في العصر الراهن، وعلى ضوء اتساع نطاق العلاقات الاجتماعية والاقتصادية و.. في جميع أنحاء العالم، فإن ظهور نظام عالمي، وبعبارة مبسطة، ظهور مجتمع عالمي واحد، على أساسه ينظر إلى العالم كنظام اجتماعي واحد، ليس ببعيد المنال، ولربما يحل نظام سياسي أكثر اقتداراً محل الشعوب الحالية، وحتى إقامة حكومة عالمية واحدة.

 

من البديهي، إن مفهوم النزعة القومية، طرأ عليه تغيير بمرور الزمن وأصبح لها معاني مختلفة. ففي البداية كان مصطلح (الشعب) مترادفاً للدين، والشريعة والرسوم والمذهب، ثم أخذ تدريجياً يطلق لاتباع احد الديانات، أو مجموعة أشخاص لهم رسوم ومذهب خاص بهم. إن عدم تمسك المذهب بحدود النزعة القومية، كان عاملاً مهماً على طريق تحقيق الوحدة والتضامن بين مجموعة من الشعوب، ولهذا فانه أوسع نطاقاً من دائرة شعب واحد.

 

مع انهيار الإمبراطورية العثمانية، وانتهاء عصر الاستعمار القديم تدريجياً، فان النزعة القومية التي تعود جذورها إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، دخلت وبفعل تأثير النهضات الثورية والوطنية، إلى مرحلة جديدة في القرن العشرين، وعلى أثر ذلك، ظهر الصراع الإيديولوجي بين القومية والوطنية وبين الإسلام. من جهة أخرى نجحت فكرة الاشتراكية التي أخذت تتبلور نظرياً وعملياً بعد الحرب العالمية ومع ظهور عصبة الأمم عام 1919، نجحت إلى حد ما في الحفاظ على الأمن الدولي وتعزيزه بل وحتى ساعدت على تشكيل نوع من الحكومة العالمية. هذه الفكرة بالرغم من أنها تدعو إلى إقامة علاقات وروابط وثيقة بين الفرد وسائر شعوب العالم، بيد أنها ليست على خط واحد مع فكرة أن العالم وطن واحد.

 

في الحقيقة أن ما يحظى بأهمية كبيرة في عالم اليوم، هو شكل من أشكال الإدارة التي بإمكانها أن تخطو على طريق تحقق الهدف التوحيدي المتمثل بالوحدة الإسلامية وذلك من خلال إيجاد علاقة بين القومية والوطنية من جهة، والاستفادة من الآليات والوسائل الموجودة خارج نطاق البلد الواحد من جهة أخرى.

 

مما لا شك فيه أن نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية وفي ظل الثورة الإسلامية وبقيادة الإمام الخميني(رض) الحكيمة، أحيا الكثير من المفاهيم الإسلامية الأصيلة، واستعادت الأمة الإسلامية هويتها الإسلامية، وهذا بحد ذاته من شأنه أن يشكل نقطة تحول عظيم. ومن الطبيعي انه بالرغم من أن العالم ينظر إلى هذا النظام الفتي بمنظار دولة قائمة على أساس قومي، غير أن إجراء عملية (تشذيب) وإعادة بناء مناسبة لتركيبة القومية، تحظى بتأييد سماحة الإمام - وفي الواقع موضع تأييد الإسلام - في هذه البرهة، يعتبر ليس فقط مفيداً وضرورياً، بل يمثل أمرا أساسيا وآنياً.

 

إن المبادئ الأصولية والأساسية لسماحة الإمام (قدس سره) باعتباره مؤسساً للجمهورية الإسلامية والانجازات التي تحققت في ظل قيادته الرشيدة ولاسيما على مدى عشر سنوات من تجربة بناء الدولة، بإمكانها أن تشكل الأرضية الأساسية لهكذا نوع من البنية النظرية.

