المكان: طهران، جماران‏

 

المخاطب: السيد احمد الخميني‏

 

المصدر: صحيفة الإمام، ج‏16، ص: 158          

 

الموضوع: مواعظ ونصائح أخلاقية ـ عرفانية

 

التاريخ 8 ارديبهشت 1361 ﻫ.ش/ 4 رجب 1402 ﻫ.ق‏

 

بسم الله الرحمن الرحيم‏

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين، أشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأن علياً أمير المؤمنين وأولاده المعصومين صلوات الله عليهم خلفاؤه، وأن ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله حق، وأن القبر والنشور والجنة والنار حق، وأن الله يبعث من في القبور.

 

وصية من أب عجوز أمضى عمراً في البطالة ولم يتزود للحياة الأبدية ولم يخط خطوة خالصة لله المنان ولم يتحرر من الأهواء النفسية والوساوس الشيطانية، ولكنه ليس يائساً من فضل الله الكريم وكرمه فهو آمل لعفوه وعطفه وهذا هو زاده الوحيد في طريقه، إلى ابن يتمتع بنعمة الشباب ويمتلك الفرصة لتهذيب النفس وخدمة خلق الله ومن المؤمل أن يكون الله راضياً عنه مثلما رضى والده العجوز عنه وأن يتفضل عليه بأن يوفقه لخدمة المحرومين الذين هم الصالحون من الأمة والذين أوصى بهم الإسلام.

 

بنيّ، احمد الخميني ـ رزقك الله هدايته ـ سواء كان العالم أزليا وأبديا أم لا، وسواء كانت سلسلة الموجودات غير متناهية أم لا، فإنها كلها فقيرة لأن الوجود ليس ذاتياً لها. وأنت إذا نظرت بالإحاطة العقلية إلى جميع السلاسل غير المتناهية فانك ستسمع صوت الفقر والاحتياج الذاتي في وجودها وكمالها بالوجود الذي هو موجود بالذات والكمالات، ذاتية له، وإذا خاطبت بالمخاطبة العقلية السلاسل الفقيرة بالذات قائلا: أيتها الموجودات الفقيرة، من الذي يستطيع سد احتياجاتك؟» فإنها جميعها ستصرخ بلسان الفطرة: نحن محتاجون إلى موجود ليس فقيرا مثلنا في الوجود وكمال الوجود؛ على أن هذه الفطرة نفسها ليست منها هي نفسها «فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله»[1]، إن فطرة التوحيد من الله والمخلوقات الفقيرة بالذات لا تتبدل إلى الغني بالذات وهذا التبديل غير ممكن. ولأنها فقيرة ومحتاجة فإن أحدا لا يستطيع رفع فقرها سوى الغني بالذات. وهذا الفقر الذي هو لازم ذاتي لها هو دائم، سواء كانت هذه السلسلة أبدية أم لا، ولا يمكن لأحد أن يفعل شيئا سواه وكل شخص لا يمتلك‏ الكمال والجمال اللذين له. «وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى»[2] وذلك يصدق في كل شي‏ء وكل فعل وكل قول وعمل ومن يدرك هذه الحقيقة ويتذوقها، فان قلبه سوف لا يتعلق بأحد غيره ولا يطلب حاجة من غيره.

 

حاول أن تفكر في هذه البارقة الإلهية في الخلوات، ولقن طفل قلبك بها وكررها حتى تتجسد على اللسان وتتمظهر في ملك وجودك وملكوته، واتصل بالغني المطلق كي تستغني عن أي أحد سواه، واطلب منه توفيق الوصول كي يقطعك عن جميع الناس وعن ذاتية ذاتك ويمنحك التشرف بالحضور والإذن بالدخول.

 

ابني العزيز، انه ـ جل وعلا ـ الأول والآخر والظاهر والباطن «هو الأول والآخر والظاهر والباطن»[3] أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المُظهِر لك، متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك، عميت عين لا تراك عليها رقيباً[4].

 

غايب نبوده أي كه تمنا كنم ترا                بنهان نئي ز ديده كه بيدا كنم ترا

 

يعني: لم تكن غائبا كي أتمناك لست مخفيا عن نظري كي ابحث عنك‏

 

هو الظاهر وكل ظهور هو ظهوره ونحن أنفسنا الحجاب. إن أنانيتنا وإنيّتنا هما اللتان تحجباننا، «أنت نفسك حجاب لنفسك، فعد إلى رشدك يا حافظ»[5] فلنلجأ إليه ولنطلب منه تبارك وتعالى ـ بتضرع وابتهال أن يخلصنا من الحجب: (الهي هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجبَ النور فتصل إلى معدن العظمة، وتصير أرواحنا معلقة بعز قدسك، الهي واجعلني ممن ناديته فأجابك ولاحظته فصعق لجلالك)[6].

 

بني! نحن مازلنا في قيد الحجب الظلمانية وتمتد من بعدها حجب النور، ونحن المحجوبين لم نستطع حتى الآن أن نجتاز حجاباً واحداً.

 

بني! حاول أن لا تنكر المقامات الروحانية والعرفانية إن لم تكن من أهل المقامات المعنوية فإن من أكبر الحيل الشيطانية والنفس الأمارة التي تمنع الإنسان من جميع المدارج الإنسانية والمقامات الروحانية، دفعه إلى الإنكار وأحياناً الاستهزاء بالسلوك إلى الله حيث يؤدي ذلك إلى خصومته والتضاد معه وإلى أن يموت في المهد كل الذي ظهر من أجله جميع الأنبياء العظام‏ صلوات الله عليهم ـ والأولياء الكرام ـ (سلام الله عليهم)، والكتب السماوية خاصة القرآن الكريم الكتاب الخالد لبناء الإنسان.

