بالسند المتّصل إلى ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكلينيِّ ـ رحمه الله ـ عن محمّد بن يحيى، عن أحمدَ بنِ محمّدٍ، عن محمَّد بنِ خالدٍ؛ وَالحسينِ بنِ سَعيدٍ جميعاً، عن القاسم بن محمَّد، عن عبد الصَّمد بن بشير، عن بعض أصحابه، عنى أبي عبد الله عليه السلام قال: «قُلْتُ: أصْلَحَكَ اللهُ مَنْ أحَبَّ لِقاء اللهِ لِقَاءهُ وَمَنْ أبْغَضَ لِقَاء اللهِ أبْغَض الله لِقاءهُ؟ قالَ: نَعَمْ قُلْتُ: فَوَاللهِ إنّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ: فَقالَ: لَيْسَ ذلِكَ حَيْثُ تَذْهَبُ، إنَّما ذلِكَ عِنْدَ الْمُعايَنَةِ إذا رَأى ما يُحِبُّ فَلَيْسَ شَيْءٌ أحَبَّ إلَيْهِ مِنْ أنْ يَقْدِمَ عَلَى اللهِ، وَاللهُ تَعالى يُحِبُّ لِقاءَهُ وَهُوَ يُحِبُّ لِقاءَ اللهِ حينَئِذٍ، وَإذا رَأى ما يِكْرَهُ فَلَيْسَ شَيْءٌ أبْغَضَ إلَيْهِ مِنْ لِقاءِ اللهِ وَاللهُ يُبْغِضُ لِقاءَهُ»[1].

 

الشرح:

 

أصْلَحَكَ الله دعاء في الخير، ولا يلزم في الدعاء أن يكون المدعو له فاقداً لمضمون الدعاء، بل الدعاء مستحب حتى وإن كان مضمونه حاصلاً في المدعو له. فيكون الدعاء للإمام الصادق عليه السّلام بالصلاح والسداد ضمن الحدود المتعارفة.

 

كما أن جملة غَفَر اللهُ لَكَ ووعَفَا اللهُ عَنْكَ من الأدعية التي يصلح أن ندعو بها لتلك الذوات المقدسة. وقد حمل بعض الآية الكريمة (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) [2]. على هذا المعنى المذكور، وقالوا إن هذه الآية المباركة بمثابة أن يقال غَفَرَ الله لَكَ ولا يجب أن يكون الطلب من أجل تحقق مضمونه. ولكن هذا التفسير في الآية المباركة بعيد. ونحن قد بيّنا ذلك في شرح حديث من الأحاديث السابقة [3] وعلى كل حال فإن الصحيح هو عدم توقع حصول المضمون من هذه الإنشاءات والأدعية من المدعو غالباً.

 

اللَقَاء بفتح اللام وكسره، مصدر لقي على وزن رضي، كما أن لِقَاءَهً ولِقَايَةً ولِقْيّاً ولِقْياناً ولِقْيانَةً بكسر اللام في جميع ذلك ولُقياً ولُقىً ولُقْياناً ولُقْيَةً ولُقْيانَةً بضم اللام في جميع ذلك، مصدر لقي أيضاً، ومعناه لرؤية واللقاء. ويأتي بيان معنى لقاء الله حسب ما يتناسب وحجم هذا الكتاب.

 

وأبْغَضَ من باب الأفعال، وبَغُضَ مثل ـ كَرُمَ، ونَصَرَ وَفَرِحَ بَغَاضَةً فهو بَغيضٌ، بمعنى ضد الحب. وبغْضَة وبَغْضاء شدّة البغض. وعلى أي حال فإن الحب والبغض من الصفات النفسية المتقابلة، ومعناهما واضح لدى الوجدان، مثل وضوح كافة المعاني الوجدانية والصفات النفسية التي تكون حقيقتها أوضح من الإدلاء بمعانيها. وسيأتي معنى نسبة الحب والبغض إلى الذات الحق المقدس، وإنها بأي اعتبار تكون، إنشاء الله تعالى.

 

قوله إنّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ ولما تصور الراوي الموت ملازما مع لقاء الله أو كان مقصوده من لقاء الله نفس الموت. اعتبر كره الموت كرها للقاء الله تعالى، فسأل هذا السؤال، فأجاب الإمام عليه السلام بأنه ليس المقياس كراهية الموت بصورة مطلقة بل الميزان كراهية الموت لدى نزع الروح عندما يرى آثار الملكوت والعوالم الأخرى.

 

وقوله عليه السلام «لَيْسَ ذلك حَيْثُ تَذْهَبُ». يستعمل كثيراً في اللغة العربية مثل هذا التعبير، ويقصدون منه ذهاب الوهم، بل التعبير المتداول في الذهاب ومشتقاته هو ذهاب الوهم والعقيدة وأمثالها. كما أن المذهب يكون بهذا المعنى. وهذا يبتنى على الاستعارة لأنه مأخوذ من الذهاب الخارجي.

