بالسَّند المتّصل إلى محمّد بن يعقوب الكلينيِّ، عن الحسينِ بن محمّد، عن المُعَلَّى بن محمّد، عن الحسن بن عليّ الوشّاء، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السّلام قال: «مِنْ صِحَّةِ يَقينِ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ أنْ لا يُرْضِيَ النّاسَ بِسَخَطِ اللهِ، وَلا يَلومَهُمْ عَلى ما لَمْ يؤته اللهُ، فَإنَّ الرِّزْقَ لا يَسوقُهُ حِرْصُ حَريصٍ، وَلا يَرُدُّهُ كَراهِيَةُ كارهٍ، وَلَوْ أَنَّ أحَدَكُمْ فَرَّ مِنْ رِزْقِهِ كَما يَفِرُّ مِنَ الْمَوْتِ لأَدْرَكَهُ رِزْقُهُ كَما يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ. ثُمَّ قالَ: إنَّ اللهَ بِعَدْلِهِ وَقِسْطِهِ جَعَلَ الرَّوْحَ وَالرّاحَةَ فِي الْيَقينِ وَالرِّضا، وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ فِي الشَّكِّ وَالسَّخَطِ»([1]).
الشرح:
قال الجوهري أن السَخَط على وزن الفرس، والسُخط على وزن قُفل معناه خلاف الرضا. وقَدْ سَخِطَ أي غَضِبَ فَهُو ساخِطٌ. الْقِسْطُ: بكسر القاف بمعنى العدل ويكون عطفه على العدل في قوله (إنَّ الله بِعَدْلِه وَقِسْطِهِ) من العطف التفسيري. الرَّوْحُ وَالرّاحَةُ: هما بمعنى واحد وهو الاستراحة، كما يقول الجوهري فيكون عطف الراحة على الروح عطفاً تفسيرياً. أو أن «الرَوْح» بمعنى راحة القلب و«الراحة» بمعنى استراحة البدن. كما يقول المجلسي. وَالْهَمُّ وَالْحُزْنُ: قال الجوهري أنهما بمعنى واحد فيكون عطف الثاني على الأول عطفاً تفسيرياً. قال المجلسي «الهمُّ اضطراب النفس عند تحصيله. والحزن جزعها واغتمامها بعد فواته»([2]).
فصل: شرح قوله عليه السّلام ولا يلومهم على ما لو يؤته الله
قوله عليه السَلام: «وَلا يَلومَهُمْ عَلى ما لَمْ يُؤْتِهِ اللهُ» في هذه العبارة احتمالان: «أحدهما: لا يذمهم ـ الناس ـ ولا يشكرهم على ترك صلتهم إياه بالمال وغيره فإنه يعلم صاحب اليقين أن ذلك شيء لم يقدره الله له ولا يرزقه إياه لعدم كون صلاحه فيه مطلقاً أو في كونه بيد هذا الرجل وبتوسطه، بل يوصله إليه من حيث لا يحتسب فلا يلوم أحد بذلك»([3]). لقد أبدى المحقق الفيض الكاشاني رحمه الله هذا الاحتمال. وأيّده أيضاً المحدث الخبير المجلسي. ثانيهما: ما أحتمله أيضاً الفيض رحمه الله وهو: «أنه لا يلومهم ـ الناس ـ على ما لم يؤته الله إياهم فإن الله خلق كل واحد على ما هو عليه وكل ميّسر لما خلق له فيكون كقوله عليه السّلام لو علم الناس كيف خلق الله هذا الخلق لم يَلُم أحد أحداً»([4]). قال المحدث المجلسي رحمه الله «ولا يخفى بعده لاسيما بالنظر إلى التعليل بقوله فَإنَّ الرِّزْق لاَ يَسوقُهُ»([5]). يقول الكاتب أن الاحتمال الثاني أفضل بكثير من الاحتمال الأول، خاصة بالنسبة إلى التعليل المذكور ـ فإن الرزق لا يسوقه ـ لأنه يصح تأنيب الناس على فقرهم وعسر معيشتهم فيما إذا تمكنوا باختيارهم تحصيل الرزق، وتمكنوا من خلال السعي وبذل الجهد، الترفيه على النفس والتوسعة عليها، فيصح حينئذٍ أن يخاطب المرء صاحبه قائلاً: إنني سعيت وجاهدت، ولكنك لم