمصداق المتحقق في الخارج ـ أي مجمع العناوين ـ هو مصداق ذاتي للصلاة وعرضي للنذر، ولا يجعلها النذر متعلقة لحكم آخر، وكذا الحال في الشرط».(21)

 

3 ـ وقال أيضا جوابا عما جمع به صاحب الكفاية (رحمه اللّه): «القول بأن قضية الجمع بين أدلة الأحكام الأولية والثانوية حمل الأولي على الحكم الاقتضائي في مورد التنافي، فيه إشكال؛ لأن الميزان في باب الحكومة والجمع العقلائي هو مساعدة فهم العرف لذلك، وإلا فمجرد كون الدليل متكفلا للأحكام الثانوية لا يوجب الحكومة ولا الحمل المذكور»(22).

 

4 ـ وقال في موضع آخر:«فكما لصاحب الحق أن يرفعه بإسقاطه كذلك له أن يدفعه بالقرار في ضمن العقد، وكذا الحال في أشباه المقام، فللزوج أن يشترط في ضمن عقد النكاح على زوجته عدم حق القسم لها، فيكون الشرط دفعا لحقها لا تصرفا في الحكم الشرعي، ولا تقييدا لدليل القسم».(23)

 

5 ـ وقال عند الكلام في شرط ترك التزويج والتسري جوابا عن توجيه الشيخ(رحمه اللّه)(24) :«مع أن التوجيه المذكور فاسد؛ لما تقدم من عدم تغير أحكام الموضوعات الثابتة لها بالأدلة الأولية بعروض الطوارئ المتعلقة بها الأحكام الثانوية عليها كالشرط والنذر وغيرهما، فالتسري والتزويج مباحان بعد الشرط كما كانا قبله»(25).

 

ولعله يكفيك ما أشرنا إليه شاهدا على مبنى الأستاذ(رحمه اللّه)، وكان كثيرا ما يناقش المحقق الأصولي الفلسفي محمد حسين الأصفهاني(رحمه اللّه) في مقام بيان المبنى بالإشارة إلى الخلط بين التكوين والاعتبار وأن ملاكات الأحكام المصالح والمفاسد وإن كانت هي العلل الأصلية لجعل الأحكام وتشريعها، وتأثيرها في ذلك وإن كان قهريا خارجا عن اختيار المشرع إلا أن ذلك تام في الأعيان والتكوين. وأما في المخترعات الشرعية والاعتباريات التي تكون بيد المعتبر اثباتا ونفيا فكما ان بيده وضع العلية والسببية والشرطية وأمثال ذلك بيده أيضا رفعها أو إيجاد الفاصلة بين السبب والمسبب في عالم الاعتبار واعتبار ما لا يمكن في العين وإن كثيرا من إشكالات المحقق الأصفهاني(رحمه اللّه) ناشئة عن الخلط بين التكوين والاعتبار، وليس هنا مقام تفصيل الكلام.

 

وأما ما يتوهم من أن الأحكام الصادرة من الحكام وولاة الأمر الشرعيين ليست أحكاما أولية ولا ثانوية، بل لا تكون أحكاما شرعية فظاهر البطلان؛ فإن نفس الولاية من الأحكام الشرعية الأولية مجعولة بأدلتها المفصلة كتابا وسنة وعقلا بل إجماعا كما فصلناه في فقه القرآن(26)، والولي الشرعي لا يحكم بحكم حكومي إلا على أساس المصلحة للأمة ورعاية الغبطة في إطار خاص يكون على عاتقه، وما ينشأ من الحكم الشرعي الأولي هو أيضا حكم شرعي أولي، وإن أبيت عن ذلك بلحاظ رعاية المصالح وتغيرها وعدم الدوام والأبدية في كثير منها فهو حكم شرعي ثانوي، كما لا يخفى.

 

وفي الختام نشير إلى بعض ما حكم به الأستاذ الأعظم الإمام الخميني(رحمه اللّه) طليعة ولايته الشرعية قبل انتصار الثورة وبعدها على أساس الحكم الولائي الحكومي:

 

مثل: الحكم بلزوم مشاركة النساء في المظاهرات الثورية وإطلاق الشعارات ضد نظام الطاغوت الحاكم ولو من غير رضاء الأزواج والآباء، وبالحكم صارت الاجتماعات أضعافا مضاعفة وأثر ذلك في تسريع الثورة وإنجاحها.