 

قوله عليه السلام عِنْدَ المُعَايَنَةِ، المعاينة مصدر من باب المفاعلة وعايَنْتُ الشَّيْءَ عِياناً إذا رَأَيْتَهُ بِعَيْنِكَ. ويسمى حين النزع والاحتضار بالمعاينة، لأن الميّت يشاهد آثار عالم الآخرة بعينه، حيث تنفتح عيونه الغيبية الملكوتية، وتنكشف له نبذة من أحوال الملكوت، ويعاين بعض آثار وأعمال وأحوال نفسه.

 

ونحن نذكر ما يحتاج من الحديث الشريف إلى الشرح والبيان في خلال فصول. وعلى الله التُّكلانُ.

 

فصل: في لقاء الله وكيفيته

 

اعلم أن الآيات والأخبار الواردة في لقاء الله صراحة أو كناية وإشارة، كثيرة لا يسع هذا المختصر الخوض في ذلك مفصلاً. ولكننا نشير إلى بعضها بصورة

 

مختصرة. ومن أراد التفصيل في ذلك أكثر فعلية مراجعة كتاب (لقاء الله) للمرحوم العارف بالله، الحاج ميرزا جواد التبريزي قدس سره، حيث جمع إلى حد كبير الأخبار المأثورة في هذا الموضوع.

 

اعلم بأنه قد ذهب بعض العلماء والمفسرين إلى سدّ باب السبيل إلى (لقاء الله) نهائياً، والجحود للمشاهدات العينية والتجليات الذاتية والأسمائية، زاعمين بذلك أنهم ينزهون الذات المقدس، ومفسرين جميع آيات لقاء الله وأحاديثها، بلقاء يوم الآخرة، ولقاء الجزاء والثواب والعقاب.

 

وهذا التوجيه ليس ببعيد كثيراً، بالنسبة إلى مطلق اللقاء واتجاه بعض الآيات والروايات، ولكنّه بالنسبة إلى بعض الأدعية المعتبرة والأحاديث المأثورة في الكتب المعتبرة، والأحاديث المشهورة التي ارتكز عليها علماؤنا العظام، موهون وبعيد جداً.

 

ولا بد أن تعرف بأنه ليس مقصود من أجاز فتح الطريق على لقاء الله ومشاهدة جمال الحق وجلاله، جواز اكتناه ـ التعرف على الحقيقة والذات ـ ذاته المقدس، أو إمكان الإحاطة في العلم الحضوري والمشاهدة العينية الروحانية، على ذاته، المحيط بكل شيء على الإطلاق، فإن امتناع الاكتناه لذاته المقدس بالفكر في العلم الكلي ـ الفلسفة ـ وامتناع الإحاطة بالبصيرة في العرفان، من الأمور البرهانية، ومتّفق عليه لدى جميع العقلاء، وأرباب القلوب والمعارف. بل المقصود لدى من يدعي مقام لقاء الله هو: أنه بعد حصول التقوى التامة والكاملة، وانصراف القلب نهائياً عن جميع العوالم، ورفض التوجه نحو النشأتين ـ المُلك والملكوت ـ ووطأ الأنانية والإنيّة، والإقبال الكلي نحو الحق المتعالي وأسماء ذاته المقدس وصفاته، والانصهار في عشق ذاته المقدس وحبّه، وتحمّل جهد وترويض القلب، يحصل صفاء في القلب لدى السالك يبعث على تجلّي أسماءه وصفاته، وتمزّق الحجب الغليظة التي أسدلت بين العبد من جهة والأسماء والصفات. من جهة أخرى، والفناء في الأسماء والصفات، والتعلق بعزّ قدسه وجلاله والتدلّي التام بذاته. وفي هذا الحال لا يوجد حاجز بين روح السالك المقدسة والحق المتعالي سوى حجاب الأسماء والصفات.

 

ويمكن أن يرفع الستار النوري للأسماء والصفات لبعض أرباب السلوك أيضاً، وينال التجليات الذاتية الغيبية، ويرى نفسه متدلياً ومتعلقاً بالذات المقدس، ويشهد الإحاطة القيومية للحق والفناء الذاتي لنفسه، ويرى بالعيان أن وجوده ووجود كافة الكائنات، ظلاًّ للحق المتعالي.

 

وكما قامت البراهين على أنه لا حجاب بين الحق سبحانه وتعالى والمخلوق الأول المجرد عن جميع المواد والتعلقات، بل البرهان قائم على عدم وجود حجاب بين الحق وكافة المجردات بشكل عام، فكذلك لا يوجد حجاب بين هذا القلب الذي يبلغ في سعته وإحاطته الموجودات المجردة بل اجتيازها ووطئ بأقدامه على رؤوسها، وبين الحق المتعالي. كما في الحديث الشريف المنقول عن (الكافي) و(التوحيد) :

 