 

إن السياسة التي اعتمدها سماحة الإمام منذ بداية النهضة الإسلامية، كانت قائمة على أساس فكرة الوحدة الإسلامية والنظرة المتمحورة حول الأمة إلى قضايا العالم الإسلامي، وان انتصار الثورة الإسلامية في إيران يعتبر نقطة تحول لهذا الهدف التوحيدي. حيث إن سماحته بدأ اعتماد هذه السياسة بوحدة الكلمة وانتهاج طريق الوحدة الوطنية في صفوف الشعب الإيراني، لكي تكون مقدمة لثورة واحدة ونهضة عامة لجميع المسلمين والمستضعفين في العالم من اجل الدفاع عن مصالح العالم الإسلامي. إن تأكيد سماحته على نفي ونبذ تسلط المستكبرين ومصاصي الدماء ولاسيما (الشيطان الأكبر أمريكا) و (الغدة السرطانية إسرائيل) على البلدان الإسلامية، كان يصب في هذا المنحى.

 

كان سماحة الإمام(قدس سره) ومن اجل تحقيق أهداف العالم الإسلامي وتشكيل الأمة الإسلامية الواحدة، يرفض مطلقاً الحدود القومية والوطنية. ومن وجهة نظر سماحته - وعلى خلاف وجهة نظر القوميين وأشباه المتنورين الدينيين - فان اتساع نفوذ الإسلام في جميع أصقاع العالم كان يمثل إستراتيجية مهمة في السياسة الخارجية للنظام، ولهذا كان دائماً يضع مصلحة الإسلام والمسلمين إلى جانب المصالح الوطنية، واعتبر المسؤولية أمام قضايا ومشاكل العالم الإسلامي الذي وصفه القرآن الكريم بـ (أمة واحدة)، مبدأ إسلاميا وإنسانيا مسلّماً به، باعتبار أن الأمة الإسلامية في فكر الإمام تتشكل من جميع المسلمين خارج الحدود الجغرافية، وعلى اختلاف أعراقهم ولغاتهم وقومياتهم، وبغض النظر عن أي مذهب، فهم أتباع الدين الإسلامي.

 

إن طرح أفكار ومفاهيم من قبيل (الأمة الإسلامية)، (التعبئة العالمية للمستضعفين)، (يد واحدة)، و(الأخوة) بين المسلمين، وإحياء الفلسفة الحقيقية لمؤتمر الحج العظيم، إعلان اليوم العالمي للقدس، ردود الفعل السريعة والصريحة حيال (مؤامرة الآيات الشيطانية)، الرسالة التاريخية إلى غورباتشوف وأخيرا وصيته السياسية - الإلهية، كل هذه الأفكار والمفاهيم كانت تحكي عن نظرته الشمولية لقضايا العالم الإسلامي. ولا يمكن تحقيق هذا الأمر الهام من دون رؤية متكاملة الجوانب لا تنحصر في حدود جغرافية محددة، ويرجح مصلحة الأمة على المصالح الوطنية، وضمن آفاق جديدة، يكون الإسلام فيها في مواجهة الكفر والإلحاد، بالرغم من أن هذه النظرة تتناقض وتتعارض مع البنية الكلاسيكية للقومية.

 

إن نظرة الإمام(قدس سره) إلى القومية والوطنية والفكر الشمولي، كانت تكتسي بطابع من الكياسة والبراعة الخاصة. وكان سماحته يحترم النزعة القومية، وحب الوطن والمشاعر الجياشة والنزيهة للقوميين طالما لا تشكل إيديولوجية في مواجهة الإسلام، وإلا فانه كان يتعامل معها بشدة، ويبين موقفه منها. ولهذا فان سماحته كان يقبل بالقومية والوطنية ضمن حدود الإسلام فقط وفي ظل تعاليمه السامية.

 

استطاع الإمام(قدس سره)، بيقظته ومعرفته واطلاعه على العواقب الوخيمة للنزعة القومية - المستأصلة من العقائد الدينية - وبالاستفادة من الوسائل والإمكانات الموجودة، تعبئة المسلمين والمستضعفين في العالم وحشدهم حول محور الإسلام، ويخطو خطوات مؤثرة على طريق تحقيق أهدافه الإلهية.

 

مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني(قدس سره)