فك حصار آبادان.. ملحمة خالدة

إن ملحمة ثماني سنوات من الدفاع المقدس بمثابة حديث خالدٍ عن صمود وبطولة وتضحيات شعب ارتقى قمم البسالة والشهادة السامقة دفاعاً عن كيانه ودينه وثورته ووطنه الإسلامي، وخيَّب آمال العدو في بلوغ أهدافه الدنيئة.

ولم تكن هذه الحرب ميداناً لمشاركة جماهيرية واسعة فحسب وإنما هي خلافاً للحروب المتعارف عليها عالمياً شهدت تواجداً مرموقاً لكبار الشخصيات السياسية والعلمية في البلاد على امتداد الخطوط الأولى في الجبهة.

وكان من بين كبار المسؤولين سماحة آية الله العظمى السيد الخامنئي (دام ظله) الذي أمضى الكثير من وقته النفيس في جبهات الحق ضد الباطل، ملؤها حب الجهاد والشهادة، ولما يَزل تواجده حياً في أذهان الكثيرين من المقاتلين وقادة الدفاع المقدس، فالمعنويات التي كان يرفد بها جند الإسلام بمثابة الحافز نحو الانتصارات الكثيرة التي تحققت لاسيما خلال السنين الأولى من الحرب المفروضة.

قّلما جرت عمليات دون تواجده إلى جانب قادة الحرب، وقلما شوهد مكانه خالياً في سوح الوغى في أية فترة من الحرب، فمشاركته في حرب العصابات وغير المنظمة إلى جانب القائد الدكتور مصطفى شمران؛ وتواجده في العمليات الكلاسيكية الكبرى؛ والمشاركة الفاعلة في التخطيط للعمليات وقيادتها؛ والسعي الجاد في معالجة المشاركات الحربية ودعم الجبهات، والتصدي لسياسات بني صدر الخيانية في إدارة دفة الحرب؛ وزياراته للجبهات في قاطع الغرب وتواصله المباشر مع المقاتلين في الخطوط الأولى؛ وبيان الأبعاد السياسية للحرب المفروضة، وإيصال رسالة هذه الملحمة المقدسة عبر الخطابات في المحافل الدولية والحديث لوسائل الإعلام العالمية؛ وتعزيز المشاركة الجماهيرية الفاعلة في الحرب عبر خطبة في صلاة الجمعة وأحاديثه ... الخ، كلها نماذج للدور الذي قام به قائد الثورة الإسلامية في ملحمة الدفاع المقدس.

إن الأطماع الامبريالية للاستكبار العالمي والأهداف التوسعية للنظام المستبد الحاكم في العراق هي التي دفعت بالقوات العراقية الغازية بقيادة الطاغية صدام لأن تشن هجومها الشامل براً وبحراً وجواً بشكل رسمي يوم 31 شهريور من عام 1359 [1980م] على الوطن الإسلامي، هذا الهجوم الذي كان يستهدف الإطاحة بنظام الجمهورية الإسلامية المقدس وبسط هيمنة العراق على الخليج الفارسي، ولقد كان ضعف المعنويات لدى العسكريين، وانعدام التنظيم في الجيش وقوات الحرس الثوري، والعجز عن استخدام الإمكانيات المتوفرة من الملامح البارزة في جبهتنا في تلك الأيام.

لقد كان وضع الجبهة وقتذاك وخيمٌ جداً؛ فلم نكن نمتلك قوى إنسانية ولا تجهيزات فيما كان العدو قد توغل 60 ـ 70 كم داخل أراضينا ولم تفصل العدو عن أهواز سوى 17 أو 18 كم. من هنا فقد كانت معنويات العسكريين والشعب ككل مهزوزة، ولا أقول مهزومة لكنها على أية حال مهزوزة وأليمة.

لم تمض سوى أيام معدودات على اندلاع الحرب وإذا بالأوضاع المضطربة في الجبهات وفي تلك الأيام كانت أهواز ترزح تحت قذائف العدو إذ أنهم كانوا يقصفونها بالهاونات من عيار 120 ملم، فكان مطار أهواز وكافة أنحائها تحت رحمة نيران العدو، وكان الظلام يسود كل المكان.

لقد أثّرت الضغوط النفسية الناجمة عن تقدم العدو والخسائر التي لحقت بالقوى الشعبية المقاتلة على المعنويات بشدة وساد الإحباط جموع المدافعين عن الوطن الإسلامي.

فمنذ اندلاع الحرب كانت عمليات ثامن الأئمة (عليهم السلام) ـ كأول عمليات كلاسيكية ضخمة أدت إلى فك الحصار عن مدينة آبادان ـ ذروة المواجهة، فإستراتيجية (الانسحاب والدفاع) التي يتبناها بني صدر وطيفه في بداية الحرب قد ضيَّعت مدن انديمشك وأهواز وخرمشهر وآبادان حيث أعلنوا صراحة أن البقاء في هذه المدن ضرب من الانتحار، من هنا فقد اقترحوا إخلاء هذه المدن على أن تستقر القوات المدافعة على مرتفعات زاغروس وخرم آباد.

أما قائد الثورة الإسلامية ورفاقه فقد كانوا يتبنون إستراتيجية (البقاء والتضحية) وباتخاذهم لهذا المنهج كانوا يعتقدون بالمقاومة والبقاء في هذه المدن. من هنا فقد كان (دام ظله) يتابع بدأب تواجد المقاتلين في آبادان وخرمشهر ويتقبل كل خطة من شأنها المساعدة في صمود هاتين المدينتين بوجه العدو، ومن خلال مقاومة قوات الحرس والتعبئة والقيام بعمليات حرب العصابات ومن ثم عمليات ثامن الأئمة وفك الحصار عن آبادان ثبت عملياً تفوق هذه الرؤية وعلو كعبها.