 

لقد حرف القرآن كتاب معرفة الله وطريق السلوك إليه، وعزل على يد الأصدقاء الجاهلين عن طريقهم هم أنفسهم وتسربت إليه الآراء المنحرفة والتفسيرات بالرأي التي نهى عنها أئمة الإسلام عليهم السلام كل ذلك النهي، فتصرف فيه كل شخص حسب أهوائه النفسية. لقد نـزل هذا الكتاب العزيز في بيئة وعصر هو أكثر العصور ظلمة والأناس الذين كانوا يعيشون فيه أكثر الناس تخلفاً ونـزل على قلب شخص وعلى يد شخص كان يواصل حياته في تلك البيئة، وفيه حقائق ومعارف لم يكن لها سابق عهد في العالم آنذاك، فما بالك ببيئة نـزوله وهذه هي أسمى واكبر معاجزه. تلك المسائل العرفانية الكبيرة التي لم يكن لها سابق عهد في اليونان وفلاسفتها وعجزت كتب أرسطو وأفلاطون اللذين كانا اكبر فلاسفة تلك العصور عن الوصول إليها، وحتى فلاسفة الإسلام الذين نشأوا في مهد القرآن الكريم واستندوا إليه على مستوى واسع، فإنهم أولوا الآيات التي ذكرت صراحة حياة جميع الكائنات في العالم، كما أن جميع عرفاء الإسلام الكبار الذين ذكروها اخذوا من الإسلام ومن القرآن الكريم، فالمسائل العرفانية لا توجد في كتاب آخر على النحو الذي في القرآن الكريم.

 

وكل ذلك هو معجزة الرسول الأكرم الذي يعرف مبدأ الوحي بشكل بحيث يخبره بأسرار الوجود ويرى هو نفسه من خلال العروج إلى ذروة الكمال الإنساني الحقائق واضحة ودون أي حجاب وفي نفس الوقت فان له الحضور في جميع أبعاد الإنسانية ومراحل الوجود، والمظهر الأعلى للآية «هو الأول والآخر والظاهر والباطن»[7]، ويريد أن يصل جميع الناس إليها ويبدو انه يتألم لأنه لم يصلوا إليها، ولعل الآيتين «طه ما أنـزلنا عليك القران لتشقى»[8] إشارة لطيفة إليها ولعل (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت)[9] يرتبط أيضا بهذا المعنى.

 

إن أولئك الذين وصلوا إلى هذا المقام أو ما يشبهه لا يختارون الاعتزال والانـزواء عن الخلق، بل إنهم موظفون بتعريف الضالين إلى هذه المظاهر ومصالحتهم معها، رغم أنهم لم يوفقوا في ذلك كثيراً. وأما أولئك الذين ذهلوا عن أنفسهم من خلال الوصول إلى بعض المقامات وتناول جرعة منها وبقوا في حالة الصعق، فإنهم لم يصلوا إلى الكمال المطلوب رغم أنهم حصلوا على كمالات كبيرة. وموسى الكليم ـ صلوات [الله‏] وسلامه عليه ـ الذي صعق لتجلي الحق أفاق بالعناية الخاصة وأمر بالخدمة، ورسول الله الخاتم أمر بالهداية من خلال الوصول إلى مرتبة الإنسانية العالية وما لا يخطر على بال احد، بمظهرية الاسم الجامع الأعظم وبخطاب يا أيها المدثر. قم فانذر[10].

 

ابني العزيز! على الرغم من أنني أنا نفسي لست بشي‏ء وأكثر الأشياء افتقاراً للقيمة فإن هدفي مما أشرت إليه أن لا تنكر المقامات المعنوية والمعارف الإلهية وأن تكون من الأشخاص المحبين للصالحين والعارفين حتى وإن لم تكن منهم وأن لا ترحل من هذا العالم معادياً لمحبي الله تعالى.

 

بني! تعرّف على القرآن هذا الكتاب المعرفي العظيم؛ وان كان ذلك بقراءته، وافتح منه طريقا إلى المحبوب ولا تتصور أن القراءة لا اثر لها دون المعرفة فهذا من وسوسة الشيطان. فهذا الكتاب من جانب المحبوب لك ولكل إنسان، ورسالة المحبوب محبوبة حتى وان لم يعرف العاشق والمحب مفادها وبهذا الدافع يأتيك حب المحبوب الذي هو كمال المطلوب وربما يأخذ بيدك. ونحن لا نستطيع أن نوفي حق شكر كون القرآن كتابنا وان سجدنا طيلة عمرنا.

 

بني! إن الأدعية والمناجاة التي وصلتنا عن الأئمة عليهم السلام هي اكبر إرشادات التعرف عليه جل وعلا وأسمى طريق يمهد للعبودية والعلاقة بين الحق والخلق والمشتملة على المعارف الإلهية ووسيلة الأنس به ومعطى بيت الوحي ونموذج لأصحاب القلوب وأرباب السلوك. ولا تجعلنك وساوسك أن تغفل عن التمسك بها وعن الأنس بها إن استطعت. ونحن لا نستطيع أن نؤدي شكر هؤلاء الصالحين والواصلين إلى الحق، أئمتنا ومرشدينا وإن تفرغنا للدعاء.

 

من وصاياي أنا المشرف على الموت، وأنا الذي ألفظ أنفاسي الأخيرة لك يا من تتمتع بنعمة الشباب، أن تختار معاشريك وأصدقاءك من الأشخاص الصالحين والملتزمين والملتفتين إلى القيم المعنوية والذين لا يميلون إلى حب الدنيا وزخارفها ولا يتجاوزون من المال والمنال حدود كفايتهم والحد المتعارف عليه ولا تكون مجالسهم ومحافلهم ملوثة بالذنوب ويتحلّون بالأخلاق الكريمة فتأثير المعاشرة لا يمكن اجتنابه صلاحاً أو فساداً، واسع لان تتجنب المجالس التي تجعل الإنسان يغفل عن ذكر الله لان التعود على هذه المجالس من الممكن أن يسلب التوفيق من الإنسان، وهذه مصيبة بحد ذاتها لا يمكن تلافيها.

 

اعلم أن في الإنسان ـ إن لم اقل في كل موجود ـ حب الكمال المطلق حسب الفطرة، ومن المستحيل أن ينفصل هذا الحب عنه ومن المحال أن يكون الكمال المطلق اثنين ومكررا، والكمال المطلق هو الحق جل وعلا، فالجميع يريده وقلوب الجميع متعلقة به حتى وان لم يعلموا ذلك وكانوا في حجب الظلمة والنور وظنوا بهذه الحجب أنهم يريدون أشياء أخرى وهم لا يقنعون بأي كمال أو قدرة أو مكانة أو جمال يصلون إليه ولا يجدون ضالتهم فيه.

