الإمام علي (عليه السلام) في حديث القائد الخامنئي (حفظه الله)
النظر إلى الإمام علي (عليه السلام)
الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لجمع من أصحابه: «من أراد أن ينظر الى آدم في علمه والى إبراهيم في حلمه والى موسى في هيبته والى عيسى في عبادته، فلينظر الى علي بن أبـي طـالب». أي انّ علم آدم الـذي ورد عـنه فـي القرآن قـولـه تعـالى: {وعلّم آدم الأسماء كلّها}، وحلم إبراهيم الذي قال تعالى عنه في القرآن: {انّ إبراهيم لَحَلِيم أوّاه منيب}، وهيبة موسى التي كانت سطوة فرعون وعظمته ضعيفة أمامه، وعبادة عيسى الذي كان مظهراً للزهد والإخلاص والتعبّد للّه، وفي بعض الروايات المنقولة من غير الشيعة أيضاً، اُضيفت عبارة اُخرى وهي: زهد يحيى بن زكريا. كلها جمعت في هذا الإنسان العظيم الذي نعتبر أنفسنا من شيعته. وهذا الكلام يمكنه أن يوضح لنا ـ الى حدٍّ ما ـ صورة عن شخصية ذلك الرجل العظيم.
الاعتقاد بالإمام علي (عليه السلام)
إنّ أمير المؤمنين إمامنا وإمام جميع المسلمين، أي انّ الجميع يعتقدون به كإمام، ولكن ما معنى (الإمام)؟، يعني أن نلحظ أبعاد هذه الشخصية كالنموذج الرفيع الذي نضعه أمامنا، ثمّ نحاول بناء شيء شبيه به.
كيف يمكن لأحدٍ أن يدّعي انّه من شيعة أمير المؤمنين لكنّه لا يجرؤ على الاعتراض على أعداء اللّه خوفاً من سطوتهم وتجبّرهم.
محاربة أمير المؤمنين (عليه السلام) للمستكبرين
إنَّ الذين حاربهم أمير المؤمنين في أيام خلافته وقبل ذلك كانوا أعداءاً للدين وكانت لديهم سلطة سياسية وعسكرية، وكان لدى بعضهم قاعدة شعبية ونفوذ ويدّعون الايمان والتقدّس. كان البعض مثل الخوراج شبيهين ببعض المتطرّفين المتظاهرين بالثورية، والذين لم يعترفوا بأحدٍ غيرهم، كالذين لم يعترفوا في بداية الثورة بالإمام كشخصٍ ثوري. كان أمير المؤمنين (عليه السلام) قد واجه اُولئك وشتّتهم وقال بأنّه لو لم يحاربهم لما تجرأ أحد على محاربتهم.
هناك من يدّعون بأنّ الإمام هو إمامهم ولكنّهم غير مستعدّين لأن يقولوا كلمة واحدة تزعج الاستكبار وأمريكا والذين يظلمون اليوم مئات أضعاف ظلم المقتدرين الفسدة في صدر الاسلام، ويرتكبون من الظلم في يوم واحد ما يعادل الظلم الذي ارتكبه اُولئك في عدّة أعوام. يقول هؤلاء أنّهم شيعة علي وانّه (عليه السلام) إمامهم!! فماذا يعني الإمام؟، هذا هو أمير المؤمنين (عليه السلام) وهذه هي شموليته، وطبعاً لا يمكن توضيح شموليته بهذه الكلمات.
الأسوة الحسنة
لا يتوقع أحد أن يصل حتى على بعد فرسخ من مستوى أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهذه حقيقة، وقد قلت قبل عدّة أعوام في صلاة الجمعة: انّنا لانقدر أن نكون مثل أمير المؤمنين (عليه السلام)، فكتب أحدهم اليَّ قائلاً: نعم لقد أَرَحْتم أنفسكم بهذا الكلام لأنّكم ليس بإمكانكم أن تكونوا كأمير المؤمنين (عليه السلام)، كلاّ ليس الموضوع هذا، فقد ذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) نفسه في حديث له: «ولكنّكم لا تقدرون على ذلك» فهو في القمّة، تصوّروا قمّة عالية، علينا أن نصعد إليها، ولا نقول انّنا لا نصل اليها، بل يجب التحرّك.
إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) هو اسوة للمسؤولين في المؤسسات الحكومية، في أيِّ جهاز إداري وحكومي كانوا، سواء كانت مسؤوليتهم صغيرة أو كبيرة.
لقد أراد منّا أن نؤدّي العمل بإخلاص، نؤدّيه للناس دون مِنّة، ونحترم مراجعينا ولا نحقّرهم، ونحن نتمتع بسلامة اليد والبصر واللسان، بل ونملك قلباً سليماً. لقد عمل أمير المؤمنين (عليه السلام) لإحياء الناس، ولا بأس أن اُشير هنا الى مسألة التعليم، حيث يحضر في هذا المجلس جمع من الاخوات العاملات في نهضة محو الاُمّية.
السير على نهج أمير المؤمنين (عليه السلام)
إنّ هذه الحكومة التي شُكّلت اليوم في نظام الجمهورية الإسلامية بعد قرون هي حكومة سائرة على نهج أمير المؤمنين (عليه السلام)، أمّا الآخرون فيتحرّكون في الطريق المعاكس وفي النقطة المقابلة لما كان يريده أمير المؤمنين (عليه السلام). انّ هذه الحكومة تتحرك على ذلك النهج، فيجب مساندتها والسير معه وتأييدها وتذكيرها بعيوبها بصورة أخوية وودّية كي تتمكن من المحافظة على هذا الصراط المستقيم. فكما كان القاسطون والمارقون والناكثون يعارضون حكومة أمير المؤمنين (عليه السلام) وكان الكفّار مِنْ خلفهم يخالفونها وسعوا لمحاربتها.
