بالسند المُتَّصِلِ إلى محمّد بن يعقوب، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَن ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رِئابِ، عن زُرارَةَ قال: سألتُ أبَا عبد الله عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿فِطْرَتَ اللهِ الّتي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها﴾. قال: «فَطَرَهُم جَميعاً على التّوحيد»[1].
الشرح:
يقول أهل اللغة والتفسير: إن «الفطرة» تعني «الخلق». وفي الصحاح: «الفِطرة» بالكسر «الخِلقة». ويمكن أن تكو ن الكلمة مأخوذة من «فَطَرَ» أي «شقّ ومزّق» كأن الخلق أشبه بشق حجب العدم والغيب. وبهذا المعنى يكون «إفطار» الصائم، فكأنه يمزق استمرارية الإمساك المتصل.
على كل حال، البحث اللغوي خارج عن نطاق بحثنا. إنما هذا الحديث الشريف إشارة إلى الآية المباركة في سورة الروم: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾[2].
فصل في معنى الفطرة
اعلم أن المقصود من «فِطْرَة الله» التي فطر الناس عليها هو الحال والكيفية التي خلق الناس وهم متّصفون بها والتي تعد من لوازم وجودهم. ولذلك «تخمّرت» طينتهم بها في أصل الخلق. والفطرة الإلهية ـ كما سيتبيّن فيما بعد ـ من الألطاف التي خصّ الله تعالى بها الإنسان من بين جميع المخلوقات، إذ إن الموجودات الأخرى غير الإنسان إمّا أنها لا تملك مثل هذه الفطرة المذكورة وإما أن لها حظاً ضئيلا منها.
وهنا لا بُدَّ من معرفة أن «الفطرة»، وإن فسرت في هذا الحديث الشريف وغيره من الأحاديث[3] «بالتوحيد» إلاّ أن هذا هو من قبيل بيان المصداق، أو التفسير بأشراف أجزاء الشيء، كأكثر التفاسير الواردة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام، وفي كل مرة تفسر بمصداق جديد بحسب مقتضى المناسبة، فيحسب الجاهل أن هناك تعارضاً. والدليل على أن المقام كذلك هو أن الآية الشريفة تعتبر «الدين» هو «فطرة الله» مع أن الدين يشمل التوحيد والمبادئ الأخرى.
وفي «صحيحة» عبد الله بن سنان[4] فسرت الفطرة على أنها تعني «الإسلام». وفي «حسنة» زرارة[5] فسرت «بالمعرفة»، وفي الحديث المعروف: «كلُّ مولودٍ يولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ» جاءت في قبال «التهوّد» و«التنصّر» و«التمجّس»[6] كما أن الإمام الباقر عليه السلام في حسنة زرارة المذكورة فسّرها «بالمعرفة». وعليه، «فالفطرة» ليست مقصورة على التوحيد، بل إن جميع المبادئ الحقّة هي من الأمور التي فَطَرَ الله تعالى الإنسان عليها.
فصل: في تحديد أحكام الفطرة
لا بُدَّ أن تعرف بأن ما هو من أحكام الفطرة لا يمكن أن يختلف فيه اثنان، من ناحية أنها من لوازم الوجود وقد تخمّرت في أصل الطبيعة والخلقة. فالجميع، من الجاهل والمتوحش والمتحضر والمدني والبدوي، مجمعون على ذلك. وليس ثمّة منفذ للعادات والمذاهب والطرق المختلفة للتسلّل إليها والإخلال بها. إن اختلاف البلاد والأهواء والمأنوسات والآراء والعادات، التي توجب وتسبّب الخلاف والإختلاف في كل شيء، حتى في الأحكام العقلية، ليس لها مثل هذا التأثير أبداً في الأمور الفطرية. كما أن اختلاف الإدراك والإفهام قوة وضعفاً لا تؤثر فيها. وإذا لم يكن الشيء بتلك الكيفية فليس من أحكام الفطرة ويجب إخراجه من فصيلة الأمور الفطرية. ولذلك تقول الآية: ﴿فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ أي أنها لا تختص بفئة خاصة ولا طائفة من الناس. ويقول تعالى أيضاً: ﴿لاَ تبديلَ لِخَلْقِِ الله﴾ أي لا يغيّره شيء، كما هو شأن الأمور الأخرى التي تختلف بتأثير العادات وغيرها.