تتحرك ولم تجهد فأصبت بالضائقة المعيشية: ولكن أهل اليقين يعلمون بأن الحرص والاكتساب لا يجلبان الرزق، فلا يلومونهم على لم يؤته الله. ولابد من معرفة أن أمثال هذه الأحاديث الشريفة الظاهرة في أن الرزق مقسوم ومقدر، كما هو المستفاد من الآيات القرآنية المباركة، هذه الأحاديث لا تتنافى مع الأخبار التي تحث على طلب الرزق وتؤكد على الكسب والتجارة، والتي ترى كراهة شرعية في ترك العمل والإحجام عن تحصيل الرزق، وتلوم على التخلي عن الكسب، وجاعلة التارك للاشتغال بالعمل التجاري ممن لا يستجاب دعاءه، ولا يبعث الله رزقه. والأحاديث بهذا الصدد كثيرة. ونحن نقتصر على حديث واحد منها: عن محمّد بن الحسن شيخ الطائفة ـ قُدِّسَ سِرُّهُ ـ بإسناده عن عليّ بن عبد العزيز قال: قال أبو عبد الله عليه السّلام: «ما فَعَلَ عُمَرُ بْنُ مُسْلِمٍ؟ قُلْتُ: جُعِلْتُ فِداكَ أقْبَلَ عَلى الْعِبادَةِ وَتَرَكَ التِّجارَةَ. فَقالَ: وَيْحَهُ، أما عَلِمَ أنَّ تارِكَ الطَّلَبِ لا يُسْتَجابُ لَهُ دَعْوَةٌ؟ إنَّ قَوْماً مِنْ أصْحابِ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلم لَمّا نَزَلَتْ [وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ] أغْلَقُوا الأبْوابَ وَأقْبَلُوا عَلَى الْعِبَادَةِ وَقالُوا: قَدْ كُفينا، فَبَلَغَ ذلِكَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وآله وسلم فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ فَقالَ: ما حَمَلَكُمْ عَلى ما صَنَعْتُمْ؟ فَقالُوا: يا رَسولَ اللهِ تَكَفَّلَ اللهُ بِأرْزاقِنا فَأقْبَلْنا عَلَى الْعِبَادَةِ، فَقالَ: مَنْ فَعَل ذلِكَ لَمْ يُسْتَجَبْ لَهُ، عَلَيْكُمْ بِالطَّلَبِ»([6]). ووجه عدم المنافاة بين الأخبار هو أن طلب الرزق، من الإنسان وأما بعده من الأرزاق والأمور الأخرى التي تحف بالرزق ففي يد قدرة الحق المتعالي ولا يكفي طلبنا لوحده مستقلاً في جلب الرزق، فإن طلب الرزق من وظيفة العباد، وأما تنظيم الأمور وترتيب الأسباب الظاهرية وغير الظاهرية التي تخرج عن اختيار العباد غالباً فيكون بتقدير من الباري تعالى. فالإنسان الذي يتمتع بيقين صحيح، والذي يكون واقفاً على مجاري الأمور، يجب عليه في اللحظة التي لا يفتر فيها عن طلب الرزق، بل ينهض بوظائفه العقلية والشرعية في الاكتساب، ولا يوصد أبواب الطلب على نفسه، يعرف إن كل شيء من الذات المقدس الحق المتعالي، وأنّه لا يؤثر موجود آخر في الوجود ولا في كمالات الوجود، إن الطالب والطلب والمطلوب، منه سبحانه. وأما ما ورد في هذا الحديث الشريف «وَلا يَلُومَهُمْ عَلى ما لَمْ يُؤْتَهِ الله» فمعناه إذا كان هناك طلب بالقدر المتعارف فلا يلومهم على ما لم يؤته الله، وهذا لا يتنافى مع رجحان توبيخ طائفة وملامتهم إذا تقاعسوا عن الطلب حتى يدفعهم نحو الرزق، كما ورد مثيله في الأخبار المباركة. وملخّص الكلام أن هذا الموضوع من فروع بحث الجبر والتفويض، فمن تضلّع في ذلك البحث، يستطيع أن يقف ويطلع على المغزى والجوهر من هذا الموضوع. وتفصيله أوسع من مسؤوليتنا ووظيفتنا هنا.