 

إن الأقوياء وأصحاب القوى الكبرى يبحثون عن قوة اكبر مهما كانت القوة التي يصلون إليها، وطلاب العلم ومهما بلغوا من مراتب العلم فإنهم يطلبون ما فوقه فلا يجدون فيه ضالتهم، هذه الضالة التي هم أنفسهم عنها غافلون.

 

ولو منح طلاب السلطة القدرة وعلى السيطرة والتصرف في جميع العالم المادي، من الأرض والمنظومات الشمسية والمجرات وكل ما فوقها، وقيل لهم:» هناك فوق ذلك قوة أخرى وهناك وراءها عالم أو عوالم أخرى، فهل تريدون الوصول إليها؟ «فان من المحال أن لا يتمنوها، بل إنهم يقولون بلسان الفطرة: «ليتنا نستطيع أن نحصل عليها هي أيضا!». وهكذا هو طالب العلوم، بل انه إذا شك في أن هناك درجة أخرى ـ فوق ما وصل إليه ـ فان فطرته الباحثة عن المطلق ستقول: «ليتني استطعت أنا أيضا أن امتلك قدرة التصرف فيها، أو شملتها سعة علمي هي أيضا».

 

إن ما يطمئن الجميع ويطفئ النار الملتهبة للنفس المتمردة والتوسعية هو الوصول إليه، ولان الذكر الحقيقي له- جل وعلا- هو التجلي له، فان الاستغراق فيه يسبب الاطمئنان ألا بذكر الله تطمئن القلوب[11] وكأنه يقول: انتبهوا انتبهوا! استغرق في ذكره كي يحلق قلبك من هذا الصوب إلى ذلك الصوب ومن هذا الغصن إلى ذلك الغصن ويحصل على الطمأنينة.

 

فاسمع بني العزيز طمأن الله قلبك بذكره، نصيحة أبيك المتحير ووصيته ولا تدق هذا الباب أو ذاك من اجل الوصول إلى المنصب والشهرة وما هو من الشهوات النفسية، فانك مهما بلغته ستتأثر لأنك لم تبلغ ما فوقه فتتحسر على الدرجة الأعلى فتزداد همومك الروحية؛ فإن قلت: لماذا أنت نفسك لا تعمل بهذه النصيحة؟ قلتُ: انظر إلى ما قال لا إلى من قال[12]. هذا القول صحيح، حتى وان صدر من مجنون أو مفتون، فبعد أن يقول الله في القرآن الكريم ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها[13] يقول: لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور[14] فالإنسان في هذا العالم يتعرض للتحولات والتغييرات، فقد تنـزل عليه مصائب وقد تقبل عليه الدنيا ويصل إلى المنصب والجاه والمال والمنال والقدرة والنعمة وكلاهما فانيان، فلا تحزنك تلك النواقص والمصائب فان عنان‏ الصبر سوف ينفلت من يديك، فقد يحدث وان تكون المصيبة والنقصان خيرا وصلاحا لك: عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم[15] ولا تخسر نفسك في إقبال الدنيا عليك والوصول إلى ما تقتضيه الشهوات ولا تتكبر ولا تتفاخر على عباد الله فما أكثر ما يكون شراً لك ما تعتبره خيراً.

 

بني! إن حب الدنيا الصادر من حب النفس هو المذموم وهو رأس مال جميع التعاسات وأساسها والهلاكات ورأس كل الخطايا. وعالم الملك ليس مذموما بل هو مظهر الحق ومقام ربوبيته ومهبط ملائكة الله ومسجد الأنبياء والأولياء (عليهم السلام) ومدرستهم ومعبد الصالحين وموضع تجلي الحق على قلوب عشاق المحبوب الحقيقي، وإذا كان حبه صادرا عن حب الله وكان باعتباره مظهرا له- جل وعلا- فانه مطلوب ومؤد إلى الكمال. وان كان ناجما عن حب النفس فانه سيكون رأس كل الخطايا. وعلى هذا فان الدنيا المذمومة هي في نفسك أنت، فالعلائق والمتعلقات القلبية بغير صاحب القلب تؤدي إلى الهاوية. إن جميع الاعتراضات على الله والابتلاء بالمعاصي والجرائم والخيانات ناجمة عن حب الذات، فان حب الدنيا وزخارفها وحب المقام والجاه والمال والمنال كل ذلك صادر منه، وفي نفس الوقت فإن إي قلب لا يمكنه أن يتعلق بحسب الفطرة بغير صاحب القلب ولكن هذه الحجب الظلمانية والنورانية هي التي تجعلنا نغفل نحن والجميع عن صاحب القلب فنظن خطأ أن غير صاحب القلب هو صاحب القلب، ظلمات فوق ظلمات. إننا نحن وأمثالنا لم نصل إلى الحجب النورانية ولازلنا في اسر الحجب الظلمانية. ومن قال: هب لي كمال الانقطاع إليك وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة، فانه قد اجتاز الحجب الظلمانية والشيطان الذي عارض أمر الله ولم يخضع لآدم، كان يرسف في قيود حجاب الكبر الظلماني وخلقتني من نار وأنا خير منه[16] فطرد من ساحة الربوبية ونحن أيضا في حجاب ذاتنا ومغرورون وأنانيون، نحن شيطانيون ومطرودون من محضر الرحمن، وما أصعب تحطيم هذا الصنم الكبير الذي هو أم الأصنام!