ولكن مما يثير الدهشة والعجب أنه على الرغم من عدم وجود أي خلاف بشأن الأمور الفطرية، من أول العالم إلى آخره، فإن الناس يكادون أن يكونوا غافلين عن أنهم متفقون، ويظنون أنهم مختلفون، ما لم ينبههم أحد على ذلك، وعند ذلك يدركون أنهم كانوا متفقين رغم اختلافهم في الظاهر ـ كما سيتضح ذلك فيما يأتي من البحث إن شاء الله ـ.
وهذا ما تشير إليه الجملة الأخيرة من الآية الشريفة: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾.
فيتضح مما سبق ذكره أن أحكام الفطرة أكثر بداهة من كل أمر بديهي. إذ لا يوجد في جميع الأحكام العقلية حكم مثلها في البداهة والوضوح، حيث لم يختلف فيه الناس ولن يختلفوا. وعلى هذا الأساس تكون الفطرة من أوضح الضروريات وأبده البديهيات، كما أن لوازمها أيضاً يجب أن تكون من أوضح الضروريات. فإذا كان التوحيد أو سائر المعارف من أحكام الفطرة أو من لوازمها، وجب أن يكون من أوضح الضروريات وأجلى البديهيات ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾.
فصل: إشارة إجمالية في أحكام الفطرة
إعلم أن المفسرين، من العامة والخاصة، فسّروا كلٌ على طريقته، كيفية كون الدين أو التوحيد من الفطرة. ولكننا في هذه الوريقات لا نجري مجراهم وإنما نستفيد في هذا المقام من آراء الشيخ العارف الكامل (الشاه آبادي) الذي هو نسيج وحده في هذا الميدان[7] ولو أن بعضها قد ورد بصورة الإشارة والرمز في بعض كتب المحققين من أهل المعارف، وبعضها الآخر مما خطر في فكري القاصر.
إذاً، لابُدَّ أن نعرف أن من أنواع الفطرة الإلهية ما يكون على «أصل وجود المبدأ» تعالى وتقدس ومنها الفطرة على «التوحيد» وأخرى على «استجماع ذات الله المقدسة لجميع الكمالات» وأخرى على «المعاد ويوم القيامة» وأخرى على «النبوة» و«وجود الملائكة والروحانيين وإنـزال الكتب وإعلان طريق الهداية». وهذه الأمور بعضها من الفطرة، وبعضها من لوازم الفطرة. فالإيمان بالله تعالى وبملائكته وكتبه ورسله وبيوم القيامة، هو الدين القيم المحكم والمستقيم والحق على امتداد حياة المجموعة البشرية. ولسوف نشير إلى بعض منها مما يتناسب والحديث الشريف، طالبين التوفيق من الحق تعالى.
المقام الأول: في بيان أن أصل وجود المبدأ المتعالي جل وعلا من الأمور الفطرية
وهذا يتضح بعد التنبيه إلى مقدمة واحدة هي: أن من الأمور الفطرية التي جبلت عليها سلسلة بني البشر بأكملها، بحيث أنك لن تجد فرداً واحداً ف ي كل المجموعة البشرية يخالفها، ولن تستطيع العادات والأخلاق والمذاهب والمسالك وغيرها لا يمكن أن تبدلها ولا أن تحدث فيها خللاً، إنّها «الفطرة التي تعشق الكمال». فأنت إن تجولت في جميع الأدوار التي مرّ بها الإنسان، واستنطقت كل فرد من الأفراد، وكل طائفة من الطوائف، وكل ملّة من الملل، يجد هذا العشق والحب قد جبل في طينته، فتجد قلبه متوجهاً نحو الكمال. بل إن ما يحدد الإنسان ويدفعه في سكناته وتحركاته، وكل العناء والجهود المضنية التي يبذلها كل فرد في مجال عمله وتخصصه، إنما هو نابع من حب الكمال، على الرغم من وجود منتهى الخلاف بين الناس فيما يرونه من الكمال؟ وأين يوجد الحبيب ويشاهد المعشوق؟.