فصل: في علامات حجة اليقين
جعل الإمام الصادق عليه السّلام في هذا الحديث الشريف، علامتين على صحة اليقين وسلامته هي: أحدهما: لا يُرضي الناس بسخط الله. الآخر: لا يلوم الناس على ما لم يؤته الله. وهاتان العلامتان من نتائج كمال اليقين. كما أن ما يقابلهما يكون من آثار ضعف اليقين وسقم الإيمان ومرضه. ونحن قد أتينا في هذا الكتاب، لدى المناسبات المختلفة، على شرح الإيمان، واليقين، وثمارهما، حسب القدر المستطاع. كما وأننا نأتي الآن أيضاً بصورة مختصرة على ذكر هاتين العلامتين على صحة اليقين وسلامته وما يقابلهما الدالان على سقم اليقين وضعفه. لابد وأن نعلم بأن الراغب في تحصيل رضا الناس، والباذل جهده للهيمنة على قلوبهم وعقولهم، إنما يقوم بهذه المحاولات لأجل أنه مقتنع بأن لهؤلاء دوراً إيجابياً ومؤثراً في مطعمه ومطمحه، فالذين يحبون المال ويعبدون الدينار يخضعون أمام أصحاب الثروات ويتذللون بين أيديهم ويتزلفون لهم. والذين يطلبون الرئاسة والاحترامات الظاهرية، يتملقون أمام الرؤساء، ويتواضعون لهم تحسّباً منهم بأن هذه الأساليب تستمليهم وتبعث على كسب قلوبهم، وهكذا تدور هذه العجلة، فالمستضعفون يستذلون ويتملقون بين يدي أرباب الرئاسة، وطالبوا الزعامة والوجاهة يخضعون ويتزلفون أمام الطبقة المستضعفة، ويخرج من هذه الدائرة التي تدور بين الرؤساء والمرؤوسين، خصوص الذين هذّبوا نفوسهم من خلال ترويض النفس في كل من الجانبين وبذلوا ما في وسعهم لأجل تحصيل رضا الحق سبحانه، ولم يتزلزلوا أمام الدنيا وزخارفها بل كانوا يفتشون في فترة رئاستهم عن رضا الحق جلّ وعزّ، ويبحثون عن الحق والحقيقة أيّام مرؤوسيتهم المستضعفة. وعلى أي حال فإن الناس ينقسمون في هذه الدنيا إلى هاتين الطبقتين: إمّا يقودهم يقينهم إلى الاعتقاد بأن الأسباب الظاهرية، والمؤثرات الشكلية مسخرة تحت الإرادة الألية الكاملة الوجوبية، فلا يجدون دوراً لغير الحق، ولا يلتمسون من غيره شيئاً. فهم آمنوا بأنه المالك والمؤثر في الدنيا والآخرة، واعتنقوا بكل إيمان ويقين غير مشوب بالنقص والترديد، آية من الآيات المباركة القرآنية وهي: {قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} (آل عمران/26). حيث يرون بأن الله سبحانه هو مالك ملك الوجود، وأن جميع العطايا من ذاته المقدس، وأن القبض والبسط في الوجود وكمالاته منه سبحانه حسب ترتيب النظام والمصالح الكامنة. ومن البديهي أن أبواب المعارف تنفتح على هؤلاء الأشخاص، وتتحوّل قلوبهم إلى قلوب إلهية، لا يعبأون برضا الناس ولا بسخطهم، ولا يرمون إلاّ رضا الحق المتعالي، ولا يطمعون إلاّ فيه ولا يطلبون إلاّ منه، ولا تترنم قلوبهم إلاّ بهذا الكلام: إلهي إنْ أعْطَيْتَني فَمَن ذا الَّذِي يَمْنَعُني؟ وَإنْ مَنَعْتَنِي فَمَن ذَا الَّذِي يُعْطِينِي. إنهم يغمضون أعينهم عن الناس وعطاياهم ودنياهم، ويحدّقَون في الحق جل جلاله بكل حاجة وفقر، وهؤلاء الأشخاص لا يبيعون رضا العالم بأسره، بسخط الحق المتعالي. كما قال أمير المؤمنين عليه السّلام. وفي نفس الوقت الذي لا يعبأون بأحد غير الحق المتعالي، ويرون أن الكائنات بأسرها فقيرة إلى الله، ينظرون إلى كل شيء بعين ملؤها العظمة والرحمة والحنان، ولا يلومون أحداً على شيء إلاّ من أجل إصلاح وضعه وتربيته. كما أن الأنبياء عليهم السّلام كانوا كذلك، لأنهم يعتبرون الناس من المرتبطين بالحق ومن مظاهر جماله وجلاله، ولا يسمحون لأنفسهم إلاّ بالنظر إلى عباد الله بكل لطف ومحبة. ولا يؤنبون في قلوبهم أحداً على نقصه أو فتوره، وإذا لاموا أحداً بألسنتهم فلأجل المحافظة على المصالح العامة وإصلاح أحوال العائلة البشرية. وهذا من نتائج وثمرات الشجرة الطيبة لليقين والإيمان، والمعرفة بالحدود والشريعة الإلهية. وأما الطائفة الثانية فهم لا يعرفون عن الحق شيئاً، وإذا علموا شيئاً لكانت معرفتهم ناقصة وإيمانهم غير تام، وحيث أن انتباههم إلى الكثرات والأسباب الظاهرية قد أغفلهم عن مسبّب الأسباب، فظلّوا يسعون لكسب رضا المخلوق، وقد ينتهي بهم الأمر إلى شراء رضا المخلوق الضعيف جداً، بسخط وغضب الله سبحانه: بأن يعلنوا موافقتهم لمعصية العصاة، أو يتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الوقت المناسب للأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، أو يفتوا بالباطل، أو يدعموا من ليس بأهل للتأييد أو يكذّبوا مَنْ ليس من شأنه الدجل والكذب. أو يغتابوا المؤمنين ويَفْتروا عليهم لأجل كسب مودّة أهل الدنيا، ورعاية أصحاب المناصب الظاهرية. بل كل ذلك ينشأ من ضعف الإيمان، بل إنه مرتبة من مراتب الشرك. وتُفضى مثل هذه المواقف بالإنسان إلى المهالك الكثيرة التي منها ما ورد في هذا الحديث الشريف من إساءة نظر مثل هذا الإنسان إلى عباد الله ومعاداتهم وتأنيبهم وملامتهم على أعمالهم إلى غير ذلك.