«إنَّ رُوحَ المُؤْمِنِ لأَشَدُّ اتِّصالاً بِرُوحِ اللهِ مِنْ اتِّصالِ شُعاعِ الشَّمْسِ بِهَا» [4] وفي المناجاة الشعبانية المقبولة لدى العلماء، والتي يدل مضمونها على أن هذه المناجاة من الأئمة المعصومين عليهم السّلام: «إِلهي هَبْ لِي كَمَالَ الانْقِطَاع إِلَيْكَ، وَأَنْرِ أَبْصَارَ قُلوبِنَا بِضِياءِ نَظَرِها إِلَيْكَ حَتّى تَخْرِقَ أَبْصَارُ القُلوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ إِلَى مَعْدِنِ العَظَمَةِ وَتَصِيرَ أرْوَاحُنَا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ. إِلهِي وَاجْعَلْنِي مِمَّنْ نَادَيْتَهُ فأجابَكَ وَلاحَظْتَهُ فَصَعِقَ لِجَلالِكَ فَناجَيْتَهُ سِرّاً وعَمِلَ لَكَ جَهْراً» [5]. وفي الكتاب الإلهي الشريف، لدى حكاية معراج الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) [6]. ولا تتنافى هذه المشاهدة الحضورية الفنائية، مع البرهان على عدم الاكتناه والإحاطة للذات المقدسة، ومع الأخبار والآيات التي تدل على تنزيه الحق جلا وعلا من كل عيب ونقص وحدّ. بل يكون مؤكداً ومؤيّداً لها. فانظر الآن ما جدوى هذه التوجيهات والتأويلات البعيدة؟ هل نستطيع أن نوجه كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام الذي يقول «فَهَبْني صَبَرْتُ عَلى عَذابِكَ

 

فَكَيْفَ أصْبِرُ عَلى فِراقِكَ» [7] هل أن تحرّق وتألّم أولياء الله، من فراق حور العين وقصور الجنه؟ وهل يمكن تفسير هذه الجملة (ما عَبَدْتُكَ خَوْفاً مِنْ نارِكَ وَلا طَمَعاً فِي جَنَّتِكَ بَلْ وَجَدْتُكَ أَهْلاً لِلْعِبادَةِ فَعَبَدْتُكَ عِبادَةَ الأَحْرارِ) على أن هذا الأنين هل هو من جرّاء الفراق عن الجنة وأطعمتها؟ هيهات أن يكون ذالك، إنه لكلام غير موزون، وتوجيه غير مقبول.

 

هل يمكن القول أن تجلّي جمال الحق سبحانه ليلة المعراج، والمجلس الذي أقيم في تلك الليلة من دون أن يحضرها أحد من الكائنات أو لم يطلع على أسراره أحد، حتى أمين الوحي جبرائيل، بأنه مشاهدة للجنة وقصورها المشيّدة، وأن أنوار العظمة والجلال هي رؤية لنعم الحق؟

 

هل أن التجلّيات التي حصلت للأنبياء عليهم السلام، التي ورد ذكرها في الأدعية المعتبرة هي من قبيل النعم والمأكول والمشروب أو البساتين والقصور؟

 

ومن المؤسف أننا نحن المساكين، المسجونين في الحجب المظلمة، والمصفدون بسلاسل الآمال والأمنيات، لا نفهم إلاّ المطعومات والمشروبات والمنكوحات وأمثالها، وإذا أراد فيلسوف أو عارف أن يرفع هذه الحجب، اعتبرنا سعيه هذا غلطاً وخطأً، وما دمنا مسجونين في البئر المظلم، عالم المُلك لم نستوعب شيئا من أصحاب المعارف والمشاهدات.

 

ولكن عزيزي: لا تقارن نفسك مع الأولياء، ولا تظن بأن قلبك يضاهي قلوب الأنبياء وأهل المعارف. إن قلوبنا المشحونة بغبار التعلق بالدنيا، وملذاتها وإن انغماسنا في الشهوات يمنع قلوبنا من أن تكون مرآة لتجلي الحق سبحانه، ومحلاً لظهور المحبوب. ومن المعلوم أننا لا نعي شيئا من تجليات الحق وجماله وجلاله عندما نشعر بالأنانية والذاتية والمحورية بل يجب أن نكذب في هذا الحال أحاديث الأولياء وأهل المعرفة، فإن لم نكذّبها بألسنتنا في الظاهر، لكذّبناها في قلوبنا. وإن لم نجد سبيلاً للتكذيب، بأن كانت أحاديث النبي صلى اله عليه وآله وسلم أو الأئمة المعصومين عليهم السلام، لفتحنا باب التأويل والتفسير، وفي النهاية نسدّ باب معرفة الله.