وصية للإمام علي (عليه السلام)
هناك وصية قصيرة للإمام (عليه السلام) أوصى بها من بعد أن جُرِح في ليلة التاسع عشر من شهر رمضان المبارك أودّ تبيانها لكم. والسبب في أهمّية هذه الوصية هو أنّ الإنسان في اللحظات الأخيرة من عمره يسعى أن يبيّن حقيقة أفكاره وآراءه ومكنونات قلبه الى أفضل الناس وأكثرهم أمانة لديه. وأمير المؤمنين (عليه السلام) هو اُعجوبة الخليقة والشخص الثاني بعد النبي الأكرم (صلّى اللّه عليه وآله) والمسلم المجاهد في سبيل اللّه (جاهد في اللّه حقّ جهاده) والزاهد والحاكم والسياسي من الطراز الأوّل ومنزلته في السماء أشهر ممّا هي في الأرض، ومحبّيه من ملائكة السماء أكثر من محبّيه من أهل الأرض.
إنّ مثل هذا الإنسان المرتبط بالملكوت الأعلى والعارف بكلّ المعارف الإلهية المتعالية ويمتلك كلّ هذه السجايا والخصال عندما يشعر باقتراب أجله يرى أنّ الوقت يمرّ بسرعة، فيجب عليه أن يبادر الى تبيان الأمور المهمة.
وعندما ضُرب (عليه السلام) في المسجد كان يعلم أنّ حياته مشرفة على الانتهاء فأراد أن يُوصي أولاده وأهل الكوفة وجميع المسلمين الحيارى في ذلك العصر ويصدر بياناً مقتضباً يبقى خالداً على مدى التاريخ، وقد تمّ انتخاب فقرات هذا البيان بدقّة متناهية من قبله (عليه السلام).
وقد يشعر الإنسان بعدم التجانس بين فقرات هذه الوصية عندما تكون نظرته إليها سطحية.
فتارةً يوصي بأمرٍ غايةً في الأهمّية من وجهة نظرنا يُتبعه فجأة بآخر ليس لهُ نفس المستوى من الأهمّية، ولكن نظرة علي (عليه السلام) للأمور كنظرة اللّه لجميع الموجودات في العالم نظرة إلهية وصائبة. والأمور الصغيرة والكبيرة تختلف في المقياس الإلهي والمقياس العَلَوي عما هي عليه في مقاييسنا نحن.
ونحن قاصرين عن الوصول الى هذا المستوى ولكن حينما نقوم بتحليل تلك العبارات ـ ولو من بعيد ـ فسنجد أنّها متناسقة كلّ التناسق ونُظِّمت بصورة دقيقة جدّاً. فلنستمع إليها بدقّة وإمعان.
ومن وصيّة له (عليه السلام) للحسن والحسين (عليهما السلام) لما ورده ابن ملجم (لعنه اللّه)، فقد دعا الحسن والحسين (عليه السلام) وأوصاهما بتلك الوصايا على الرغم مما كان يعانيه من ألم وحمّى على أثر نفوذ السم الى بدنه الطاهر. وقد تكون الآلام مانعة للإنسان الاعتيادي عن أن يقوم بتأدية واجبه إلاّ أنها لا تستطيع أن تمنع شخصاً كعليٍّ (عليه السلام) من ذلك، فأراد (عليه السلام) أن يبادر الى استغلال تلك الساعات القليلة التي أعقبت ضربته وحتى استشهاده (عليه السلام) والتي لم تتجاوز 48 ساعة لإنجاز الأعمال الضرورية وأهمّها كانت وصيّته (عليه السلام) «اُوصيكما بتقوى اللّه» فبدأ وصيته بدون أي مقدّمة بالدعوة الى تقوى اللّه سبحانه وتعالى.
وكنتُ قد تحدّثت في الجمعة الأولى من شهر رمضان بشكلٍ مجمل عن مسألة التقوي.
فالتقوى تعني كلّ شيءٍ للإنسان، وهي دنيا الأمّة وآخرتها والزاد الحقيقي في هذا الطريق الطويل الذي لابدّ للبشرية أن تقطعهُ، فالتقوى هي كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) الأوّل والأخـير وهي مقدّمة على كل شيءٍ في حيـاة الإنسان، فكأنّه (عليه السلام) يريـد أن يقول يجب عليكم يا أولادي مراقبة أنفسكم وأعمالكم ووزنها بالمعيار الإلهي الحق.
وليس كلامه (عليه السلام) في مسألة الخوف من اللّه، كما فُسِّرت التقوى من قبل البعض بأنّها الخوف من اللّه وخشيته سبحانه وتعالي. صحيح انّ الخشية والخوف من اللّه تعالى لها قيمة وتُعتبر من أنواع التقوى إلاّ أنّ التقوى الحقيقية تعني مراقبة الإنسان المستمرة لأعماله كي تكون منطبقة مع المصالح الإلهية التي يقدِّرها المولى سبحانه وتعالى له. وهذا أمر لا يمكن للإنسان أن يستغني عنه بأيِّ حالٍ من الأحوال.
وإذا حاولنا الاستغناء عن هذه الحالة فالطريق أمامنا مليء بالأخطار والوادي عميق تحت الأقدام وسننزلق بلا ريب إلاّ أنّه قد نعثر على حجرٍ أو شجر نتشبّت به لعلّه يعيننا على الصعود الى الأعلى من جديد {إنّ الذين اتّقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكّروا فإذا هو مبصرون}.
فالإنسان المتّقي عندما يشعر بمسّ الشيطان له يتذكر اللّه ويعود الى نفسه حالاً بالمراقبة والمحاسبة. وعلي (عليه السلام) يعلم انّ الشيطان لن يتركنا أبداً فلابدّ أن تكون الفقرة الأولى من الوصية هي تقوى اللّه سبحانه وتعالى.
وأخذ بعد ذلك يوصي بالأمور المهمة الأخري. فقال: «وأن لا تبغيا الدنيا وإنْ بغتكما»، هذه هي الفقرة الثانية وهي من مستلزمات التقوى وكلّ الأعمال الصالحة هي من مستلزمات التقوي، ومن جملة هذه الأعمال هو الأمر الذي ذكره (عليه السلام)، فلم يقل اتركوا الدنيا بل أوصى بعدم اتّباع الدنيا وبالتعبير الشائع عدم الركض وراء الدنيا. فماذا تعني هذه الدنيا التي لا ينبغي السعي وراءها؟ هل تعني إعمار الأرض وإحياء الثروات الطبيعية؟ وهل هذه هي الدنيا التي ذمّها أمير المؤمنين وحذّر منها؟ لا، ليس الأمر كذلك. فالدّنيا التي لا ينبغي اللهث وراءها تعني طلب اللّذات والسعي وراء الشهوات. أمّا إذا كان الهدف من إعمار الأرض خير البشرية وصلاحها، فهو الآخرة بعينها وهو أمر يجب السعي إليه.