 

وما لم نخضع له ونطع أمره، فإننا لا نخضع لله ولا نطيع أمره جل وعلا وما لم يحطم هذا الصنم فان الحجب الظلمانية لا يمكن أن تتمزق وتزول. يجب أن نعلم أولاً ما هو الحجاب فإننا إن لم نعرفه فسوف لا نستطيع أن نعمل على رفعه - أو إضعافه على الأقل -. وأن لا نـزيد على الأقل من قوته وفاعليته يوما بعد آخر. وقد جاء في حديث: «كان بعض أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) عنده، فسمعوا صوتاً، وسألوا: ما هذا الصوت؟ فقال (صلى الله عليه وآله): انه صوت هجر سقط من‏ حافة جهنم منذ سبعين سنة، ووصل الآن إلى قعر جهنم، عندئذ التفتوا إلى أن كافراً يبلغ 70 عاماً مات»[17].

 

وإذا كان الحديث صادراً فلعل أن يكون ذلك البعض من أهل الحال أو بلغ مسامعهم بتصرف رسول الله - صلى الله عليه وآله - لتنبيه الغافلين والجاهلين، وإذا لم يكن الحديث - الذي لا أتذكر ألفاظه - صادرا ولكن المهم أننا نسير نحو جهنم عمرا كاملا ونؤدي الصلاة عمرا كاملا - الصلاة التي هي اكبر تذكرة لله- مولين ظهورنا للحق وبيته جل وعلا  ومستقبلين أنفسنا وبيت النفس وأي شي‏ء أكثر إيلاما من أن تؤدي بنا الصلاة التي يجب أن تكون معراجا لنا والتي يجب أن تنقلنا إليه والى جنة لقائه، إلى أنفسنا والى المنفى الجهنمي.

 

بني! إن الهدف من هذه الإشارات ليس أن يجد أمثالي وأمثالك طريقا إلى معرفة الله وعبادته كما هو حقه، رغم انه قد نقل عن اعرف الموجودات بالحق تعالى وحق عبادته وعبوديته قوله: ما عرفناك حق معرفتك وما عبدناك حق عبادتك[18] بل لكي نفهم عجزنا وندرك تفاهتنا ونحث التراب على أنانيتنا وانيتنا بل لكي نحد من تمرد هذا الغول، علنا أن نوفق إلى أن نمسك بزمامه ونكبح جموحه، حتى نتخلص من الخطر الكبير الذي يحرق ذكره في الأرواح.

 

واحذر من الخطر الذي يحل في اللحظات الأخيرة من الانفصال عن هذا العالم والرحيل إلى المستقر الأبدي، وهو أن الإنسان المبتلى بحب النفس وحب الدنيا ـ بأبعادها المختلفة ـ على اثر ذلك من الممكن أن يكتشف ويدرك في حال الاحتضار أن مأمور الله سيفصله عن محبوبه ومعشوقه، ليرحل وقد عاداه الله جل وعلا وغضب عليه وتنفر منه وهذه هي عاقبة حب النفس والدنيا وقد وردت الإشارة إليها في الروايات. نقل شخص متعبد وموثوق به «انه وقف عند سرير شخص كان يحتضر فقال المحتضر: إن الظلم الذي يمارسه الله علي لم يفعله احد آخر، انه يريد أن يفصلني عن أطفالي هؤلاء الذين ربيتهم بدم قلبي. فقمت وغادرت ثم مات» طبعا من الممكن أن تختلف روايتي بعض الاختلاف عما قاله ذلك العالم المتعبد، وعلى أي حال فان ما قلته على فرض صحته، مهم إلى درجة بحيث أن الإنسان يجب أن يفكر في حل له.

 

إننا لو فكرنا لساعة في موجودات العالم، التي نحن منها واكتشفنا أن كل موجود ليس له من نفسه شي‏ء وان كل ما وصل إليه، هو ألطاف إلهية ومواهب مستعارة، وان الألطاف التي تفضل بها علينا الله المنان سواء قبل مجيئنا إلى الدنيا أو في حال الحياة من الطفولة وحتى نهاية العمر وسواء بعد الموت بواسطة الهداة الذين أُمروا بهدايتنا، فربما تظهر فينا بارقة من حبه جل وعلا الذي حُجبنا عنه وندرك خواءنا وانعدام قيمتنا وينفتح أمامنا طريق إليه جل‏ وعلا أو نتحرر على الأقل من الكفر الجحودي ولا نعتبر إنكار المعارف الإلهية والتجليات الرحمانية مرتبة لأنفسنا ولا نفتخر بذلك كي لا نسجن إلى الأبد في بئر ويل الأنانية والعجب.

 

جاء في رواية «أن الله تعالى خاطب أحد أنبيائه أن يقدم له شخصا يعتبره أسوأ منه، فسحب جثة حمار لبضعة أقدام كي يعرضه ولكنه ندم فجاءه النداء انك لو كنت جئت به لسقطت». وأنا لا أعلم هل لهذا النقل أصل أم لا، ولكن النظر إلى التفوق في المقام الذي يتبوأه الأولياء من الممكن أن يؤدي بحد ذاته إلى السقوط ذلك لأنه عجب وأنانية، حتى وان كان كذلك.

 

ترى لماذا كان النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله) يحزن ويتأثر إلى حد كبير بسبب عدم إيمان المشركين حتى خاطبه الله «لعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا»[19] إن السبب ليس إلا لأنه كان يضمر العشق لجميع عباد الله والعشق لله هو عشق لتجلياته. فقد كان يتألم لحجب العجب الظلمانية وأنانيات المنحرفين التي تؤدي إلى تعاستهم وعذاب جهنم الأليم الذي هو نتيجة أعمالهم وكان ينشد السعادة للجميع؛ فقد بعث لسعادة الجميع في حين كان المشركون والمنحرفون أصحاب القلوب العمياء يعادونه رغم انه جاء لإنقاذهم.

 

وأهل المعرفة يعلمون أن الشدة على الكفار هي من صفات المؤمنين كما أن قتالهم رحمة ومن الألطاف الخفية للحق، وان عذاب الكفار والأشقياء الذي هو منهم يزداد كما ونوعاً إلى ما لا نهاية له في كل لحظة تمر عليهم. ولهذا فان قتل أولئك الذين لا يمكن إصلاحهم، هو رحمة في حالة الغضب ونعمة في حالة النقمة، وبالإضافة إلى ذلك رحمة بالمجتمع، ذلك لان العضو الذي يجر المجتمع إلى الفساد هو كالعضو في بدن الإنسان إن لم يقطع فانه يجره إلى الهلاك.