فكلٌ يجد معشوقه في شيء، ظاناً أن ذلك هو الكمال وكعبة الآمال، فيتخيله في أمر معيّن، فيتوجه إليه، فيتفانى في سبيله تفاني العاشق. إن أهل الدنيا وزخارفها يحسبون الكمال في الثروة، ويجدون معشوقهم فيها، فيبذلون من كل وجودهم الجهد والخدمة الخالصة في سبيل تحصيلها فكل شخص، مهما يكن نوع عمله، ومهما يكن موضع حبه وتعشقه، فإنه لاعتقاده بأن ذلك هم الكمال يتوجه نحوه. وهكذا حال أهل العلوم والصنايع، كلٌ يرى الكمال في شيء ويعتقد أنه معشوقه، بينما يرى أهل الآخرة والذكر والفكر غير ذلك...
وعليه، فجميعهم يسعون نحو الكمال. فإذا ما تصوّره في شيءٍ موجود أو موهوم تعلّقوا به وعشقوه. ولكن لا بُدَّ أن نعرف أنه على الرغم من هذا الذي قيل، فإن حب هؤلاء وعشقهم ليس في الحقيقة لهذا الذي ظنوه بأنه معشوقهم، وإن ما توهّموه وتخيّلوه ويبحثون عنه ليس هو كعبة آمالهم. إذ لو أن كل واحد منهم رجع إلى فطرته لوجد أن قلبه في الوقت الذي يظهر العشق لشيءٍ مّا فإنه يتحوّل عن هذا المعشوق إلى غيره إذا وجد الثاني أكمل من الأول، ثم إذا عثر على أكمل من الثاني، ترك الثاني وانتقل بحبه إلى الأكمل منه، بل أن نيران عشقه لتزداد اشتعالاً حتى لا يعود قلبه يلقى برحاله في أية درجة من الدرجات ولا يرضى بأي حد من الحدود.
مثلاً، إذا كنتَ تحب جمال القدود ونضارة الوجوه، عثرت على ذلك عند من تراها كذلك، توجّه قلبك نحوها. فإذا لاح لك جمالٌ أجمل، لا شك في أنك سوف تتوجه إلى الجميل الأجمل، أو أنك على الأقل تطلب الاثنين معا، ومع ذلك لا تخمد نار الاشتياق عندك، ولسان حال فطرتك يقول: كيف السبيل إليهما معا؟ ولكن الواقع هو أنك تطلب كل جميل تراه أجمل، بل قد تزداد اشتياقا بالتخيل، فقد تتخيل أن هناك جميلاً أجمل من كل ما تراه بعينك، في مكان ما، فيحلق قلبك طائراً إلى بلد الحبيب، ولسان حالك يقول: أنا بين الجمع وقلبي في مكان آخر. وقد تعشق ما تتمنى. فأنت إن سمعت بأوصاف الجنة وما فيها من الوجوه الساحرة ـ حتى وإن لم تكن تؤمن بالجنة لا سمح الله ـ قالت فطرتك: ليت هذه الجنة موجودة وليتهن كُنَّ من نصيبي!.
وهكذا الذين يرون الكمال في السلطان والنفوذ واتساع الملك، يتّجه حبهم واشتياقهم إلى ذلك. فهم إذا بسطوا سلطانهم على دولة واحدة، توجّهت أنظارهم إلى دولة أخرى، فإذا دخلت تلك الدولة أيضاً تحت سيطرتهم، تطلعت أعينهم إلى أكثر من ذلك. فهم كلما استولوا على قطر، اتجه حبهم إلى الاستيلاء على أقطار أخرى، بل تزداد نار تطلعاتهم لهيباً، وإذا بسطوا سلطانهم على الأرض كلها، وتخيلوا إمكان بسط سلطتهم على الكواكب الأخرى، تمنّت قلوبهم لو كان بالإمكان أن يطيروا إلى تلك العوالم كي يخضعوها لسيطرتهم.
وقس على ذلك أصحاب الصناعات ورجال العلم، وغيرهم، وكل أفراد الجنس البشري، مهما تكن مهنتهم وحِرَفهم، فهم كلما تقدموا فيها مرحلة متقدمة، ورغبوا في بلوغ مرحلة أكمل من سابقتها، ولهذا يشتدّ شوقهم وتطلّعهم.