أمّا الدنيا المذمومة والتي نُهِي الإنسان من السعي وراءها فهي الأعمال التي تصد عن السير في طريق الخير والصلاح وتسلب منه إرادته وتستهلك قواه وسعيه وهمّته وهي تعني الأنانية وحبّ الذات والسعي وراء جميع الأموال والسعي وراء اللّذات. وهذه الدنيا على قسمين فمنها المباح ومنها الحرام، فليس كلّ ما يطلبه الإنسان لنفسه من اللذات حرام بل انّ ما فيه المباح أيضاً.
ولكن أهل البيت (عليه السلام) أوصوا بالابتعاد حتى عن اللذات المباحة عندما يصبح هدف الإنسان من الدنيا طلب اللذات والشهوات فقط. فأجهدوا أن تسير مظاهر حياتكم المادية والمعنوية في المسير الإلهي المرسوم لها. انّ كلّ الأعمال الدنيوية يمكن وضعها في هذا المسار إذا كان الهدف منها هدفاً مقدّساً. فحتّى التجارة «مثلاً» يمكن أن تُجعل في سبيل اللّه عندما يكون الهدف منها تحسين الوضع الاقتصادي للمجتمع وليس ادخار الأموال الطائلة فقط.
إذن كانت الفقرة الثانية من وصيته (عليه السلام) هي عدم السعي وراء الدنيا بالمعنى الذي ذكرناه آنفاً. وقد كان أمير المؤمنين (عليه السلام) هو المصداق الأكمل لتلك الوصايا وقد جسّدها بشكل كامل في حياته وسلوكه. فإذا ألقينا نظرةً على حياته (عليه السلام) فسنجدها تجسيداً حيّاً لكلّ ما أوصى به (عليه السلام).
الفقرة الثالثة «ولا تأسفا على شيءٍ منها زُوِي عنكما» أي لا تأسفا على ثروةٍ أو لذّة أو منصب لم تحصلوا عليه، لا تتأسّفوا لأنّكم لا تملكون وسائل الراحة والرخاء ولا تأسفوا على أي شيء فانّكم من هذه الدنيا الدنية أبداً.
الأمر الرابع «وقولا للحق» أو في نسخة أخرى «وقولا الحق» ولا فرق بينهما، ومعناه لا تكتموا شيئاً عندما تعتقدون انّه حقّ فيجب عليكم إظهاره حينما تدعو الضرورة لذلك. انّ جميع المصائب حلّت بالمجتمعات عندما قام الذين يعرفون الحق بكتمانه وعدم السعي لإظهاره بل سعوا لإظهار الباطل أحياناً أو جعلوا الباطل حقّاً أحياناً أخرى. وما كان الحق ليُظلم لو بادر الذين عرفوه لنشره وإظهاره ولما طمع أهل الباطل في القضاء عليه.
الفقرة الخامسة: «واعملا للأجر» يعني الأجر الحقيقي والإلهي. فلا تعمل عبثاً أيّها الإنسان، انّ عمرك وعملك وحتى أنفاسك هي رأس مالك الوحيد والحقيقي فلا تفرّط به.
وإذا أردت أن تعمل عملاً أو تتنفّس نفساً أو تصرف قواك في شيء فليكن ذلك من أجل الحصول على أجرٍ يتناسب مع ذلك. فما هو هذا الأجر الذي يجب أن نحصل عليه؟ هل هو دراهم معدودة نحصل عليها؟ هل هو جلب رضا فلان وعلاّن من الناس؟ هل هذه الامور هي الأجر الحقيقي لضياع عمر الإنسان؟ من المؤكّد انّ الجواب على ذلك سيكون بالنفي.
أتذكّر أنّ رواية عن الإمام السجاد (عليه السلام) يقول فيها: «فليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنة، ألا فلا تبيعوها بغيرها». فكما يكون الأجر أقل من ذلك فانّ الغبن سيكون من نصيبنا فلتكن أعمالنا من أجل الأجر الحقيقي وهو الأجر الأخروي.
الفقرة السادسة: «أو كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً» الخصومة غير العداوة؛ فبغض الظالم ومعاداته غير كافية لأنّ الخصومة تعني الأخذ بتلابيب الظالم وعدم تركه.
لقد اكفهرّ وجه البشرية منذ وفاة أمير المؤمنين (عليه السلام) وحتّى اليوم بسبب عدم إظهار الخصومة للظالمين. ولو أنّ الأيدي المؤمنة كانت تضيّق الخناق على الظالمين لما سنحت الفرصة للظلم كي ينتشر بهذا الحجم الواسع في العالم بل كان ذلك يؤدّي الى انحصاره وإسقاطه والقضاء عليه.
وما يريده أمير المؤمنين (عليه السلام) هو «كن للظالم خصماً»، فأينما يوجد ظالم يجب على الإنسان أن يضع نفسه موضع الخصومة له.
وليس من الضروري إبراز هذه الخصومة دوماً، ولكن عندما تحين الفرصة فلابدّ من إبراز تلك الخصومة والأخذ بتلابيب الظالم ولو من بعيد إذا تعذّر ذلك عن قرب. واليوم نرى انّ العالم يغطّ في مستنقع الرذيلة نتيجةً لتركه لهذه الفقرة من وصية أمير المؤمنين (عليه السلام).
فأيّ ذلٍّ وامتهانٍ تعيشه البشرية اليوم وأيّ ظلم ذلك الذي تمرّ به الشعوب الإسلامية المعاصرة لابتعادها عن الإسلام.
ولو عُمل بهذا الجزء من وصيته (عليه السلام) لما وجدنا اليوم أثراً لكثيرٍ من تلك المظالم ولا المصائب المترتّبة عليها.