 

وهذا هو ما طلبه نبي الله نوح صلوات الله وسلامه عليه «وقال نوح رب لا تذر على الأرض ديّارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا»[20] ويقول الله تعالى: «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة»[21]. وبهذا الدافع والدافع السابق أيضا، فان جميع الحدود والقصاص والتعزيرات من جانب ارحم الراحمين، هي رحمة للمرتكب ورحمة للمجتمع. فلنتجاوز هذه المرحلة.

 

بني! إن استطعت فانظر نظرة الرحمة والمحبة إلى جميع الموجودات خاصة الناس من خلال التفكر والإيحاء إلى نفسك، أو ليس كافة الموجودات هي في معرض رحمة رب العالمين من جهات عديدة لا تحصى، أو ليس وجود الحياة وجميع بركاتها وآثارها هو من مظاهر الرحمة والنعم الإلهية؟، وقد قيل: كل موجود مرحوم[22] وهل هناك موجود ممكن الوجود من الممكن أن يكون له شي‏ء من نفسه وبنفسه؟ وفي هذه الحالة فان الرحمة الرحمانية هي التي تشمل العالم. أَوَ ليست تربية الله الذي هو رب العالمين المظهر لرحمته، وهل الرحمة والتربية تكون شاملة للعالم دون العناية والألطاف؟. وبناء على ذلك فلماذا لا يكون الشخص الذي يتعرض للعناية والألطاف والمحبة الإلهية موضع محبتنا؟ وان لم يكن، أفلا يكون ذلك نقصا لنا وقصورا في الرؤية؟.

 

ألا فاني أصبحت عجوزا ولم استطع أن أزيل من نفسي هذه النقيصة وسائر النقائص الأخرى التي لا تحصى، وأنت شاب واقرب إلى رحمة الحق وملكوته، فاسع لان تزيل هذه النقيصة من نفسك. وليوفقك الله تبارك أنت والجميع ونحن إلى أن نـزيل هذا الحجاب وأن نجد ما تقتضيه فطرة الله. لقد بينت سابقا خلاصة من هذه المقولة، والآن أشير إليها إشارة عسى أن تساعد على رفع هذا الحجاب.

 

نحن نعشق الكمال المطلق بمقتضى الفطرة الإلهية ونمتلك، شئنا أم أبينا، من هذا العشق، العشق للكمال المطلق الذي هو من آثار الكمال المطلق، ونحن نمتلك أيضا شرط هذه الفطرة وهو الهروب من النقص المطلق الذي شرطه الهروب من مطلق النقص. ولهذا هذا فإننا نعشق الحق تعالى الذي يمثل الكمال المطلق حتى وان لم نعرف ذلك ولم ننتبه إليه، وإذا ما عادينا أي شخص وأي شي‏ء وهربنا من أي شخص فإنه لا الكمال المطلق ولا مطلق الكمال، بل النقص المطلق أو مطلق النقص الذي يقف في الطرف المقابل ويناقضه، ونقيض الكمال عدمه. ولأننا في الحجاب فإننا ضالون في التشخيص وإذا زال الحجاب فان الذي منه جل وعلا محبوب وما هو مبغوض ليس منه، ولهذا فإنه ليس موجودا.

 

واعلم أن هناك مسامحات في التعبيرات بالنسبة إلى المقابلات ورغم أن الموضوع السابق يوافق البرهان المتين ويتوافق مع الرؤية العرفانية والمعرفة ووردت إليه الإشارة في القران الكريم إلا أن تصديقه والإيمان به صعبان للغاية والمنكرون كثيرون والمؤمنون قليلون للغاية، وحتى أولئك الذين يعتبرون هذه الحقيقة ثابتة عن طريق البرهان لا يؤمنون بها إلا قليلا وهم مؤمنون، والإيمان بمثل هذه الحقائق لا يحصل إلا بالمجاهدة والتفكر والإيحاء.

 

ولعل الادعاء بان بعض الأمور البرهانية يمكن أن لا تكون موضع التصديق والإيمان، يمكن أن يكون هو نفسه يبدو صعبا أو عديم الأساس، ولكن يجب أن نعلم أنه أمر وجداني ووردت الإشارة إليه في القرآن الكريم مثل الآيات الكريمة من سورة التكاثر. وأما الوجدان فإنكم تعلمون أن الموتى لا حراك يصدر منهم ولا يستطيعون أن يصيبوكم بأذى وأن آلاف الموتى لا يبلغ نشاطهم مستوى نشاط ذبابة واحدة وأنهم سوف يحيون في هذا العالم بعد الموت وقبل يوم النشور، ولكنكم لا تمتلكون القدرة على النوم بهدوء إلى جانب الميت لوحدكم، وليس ذلك إلا لأن علمكم وقلبكم لم يصدقا، ولم يوجد الإيمان به فيكم، ولكن غسّالي الموت الذين صدقوا من خلال تكرار العمل يختلون بهم بهدوء بال.

 

والفلاسفة يثبتون بالبراهين العقلية حضور الحق تعالى في كل مكان، ولكن ما لم يصل إلى القلب ما أثبته العقل بالبرهان وما لم يؤمن به القلب، فانه لا يؤدي أدب الحضور، وأولئك الذين أوصلوا إلى القلب حضور الحق تعالى وآمنوا به فإنهم يؤدون أدب الحضور حتى وان لم تكن لهم علاقة بالبرهان ويتجنبون ما يتنافى مع حضور المولى. وعلى هذا فان العلوم الرسمية هي حجب بحد ذاتها وان تمثلت في الفلسفة وعلم التوحيد، وكلما زادت أصبح الحجاب أكثر سمكاً.

 

وكما نعلم ونرى فإن لسان دعوة الأنبياء عليهم السلام - والأولياء المخلصين سلام الله عليهم - ليس لسان الفلسفة والبرهان الشائع بل إن الذين هم على صلة بأرواح الناس وقلوبهم ويوصلون النتائج إلى قلوب عباد الله ويهدونهم من داخل الروح والقلب. وإن شئت فقل إن الفلاسفة وأهل البرهان يزيدون من الحجب والأنبياء عليهم السلام وأصحاب القلوب يسعون من اجل رفع الحجاب، ولهذا فان المتخرجين من مدرستهم وتلامذتهم، هم أصحاب البرهان والقيل والقال ولا يمتون بصلة إلى القلب والروح.