فصل: في نقل كلام المعتزلة والأشاعرة وإشارة إلى مذهب الحق سبحانه
إعلم: لقد عقد المحدث المجلسي رحمه الله في كتابه (مرآة العقول) عند هذا الحديث فصلاً للبحث عن أن الرزق المقسوم، من قبل الحق المتعالي هل يعم الحلال والحرام أو أنه يختص بالحلال؟ ونقل رضوان الله تعالى عليه عن كتاب (تفسير الفخر الرازي) اختلاف الأشاعرة والمعتزلة في ذلك، مع نقله للأحاديث والأخبار التي تمسك بها كل واحد من الطرفين على وجهة نظره، وجعل موقف الإمامية متطابقاً مع المعتزلة في عدم الكون الرزق المقسوم من الحرام بل يختص بالحلال. ونقل أدلة المعتزلة على موقفهم ذلك من ظواهر الآيات والأخبار، وظاهر كلمة الرزق حيث تكون هذه الأمور مصدر الاحتجاج للطرفين. واختار رحمه الله موقف المعتزلة، لأنه موافق مع المذهب المشهور للإمامية، وارتضى براهينهم على ذلك، ولكن لابد من معرفة أن هذه المسألة من فروع بحث الجبر والتفويض الذي لا يتوافق مذهب الإمامية فيه مع كل واحد من المعتزلة والأشاعرة، بل أن كلام المعتزلة أوهى وأوهن من كلام الأشاعرة. وإذا نزع بعض المتكلمين من الإمامية رضوان الله تعالى عليهم نحو رأي المعتزلة، فإنه نتيجة الغفلة عن حقيقة الحال والمآل. وقد قلنا قبل قليل بأن مسألة الجبر والتفويض المطروح على بساط أبحاث معظم العلماء لا يزال غامضاً لدى الفريقين ولم يتطرّق إليه حسب مقاييس علمية صحيحة. ولهذا لا يجد العلماء غالباً ارتباطاً بين هذه المسألة وبحث الجبر والتفويض، مع أنه من النقاط الدقيقة جداً. ومجمل القول أنه إذا ارتأى الأشاعرة بأن الحلال والحرام من الرزق المقسوم انطلاقاً من التزامهم بالجبر، أو المعتزلة بأن الحرام ليس من الرزق المقسوم لإيمانهم بالتفويض، لكان كلا المذهبين باطلاً، وقد ثبت فساده في محلّه. ونحن على ضوء المبادئ الثابتة لدينا بالدليل والبرهان نؤمن بأن الحلال والحرام من الرزق المقسوم من قبل الحق المتعالي، كما نرى الآثام بتقدير من الله وقضائه من دون أن يستلزم ذلك الجبر والفساد. وقد آلينا (وحيث أن الله سبحانه هو الذي يدبر الأمور، قمنا بدراسة مختصرة لهذه المسألة في شرح حديث التاسع والثلاثين عرفت الله بفسخ الغرائم ونقض الهمم (منه عفى عنه). على أنفسنا أن لا نغور في الأبحاث العلمية التي لا نعرف شيئاً عن مغزاها الحقيقي. مضافاً على أن هذا الكتاب لا يكون في مستوى عرض الأدلة والبراهين على المواقف المختارة. ولهذا نقتنع بهذه الإشارة. والله الهادي. كما أن المرحوم المحدث المجلسي أورد أيضاً في نهاية شرحه لهذا الحديث في كتابه مرآة العقول بحثاً آخر هو أنه يجب على الله أن يرزق عباده بصورة مطلقة، أو عندما يسعى العبد في سبيل تحصيله وكسبه؟ إن هذا بحث يتناسب مع المبادئ التي يؤمن بها علماء الكلام، ولابد من اتخاذ طريقة أخرى في كافة هذه الأبحاث عندما تعالج على أساس البراهين والمقاييس الفلسفية. والأولى ترك الكلام في أمثال هذه الأبحاث التي لا تجدي نفعاً تاماً. وقد أسفلنا الإشارة إلى أن تقسيم الأرزاق على ضوء القضاء الإلهي، لا تتنافى مع السعي والجهد في طلب الرزق.