إذاً، فنور الفطرة قد هدانا إلى أن نعرف أن قلوب جميع أ بناء البشر، من أهالي أقصى المعمورة وسكان البوادي والغابات إلى شعوب الدول المتحضرة في العالم، ابتداءً بالطبيعيين والماديين وانتهاء بأهل الملل والنِحل، تتوجه قلوبهم بالفطرة إلى الكمال الذي لا نقص فيه، فيعشقون الكمال الذي لا عيب فيه ولا كمال بعده، والعلم الذي لا جهل فيه، والقدرة التي لا تعجز عن شيء، والحياة التي لا موت فيها، أي أن «الكمال المطلق» هو معشوق الجميع. إن جميع الكائنات والعائلة البشرية، يقولون بلسان فصيح واحد وبقلب واحد: إننا نعشق الكمال المطلق، إننا نحب الجمال والجلال المطلق، إننا نطلب القدرة المطلقة، والعلم المطلق. فهل هناك في جميع سلسلة الكائنات، أو في عالم التصور والخيال، وفي كل التجويزات العقلية والاعتبارية، كائن مطلق الكمال ومطلق الجمال، سوى الله تقدست أسماؤه، مبدأ العالم جلّت عظمته؟ وهل الجميل على الإطلاق الذي لا نقص فيه إلاّ ذلك المحبوب المطلق؟.
فيا أيها الهائمون في وادي الحسرات والضائعون في صحاري الضلالات. بل أيتها الفراشات الهائمة حول شمعة جمال الجميل المطلق، ويا عشّاق الحبيب الخالي من العيوب والدائم الأزلي، عودوا قليلاً إلى كتاب الفطرة وتصفحوا كتاب ذاتكم لتروا أن قلم قدرة الفطرة الإلهية قد كتب فيه: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ (الأنعام/79). فهل أن «فطر الله التي فطر الناس عليها» هي فطرة التوجه نحو المحبوب المطلق؟ وهل أن الفطرة التي لا تتبدل «لا تبديلَ لِخلقِِ الله» هي فطرة المعرفة؟ فإلى متى توجه هذه الفطرة التي وهبك الله إياها نحو الخيالات الباطلة، نحو هذا وذاك من المخلوقات لله؟ إذا كان محبوبك هو هذا الجمال الناقص والكمالات المحدودة، فلماذا عندما تصل إليها يبقى اشتياقك ملتهباً لا يخمد، بل يزداد ويشتد؟.
تيقّظ من نوم الغفلة واستبشر فرحاً بأن لك محبوباً لا يزول، ومعشوقاً لا نقص فيه، ومطلوباً من دون عيب، وأن لك مقصوداً يكون نور طلعته هو النور ﴿الله نُورُ السمواتِ والأرض﴾[8]، وأن محبوبك ذو إحاطة واسعة «لو دُلّيتُمْ بِحَبْلٍ إِلى الأرضين السُّفلى لَهِبَطْتُمْ على الله»[9] (راجع كتاب معجم الأحاديث النبوية. مادة (د ل و)). إذن يستوجب عشقك الحقيقي معشوقاً حقيقياً، ولا يمكن أن يكون شيئاً متوهماً متخيلاً، إذ أن كل موهوم ناقص، والفطرة إنّما تتوجه إلى الكمال. فالعاشق الحقيقي والعشق الحقيقي لا يكون من دون معشوق، ولا يكون غير الله الكامل، معشوقاً تتجه إليه الفطرة. فلازم تعشق الكمال المطلق وجود الكمال المطلق. وقد سبق أن عرفنا أن أحكام الفطرة ولوازمها أوضح من جميع البديهيات ﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ (إبراهيم/ 10).
المقام الثاني: في بيان أن توحيد الحق المتعالي وصفاته الأخرى فطرية
في بيان أن توحيد الحق ـ تعالى شأنه ـ واستجماع ذاته لكل الكمالات من الأمور الفطرية، وبالانتباه إلى ما جاء في المقام الأول يتضح ذلك أيضاً إلاّ أننا سنبرهن على ذلك ببيان آخر هنا أيضاً.