ويعتبر مجلس الدفاع الأعلى أعلى مرجع لاتخاذ القرار فيما يخص شؤون القوات المسلحة بعد القيادة العامة للقوات المسلحة، وقد مرَّ بادوار متعددة وضمَّ أعضاء وعناصر عديدين، وكان لقائد الثورة الإسلامية حضوراً فاعلاً في هذا المجلس خلال مختلف مراحله منذ بداية تشكيله، ففي المرحلة الأولى وقبل المصادقة على الدستور عمل آية الله العظمى السيد الخامنئي (دام ظله) مندوباً لمجلس قيادة الثورة ومساعداً لوزير الدفاع إلى جانب مساهمته في إدارة شؤون البلاد من قبل المجلس المذكور، علماً أن الشهيد شمران كان هو وزير الدفاع حينها.

من الأعمال الجديرة بالاهتمام التي أقدم عليها سماحته في مجلس الدفاع الأعلى بتركيبته غير المتجانسة والاضطراب الإداري الذي حصل في بداية انتصار الثورة؛ كان إلغاء دور المستشارين العسكريين الأمريكيين في إيران عبر المصادقة عليه في مجلس الدفاع الأعلى حيث كانوا ما يزالون كعناصر مخابراتية قليلة في صفوف الجيش.

وفي المرحلة الثانية أصدر الإمام الخميني (رحمه الله) بتأريخ 20 ارديبهشت عام 1359 [1980م] مرسوماً عيَّن بموجبه سماحة آية الله العظمى السيد الخامنئي والشهيد شمران مندوبين عنه في مجلس الدفاع الأعلى.

في يوم 31 شهريور من عام 1366 ﻫ.ش [1987م] ألقى سماحة السيد القائد رئيس الجمهورية حينذاك خطاباً قيماً في الاجتماع الثاني والأربعين للجمعية العامة للأمم المتحدة الذي تزامن مع الذكرى السنوية للعدوان العراقي على الوطن الإسلامي ولا شك في أنه كان دفاعاً عن شعب تعرض لعدوان من قبل العراق والقوى الشيطانية في العالم؛ فيما كانت المنظمات الدولية تشجع المعتدي على مواصلة جرائمه وذلك عبر التزامها الصمت أو دعمه.

وفي كلمته الصريحة شرح (دام ظله) طبيعة الهجوم العراقي على الوطن الإسلامي، وتعاطي مجلس الأمن بهذا الشأن واستخدام العراق للأسلحة الكيماوية وهجومه على البواخر التجارية وناقلات النفط والمناطق السكنية وكذلك إثارته التوتر في منطقة الخليج الفارسي.

واستطرد سماحته موضحاً موقف مجلس الأمن خلال سني الحرب قائلاً: «هل من دليل يمتلكه مجلس الأمن في نكوصه عن أول واجباته أي التصدي للمعتدي المرجحة في المادة الأولى من المنشور الأممي على غيرها من الأهداف؟ ما هو حجم الضغط الذي مارسه على العراق لغرض التصدي للمخاطرة بالسلام وانتهاكه والتوسل بالقوة؟ إننا نشعر بأن مجلس الأمن قد تعرض لتأثيرات إرادة ورغبات بعض القوى الكبرى لاسيما أميركا في اتخاذه لهذا الموقف المهين المدان. ولا يسعنا هنا إلاّ أن نقول أن هيكل الأمن الذي أُسس بدعم من هذا المجلس ما هو إلاّ بناء كارتوني برّاق».

من المسلَّم به أن هذه السطور القليلة لا تستوعب الكتابة والحديث عن تواجد قائد الثورة الإسلامية على مدى فترة الدفاع المقدس، وإن ذلك يتطلب فرصة أكثر وأكبر لإيضاح أبعاد الجهود التي بذلها هذا المجاهد الفذ.

وكمسك ختام للمقال، فلن يفي بالغرض لأداء حق الموضوع سوى كلام عطر له (دام ظله) إذ يقول: «عندما أنظر إلى فترة السنوات الثمانية هذه وأستذكر تلك الآلام والتجارب والساعات العصيبة تتداعى لدي تلك الحالة التي أنظر فيها إلى فترة الجهاد قبل انتصار الثورة، فبالرغم من حبورنا بهذه الثمرة الطيبة التي تمخض عنها جهاد الشعب الإيراني ومجاهدوه ـ والحمد لله ـ بيد أن فترة الجهاد كانت ممتزجة بالمحنة في سبيل الله، وذلك مما يتعذر نسيانه أو استبداله بشيء آخر».

فحقاً كانت لفترة الجهاد وتلك المصاعب والشدائد وحالات القلق والاضطراب لذتها الخاص بها التي يصعب تصورها خلال فترة الراحة والعافية، وتلك اللذة المعنوية إنما هي نابعة من حب وعشق الإنسان لغايته التي يحبها ويعشقها وسعيه الواله نحوها. وإننا نمتلك ذات الإحساس إزاء فترة السنوات الثمانية من الحرب، وعلينا أن نحتفظ في أذهاننا بالذكر العطر لتلك الأيام ونحافظ عليها، وإذا استطعنا تسطيرها على الورق لتظل باقية للمستقبل.