ويؤكّد (عليه السلام) على الأمر المهم الآخر فيقول: «وللمظلوم عوناً» يعني إذا وجدت مظلوماً فكن عوناً له، لم يقل كن مؤيّداً له بل يقول أعنه بكل ما تستطيع وكلّ ما يبلغه وسعك.
الى هنا كان الخطاب موجّهاً الى الإمام الحسن والإمام الحسين (عليهما السلام)، طبعاً هذا لا يختصّ بهما فقط، فبالرغم من أنّ خطابه كان موجّهاً إليهما إلاّ أنّ وصيّته عامة تشمل الجميع.
العبارات التالية يقولها أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) بصورة عامة، فيقول: «اُوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي» فحتى نحن الجالسون هنا مخاطبون بهذه الوصية أيضاً. ثمّ يبدأ بالقسم الثاني من وصيته العامة، فيعود من جديد ليؤكّد على أهمية التقوى مرةً أخرى فالتقوى هي الكلام الأوّل والأخير لأمير المؤمنين (عليه السلام).
وبعد الوصية بالتقوى مجدداً يقول (عليه السلام) «ونظم أمركم» فماذا يعني بنظم أمركم؟ هل يعني أنّ الأعمال التي تقومون بها في حياتكم اليومية يجب أن تكون منظمة ودقيقة؟ من المحتمل أن يكون هذا أحد معاني هذه العبارة، لكنّه لم يقل عليكم بنظم أموركم بل «نظم أمركم». إذن فظاهر هذه العبارة انّ هناك أمر مهم يجب أن يتحقق وفقاً لضوابط ونظم معينة، فما هو ذلك الأمر المهم؟
يُفهم أنّ لهذا الأمر المهم قاسم مشترك عند كل الناس، فيحتمل أن يكون معنى نظم الأمر هو عبارة عن إقامة الولاية والحكومة الإسلامية والنظام الإسلامي. يعني أيّها المسلمون ليكن تعاملكم مع مسألة الحكومة والنظام وفق ضوابط ونظم معينة ومحددة. لا يكن هناك انفلات في تعاملكم مع النظام. فبسبب هذا الانفلات وصلت الأمة الإسلامية الى ما وصلت إليه من انحطاط وتشتت. يُروى عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) انّه قال ما معناه (إذا بايعت الأمة إماماً يرضى اللّه عنه فلا يجوز لأحدٍ مخالفته)، فلو انّ الأمة الإسلامية عملت بمضمون هذه الرواية بعد بيعتها للإمام علي (عليه السلام) لما وقعت تلك الحروب المدمرة كحرب الجمل وصفين والنهروان.
وهذا «الإخلال والانفلات» هو ما يقوم به البعض من أجل مصالحه وإرضاءً لميوله النفسية فينشر الرعب في البلاد ويثير القلاقل ويخلّ بالنظام العام ويقتل الناس الأبرياء هنا وهناك، وهذا هو البلاء العظيم الذي حذَّر منه أمير المؤمنين (عليه السلام) ونهى عنه وأمر بخلافه.
الفقرة الثالثة في القسم الثاني من هذه الوصية «وصلاح ذات بينكم» يعني لتكن قلوبكم خالية من الضغائن، ولتكن كلمتكم واحدة ولا تتفرّقوا وتختلفوا، ولتكن علاقة بعضكم مع البعض أخوية وحسنة. ثمّ يأتي (عليه السلام) بحديث للنبي (صلّى اللّه عليه وآله) دعماً لوصيّته، وهذا يكشف عن اهتمامه البالغ بهذا الأمر لا لأنّه أكثر أهمّية من مسألة نظم الأمر؛ بل لأنّ مسألة «إصلاح ذات البين» معرّضة للضرر أكثر من مسألة نظم الأمر؛ لذلك فهو يُشفع ذلك بحديثٍ لرسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) تأكيداً على أهمّية هذا الأمر، يقول: «فإنّي سمعت من جدّكما يقول صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام» ليس أفضل من كل الصلوات والصيام بل أفضل من كلّ صلاة وصيام، فأنت عندما تريد أن تقوم بأداء صلاةٍ أو صيامٍ، لا بأس، لكن هناك عمل أفضل من هذه الصلاة وهذا الصيام، وهو السعي لإصلاح ذات البين. فعندما ترى تشتّتاً واختلافاً بين أبناء الامة الإسلامية عليك أن تسعى لرفع هذه الفرقة والاختلاف، فانّ عملك هذا أفضل من عامة الصلاة والصيام.
وبعد هذه الفقرات يبدأ (عليه السلام) بوصايا أخرى قصيرة وهادفة ومؤلمة فيقول: «اللّه اللّه في الأيتام فلا تغبّوا أفواههم ولا يُضيّعوا بحضرتكم» إيّاكم أن تنسوهم، أعينوهم بكل ما تستطيعون. إنّ هذا الإنسان العظيم العارف باللّه وصاحب القلب العطوف ينظر الى كلّ الأمور بعين الدقّة. فليست المسألة في نظره مسألة فردية وعاطفة عادية. إنّ الذي فقد أباه هو إنسان فقد أهم حاجة في حياته وهو الاحتياج الى الأب، فيجب السعي الحثيث لملء هذا الفراغ الذي حدث في حياته، طبعاً لا يمكن ملء هذا الفراغ، لكن يجب عليك أن ترعى هذا الطفل وهذا الصبي وذاك الشاب اليتيم لكي لا يصيبهم الضياع. يجب عليك أن توفّر لهم لقمة العيش حتّى لا يذوقوا ألم الجوع والحرمان.
لا تعطوهم يوماً وتمنعوهم يوماً. لابدّ للمجتمع من الاهتمام بشؤونهم المادّية، وإيّاكم أن يصيبهم الضياع على الرغم من حضوركم واطّلاعكم. قد تكون معذوراً إذا كنت تجهل حالهم أو غائباً عنهم ولكن إيّاك أن يُضيّع يتيم أو يُهمل وأنت حاضر ومطّلع، لا ينشغل كلّ واحدٍ منكم بأموره الخاصّة وتتركوا هذا اليتيم وحيداً يصارع مشاكل الحياة.