اعلم أن من الأمور الفطرية التي «فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا» هو النفور من النقص، ولذلك فإن الإنسان ينفر من كل ناقص، قد وجد فيه نقصاً وعيباً. إذاً، فالفطرة تنفر من النقص والعيب كما أنها تنجذب إلى الكمال. فالفطرة لا بد وأن تتوجه إلى الواحد الأحد، لأن كل كثير ومركب ناقص، ولا تكون الكثرة دون محدودية مع أن المحدودية نقص. وكل ناقص مرغوب عنه من جانب الفطرة وليس بمرغوب فيه. إذاً، أمكن من هاتين الفطرتين: «فطرة حب الكمال» و«فطرة النفور من النقص» إثبات التوحيد. بل إن استجماع الله لجميع الكمالات، وخلو ذاته المقدسة من كل نقص، قد ثبت بالفطرة أيضاً. وسورة التوحيد المباركة التي تبيّن نسب الحق المتعالي، وبحسب رأي شيخنا (الشيخ محمد علي الشاه آبادي) (روحي فداه)[10] إن الهوية المطلقة، التي تتوجه إليها الفطرة، والتي أشير إليها في صدر سورة التوحيد المباركة بكلمة «هو» المباركة، تعد برهاناً على الصفات الستّ المذكورة بعد ذلك. إذ لمّا كانت ذات الله المقدسة هوية مطلقة، والهوية المطلقة يجب أن تكون كاملة مطلقة، وإلاّ لكانت محدودة، ولم تكن مطلقة، فهو مستجمع لجميع الكمالات، فهو «اللهُ». وفي الوقت الذي يكون مستجمعاً لجميع الكمالات يكون بسيطاً، وإلاّ فالهوية لا تكون مطلقة، إذاً فهو «أحد» ولازم الأحدية هو الواحدية ولما كانت الهوية المطلقة المستجمعة لجميع الكمالات منـزهة عن جميع النقائص، التي تعود بأجمعها إلى الماهية، إذاً فتلك الذات المقدسة هي «الصَّمَدْ» وليست جوفاء. ولما كانت الهوية مطلقة، فلن يتولد منها شيء ولا ينفصل عنها شيء، ولا ينفصل هو عن ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ وإنما هو مبدأ كل شيء ومرجع جميع الموجودات، بدون الانفصال الذي يوجب النقصان. والهوية المطلقة أيضاً ليس لها كفو. إذ لا يمكن تصور التكرار في الكمال الصرف. إذاً فالسورة المباركة (الإِخلاص) من أحكام الفطرة ولبيان نسب الحق المتعال.
المقام الثالث في بيان أن المعاد فطريإن
إن «المعاد» أو يوم القيامة من الأمور الفطرية المجبولة عليها طينة البشر. وهذا أيضاً، مثل المقامين السابقين، يمكن البرهنة عليه بطرق كثيرة وأمور فطرية عديدة، ونحن هنا نشير إلى بعض منها.
اعلم إن من الفطريات الإلهية التي فُطِرت عليها العائلة البشرية كافة هي فطرة حب الراحة. فلو أنك في كل أدوار التمدن والتوحش. والتدين والعناد رجعت إلى هذا الإنسان، الجاهل والعالم، والوضيع والشريف، والمدني والبدوي، وسألته: «لِمَ كل هذا التعلق المتنوع والأهواء الشتى، وما الغاية من تحمل ك ل هذه المشقات والصعوبات والمعاناة في الحياة؟» فإنهم جميعاً وبكلمة واحدة وبلسان الفطرة الصريح يجيبون قائلين: بأن كل ما يتوخونه إنما هو لراحتهم، والغاية النهائية والمرام الأخير وأقصى ما يتمنونه هو الراحة المطلقة الخالية من العناء. فلما كانت هذه الراحة التي لا تمازجها مشقة والتي لا يشوبها ألم ونقمة هي معشوقة الجميع، وكانت هذه المعشوقة المفقودة لدى كل إنسان مقصورة في شيء، لذلك فهو عندما يحب شيئاً يتصور محبوبه فيه، مع أن مثل هذه الراحة المطلقة لا وجود لها في كل أرجاء العالم وزواياه. إذ ليس من الممكن أن تعثر على راحة غير مشوبة بالألم. إن جميع نِعم هذا العالم يصاحبها العناء والعذاب المضني، وما من لذة إلاّ وفيها ألم. إن العذاب والتعب والألم والحزن والهم والغم تملأ أرجاء الأرض.
