المكان: مدينة قم‏

 

المصدر: صحيفة الإمام، ج‏1، ص: 40

 

الموضوع: لطائف توحيدية وأسرار عرفانية

 

المخاطب: الخوئي (مقبرئي)، السيد إبراهيم‏

 

التاريخ 27 بهمن 1317 ﻫ.ش/ 26 ذي الحجة 1357ﻫ.ق‏

 

بسم الله الرحمن الرحيم‏

 

الحمد لله الذي تجلّى من غيب الهوية على الحضرة الأسمائية، وظهرت أسماؤه الذاتية في الحضرة الواحدية بالحقيقة العمائية، وتوحدت نعوته في أحديته الغيبية، وتفردت آلاؤه من الوجهة الباطنية. علا وتفرّد في عين التشبيه، ودنا وتجلى في أصل التنزيه. وعنده مفاتيح غيب الأسماء ومخاتيم حقائق الآلاء. فسبحانك اللهم يا من لا ترتقي إلى ذروة كمال احديته آمال العارفين، ويقصر دون بلوغ كبرياء هويته أوهام الناعتين. جلّت عظمتك من أن تكون شريعةً لواردٍ، وتقدست آلاؤك أن تصير محموداً لحامدٍ. لك الأوّليّة في الآخرية والآخرية في الأولية. فأنت معبود في عين العابديّة والمحمود في عين الحامدية. فنحمدك اللهم بألسنك الخمسة في عين الجمع والوجود على آلائك المتجلّية في الغيب والشهود. يا ظاهراً في بطونه وباطناً في ظهوره.

 

ونستعينك- يا ربنا- ونعوذ بك من شر الوسواس الخناس، القاطع لطريق الإنسانية السالك بأوليائه إلى جهنم مهوى الطبيعة الظلمانية. فاهدنا الصراط المستقيم الذي هو البرزخية الكبرى ومقام أحدية جمع الأسماء الحسنى وصلّ اللهم على مبدأ الظهور وغايته، وصورة أصل الوجود ومادته الهيولى الأولى، والبرزخية الكبرى الذي دنا فرفض التعيّنات فتدلى فكان قاب قوسي الوجود وتمام دائرة الغيب والشهود، أو أدنى الذي هو مقام العماء بل لا مقام على الرأي الأسنى (لا يستطيع أحد أن يصطاد العنقاء بل هي الشرك للصقور).

 

وعلى آله مفاتيح الظهور ومصابيح النور بل نور على نور:

 

 (فمن لم يجعل الله له نوراً يهديه إليهم ﴿فما له من نور﴾، سيما خاتم الولاية المحمدية ومقبض فيوضات الأحمدية، الذي يظهر بالربوبية، بعد ما ظهر آباؤه بالعبودية، فإن العبودية جوهرة كنهها الربوبية، خليفة الله في الملك والملكوت، وخزينة أسماء الله الحّي الذي لا يموت، الإمام الغائب المنتظر ونتيجة مَنْ سلف من الأولياء وغبر- أرواحنا له الفداء- والعن اللهم أعداءهم قطّاع طريق الهداية والسالكين بالأمة مسلك الهلاكة والغواية.

 

وبعد، فإنَّ الإنسان ممتاز من بين سائر الموجودات باللطيفة الربانية والنفخة الروحية الإلهية والفطرة السليمة الروحانية ﴿فطرة الله التي فطر الناس عليها﴾. وهذه بوجهٍ هي الأمانة المشار إليها بقوله تعالى: ﴿إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض .. الخ﴾ وهذه الفطرة هي الفطرة التوحيدية في المقامات الثلاثة عند رفض التعينات وإرجاع الكل إليه وإسقاط الإضافات حتى الأسمائية وإفناء الجلّ لديه. ومَنْ لم يصل إلى هذا المقام، فهو خارج عن الفطرة، وخائن للأمانة الإلهية وجهول بمقام الربوبية وظلوم بحضرة الأحدية.

 

ومعلوم عند أصحاب القلوب والعرفان وأرباب الشهود والعيان من ذوي السابقة الحسنى، أنّ حصول المنزلة والوصول بهذه المرتبة لا يمكن إلّا بالرياضات العقلية بعد طهارة النفس وتزكيتها، وصرف الهمّ ووقف الهمّة على المعارف الإلهية عقيب تطهير الباطن وتخليتها. فاخرجي أيتها النفس الخالدة على الأرض لإتباع الهوى من بيت الطبيعة المظلمة الموحشة، وهاجري إلى الله تعالى مقام جمع الأحدي، والى رسوله صاحب قلب الأحدي الأحمدى حتى يدركك الموت الذي هو اضمحلال التعينات، فوقع أجرك على الله، وتأسى بأبيك الروحاني في السير إلى ربه وقل: ﴿وجهتُ وجهي للذي فطر السموات والأرض ...﴾ وهذا هو الفوز العظيم والجنة الذاتية اللقائية التي لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. ولا تقنعي أيتها النفس بحصول الملاذ الحيوانية والشهوانية، ولا بالرئاسات الدنيوية الظاهرية، ولا بصورة النُّسك وقشرها، ولا باعتدال الخُلق وجودتها، ولا بالفلسفة الرسمية والشبهات الكلامية، ولا بتنسيق كلمات أرباب التصوف والعرفان الرسمي وتنظيمها، وإرعاد أهل الخرقة وإبراقهم، فان صرف الهم إلى كلّ ذلك والوقوف عليها اخترام وهلاك، والعلم هو الحجاب الأكبر. بل يكون همّك التوجه إلى الله تعالى بارئك ومبدئك ومعيدك في كل الحركات والسكنات والأفكار والأنظار والمناسك.

 

وهذه وصيتي إلى النفس القاسية المظلمة، والى صاحبي وسيدي ذي الفكر الثاقب في العلوم الإلهية، والنظر الدقيق في المعارف الربانية، العالم الفاضل المولى الأمجد السيد إبراهيم الخوئي المعروف بمقبرئي- دام مجده وبلّغه الله تعالى غاية آمال العارفين ومنتهى سلوك السالكين- فإني قد ألقيت في روعه أمهات ما عندي من أصول الفلسفة المتعالية وشطراً وافراً مما تلقيت عن المشايخ العظام وصحف أرباب المعارف؛ فقد بلغ- بحمد الله- فوق المراد وتردّى برداء الصلاح والسداد وعلى الله التكلان في المبدأ والمعاد.

 

ولقد كررتُ وصيتي بما وصّانا المشايخ العظام أن يضن بأسرار المعارف إلّا على أهله، ولا يتفوّه بحقائق العوارف في غير محله، فإنّ الله جلّ اسمه قال: ﴿نُنَزِّلُ من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيدُ الظالمين إلا خساراً﴾. والتماسي منه- دام عزّه- أن يذكرني عند ربّه ذكراً جميلًا، ولا ينساني عن الدعاء في كل الأحوال، فإن بابه مفتوح للراغبين. ﴿ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار﴾ واحشرنا مع الأبرار، وجنّبنا عن مخالطة السيئة الأشرار بحق محمدٍ وآله الأطهار (عليهم السلام).

 

قد وقع الفراغ في السادس والعشرين من شهر ذي الحجة الحرام (1357) وأنا العبد الضعيف السيد روح الله بن السيد مصطفى الخميني الكَمَرئي.