«واللّه اللّه في جيرانكم» لا تستصغروا مسألة الجوار فأمرها مهمّ جدّاً. انّ ذلك التلاحم الاجتماعي المتماسك الذي أقامه الإسلام طبقاً للفطرة السليمة قد ضاع وللأسف في منعطفات التمدن البعيدة عن الفطرة الإنسانية التي فُطِر الناس عليها.
يوجد من الناس من يقيم في بيت سنوات طويلة وهو لا يعرف من جاره وما يجري عليه ولا يساعده في حاجاته ومشاكله وضروريات حياته. ونحن إذا عملنا بهذه الفقرة من وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) وقام كلّ واحدٍ منّا برعاية جيرانه ليس من الناحية الاقتصادية والمالية التي هي مهمة في ذاتها بل من جميع النواحي الإنسانية، فسنرى مدى التآلف والمحبّة اللذان سيسودان العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع الإسلامي، وسنرى كيف يُشفى المجتمع من أمراضه الإجتماعية المزمنة التي يعاني منها. ثمّ يكمل الوصية بالجيران فيقول: «فانّهم وصية نبيّكم، مازال يوصي بهم حتّى ظننّا أنّه سيؤرِّثهم».
(واللّه اللّه في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم)، إيّاكم أن يسبقكم للعمل بمفاهيم القرآن من ليس له إيمان بها، فيتقدّموا عليكم وتتأخّروا عنهم لترككم العمل بتلك المفاهيم الإلهية.
وهذا عين ما وقع تماماً، فالشعوب المتقدّمة في العالم كان وصولها الى هذا المستوى من التقدم بفضل الجدّية والدقة في العمل ومتابعته والاهتمام بالوقت وبنوعية الانتاج وخصال أخرى يحبّها اللّه سبحانه وتعالى وليس عن طريق الفساد وشرب الخمور والظلم كما يتصوّر البعض. وقد قلتُ كراراً انّ التقدّم العلمي لم يكن ليتحقق لولا امتلاك الدول الغربية التي أوجدته لبعض تلك الخصال الحميدة، وإلاّ لكان الدمار من نصيب تلك الدول نتيجةً لظلمها وتعسّفها. انّ هذه الخصال الحميدة هي التي حفظت تلك الشعوب التي تبنّتها من الانقراض. ولكنّنا تخلّينا وللأسف عن تلك الصفات والخصال فوصلنا الى ما وصلنا إليه.
وإذا تحلّى عمّالنا وفلاّحونا وعلمائنا وأساتذتنا وطلاّبنا وباقي طبقات المجتمع بتلك السجايا والخصال الحميدة لتحوّلت البلاد الى روضةٍ يدخل فيها الجميع بالنعيم، وهذه هي طريقة العمل بمفاهيم القرآن.
وعبارة «لا يسبقكم بالعمل به غيركم» لا تعني أنّ علياً لا يريد لأحدٍ أن يعمل بالقرآن؛ بل بالعكس فلو انّ الناس جميعاً عملوا بما جاء به القرآن، لكان في ذلك مسرّة كبيرة لعلي (عليه السلام)، ولكنّه يقول لا يسبقكم بالمفاهيم القرآنية من لا يؤمن بها فيؤدّي ذلك الى تسلّطهم عليكم وتأخّركم عنهم بسبب عدم عملكم بما جاء به القرآن الكريم.
(واللّه اللّه في الصلاة فانّها عمود دينكم).)«واللّه اللّه في بيت ربّكم لا تُخلّوه ما بقيتم، فإنّه إنْ تُرِك لم تُناوروا)، لا تدعوا هذا البيت يخلّي، فانّ بيت اللّه تعالى لو اُخلي وترك لا يمهلكم سبحانه وتعالي، أو لا يمكنكم العيش بعد ذلك أبداً، وقد فسّرت هذه العبارة بمعاني مختلفة.
(واللّه اللّه في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل اللّه) إيّاكم وترك الجهاد في سبيل اللّه بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم. إنّ الأمة الإسلامية كانت الامة النموذجية في العالم طالما كانت قائمة بالجهاد في سبيل اللّه، ولكنّها اُصيبت بالذلّ والهوان عندما تخلّت عن هذه الفريضة الإلهية. وقد ذكر الكتّاب المسيحيون في إنجيلهم عن المسيح (عليه السلام) انّه قال: «إذا ضربك أحد على خدّك الأيمن فأدِرْ له خدّك الأيسر» يعنون بذلك إنّنا مسالمون ولا نعرف للحرب معنى، وشعارنا الرحمة والسلام، ولايزالوا يردّدون هذا من دون حياء ويطعنون بالمسلمين لأنّهم أهل الجهاد والحرب والسيف وسفك الدماء، وقد كرّروا هذه الافتراءات الى حدٍّ أصبح معه بعض المسلمون يخجل من طرح تلك المفاهيم الإسلامية، مما حدى ببعض العلماء والكتّاب المسلمون أن ينكروا وجود موضوع الجهاد في الإسلام، بل قالوا جهادنا هو دفاع فقط.
ماذا يعني هذا الكلام الهزيل، إنّ اللّه سبحانه يقول جاهدوا في سبيل اللّه، وهؤلاء يقولون لا يوجد عندنا جهاد وإنّما هناك دفاع. اللّه يقول في قرآنه {إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولّوهم الأدبار} و{قاتلوا الذين يلونكم من الكفار} وهؤلاء يقولون انّ الجهاد في سبيل اللّه ليس هو الجهاد الابتدائي، وإنّما الجهاد الدفاعي فقط. إنّ هذه الأفكار نشأت على اثر الإعلام والتبليغ المسيحي الذي يكرّر دوماً انّ الحرب وسفك الدماء هو شيء قبيح ولابدّ من الصلح والسلام، وقد صدَّق المسلمون هذه الترهات فأصبحوا أذلاّء جليسي بيوتهم بعد أن كانت راية العزّة ترفرف على رؤوسهم لقيامهم بفريضة الجهاد في سبيل اللّه سبحانه وتعالي.