وعلى امتداد حياة الإنسان لن تجد فرداً واحداً يتساوى عذابه وراحته، ونعمته توازي تعبه ونقمته ونصبه، ناهيك عن الراحة الخالصة المطلقة. وبناءً على ذلك فإن معشوق الإنسان لا يوجد في هذا العالم الدنيوي. إن العشق الفطري الذي جبل عليه أبناء البشر لا يكون من دون معشوق موجود فعلا.
إذاً، لا بُدَّ من أن يكون هناك في دار التحقق وعالم الوجود عالم لا تشوب راحته شائبة من ألم وعذاب وتعب، راحة مطلقة لا يخالطها شيء من العناء والشقاق، سرور دائم خالص لا يعتوره حزن ولا همّ. ذلك العالم هو «دار نعيم الله» عالم كرم ذات الله المقدسة.
وهو عالم يمكن إثباته بفطرة الحرية ونفوذ الإرادة الموجودة في فطرة كل إنسان. ولما كانت مواد هذا العالم وما به من العسر والضيق مما يستعصي على حرية الإنسان وإرادته، فلا بُدَّ إذاً، أن يكون هناك عالم آخر تكون للإرادة فيه كلمة نافذة، ولا تستعصي مواده على إرادة الإنسان، ويكون الإنسان في ذلك العالم فعّالاً لما يشاء والحاكم بما يريد، حسبما تقتضيه الفطرة.
إذاً، يعتبر العشق للراحة والعشق للحريّة هما الجانبان المودعان لدى الإنسان، بموجب فطرة الله التي لا تتبدل، فيحلق بهما في عالم الملكوت الأعلى متقرباً إلى الله.
وفي المقام مواضيع أخرى لا تسعها هذه الأوراق؛ وفيها فطرات أخرى لإثبات المعارف الحقّه، مثل إثبات النبوة، وبعثة الرسل، وإنـزال الكتب السماوية. بل بفطرة واحدة من هذه الفطر المذكورة يمكن إثبات جميع المعارف. ولكننا نكتفي بهذا القدر لئلا نخرج عن الموضوع ولكيلا نشرح ما لا يناسب مع الحديث الشريف.
إلى هنا عرفنا أن العالم بالمبدأ، والكمالات، ووحدتها، والمعاد، وعالم الآخرة كلها من الأمور الفطرية.
والحمد لله.
ـــــــــــــــ
[1] أصول الكافي، ج2 ص12 "كتاب الإيمان والكفر، باب فطرة الخلق على التوحيد" الحديث 3.
[2] الروم: 30
[3] أصول الكافي، ج2 ص12، 13 «كتاب الإيمان والكفر، فطرة الخلق على التوحيد» الحديث 1، 5. التوحيد، ص 328 ـ 331 الباب 53 الأحاديث 1، 2، 4 ـ 8. تفسير البرهان، ج3 ص 261 ـ 263 ذيل الآية 30 من سورة الروم.
[4] عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (ع) قال: سألته عن قول الله عز وجل «فطرة الله التي فطر الناس عليها» ما تلك الفطرة؟ قال: هي الإسلام. فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد. قال: «ألست بربكم» وفيه المؤمن والكافر.
[5] عن زرارة، عن أبي جعفر (ع) قال: سألته عن قول الله عز وجل: «حنفاء الله غير مشركين به» قال: الحنيفية من الفطرة التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله. قال: فطرهم على المعرفة به، ... قال: قال رسول الله (ص) : كل مولود يولد على الفطرة. يعني المعرفة بأن الله عز وجل خالقه كذلك قوله «ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله».
[6] قال (ص) : " كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه». عوالي اللئالي، ج1 ص35 الفصل الرابع، الحديث 18.
[7] رشحات البحار، ص28ـ 31 «كتاب الإنسان والفطرة».
[8] النور: 35.
[9] علم اليقين، ج1 ص54 المقصد الأول، الباب 3 الفصل 5.
[10] (أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب فطرة الخـلق على التوحيد، ح 3)
تعليقات الزوار