فصل: الراحة في اليقين والقلق في الشك
في بيان أن الحق المتعالي قد جعل الرَوْحَ والراحة في اليقين والرضا، والهمّ والحزن في الشك والسخط، وذلك على أساس القسط والعدل. ولا بد أن نعرف أن الرَوْحَ والراحة في هذا الحديث الشريف، وكذلك الهمّ والحزن تعود إلى الأمور الدنيوية وكسب العيش، وطلب الرزق، نتيجة وقوعها إثر تقدير الأرزاق وتقسيمها. وإن كان إراجعهما إلى الأمور الأخروية على أساس بيان آخر، أيضاً صحيحاً. ونحن نكون فعلاً بصدد بيان هذا الحديث الشريف. وعليه إعلم أن الإنسان الذي يعتقد بالحق وتقديره اعتقاداً يقينياً، ويعتمد على الركن الركين الذي يتمتع بالقدرة المطلقة، والذي يقرر الأمور بأسرها على ضوء المصالح الغيبية، والذي له الرحمة الكاملة المطلقة والجود المطلق، من المعلوم أن مثل هذا اليقين. تتذلل الصعاب عنده وتهون أمامه المصائب، ويختلف كثيراً في طلبه للمعيشته عن أهل الدنيا وأهل الشك والشرك. إن الذين يعتمدون على الأسباب الظاهرية، يعيشون دائماً عند طلب الرزق في حالة من القلق والاضطراب، ولو اصطدموا بمشكلة، لعظمت عندهم وضاقت الحياة في أعينهم لأنهم لا يجدونها محفوفة بالمصالح الغيبية التي يعلمها الله ويجهلها الإنسان. وخلاصة الكلام إن من يرى سعادته، في تحصيل هذه الدنيا، يواجه في طلبه هذا الآلام والعَناء، وتُسلب عنه الراحة والبهجة، وتستنزف قواه وطاقاته في هذا الطلب. كما نرى أن أهل الدنيا دائماً في تعب ونصب، وأنهم لم يتمتعوا باطمئنان في الروح واستقرار في الجسم، وإذا حلّت بهم مصيبة، خارت قواهم وحيويتهم وزال جلدهم وصبرهم أمام الحوادث التي تداهمهم. وهذا لا يكون إلاّ نتيجة شكهم وعدم إيمانهم بالقضاء الإلهي وعدله، فتكون هذه الأمور من الحزن والهم والتعب. نتيجة لهذا التزلزل. وقد سبق منا شرح مسهب في هذا الموضوع، ولهذا لا ينبغي تكراره. وأما بيان ترتب الروح والراحة على اليقين والرضا، وترتب الهمّ والحزن على الشك والسخط، من الجعل الإلهي، وإن هذا الجعل يكون عادلاً، فهو متوقف على بيان تطرق فاعلّية الحق المتعالي في جميع مراتب الوجود من دون أن يستلزم جبراً باطلاً ومستحيلاً، وعلى بيان البرهان اللمي ـ الاستدلال من المعلول على العلة ـ من أن نظام الوجود أتم وأكمل نظام متصور. وهذان الأمران خارجان عن وظيفة ودور هذا الكتاب وَالحمد لله أوّلاً وآخراً.
ــــــــــــــ
([1]) (أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب فضل اليقين، ح2).
([2]) (مرآة العقول، المجلد 7، ص359 ط دار الكتب الإسلامية ـ طهران).
([3]) (مرآة العقول، المجلد 7، ص356 ط دار الكتب الإسلامية ـ طهران).
([4]) (مرآة العقول، المجلد 7، ص356 ط دار الكتب الإسلامية ـ طهران).
([5]) (مرآة العقول، المجلد 7، ص357 ط دار الكتب الإسلامية ـ طهران).
([6]) (وسائل الشيعة، المجلد 12، الباب 5، من أبواب مقدمات التجارة، ح7).
تعليقات الزوار