انّ اُولئك الذين كانوا يدعون الى الصلح والسلام والرحمة ويُشينون على المسلمين جهادهم في سبيل اللّه قاموا بقتل وذبح المسلمين وتشريدهم في شتّى بقاع الأرض، واليوم تشاهدون ما يقوم به هؤلاء في البوسنة والهرسك وما قاموا به من عملٍ شنيع في الحرم الابراهيمي الشريف لمسجد خليل الرحمن في فلسطين المحتلة.
وانّ اُولئك الذين كانوا ينتقدون المسلمين سنين طويلة بأنّهم دعاة الحرب وسفك الدماء، قاموا منذ الحروب الصليبية وحتى اليوم بشنّ الحروب المدمّرة على المسلمين وارتكاب المجازر المروّعة بحقّهم، والتي لا مجال للخوض في تفاصيلها في هذا الوقت المحدود.
وحينما يقرأ الإنسان ما دُوِّن في التاريخ من وقائع وأحداث، فسيبكي دوماً لأجل المظالم التي ارتكبت ومن أجل حالة النفاق التي يعيشها اُولئك الذين يرفعون أصواتهم بالصلح والسلام وهم يخفون خناجرهم لغرسها في صدور الأبرياء.
نعم، يجب أن يكون الجهاد في إطاره الإسلامي الذي شرَّعه اللّه تعالى وضمن الضوابط التي وضعت له في الشريعة، فلا يوجد في الجهاد ظلم ولا تعدٍّ على حقوق الآخرين ولا حجّة لقتل الأبرياء أو القضاء على المسلمين.
انّ الجهاد فريضة إلهية إذا اُقيمت ستؤدّي الى ارتفاع رؤوس المسلمين عالياً، ولهذا أكّد عليها أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته المباركة.
ثمّ يقول (عليه السلام): «وعليكم بالتواصل والتباذل وإيّاكم والتدابر والتقاطع، ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيولّى عليكم شراركم ثمّ تدعون فلا يُستجاب لكم»، إذا اعتادت الأمة أن لا تقول للشرير انّك شرير، فإنّها ستفتح الطريق أمام الأشرار والمنحرفين لتولّي زمام أمورها، وعندها لا يُستجاب حتى دعاء الأخيار للخلاص من هؤلاء الأشرار الفاسقين.
هذه هي وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) والتي اشتملت على عشرين فقرة تناولت أهمّ القضايا التي اختارها وبيّنها للأمة.
ثمّ تعرّض بعد ذلك لأمرٍ أساسي ومهم وهو مسألة الانتقام من قاتليه. فيقول: «يا بَني عبدالمطلب لا اُلفِيَنَّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً تقولون قُتِل أمير المؤمنين، ألا لا تَقْتُلنَّ بي إلاّ قاتلي، انظروا إذا أنا مِتُّ من ضربته هذه فاضربوه ضربةً بضربة، ولا يُمثَّل بالرجل، فإنّي سمعت رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) يقول: إيّاكم والمُثلة ولو بالكلب العقور». فأمير المؤمنين (عليه السلام) العارف باللّه صاحب القلب الإلهي الرؤوف كان يخاف من أن يهجم الناس على ذلك الرجل الخبيث ويقطّعوه إرباً إرباً ويمثّلوا به.
كانت تلك آخر وصايا أمير المؤمنين (عليه السلام) وإنّنا مخاطبون بها، فيجب علينا أخذها والعمل بمضامينها. ولا أدري كم عدد الساعات التي عاشها أمير المؤمنين بعد أن أنهى وصيّته.
انّ شوارع الكوفة وأزقّتها ومسجدها كانت مملوءة بكلمات وحِكَم هذا الرجل العظيم وينبوع الحكمة المتدفِّق. وتختزن ذكرياته في قلبها وأسماعها، وقد سُلبت تلك النعمة الإلهية من يد الأمة. في مثل ليلة البارحة، وهناك عبارة أخرى في نهج البلاغة قالها لولده الحسن (عليه السلام) وأودّ أن أذكرها هنا في يوم عزاء أمير المؤمنين (عليه السلام) لعلّ عيونكم تبتل بالدموع لمصاب هذا الإنسان العظيم، يقول (عليه السلام): «ملكتني عيني وأنا جالس، فسنح لي رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) فقلت يا رسـول اللّه مـاذا لقـيت مـن أمّتك مـن الأود واللّدد»، لاحظوا علياً (عليه السلام) يقف أمام رسول اللّه كما يقف الابن بين يدي أبيه، فهو (عليه السلام) نشأ وترعرع في حجر رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله).
كان النبي بمنزلة أبيه في كلّ أدوار حياته، والآن هو شيخ بلغ الثالثة والستّين من عمره حينما يرى رسول اللّه في المنام يخامره نفس إحساس الطفولة أمام النبي (صلّى اللّه عليه وآله)، فيشكو له كما يشكو الطفل لأبيه فيقول: «ماذا لقيت من أمّتك من الأود واللدد، فقال: ادعُ عليهم، فقلت: أبدَلني اللّه بهم خيراً منهم وأبدلهم بي شرّاً لهم مني» يعني: يقول اللّهم عجّل في منيّتي، وقد اُجِيبت تلك الدعوة.
ففي مثل ليلة البارحة أحاط الأصحاب ببيت عليّ (عليه السلام) ويُروى انّ الأيتام جاءوا (وإن كنت لم أرَ هذه الرواية) وأحاطوا بالبيت وبيد كل واحدٍ منم كأس من لبن، لأنهم سمعوا بأنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان قد طلب لبناً ليشربه، وعلى الرغم من عدم ذكر هذه الحادثة في الكتب التاريخية إلاّ انّها قد تكون محتملة الصحة. لكن المسلّم به تاريخياً أن بيت عليّ اُحيط بعشّاق عليّ ومحبّيه وهم يبكون وينحبون، ثمّ خرج الإمام الحسن (عليه السلام) وقال للناس: إنّ حال أبي ليست على ما يرام فتفرّقوا، فتفرَّق الناس، وقد أوصى أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يُغسَّل بدنه الطاهر ويدفن ليلاً، ويبدو كأنّ هذه المسألة أصبحت سنّة عند أهل البيت (بكاء القائد) فكما غُسِّلت فاطمة وكُفِّنت ودُفِنت ليلاً، فأمير المؤمنين أيضاً غُسِّّل وكُفِّن ودُفن ليلاً لأنّه لم يكن مُستبعد من اُولئك الذين سبّوا علياً سنوات طويلة على منابر المسلمين أن يقوموا بنبش قبره (عليه السلام) إذا علموه موضعه، ويهينوا بدنه الطاهر، وقد كان أمير المؤمنين يعرف ذلك ببعد نظره.