 

فنفسر قوله (مَا رَأَيْتُ شَيْئاً إلاّ وَرَأَيْتُ اللهَ مَعَهُ وَقَبْلَهُ وَفِيهِ) على رؤية الآثار. وقوله لَمْ أَعْبُدْ رَبّاً لَمْ أَرَهُ بالعلم بالمفاهيم الكلية التي تضارع علومنا، وقوله في آياته الكريمة التي تتحدث عن لقاء الله، بلقاء يوم الجزاء. وقوله لي مَعَ الله حَالَةٌ بحالة الرقّة في القلب. وقوله وَارْزُقْنِي النَّظَرَ إِلَى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ وتأوّه الأولياء وتحرّقهم في معاناة الفراق، بالبعد عن حور العين، وطيور الجنة وهذه التفاسير لا تكون إلا نتيجة أننا لا نكون رجال تلك الساحات، ولا نفهم إلا المتع الحيوانية والجسمانية دون غيرها، ولهذا ننكر جميع المعارف. والأنكى من كل ذلك، هذا الإنكار الذي يفضي إلى غلق باب كل المعارف، ويحجزنا عن السعي والطلب، ويجعلنا نقتنع بمستوى الحيوانية والبهيمية، ويحرمنا من عوالم الغيب والأنوار الإلهية. لقد أصبحنا نحن المساكين المحرومين نهائياً من المشاهدات والتجليات في منأى حتى عن الإيمان بهذه المعاني التي هي درجة من الكمال النفسي والتي يمكن أن تسوقنا إلى مرحلة متقدمة. إننا نهرب من العلم الذي قد يكون منطلقاً وبذرة للمشاهدات، ونغلق عيوننا وأسماعنا نهائياً ونضع القطن في آذاننا حتى لا يتطرق كلام الحق إليها. وإذا سمعنا حقيقة من لسان عارف هائم أو سالك حزين أو فيلسوف متأله، نتصدى فوراً نتيجة عدم طاقة آذاننا على استماع تلك الحقيقة، ونتيجة أن حُبَّ النفس يمنعنا من جعل هذه الحقائق أسمى من قدرة استيعابنا لها، ونتصدى فوراً للطعن فيه ولعنه وتكفيره وتفسيقه، ولا نأبى من أي غيبة أو تهمة.

 

إننا نوقف الكتاب ونشترط على كل من يستفيد منه أن يلعن المرحوم الملاّ محسن فيض الكاشاني ـ صاحب كتب الأخبار والأخلاق والكلام والتفسير ـ يومياً مائة مرة. ونرمي صدر المتألهين الذي هو قمة التوحيد بالزندقة ولا نبخل عن إهانته أبداً، ونقول عنه بأنه صوفي رغم عدم ظهور أي رغبة منه في كل كتبه نحو مذهب التصوف ورغم تأليفه لكتاب (كسر أصنام الجاهلية في الرد على الصوفية).

 

إننا نترك الذين يستحقون اللعن، ويكونون ملعونين على لسان الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ونلعن من يصرخ بالإيمان بالله ورسوله والأئمة الهادين عليهم السلام. وإنني أعلم بأن هذا اللعن والتوهين لا يسيء إلى مقامهم، بل قد

 

يضاعف حسناتهم ويرفع من درجاتهم، ولكنه يسيء إلينا وقد يبعث على الخذلان وسلب التوفيق منّا.

 

يقول شيخنا العارف ـ الشاه آبادي ـ روحي فداه (لا تلعنوا الأشخاص حتى الكافر الذي مات ولم تعرفوا أنه على أيّ دين مات، إلاّ إذا أخبر وليّ معصوم عن حاله بعد الموت، إذ من الممكن أنه أصبح مؤمنا لدى سكرات الموت، وإنما العنوا بصورة عامة وكلية).

 

فكم الفرق بين شخص يملك مثل هذه النفس القدسية التي لا ترضى أن يلعن من مات على الكفر ظاهراً، لإمكان أنه غداً مؤمناً في اللحظات الأخيرة من حياته، وشخص آخر من أمثالنا ـ وإلى الله المشتكى ـ يرقى المنبر مع أنه من أهل العلم والفضيلة ويقول أمام العلماء والفضلاء مستغرباً (أن فلان رغم انه فيلسوف، يتلو القرآن). وهذا الكلام يشبه ما إذا قلنا (أن فلان رغم كونه نبياً، يعتقد بالمبدأ والمعاد).

 

إنني أيضاً لا أعتقد كثيراً بالعلم فقط، إن العلم الذي لا يفضي إلى الإيمان أراه الحجاب الأكبر، ولكن لو لم نرد الحجاب ولم نتعلم لما تمكنّا من خرقه. إن العلوم بذور المشاهدات. وإنه لمن الممكن أن يبلغ الإنسان إلى مقامات شامخة من دون تعلّم حجاب المصطلحات والعلوم، ولكن هذا خلاف العادة، وخلاف طبيعة السنن، وإنه نادراً ما يحصل. فالطريق الطبيعي لمعرفة الله وطلبه هو أن الإنسان يبتدئ أولاً بإنفاق وقت في التفكر بالحق سبحانه، ويحصل على العلم بالله وأسماء ذاته المقدس وصفاته حسب الأساليب المتبعة من التلمذة على يد رجال ذلك العلم، ثم يتزوّد من العارف بواسطة الرياضة العلمية والعملية وينتهي بذلك حتماً إلى النتيجة المنشودة.

