الإمام الخامنئي.. منْ ثقافة الثورة إلى ثقافة المقاومة

مرَّ الفكر الإسلامي المعاصر بالعديد من المحطات والتحوّلات، وقد كان لكلِّ محطةٍ خطابها وثقافتها المميزة. الإمام الخميني (قده) كان مؤسِّساً لمرحلةٍ انتقالية في واقع الإسلام المعاصر، وهي مرحلة شهدتْ تغييراً جذرياً في التعاطي مع واقع الأنظمة المستبدة وأسلوب طرح الإسلام بوصفه منظومة حاكمة ونظام حياة. هذا التأسيس الخميني استصحب تأسيساً نوعياً على مستوى الخطاب والثقافة العامة، ويمكن القول باطمئنان بأن الإمام الخميني كان رائداً في تأسيس «ثقافة الثورة» في الوعي الفقهي والشعبي الإسلامي على السواء.

ويمكن الوقوف سريعاً على أهم مميزات فكر الثورة الذي طرحه الإمام الراحل من خلال العناوين التالية:

* انطلاق التحرك الثوري من داخل الوسط الحوزوي وعلى يدِ مرجعيةٍ دينية قديرة. هذا الانطلاق أسّس، بشكل واسع ونوعي، لمرحلةِ انفتاح الفقيه/المرجع على الواقع السياسي وإدخال العنصر السياسي باعتباره مادة حيوية ومحوراً متحرِّكاً داخل الحوزة العلمية.

* المطالبة الجذرية القائمة على أساس رفض أصل الانحراف، وعدم الاعتراف بأي توافق أو مساومةٍ معه. فقد كان خطاب الثورة الخمينية يُطالب بإزاحة النموذج الشاهنشاهي وفي المقابل تثبيت نظام الحكم الإسلامي في مكانه.

* جماهيرية تحرك الخطاب الثوري للإمام الخميني. فلم يأخذ هذا الخطاب البُعد الفردي أو المعارضة النفسية المغلقة المحكومة بفكرة التقية، بل كان خطاباً جماهيرياً انتفض معه الواقع بأكمله.

والخلاصة.. فإن فكر الثورة بتلك الملامح وبقيامه على أساس المرجعية وفكرة الولاية؛ هيّأ للإمام الراحل أن يُنهي مرحلة الجمود القيادي في الواقع الإسلامي ويفرض على علماء الدين خوض المشاركة في الواقع العام بشكل أو بآخر.

ونجد أن كلّ شخصية جهادية جاءت في سياق نهضة الإمام الخميني أو فيما بعد .. سارتْ على نفس الهدي الثوري الخميني وأضافت إليه شيئاً من ملامحها الخاصة بحسب احتياجات الظروف وتبعاً لخصوصية هذه الشخصية .

 ويهمني هنا التوقف عند ما أضافه الإمام الخامنائي من ملامح وذلك اعتماداً على هذا الخطاب المتعلق بـ «الغزو الثقافي» .. وهو ما يكون موضوع الوقفة التالية إن شاء الله تعالى ..

يؤكد «السيد القائد» بوضوح الفرق بين «الغزو الثقافي» و«التبادل الثقافي». وهناك جدل بين المفكرين والباحثين العرب والمسلمين حول حقيقة «الغزو الثقافي» من حيث واقعيته وصحّة الإطلاق.

استحالة الغزو

فالبعض يرى استحالة وقوع غزو على مستوى الفكر، لأن المسألة في موضوع الغزو هي أن نستولي على منقطةٍ وموقعٍ ما، وهو ما لا يُتصوَّر في المجال الفكري إلا مع وجود قابلية لهذا الغزو (ويُطرح هذا الفهم في كتابات المفكر الراحل مالك بن نبي وآية الله السيد فضل الله).

واقعية الغزو

وفي المقابل هناك منْ يؤكّد على «حقيقة» المعنى الواقعي للغزو الثقافي، ويستشهد في ذلك بالواقع المعاصر للمسلمين والذي يعيش «اختراقاً» غربياً بفضل الإعلام ووسائل الدعاية (يُعبّر عن هذا المعنى الشيخ المرحوم محمد الغزالي في كتابه «الغزو الثقافي يمتدُّ في فراغنا»).