 

إن ما قلته لا يعني أن لا تتناول الفلسفة والعلوم البرهانية والعقلية وتعرض عن العلوم الاستدلالية، فهذه خيانة للعقل والاستدلال، بل أعني أن الفلسفة والاستدلال طريق للوصول إلى الهدف ولكنهما ليسا هدفا بحد ذاتهما والدنيا مزرعة الآخرة[23] والعلوم الرسمية هي مزرعة الوصول إلى الهدف، كما أن العبادات هي أيضا المعبر إلى الله جل وعلا، فالصلاة أسمى العبادات ومعراج المؤمن والجميع منه واليه. وان شئت قل: إن جميع المعروفات هي درجات من سلم الوصول إليه جل وعلا وجميع المنكرات هي المانعة من طريق الوصول والعالم كله متحير فيه وفراشة جماله الجميل.

 

ويا ليتنا نستيقظ من النوم وندخل في أول منـزل وهو اليقظة؛ ويا ليته جل وعلا يأخذ بأيدينا بعناياته الخفية ويرشدنا إليه والى جماله الجميل؛ ويا ليت هذا الحصان الجامح المتمثل في النفس يهدأ وينـزل من كرسي الإنكار؛ ويا ليتنا نلقي هذا الحمل الثقيل أرضا ونتجه إليه ونحن أخف حملا؛ ويا ليتنا نحترق في شمع جماله كالفراشة دون أن ننبس ببنت شفة؛ ويا ليتنا نخطو خطوة بقدم الفطرة ولا ندوسها إلى هذا الحد، إن هناك تمنيات كثيرة اذكرها في الشيخوخة وعلى مشارف الموت حيث لا حول لي ولا قوة.

 

وأنت يا بني، استغل شبابك وعش بذكره جل وعلا وحبه والرجوع إلى فطرة الله واقض عمرك على هذا النحو. وهذا الذكر للمحبوب لا يتنافى أبدا مع الأنشطة السياسية والاجتماعية في خدمة دينه وعباده، بل انه يعينك في طريقه، ولكن اعلم أن خدع النفس الأمارة والشيطانين الداخلية والخارجية كثيرة وما أكثر ما تحول الإنسان عن الله باسم الله واسم خدمة خلق الله وتسوقه باتجاه نفسه وآمال نفسه.

 

إن مراقبة النفس ومحاسبتها في تشخيص طريق إرادة النفس وإرادة الله هما من جملة منازل السالكين. فوفقنا الله وإياكم فيها. وما أكثر ما يخدعنا الشيطان نحن الشيوخ بشكل ويخدعكم انتم الشباب بشكل آخر.

 

إن الشيطان يطردنا نحن الشيوخ بسلاح اليأس من الحضور وذكر الحاضر فوسوس لنا بان الوقت قد فاتنا وإننا لا يمكن أن نصلح وأن أيام الشباب التي هي وقت الزراعة والحصاد قد ولت وان القدرة على الإصلاح قد فقدت في سني ضعف الشيخوخة وان جذور الأهواء والمعاصي قد نفذت في جميع أركان الوجود وترسخت وجعلتك لا تليق بمحضره جل وعلا وان الأوان قد فات، فالأفضل أن تستغل الدنيا أقصى الاستغلال في هذه الأيام القليلة من نهاية عمرك.

 

وقد يتصرف الشيطان معنا نحن الشيوخ كما يتصرف معكم، فيقول لكم أنكم شباب وان فصل الشباب هذا هو وقت التمتع والتلذذ، فاشبع شهواتك، وفي أو أخر العمر سيكون طريق التوبة وباب الرحمة مفتوحين إن شاء الله والله ارحم الراحمين، وكلما كانت الذنوب اكبر وأكثر فان الندم والرجوع إلى الحق في آخر العمر سيكونان أكثر وسيزداد التوجه إلى الله تعالى والاتصال به جل وعلا، فما كان أكثر الناس الذين يتمتعوا كثيرا في شبابهم ولكنهم امضوا بقية العمر في سني الشيخوخة في العبادة والذكر والدعاء وزيارة الأئمة عليهم السلام والتوسل بشفاعتهم ورحلوا عن هذه الدنيا سعداء. وهو يوسوس لنا نحن الشيوخ مثل هذه الوساوس أيضا قائلا لنا أن ليس من المعلوم أنكم سوف تموتون بهذه السرعة، وان هناك فرصة، فتب في الأيام القليلة المتبقية من العمر، ثم إن باب شفاعة النبي (صلى الله عليه وآله) مفتوح وان المولى أمير المؤمنين عليه السلام سوف لا يسمح بان يعذب محبوه وانك سوف تراه عند الموت وسوف يأخذ بيدك وما إلى ذلك من أقاويل كثيرة يلقيها في أذن الإنسان.

 

بني! إنني أتحدث الآن معك أنت الشاب. عليك أن تلتفت أن التوبة أسهل على الشباب وأن إصلاح النفس وتربية الباطن يتمان بسرعة اكبر. فالأهواء النفسية وطلب الجاه وحب المال والعجب يكون عند الشيوخ أكثر بكثير من الشباب، وروح الشباب لطيفة ومرنة ولا يوجد في الشباب حب النفس وحب الدنيا بمقدار ما هو موجود عند الشيوخ. والشاب يستطيع بسهولة نسبية أن يحرر نفسه من شر النفس الأمارة ويميل إلى المعنويات. وفي جلسات الموعظة والأخلاق يتأثر الشباب أكثر من الشيوخ. فليلتفت الشباب ولا ينخدعوا بالوساوس النفسية والشيطانية. إن الموت قريب من الشباب والشيوخ بنفس النسبة. فأي شاب يستطيع أن يضمن بلوغه الشيخوخة وأي إنسان مصون من حوادث الدهر؟ إن الحوادث اليومية اقرب من الشباب.