 

وإن لم يكن الإنسان من أهل المصطلحات ـ العلم ـ يستطيع أن يصل إلى النتيجة من خلال تذكّر المحبوب، وانشغال القلب بالذات المقدّس. ومن المعلوم إن مثل هذا الانشغال القلبي والتوجه الباطني سيكون سبباً لهدايته وأن الله سبحانه وتعالى سيعينه في ذلك، وأن حجاباً من الحجب سيرفع له، وأنه سيتنازل قليلاً عن موقفه

 

المُنكر ـ تجاه العرفاء والفلاسفة ـ ولعلّ الله سبحانه وتعالى يفتح عليه ببركة عناياته الخاصة، باباً من المعارف إنه وليّ النعم.

 

فصل: في بيان انكشاف بعض الأحوال الغيبيّة على الإنسان لدى موته

 

يفهم من هذا الحديث الشريف، أن حين المعاينة وعند الموت، تنكشف على الإنسان الذي أوشك على الرحيل بعض مقاماته وأحواله. ويطابق هذا ضرباً من البراهين ويوافق مكاشفات أصحاب الكشف والعيان. ويجاري الأحاديث والآثار الأُخرى أيضاً.

 

إن الإنسان ما دام يشتغل بتعمير هذا العالم، ويكون قلبه متجهاً نحو هذه النشأة، وما دام سكر الطبيعة ـ عالم المادة ـ قد أغماه وأفقده وعيه، والشهوة والغضب المخدرتان قد خدّرتاه وسلبتا لُبّه، يكون محجوباً نهائياً عن صور أعماله وأخلاقه، وتكون آثار أعماله وأخلاقه مهجورة في ملكوت قلبه. ولكن عندما تغشاه سكرات الموت وتواجهه صعابها وضغوطها، ويبتعد قليلاً عن هذه النشأة، فإذا كان من أهل الإيمان واليقين، وكان قلبه متعلقاً بهذه العوالم المادية، اتجه قلبه في نهاية المطاف من حياته إلى ذلك العالم، والسائقون المعنويون، وملائكة الله الموكّلون عليه، يسوقونه جميعاً إلى ذلك العالم وبعد هذا السوق، وذاك الانصراف ينكشف له نموذج من عالم البرزخ، وتنفتح عليه من عالم الغيب كُوّةٌ ويتكشّف له حاله ومقامه قليلاً كما نقل عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إنَّهُ قَالَ: «حَرَامٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ أن تَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيا حَتّى تَعْلَمَ أنَّهَا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ هِيَ أمْ مِنْ أهْلِ النَّار» [8].

 

وهنا حديث شريف نذكره بتمامه لأن فيه بشارة لأهل الولاء، بولاية مولى الموالي، والمتمسكين بذيل عناية أهل بيت العصمة عليهم السّلام. وهو الحديث نقله الفيض الكاشاني في كتابه علم اليقين. قَالَ: وفي كتاب الحسين بن سعيد الأهوازيِّ، عَنْ عَبّادِ بنِ مروانَ قالَ: سَمِعْتُ أبَا عَبْدِاللهِ عليه السّلام يَقُولُ: «مِنْكُمْ وَاللهِ يُقْبَلُ، وَلَكُمْ وَاللهِ يُغْفَرُ، إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ أحَدِكُمْ وَبَيْنَ أنْ يُغْتَبَط وَيَرَى السُّرور وَقُرَّة الْعَيْنِ إلاّ أنْ تَبْلُغَ نَفْسُهُ ههُنا ـ وَأوْمى بِيَدِهِ إِلَى حَلْقِةِ ثُمَّ قَالَ عليه السّلام ـ إنَّهُ إذا كانَ ذلِكَ وَاحْتَضَرَ، حَضَرَةُ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلم وَعَلِيٌّ وَالأئمَّةُ وَجَبْرَئيلُ وَميكائيلُ وَمَلَكُ الْمَوْتِ عليهم السّلام، فَيَدْنُو مِنْهُ جَبْرئيل عليه السّلام فيقول لِرَسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنَّ هذا كَانَ يُحِبُّكُمْ أهْلَ الْبَيْتِ فَأحِبَّهُ، فَيقولُ رَسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا جَبْرَئيلُ إنَّ هذا كَانَ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَأهْلَ بَيْتِهِ فَأَحِبَّهُ، فَيقولُ جَبْرَئيلُ: يا مَلَكَ الْمَوْتِ إنَّ هذا كانَ يُحِبُّ اللهَ وَرَسولَهُ وآلَ رَسولِهِ فَأحِبَّهُ وَارْفُقْ بِهِ».