 

ومثل: الحكم بخروج الناس من بيوتهم يوم أعلن الطاغوت الحكومة العسكرية وهدد الثوريين، وقد رأينا إطاعة الناس وخروجهم بحيث قد سقط النظام الظالم في ذلك اليوم، كما هو مذكور في تاريخ الثورة الإسلامية في إيران.

 

ومثل: أحكامه(رحمه اللّه) في سنوات الحرب المفروضة على إيران بالنسبة إلى كثير من المسائل والأمور التي لم تسمح الظروف بالتصميم والعمل بها عن طرقها المتعارفة العادية سيما الحكم بتشكيل شورى المصلحة التي صارت من الأصول في الدستور بعد عشر سنين بعد إصلاحه وقضيته مشهورة وحكمه مسطور لا نطيل الكلام بذكره.

 

وتلك الأحكام وما شابهها أحكام شرعية يجب إطاعتها ويحرم التخلف عنها، ولولا ذلك لم يكن لتحقق الولاية معنى ولكان مخالفا لأساس تشريعها، كما هو ظاهر.

 

خلاصة البحث:

 

طرق الجمع بين الأحكام الأولية والثانوية أربعة:

 

الأول : حكومة الثانوية على الأولية، ذهب إليه الشيخ الأنصاري وتبعه آخرون.

 

الثاني : التخصيص والتقييد للأولية بالثانوية، تجده في كلمات بعض الأعلام.

 

الثالث : الاقتضاء في الأولية والفعلية في الثانوية، ذهب إليه صاحب الكفاية.

 

الرابع : بقاء الأولية على حالها في جميع الحالات من غير تغيير وتأثير من ناحية الثانوية والمكلف معذور لا إثم عليه في الحالات الطارئة، وهذا رأي الإمام(قدس سره)، وهو الحق.

 

والحمد للّه أولاً وآخراً ظاهراً وباطناً.

 

ـــــــــــــــــ

 

1-البقرة : 275.

 

2-المائدة : 3.

 

3-النساء : 23.

 

4-استدل به جماعة من الفقهاء، ولم نعثر عليه في المجاميع الروائية للفريقين. انظر: تعليقات على المكاسب 1 : 106.

 

5-الوسائل 20 : 384، ب‏5 مما يحرم بالرضاع، ح‏1.

 

6-المائدة : 3.

 

7-البقرة : 173.

 

8-الفصول المهمة 2 : 115، ح‏3.

 

9-انظر : مستطرفات السرائر : 554.

 

10-الفصول المهمة 2 : 55، وفيه : ((كل شي‏ء نظيف... )).

 

11-الوسائل 21 : 300، ب‏40 من المهور، ح‏4.

 

12-المكاسب (الأنصاري) 6 : 26، 27.

 

13-حاشية على كفاية الأصول (البروجردي) 2 : 336.

 

14-فوائد الأصول 3 : 414.

 

15-انظر: حاشية على كفاية الأصول (البروجردي) 2 : 464. الشيخ محمد مهدي الآصفي، نظرية الإمام الخميني : 36.

 

16-المصدر السابق.

 

17-آية اللّه محمدي گيلاني، مجلة رهنمون : 61.

 

18-ولنا في نفس اصطلاح (منطقة الفراغ) كلام في محله لا يناسب المقام البحث عنه.

 

19-البقرة : 173.

 

20-كتاب البيع 5 : 173 - 174.

 

21-كتاب البيع 5 : 68.

 

22-كتاب البيع، بحث الخيار 4 : 111.

 

23-المصدر السابق : 110.

 

24-توجيه الشيخ، لكون شرط ترك التزويج والتسري خلافا للكتاب والسنة أن ذلك من جهة تأثيره في الطلاق، فإن الشرط‏ يرجع إلى أن يكون الطلاق بيد الزوجة كما فعله الشارط

 

من جهة نفسها فإنهما مباحان، فراجع كلامه.

 

25-كتاب البيع 5 : 173.

 

26-فقه القران (اليزدي) 2 : 12 - 46.