 

بني! لا تضيع الفرصة وأصلح نفسك في الشباب .. على الشيوخ أيضا أن يعلموا أنهم يستطيعون ماداموا في هذا العالم أن يتلافوا الذنوب والمعاصي ولكن الأمر سيخرج من أيديهم إذا انتقلوا من هنا. إن التعلق بشفاعة الأولياء عليهم السلام والتجرؤ في المعاصي هما من الخدع الشيطانية الكبيرة. انظروا في حالات أولئك الذين علقوا الآمال على شفاعتهم، انظروا إلى تأوهاتهم وادعيتهم ولواعجهم وخذوا العبر. وقد جاء في الحديث ما مضمونه أن عليكم أن تتوجهوا غدا إلى محضر الله بالعمل ولا تظنوا أن تعلقكم بي ينفعكم في شي‏ء.

 

وفضلا عن ذلك فان من المحتمل أن تكون الشفاعة من نصيب الذين يكون ارتباطهم المعنوي مع الشفيع حاصلا والذين تكون رابطتهم الإلهية معهم بشكل بحيث يكون لديهم الاستعداد لنيل الشفاعة وإذا ما لم يحصل هذا الأمر في هذا العالم فربما يستحقون الشفاعة بعد التصفيات والتزكيات في عذابات البرزخ، بل جهنم، والله يعلم مقدار أمدهم.

 

وفضلا عن ذلك، فقد وردت في القرآن الكريم آيات حول الشفاعة إذا أخذناها بنظر الاعتبار فان من غير الممكن أن يكون هناك اطمئنان للإنسان، كقوله تعالى من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه[24] وكقوله ولا يشفعون إلا لمن ارتضى[25] وأمثالها. ففي نفس الوقت الذي تكون فيه الشفاعة ثابتة إلا أننا لا نعلم لمن ستكون ولأي جماعة وفي أية ظروف وفي أي وقت، وهو أمر لا يمكنه أن يغري الإنسان ويشجعه. نعم إن لنا الأمل بالشفاعة ولكن هذا الأمل يجب أن يقودنا إلى طاعة الحق تعالى لا إلى معصيته.

 

بني! ابذل جهدك من أجل أن لا ترحل عن هذه الدنيا بحق الناس ففي هذه الحالة سيكون أمرك صعبا للغاية. إن حق الله تعالى الذي هو ارحم الراحمين أسهل بكثير من حق الناس. واني أعوذ بالله تعالى من ابتلائي أنا وأنت والمؤمنين في حقوق الناس ولن نكون مدينين للناس المبتلين. وهذا لا يعني أن تتسامح في حقوق الله والمعاصي، وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار ما يستفاد من بعض الآيات الكريمة فان المصيبة تزداد كثيرا ونجاة أهل المعصية بواسطة الشفاعة تتم من خلال مرور مراحل طويلة.

 

إن تجسم الأخلاق والأعمال ولوازمها وملازمتها للإنسان من ما بعد الموت وحتى القيامة الكبرى ومنها حتى التنـزيه وقطع العلاقة بواسطة الشدائد والعذابات في البرازخ وجهنم وعدم إمكانية الارتباط بالشفيع وشمول الشفاعة كل ذلك يمثل أمرا يقصم احتماله ظهر الإنسان ويجعل المؤمنين يفكرون جدياً في الإصلاح. وليس هناك أي شخص يمكنه أن يدعي الحتمية بخلاف هذا الأمر إلا إذا كان شيطان نفسه مسيطرا عليه وتلاعب معه ويغلق طريق الحق أمامه إلى درجة بحيث يجعله ينكر النور والظلام. ومثل هؤلاء ذوي القلوب العمياء كثر. فنسأل الله المنان أن يحفظنا من شر أنفسنا.

 

ووصيتي لك بني أن لا تدع الفرصة تفوتك لا سمح الله وأن تسعى في إصلاح أخلاقك وعملك حتى وان تحملت الجهد والرياضة، وان تقلل من التعلق بالدنيا الفانية وان تختار الحق عند مفارق الطرق التي تواجهك وتهرب من الباطل وتطرد الشيطان من نفسك.

 

ومن الأمور المهمة التي يجب أن أوصي بها مساعدة عباد الله، خاصة المحرومين المحتاجين الذين هم مظلومون ولا ملجأ لهم في المجتمع، فاستعمل كل ما في وسعك في خدمتهم - فهذا أفضل زاد لك ومن أفضل الخدمات لله تعالى والإسلام العزيز - وابذل جهدك بكل ما تستطيع في خدمة المظلومين وحمايتهم في مقابل المستكبرين والظالمين. إن التدخل في الأمور السياسية النـزيهة واجب في هذه الحكومة الإسلامية، وتقديم العون إلى المسؤولين ورجال الحكم الأوفياء للجمهورية الإسلامية هو أيضا واجب إسلامي – إنساني - وطني وآمل أن لا يغفل عنه الشعب الشريف واليقظ وان الجمهورية الإسلامية أكثر فأكثر وتستمر بفضل جهود الجيل الحالي والأجيال القادمة من خلال وفائها لها ودعمها كما كان الشعب متواجدا حتى الآن في الساحة وما يزال كذلك وبفضل ذلك استقرت الحكومة الإسلامية وتواصلت. ولنعلم كلنا أننا مادمنا باقين على عهد الله تعالى فانه سيدعمنا فكما أنه أبطل حتى الآن مؤامرات المفسدين في الداخل والخارج بشكل معجز فانه سيبطلها بمشيئته وبتأييداته من الآن فصاعدا.

 

ومن المؤمل أن يكون الجيش المعظم وحرس الثورة الأعزاء والتعبئة وسائر القوات العسكرية والأمنية والشعبية قد ذاقوا الطعم الحلو للاستقلال والتحرر من اسر القوى العالمية الكبرى وأن يفضلوا حريتهم من اسر الأجانب على أي شي‏ء وأي حياة مرفهة وأن لا يتحملوا عار التبعية للقوى الشيطانية ويفضلوا في ساحات البطولة الموت الأحمر المشرف في طريق الهدف وفي سبيل الله على الحياة المشينة ويختاروا طريق الأنبياء العظام والأولياء المعظمين عليهم سلام الله وصلواته . اطلب من الله تعالى بكل خضوع أن يزيد من هذا الحماس والحب الذين‏ يغمران رجالنا ونساءنا وأطفالنا من شعبنا العظيم وان يزيد من صمودهم في طريق الله العظيم وان ينشروا الإسلام العزيز وأحكامه النورانية في العالم.