 

فَيَدْنُو مِنْهُ مَلَكُ المَوْتِ عليه السّلام فَيقولُ: يا عَبْدَ اللهِ أخَذْتَ فِكاكَ رَقبتِكَ؟ أخَذْتَ أمانَ بَراءَتِكَ؟ تَمَسَّكْتَ بِالْعِصْمَةِ الْكُبْرى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا؟ فَيُوفِّقهُ اللهُ فَيَقُول: نَعَمْ، فَيَقُولُ لَهُ: وَمَا ذاكَ؟ فَيقُولُ: وِلاَيَةُ عَلَيِّ بْنِ أبي طالِب عليه السّلام، فَيَقولُ: صَدَقْتَ، أمَّا الَّذي كُنْتَ تَحْذَرُ فَقَد آمَنَكَ الله، وأمّا الَّذِي كُنْتَ تَرْجو فَقَد أَدْرَكْتَ، أبْشرْ بِالسَّلَفِ الصالِحِ مُرافَقَةِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَآلِهِ وَسَلَّم وَعَليٍّ وَالأئمَّةِ مِنْ وُلْدِهِ عليهم السلام.

 

ثُمَّ يَسُلُّ نَفْسَهُ سَلاًّ رَفيقاً ثُمَّ يَنْزِلُ بِكَفْنِهِ مِنَ الجَنَّةِ وحُنوطُهُ حُنوطُ كَالمِسْكِ الأذْفَرِ فَيُكْفَنُ بِذلِكَ الْكَفَنِ وَيُحْنَطُ بِذلِكَ الحُنُوطِ، ثُم يُكْسى حُلَّةً صَفْرَاءَ مِنْ حُلَلِ الجَنَّةِ. فَإذا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ فُتِحَ لَهُ بابٌ مِنْ أبْوَابِ الجَنَّةِ يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْ رَوْحِهَا وَرَيحانِهَا ثُم يُقالُ لَهُ: نَمْ نَومَةَ العَروسِ عَلى فِرَاشهَا، أبْشِرْ بِرَوْحٍ وَرَيْحانٍ وَجَنَّةِ نَعيمٍ وَرَبٍّ غَيْرَ غَضْبَانَ.

 

قَالَ: وَإِذَا حَضَرَتِ الكَافِرَ الوَفَاةُ حَضَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم وَعَليّ وَالأئمَّةُ وَجَبْرَيلُ وَميكائيلُ وَمَلَكُ الْمَوْتِ عليهم السّلام، فَيَدْنُو مِنْهُ جَبْرئيل فَيَقولُ: يا رَسولَ اللهِ إنَّ هذا كان مُبغِضاً لَكُمْ أهْلَ الْبَيْتِ فَأبْغِضْهُ، فَيَقُولُ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِه ؤَسَلَّم: يا جَبْرَئيلُ إِنَّ هذا يُبْغِضُ اللهَ وَرَسُولَهُ وَأهْلَ بَيْتِ رَسولِهِ فَأبْغِضْهُ: فَيَقُولُ جَبْرئيلُ: يَا مَلَكُ الْمَوْتِ إَنَّ هذا يُبْغِضُ اللهَ وَرَسولَهُ وَأهْلَ بَيْتِ رَسولِهِ عليهم السّلام فَأبْغِضْهُ وَاعْنُفْ عَلَيْهِ.

 

فَيَدْنُو مِنْهُ مَلَكُ الْمَوْتِ فَيَقُولُ: يَا عَبْدَ اللهِ أخَذْتَ فِكاكَ رَقَبَتِكَ؟ أخَذْتَ بَراءَة أما تَمَسَّكْتَ بِالعِصْمَةِ الْكُبْرى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيا؟ فَيَقولُ: لا، فَيَقولُ لَهُ: أَبْشرْ يَا عَدُوَّ اللهِ بِسَخَطِ عَذَابِهِ وَالنَّار، وأمَّا الَّذي كُنْتَ تَرْجو فَقَدْ فَاتَكَ، وَأمَّا الَّذي كُنْتَ تَحْذَرُ فَقَدْ نَزَلَ بِكَ. ثُمَّ يَسُلُّ نَفْسُهُ سلاًّ عَنِيفاً، ثُمَّ يُوَكِّلُ بِرُوحِهِ ثَلاثَمائَهِ شَيْطانٍ يَبْزُقونَ فِي وَجْهِهِ وِيَِتَأذّى بِريحِهِ، فإذا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ فُتِحَ لَهُ بَابُ مِنْ أبْوابِ النَّارِ يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْ فِيح رِيحِهَا وَلَهَبِهَا[9].

 

ولا بد أن تعرف أن عالم برزخ كل شخص، أنموذج من نشأته يوم القيامة، والبرزخ عالم يتوسط بين هذا العالم وعالم القيامة، وتنفتح على هذا العالم كوَّة من الجنة أو النار. كما أشير إليه في نهاية هذا الحديث الشريف، وفي الحديث النبوي المعروف «الْقَبْرُ إمّا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ أوْ حٌفْرَةٌ مِنْ حٌفَرِ النِّيرانِ» [10].