وعندما تناصف الليل أخذوا الجسد الطاهر ودفنوه ورجعوا، ولم يكن المشيّعيون سوى أولاد علي (عليه السلام) وبعض خواص أصحابه. وقد فكّرت في مظلومية الإمام (عليه السلام) في ذلك التشييع المظلوم والدفن البعيد عن أنظار الناس وفي بيت الإمام المظلم، وفي هذه الأيام الصعبة التي مرّت على أهل البيت، فلا أظنّ أنّها مرّت على أحد أصعب كما مرّت على زينب (عليه السلام)، فقد شاهدت اُمّها وهي تدفن ليلاً، ورأت أباها يدفن ليلاً كالليلة الماضية.
عظمة أمير المؤمنين (عليه السلام)
أرغب اليوم في التحدث عن أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام)، وكذلك عن ولده الشهير والعظيم إمامنا الراحل الذي تختص به أيام عشرة الفجر المفعمة بذكره الجليل.
أمّا بشأن أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) فقد تحدث الخطباء والكتّاب والمفكرون والشعراء والنادبون والمادحون لأهل البيت (عليهم السلام)، وجميع المسلمين من الشيعة وغيرهم، وغير المسلمين قُرابة ألف وأربعمائة سنة، وسيستمر الحديث عنه إلى أبد الدهر، إلاّ أنّ دائرة الكلام حول هذهِ الشخصية العظيمة من الاتساع بدرجة إذ لو دخلنا من أية زاوية لوجدنا أشياءاً غير مذكورة.
لقد فكرت في ما يتعيّن علينا قوله فيما إذا أردنا أن نتحدث بشأن هذا الرجل الفذ. ولا أقصد الجوهر الملكوتي لذلك الإنسان الربّاني الذي لا يمكن بلوغه، والذي لا يسع لأمثالي نيله، وإنّما أقصد ذلك الجانب من وجوده وهويته وشخصيته التي يمكن للإنسان ملاحظتها والتدبّر فيها والتأسّي بها أحياناً. فوجدت أنّ خطبة واحدة أو ساعة لا تكفي، فهذهِ الشخصية ذات أبعاد واسعة جداً: (هو البحر من أي النواحي أتيته). فليس بالإمكان إحاطة المخاطَب بجميع حقائقه ويقال له: هذا هو أمير المؤمنين (عليه السلام). نعم بالإمكان الدخول من أبعاد مختلفة وبيان شيءٍ حول هذا الشخص العظيم بمقدار ما تَسعُه همتنا وفهمنا وبصيرتنا.
فكرت فرأيت أنّه ربما أمكن العثور على مائة صفة ـ ذكر التعبير بالمائة بعض الكبار أيضاً في بعض الروايات ـ وخصوصية في أمير المؤمنين (عليه السلام)، سواءً الخصوصيات المعنوية كالعلم والتقوى والزهد والحلم والصبر وخصوصياته النفسية، أو خصوصياته السلوكية ككونه أباً وزوجاً ومواطناً ومقاتلاً وقائداً وحاكماً، أو خصوصياته في معاشرة الناس كإنسان متواضع وعادل ومدبّر لشؤون الناس وقاضٍ، فربما أمكن عدُّ مائة صفة من هذا النوع لأمير المؤمنين (عليه السلام)، ولو أمكن لشخص بيان هذهِ المائة صفة ببيان شامل وبليغ لأمكنه إجمالاً عرض صورة كاملة تقريباً عن أمير المؤمنين (عليه السلام). غير أنّ دائرة هذهِ الصفات أيضاً من الاتساع بحيث تحتاج كل واحدة منها إلى كتاب واحد على الأقل. نأخذ إيمان أمير المؤمنين (عليه السلام) كمثال.
إنَّ الخصوصيات التي اُريد التحدث عنها وسأذكرها فيما بعد ليست هي الإيمان، إلاّ أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان إنساناً مؤمناً، أي أنّ الفكر والإيمان والاعتقاد كان راسخاً في أعماق وجوده، فبأي شيء يمكننا أن نقيس هذا الإيمان حتى تتجلّى عظمة إيمان أمير المؤمنين (عليه السلام)، وبناءً على ما نقل عنه (عليه السلام) أنّه قال: ( لو كشف لي الغطاء ما أزددت يقيناً)، أي لو اُزيحت حُجب الغيب وتمكنت من مشاهدة الذات المقدسة للباري تعالى والملائكة والجنة والنار وكل ما ذكرته الأديان عن الغيب وملكوت هذا العالم بهذهِ العين الباصرة لما زاد يقيني على ما هو عليه، أي أنّ هذا اليقين كيقين من شاهد جميع الحقائق بعينه. هذا الإيمان الذي يقول عنه الشاعر العربي:
أو السابقة إلى الإسلام مثلاً إذ آمن في صغره وارتضى هذا الطريق وسلكه بكل كيانه حتى اللحظة الأخيرة، وهذا شيء لا يمكن بيانه في بضع كلمات.
وعلى كل حال فجميع هذه الأبعاد أبعاد عظيمة وواسعة. وقد شاهدنا كثيراً من العظماء وتعرفنا عليهم أو قرأنا سيرهم في الكتب وهم من العظمة بمكان لو جسّدهم الإنسان بشكل صحيح فسوف يشعر حقاً بالضآلة أمامهم، ومَثَلهُ في ذلك كمن يرفع رأسه إلى السماء ويشاهد القمر وكوكب الزهرة والمشتري، فكم هي كبيرة ومرتفعة هذهِ الكواكب وكم هي وضّاءة، غير أنّ عيننا القاصرة والضعيفة عاجزة عن فهم الفرق بين هذا الكوكب الذي يحمل اسم المشتري أو الزهرة وبين ذلك الكوكب الذي لا يشاهد إلاّ بواسطة الأجهزة الفنية والتلسكوبات الدقيقة ويقال إنّها تبعدُ عنا بملايين السنين الضوئية وتشكل مجرةً وحدها، وكم هي بعيدة عنه، فكلاهما يبدو كوكباً وكلاهما تراه أعيننا في الليل شاخصاً في السماء. ولكن أين هذا من ذاك، فنحن عن تلك العظمة من البعد بمكانٍ لا يمكننا معه أن نفهم الفرق بشكل صحيح بين أمير المؤمنين (عليه السلام) وبين العظماء والكبار في التاريخ والإسلام والكتّاب والعلماء وفي كل المواطن التاريخية والبشرية.
