المكان: طهران، جماران‏

 

المخاطب: فاطمة الطباطبائي‏

 

المصدر: صحيفة الإمام، ج‏20، ص: 136

 

التاريخ: آذر 1365ﻫ.ش/ ربيع الأول 1407ﻫ.ق[1]

 

الموضوع: وجوب الاهتمام بالحقائق والاجتناب عن الاستغراق في المصطلحات والاعتبارات‏

 

بسم الله الرحمن الرحيم‏

 

عزيزتي فاطمة:

 

وأخيراً أرغمتيني على كتابة هذه الأسطر ولم تقبلي عذر الكهولة والنكد والتعب والمشقة.

 

أبدأ حديثي معك حول آفات المشيب والشباب، فإنّي أدركت كلتا المرحلتين بل أنهيتهما، والآن أصارع أعوان ملك الموت في منحدر البرزخ أو الجنة والنار، وغداً تعرض علي صحيفة أعمالي السوداء، وأحاسب على إضاعة عمري هباءاً، حينها لا أملك جواباً سوى انتظار رحمة الله حيث: «وَسعتْ رحمتُهُ كلَّ شي‏ءٍ»[2] وقال تعالى:» «ولا تقنطوا من رحمةِ اللهِ إنَّ الله يغفُر الذنوبَ جميعاً»[3]» «وما أرسلناكَ إلّا رحمةً للعالمينَ»[4].

 

لنفرض أنّ الآيات الشريفة شملت حالي، لكن ماذا أفعل للعروج إلى محيط الكبرياء والصعود إلى جوار المحبوب والورود إلى ضيافة الله؟ فلا يصل الإنسان إلى هذه الدرجة إلّا بعمله. في مرحلة ريعان الشباب حيث الحيوية والنشاط انكببت على المفاهيم والمصطلحات المزوقة، ولم أشمر عن كمي قط لأصل إلى روح هذه المفاهيم وأبدل ظاهرها وملكها بملكوتها.

 

لقد سبرت أغوار هذه المصطلحات والاعتبارات وأقدمت على جمع الكتب بدل رفع الحجب، فكأنّ الكون خلا إلا من قبضة من الكتب التافهة المسماة بالعلوم الإنسانية والمعارف الإلهية والحقائق الفلسفية التي صدت الطالب المفطور بفطرة الله عن بلوغ مبتغاه، وأغرقته في غياهب الحجاب الأكبر.

 

حرمتني «الأسفار الأربعة»[5] من نيل وصال المعشوق، وما زادتني «الفتوحات»[6] فتحاً ولا «فصوص الحكم»[7] حكمة، فما بال غير هذه الكتب؟

 

ولما بلغت المشيب ابتليت بكل خطوة منه بالاستدراج حتى اشتعل الرأس شيباً وأخذت منى الكهولة مأخذاً: «ومنكُم مَن يُردُ إلى أرذلِ العمرِ لكيلا يعلمَ بعدَ علمٍ شيئاً»[8] وبما أنّ ابنتي تفصلها أميال عن هذه المرحلة ولم تذق طعمها لذا تتوقع مني نظم الشعر وكتابة النثر، ولا تعلم أنّى لست بشاعر ولا كاتب.

 

وأنت يا ابنتي العزيزة- حيث تطلبين النهاية ولم تبدئي بعد- لو فرطتي بمرحلة الشباب على هذا المنوال من اللهو والتسلية أو أكثر من هذا فسوف يفوتك ركب العشاق إلى الله، وسوف تجلبين على نفسك عبأ ثقيلًا من التأسف والندم. فاستمعي لهذا العجوز البائس الذي انحنى ظهره من هذا الحمل الثقيل، ولا تكتفي بهذه المصطلحات التي هي عبارة عن فخ إبليس، وتحري عنه جل وعلا؛ مرحلة الشباب واللهو واللعب سريعة الانقضاء جداً وقد طويتها جميعاً وأحاق بي الآن عذاب جهنم، ولم يتركني الشيطان الباطني لحظة واحدة حتى يوجه ضربته النهائية- والعياذ بالله- لكنّ اليأس من رحمة الله الواسعة من أعظم الكبائر[9]، ونسأل الله أن لا يبتلي العصاة بهذا الذنب العظيم.

 

يقال أنّ الحجاج بن يوسف الثقفي- أحد مجرمي التاريخ- قال أواخر عمره: إلهي إغفر لي، برغم علمي بأنّ الجميع يقولون لاتغفر لي، فقال الشافعي[10] لما سمع ذلك: إن قال ذاك فمن المحتمل أن يكون هذا الشقي قد وفق للتوبة[11].

 

و أنت يا ابنتي العزيزة لا تغتري برحمة الله الواسعة فتغفلي عن المعشوق الحقيقي، ولا تيأسي فتخسري الدنيا والآخرة.

 

ربنا! أقسم عليك بأصحاب الكساء الخمسة أن تحفظ أحمد وفاطمة وحسن ورضا (ياسر) وعلي الذين هم من ذرية رسولك الكريم ووصيه، وبهذا أفتخر ويفتخرون، من شرور الشيطان والأهواء النفسية. هنا أختم حديثي، والسلام.

 

ربيع الثاني 1407 ﻫ.ق‏

 

ـــــــــــــــ

 

[1] التاريخ الصحيح لهذه الرسالة ربيع الثاني 1407 حيث أصلح في الطبعات اللاحقة وأدرجت الرسالة حسب تسلسلها الطبيعي.

 

[2]  بحار الأنوار، ج 91، ص 396.

 

[3]  سورة الزمر، الآية 53.

 

[4] سورة الأنبياء، الآية 107.

 

[5] إشارة إلى كتاب «الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة» تأليف صدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي الملقب بصدر المتألهين والمعروف بملا صدرا، توفي سنة 1050 هـ.ق.

 

[6] إشارة إلى كتاب« الفتوحات المكية» تأليف أبى عبد الله بن محمد بن على المعروف بمحي الدين بن العربي، توفي سنة 638 هـ.ق.

 

[7]  إشارة إلى كتاب «فصوص الحكم» تأليف محي الدين بن العربي.

 

[8]  سورة الحج، الآية: 5، وسورة النحل، الآية: 70.

 

[9] قال أبو عبد الله (ع):«إنّ‏من الكبائر ... اليأس من روح الله ...» وقال:« الكبائر القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله ...»، أصول الكافي، ج 2، ص 278 وص 280، ح 4 و 10.

 

[10]  محمد بن إدريس الشافعي أحد أئمة المذاهب السنية الأربعة.

 

[11] إحياء علوم الدين، ج 4، ص 697.