 

فتبين أن الإنسان لدى سكرات الموت والاحتضار يشاهد صور أعماله وآثارها، ويسمع من ملك الموت بشارة الجنة أو الوعيد بالنار. وكما أن هذه الأمور تنكشف عليه قليلاً، كذلك تنكشف عليه الآثار التي تركتها أعماله وأفعاله في قلبه، من النورانية وشرح الصدر ورحابته أو أضدادها أيضاً من الظلام والكدُورة والضغط وضيق في الصدر، فإن كان من أهل الإيمان والسعادة، يستعد قلبه عند معاينه البرزخ لمشاهده النفحات اللطيفة اللُطفيّة والجمال، وتظهر فيه آثار تجلّيات اللطف والجمال، فيأخذ القلب في الحب للقاء الله، وتشتعل في قلبه، جذوة الاشتياق إلى جمال المحبوب، إن كان من أهل الحسنى وحبّ الله والجاذبة الربوبية، ولا يعرف أحد إلاّ الله، مقدار اللّذات والكرامات الموجودة في هذا التجلّي والاشتياق !

 

وإن كان من أهل الإيمان والعمل الصالح، أغدقت عليه من كرامات الحق المتعالى بقدر إيمانه وأعماله، ويراها لدى الاحتضار، فيتوق إلى الموت ولقاء كرامات الحق ويرتحل من هذا العالم مع البهجة والسرور والروح والريحان، ولا تطيق الأعين المُلكية والذائقة المادية، لرؤية هذه الكرامات ومشاهدة هذه البهجة والفرح.

 

وإن كان من أهل الشقاء والجحود والكفر والنفاق والأعمال القبيحة والأفعال السيئة، انكشف عليه بقدر نصيبه من دار الدنيا وما وفّره واكتسبه لنفسه منها، من آثار السخط الإلهي والقهر، ونموذجاً من دار الأشقياء، فيدخل الذعر والهلع في نفسه بدرجة لا يكون عنده شيء أبغض من التجليات الجلالية والقاهرة للحق المتعالى ويستولي عليه من جرّاء هذا البغض والعداوة الشديدين، الضغوط والظلام والصعاب والعذاب. لا يعرف حجمها أحد إلاّ الذات الحق المقدس، وهذه المحن تكون لمن كان من الجاحدين والمنافقين ومن أعداء الله وأعداء أوليائه في هذه الدنيا. وينكشف على أهل المعاصي والكبائر، بقدر اجتراحهم للسيئات، نموذجاً من جهنمهم، فلا يكون شيء عندهم أبغض من الرحيل من هذا العالم، فيُرحلون بكل عنف وقسوة وعذاب، وفي نفوسهم حسرات لم تتحقق في هذه الأحوال.

 

ويستفاد من هذا البيان أن الإنسان لدى الاحتضار والمعاينة، يشاهد ما كان فيه وهو غير واقف عليه، رغم أنه بذر بنفسه هذه المعاينة والمشاهدة في عالم وجوده.

 

إن الحياة الدنيوية، كانت ستاراً ملقىً على عيوبنا، وحجاباً على وجه أهل المعارف، وعندما يزاح هذا الستار، ويُخترق هذا الحجاب، ويرى الإنسان أنموذجاً، مما أعدّه لنفسه، ومما كان فيه.

 

إن الإنسان لا يرى في العوالم الأخرى من العذاب والعقاب، إلاَّ ما وفّره وهيّأه في هذه الدنيا، ولا يشاهد في العالم الآخر إلاّ صورة ما أنجزه في هذا العالم من الأعمال الصالحة والخلق الحسن، والعقائد الصحيحة، مع رؤيته لما يتفضّل عليه الحق المتعالى بلطفه من الكرامات الأخرى.

 

يروي صاحب كتاب تفسير (الصافي) عن (مجمع البيان) في ذيل الآية المباركة (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه) [11]. ـ الخ ـ حديثاً عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وفيه هِيَ ـ هذه الآية ـ أحْكَمُ آيَةٍ فِي الْقُرآنِ وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم يُسَمِّيهَا الْجَامِعَةَ[12].

 

فلا بد وأن نعلم بأننا إذا تعلقنا بالحق المتعالى وأوليائه، ووضعنا في رقابنا حبل طاعة الذات المقدس، وجعلنا اتجاه القلب إلهياً وربانياً، لظهرت أمامنا حين النزع، الحقائق بعينها في صور بهيّة. وعلى العكس إذا كانت قلوبنا ذات صبغة دنيوية، وانصراف عن الحق، فمن الممكن أن تُبذر فيها شيئاً فشيئاً بذور عداوة الحق والأولياء، وتشتدّ هذه العداوة، حين المعاينة، فتظهر آثارها الغريبة الموحشة كما قد سمعت.