شجاعة الإمام علي (عليه السلام)
كان أمير المؤمنين (عليه السلام) من أشجع الشجعان في ساحة الحرب، فلم يولِّ العدو ظهره أبداً وليس هذا بالقليل، فقصته في حرب الخندق معلومة حيث تقدم عندما تخاذل الجميع، كذلك قصته في فتح خيبر، وفي وقعة بدر واُحد وحُنين، وكل واحدة من هذه الوقائع لو نظرتم إليها تجدون أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ وله من العمر في بعضها 24 سنة وفي بعضها 25 سنة، وفي بعض المواطن 30 سنة ـ قد نصر الإسلام وهو شاب لم يتجاوز العقد الثالث بشجاعته في ميادين القتال وخلق تلك الأعاجيب، وهذا يختص بالحرب.
ولكنني أقول: يا عليَّ الكبير، يا حبيب اللّه إنّ شجاعتك في ميادين الحياة أكثر بكثير من شجاعتك في ساحة الحرب، وذلك منذ صغرك فقضية السبق إلى الإسلام ـ التي ذكرتها ـ والتي لبّيت فيها الدعوة حين رفضها الجميع ولم يجرؤ أحد منهم، فهذه شجاعة. طبعاً خذوا بنظر الاعتبار حادثة كهذه حيث يمكن أن تكون مثالاً من أبعاد مختلفة لخصوصيات مختلفة، إلاّ أننا الآن ننظر إليها من زاوية شجاعة هذا العمل.
الايمان والبيعة
طرح النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) دعوته في مجتمع كانت جميع العوامل فيه تناهض هذهِ الدعوة، فجهل الناس وحميّتهم، وشرف الأشراف المسيطرة على الناس تقف تجاه هذه الدعوة. فأي نجاح يمكن أن تطمح به دعوة كهذه في المجتمع.
قام النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بطرح مثل هذه الدعوة {وأنذر عشيرتك الأقربين}، في البداية عمد الأعمام المتكبرون وأصحاب الرؤوس المليئة بالعصبية والغرور والعنجهية وغير المذعنة للحق والساخرة بكل كلام متين في الدنيا، عمدوا إلى الاستهزاء والسخرية، مع أنّه كان جزءاً منهم وكانت عندهم عصبية تجاه العِرق، فجميع الناس آنذاك كانوا كذلك، فأحياناً يقتتلون عشر سنوات انتصاراً لقريب لهم. ولكنه عندما حمل هذا القريب هذا المشعل بيده زوى الجميع أعينهم وصرفوا وجوههم ولم يحتفلوا به وأهانوه وحقرّوه وسخروا منه.
وهنا قام هذا الغلام وقال: أنا يا رسول اللّه. طبعاً كان قد آمن قبل ذلك إلاّ أنّه هنا أعلن إيمانه، وأمير المؤمنين (عليه السلام) هو ذلك المؤمن الذي لم يكن إيمانه مستوراً أبداً طيلة ثلاث عشرة سنة من بداية البعثة إلاّ في الأيام القليلة الاُولى، فقد أخفى المسلمون إيمانهم لعدة سنوات، إلاّ أنّ الجميع كانوا يعرفون بأنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قد آمن منذ البداية.
جسّدوا هذا الأمر في ذهنكم بشكل صحيح ففي الوقت الذي يمارس فيه الجيران وكبار المجتمع الإهانات والتضييق، إذ يسخر الشاعر والخطيب والثري، ويوجّه الحقير والسافل الإهانات، يقف الإنسان وسط هذهِ الأمواج الجارفة والمعارضة شامخاً صلباً كالجبل الأشم معلناً: عرفت اللّه، وعرفت هذا الطريق وأصر عليه. فهذه هي الشجاعة، وقد تجسّدت هذهِ الشجاعة في مكة والمدينة وفي مبايعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
فقد عمد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) عدة مرات ولعدة مناسبات على أخذ البيعة، وإحدى تلك البيعات وربما أصعبها هي بيعة الشجرة (بيعة الرضوان) في حادثة الحُديبية. فعندما إزداد الموقف حرجاً جمع النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك الألف وبضع مئات من الذين تحلّقوا حوله ـ على ما هو مذكور في كتب التاريخ ونقله الجميع قائلاً: تبايعوني على الموت وعدم الهزيمة وأن تحاربوا حتى النصر أو القتل.
وأتصور بحسب الظاهر ـ أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يأخذ مثل هذهِ البيعة من المسلمين في موضع آخر غير هذا الموضع، وكان في هذهِ الجماعة مختلف الناس وكان فيهم ضعاف الإيمان إذ يذكرون بعض الأسماء أيضاً وفيهم حتى من المنافقين في هذهِ البيعة. وأول من بايع لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) هو هذا الشاب اليافع الذي له من العمر عشرون سنة ونيف، فرفع يده وقال: (اُبايعك على الموت)، وبعد ذلك تشجع المسلمون وتقدموا وبايعوا واحداً بعد الآخر. وحتى الذين لم يرغبوا في ذلك اضطروا إلى المبايعة {لقد رضي اللّه عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم...}. وهذهِ شجاعة. ففي حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أينما وجد موضع لإظهار الجوهر الإنساني كان هذا العظيم يتقدم، فكان السبّاق في كل الصعاب.
مواضيع ذات صلة
أبعاد شخصية الإمام علي (ع) درس خالد لا ينسى
دروس وعبر من حياة أمير المؤمنين (ع)
ملامح من حياة الإمام علي (عليه السلام)
تعليقات الزوار