الجمع بين الأمرين

وبين هذين الموقفين هناك محاولة للجمع والتوفيق تؤكّد على مفهوم «قابلية الغزو» في الوقت الذي تؤكّد فيه الهيمنة الثقافية الغربية الحاصلة على الواقع . (يُعبّر عن ذلك الدكتور طه جابر العلواني في كتابه «الأزمة الفكرية المعاصرة»).

موقف الإمام الخامنئي

يصوغ «السيد القائد» موقفه في «خطاب الغزو الثقافي» بشكل مختلف نوعاً ما. فهو يطرح هذا المفهوم في مقابل مفهوم «التبادل الثقافي»، ليُعطي التأكيد الجازم على نفيّ كل ما يتضمنه القبول بمفهوم «الغزو الثقافي» من إيحاءات سلبية. فليس في استخدام واقع «الغزو الثقافي» إشارة إلى نزعةٍ انغلاقية على الآخر، ولذلك يأتي تأكيد سماحته على ضرورة «التبادل الثقافي» بين الحضارات وفي كلِّ مجالات الفكر والحياة . ومثل هذا التبادل يجري من خلال أدوات «التبادل» الحواري الطبيعي الذي يُنتج من خلال التلاقي والتعارف بين الشعوب. أما «الغزو الثقافي» فهو إشارة إلى أسلوب الحرب والاستئصال التي تُمارس تجاه ثقافة معينة، بقصد إلغائها وإحلال ثقافة أخرى على أنقاضها، وبالتالي فإن أساس فكرة التكامل والتلاقي الإنسانية والتي تتضمنها مقولة «التبادل الثقافي» تنتهي وتصبح في مقابلها فكرة الاجتثاث الثقافي، أو قل الهيمنة الثقافية. ومع الواقع الراهن وفي ظلّ «غول العولمة» يتأكّد الكثير من المعطى السلبي لمفهوم «الغزو الثقافي»، حيث تهميش الثقافات الفرعية، والهيمنة على قيم الشعوب الأخرى ومفاهيمها، واستزراع قيم جديدة متصالحة مع «قيم العولمة» والتي تتحالف فيها مؤسسات السوق والثقافة على السواء. وبالتالي يظهر بوضوح ما يُشير إليه سماحة السيد من حقيقية المعنى الخارجي للغزو الثقافي وبالتالي ضرورة التصدي له ومواجهته عبر فعلٍّ مقاوم.

ثقافة المقاومة

من المفيد مراجعة كتاب «الغزو الثقافي.. المقدمات والخلفيات التاريخية» وهو ترجمة لخالد توفيق لمجموعة من أقوال وخطب وبيانات السيد القائد حول الغزو الثقافي، وقد ضمّه المترجم مقدمة جديرة بالقراءة أيضاً. من ملاحظة هذا الخطاب وغيره يتبيّن إلحاح السيد القائد على ضرورة تأسيس وعيٍّ جديد يقوم على مبدأ المقاومة الثقافية. وقد مارس سماحته عدداً من الطروحات التي تؤكّد هذا المبدأ، ومنها :

* تأكيد مفهوم «الغزو الثقافي»، كخطر لابد من الاعتراف به وبالتالي الاستعداد لمواجهته، وفي نفس الوقت تثبيت مفهوم «التبادل الثقافي» لنفي أية دلالة سلبية يمكن أن تُفهم من تبني مفهوم «الغزو الثقافي».

* نقد الواقع الديني القائم واعتباره دون مستوى مقاومة الثقافة الأخرى ومحاورتها بالنقد، وفي ذات الوقت ممارسته النقدية للتيارات الثقافية التي تتبنى أطروحات الغرب الثقافية دون وعيٍّ ومناظرة.

* دعوته الفعلية لتصحيح الجهاز الحوزوي وحثّه على تطويره والارتقاء به، تنظيمياً ومنهاجياً، ليكون في مستوى تمثيل الفكر الإسلامي وثقافته، ومن ناحية أخرى يكون قادراً على إنتاج الأجيال العلمائية التي تقوى على التصدي «الثقافي» للأفكار التي تحاول أن تغزو وتهيمن على مجالنا الثقافي الإسلامي وتخضعه لتداولها الخاص.