 

إذن من الأمور الهامّة السعي في سبيل تطوير حالة القلب، وجعلها إلهية، وتوجيهها نحو الحق المتعالى وأوليائه ودار كرامته، ويتمّ هذا قطعاً بواسطة التفكر في آلاء الذات المقدس، ونعمائه والمحافظة على طاعته وعبادته. ولكن يجب أن لا يعتمد الإنسان على نفسه ومساعيه، بل يستعين بالله على ذلك في جميع الأحوال، وخاصة في حالات الخلوة مع الله بكل تذلّل وتضرّع وبكاء، ويطلب منه أن يلقي حبّه في قلبه ويضيئه بنور محبته ومعرفته، ويخرج حب الدنيا وما عدَى الله من قلبه، ومن الواضح أن هذا الدعاء يكون في بدء الأمر من دون لبّ، ويكون صرف لقلقة لسان، لأن مطالبة زوال حب الدنيا من القلب مع كونه مفرطاً في التعلق بها، مشكل جداً، ولكن نرجو بعد التمعن في ذلك فترة من الزمن، والمراقبة، وافهام القلب النتائج الحسنة لمحبة الله، والنتائج السيئة لحب الدنيا، أن يتحقق ذلك إنشاء الله تعالى.

 

فصل: في بيان معنى حبّ الحق المتعالى وبغضه

 

إعلم أن نسبة الحب والبغض وأمثالها للحق المتعالى، الواردة في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، لا تكون بمعناها المتفاهم العرفي، لأن لازمها الانفعال النفسي الذي يتنزّه الحق سبحانه منه. ولا مجال في هذا المختصر، للإسهاب في ذلك، فنقتصر على الإجمال والإشارة.

 

لا بد من معرفة أن كثيراً من الأوصاف والأحوال، بعد تنزلها من العوالم الغيبية التجردية، وحصولها للنشأة المُلكية المادية التي هي عالم الفرق بل عالم فرق الفرق، تتجلّى في صورة تختلف عن الصور الغيبية المتجردة من الآثار واللوازم. كما أن الأفلاطونيين الذين يعتقدون بأن كافة الموجودات المُلكية، مظاهر للأرواح الغيبية، وتنزّلات للحقائق الملكوتية، وأمثلة للمُثُل الأفلاطونية، هؤلاء يرون أن العوارض والكيفيات التي تقوم في هذا العالم بغيرها ـ لا بنفسها كما هو شأن الجواهر ـ يرون أنها تتجلّى في ذلك العالم صورها الذاتية بوجوداتها من دون حاجة إلى الارتكاز على الغير، وعليه نقول إن أمثال هذه الأوصاف والأحوال التي تلازم في عالم المُلك، التجدد والانفعال، تكون موجودة في العوالم الغيبية، والنشآت التجردية وخاصة في عالم الأسماء ومقام الواحدية، في صورة منزّهة وبعيدة عن جميع النقائص، ويكون التعبير عن تلك الصور، حسب النشأة التجردية والصُقع الربوبي مغايراً عن التعبير عنها في هذا العالم.

 

فمثلاً أن التجليات الرحمانية والرحيمية والتي نقول عنها أيضاً التجليات الجمالية واللطفية والحُبية والأنسية، إذا ظهرت في هذا العالم، كانت في صورة الحب والرحمة واللطف، الملازمة للانفعال والتأثر، وذلك نتيجة ضيق هذا العالم. ففي الحديث أن للرحمة مائة جزء، وإن جزءاً واحداً منها قد هبط إلى هذا العالم، وتحققت به الرحمة كل الرحمة في هذا العالم، مثل الرحمة الحاصلة بين الأولاد والأبوين وأمثال ذلك. كما أن التجلّيات القاهرية والمالكية التي هي من تجليات الجلال، تظهر في هذا العالم في صورة البغض والغضب المتلازمين للانفعال والتأثر أيضاً.

 

وعلى أي حال إن باطن الحب والبغض والغضب، الرحمانية والقهَّارية وتجلّيات الجمال والجلال، تكون تلك التجلّيات، موجودة بعين الذات، ولا تتطرق إليها الكثرة والتجدّد والانفعال. كما أن مظهر الرحمانية والقهّارية، الحبّ والبغض المتوافران في هذا العالم، وحيث إن المظهر ـ الحب والبغض ـ يكون فانياً في الظاهر ـ الرحمانية والقهارية ـ والظاهر يتجلى في المظهر، يصحّ في بعض المقامات التعبير عن أحدهما بالآخر. وعليه يكون سخط الحق المتعالى لعبده، ظهوراً بالقهّارية والانتقام، وظهور حبه له، بالرحمة والكرامة. والله العالم.

 

ـــــــــــــــــ

 

[1] "فروع الكافي" المجلد الثالث، ص: 134.

 

[2] سورة الفتح، آية: 2.

 

[3] شرح الحديث الواحد والعشرون.

 

[4] أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب أخوة المؤمن، ح4.

 

[5] مفاتيح الجنان، المناجاة الشعبانية.

 

[6] سورة النجم، آية: 8 و9.

 

[7] مفاتيح الجنان، دعاء كميل.

 

[8] علم اليقين للفيض الكاشاني، المجلد الثاني، ص 853.

 

[9] علم اليقين، المجلد 2، ص854 ـ 856.

 

[10] سنن الترمذي، المجلد الرابع، ص 640 باب 26 كتاب صفة القيامة.

 

[11] سورة الزلزلة، آية: 7.

 

[12] هذه الرواية منقولة عن عبد الله بن مسعود كما في مجمع البيان المجلد الخامس ص 525.