 

بني! بودّي هنا أن أسطر بعض العبارات حول أحوالي الشخصية والعائلية لأنهي بذلك الكلام الكثير: إن أكبر وصية لي إليك بني العزيز، هي أن أوصيك بوالدتك الوفية. فنحن لا نستطيع إحصاء الحقوق الكثيرة للأمهات ولا يمكن أداؤها كما ينبغي. فليلة واحدة تقضيها الأمهات في رعاية أولادها هي أكثر قيمة من سنين يقضيها الأب الملتزم. وأن تجسم العطف والرحمة في عين الأم النورانية، هو بارقة رحمة رب العالمين وعطفه. فلقد مزج الله تبارك وتعالى قلوب الأمهات وأرواحهن بنور رحمة ربوبيته بحيث لا يمكن لأحد وصف ذلك ولا يدركه احد سوى الأمهات والرحمة الأزلية هي التي تفضلت على الأمهات بتحمل كالعرش في مقابل الآلام والمشقات من استقرار النطفة في الرحم وطول الحمل ووقت الولادة ومن الرضاعة وحتى النهاية؛ وهي آلام لا يستطيع الآباء تحملها ولو لليلة واحدة فهم عاجزون عنها. وما جاء في الحديث من أن «الجنة تحت أقدام الأمهات»[26] هو حقيقة وقد جاء بهذا التعبير اللطيف لعظم قدرهن ولتنبيه الأبناء أن عليهم أن يبحثوا عن السعادة والجنة تحت أقدامهن وتراب أقدامهن المبارك وان يراعوا حرمتهن بما يقارب حرمة الحق تعالى وان يطلبوا رضا الرب سبحانه في رضا الأمهات. ورغم أن الأمهات هن نماذج كلهن ولكن البعض منهن يتمتعن بميزات خاصة ولقد وجدت أمك المحترمة متمتعة بهذه الخصائص طيلة حياتي ومن خلال الذكريات التي أتذكرها عنها - في الليالي التي كانت تقضيها مع أطفالها وفي النهار أيضا -. والآن أوصيك بني وسائر أولادي أن تسعوا لأن تجهدوا أكثر في خدمتها والحصول على رضاها بعد موتي، كما أراها راضية عنكم وأنا على قيد الحياة.

 

وأوصي ابني احمد أن يتعامل مع أرحامه وأقربائه وخاصة الأخوة والأخ وأبناء الأخت، بالرحمة والمحبة والسلام والصفاء والإيثار والمراعاة. وأوصي جميع أولادي أن يكونوا على قلب واحد وجهة واحدة وان يتعاملوا بالحب والوئام وان يسيروا كلهم في طريق الله وعباده المحرومين ففي ذلك الخير والعافية في الدنيا والآخرة. وأوصي نور عيني حسيناً أن لا يغفل التفرغ لدراسة العلوم الشرعية وأن لا يفرط في الموهبة التي منحها الله تعالى له وأن يتعامل مع أمه وأخته بالمحبة والصفاء وأن يستخف بالدنيا ويسلك في الشباب طريق العبودية المستقيم.

 

وآخر وصاياي لأحمد أن يربّي أبناءه جيداً وأن يعرّفهم منذ الطفولة على الإسلام العزيز ويراعوا أمهم الحنونة المحترمة وأن يخدموا جميع أهلهم والمتعلقين بهم. سلام الله على جميع الصالحين. وأطلب من جميع الأقرباء وخاصة أولادي أن يصفحوا عني لتقصيري وقصوري في‏ حقهم ولاحتمال أن أكون قد ارتكبت ظلما عليهم وأن يطلبوا لي من الله المغفرة والرحمة إنه أرحم الراحمين. وأدعو من الله بكل خضوع أن يتفضل على أقربائي بالتوفيق في طريق السعادة والاستقامة وأن يغرقهم برحمته الواسعة وان يمنح الإسلام والمسلمين القوة ويقطع يد المستكبرين والطغاة الظالمين عن الظلم.

 

والسلام والصلاة على رسول الله خاتم النبيين وعلى آله المعصومين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

 

الأربعاء 8 ارديبهشت 1361ﻫ.ش ـ 4 رجب 1402ﻫ.ق

 

روح الله الموسوي الخميني‏

 

ــــــــــــــــــــــ

 

[1] سورة الروم، الآية 3.

 

[2] سورة الأنفال الآية 17.

 

[3] سورة الحديد الآية 3.

 

[4] إقبال الأعمال: 349.

 

[5] ديوان حافظ.

 

[6] إقبال الأعمال، ص 687.

 

[7] سورة الحديد، الآية 3.

 

[8] سورة طه، الآية 1- 2.

 

[9]  الجامع الصغير 2: 144.

 

[10] سورة المدثر، الآية 1- 2.

 

[11] سورة الرعد، الآية 28.

 

[12] درر الكلم 394: 1/ 11.

 

[13] سورة الحديد، الآية 22.

 

[14] سورة الحديد، الآية 23.

 

[15]  سورة البقرة، الآية 216.

 

[16] سورة الأعراف، الآية 12.

 

[17] علم اليقين 1002: 2، مسند احمد بن حنبل 2: 371.

 

[18] مرآة العقول 8: 146.

 

[19] سورة الكهف الآية 6.

 

[20] سورة نوح الآية 27- 26.

 

[21]  سورة البقرة الآية 193.

 

[22] فصوص الحكم 1: 178، فص الزكرياوية.

 

[23] عوالي اللآلي 1: 267/ 66.

 

[24] سورة البقرة، الآية 255.

 

[25] سورة الأنبياء الآية 28.

 

[26] كنـز العمال 461: 16/ 45439