الفصل الخامس

 

في أنّ أمر صلاة الجمعة بيد الولي الفقيه

 

المراد به أنه إذا أقيمت الحكومة الإسلامية بيد الولي الفقيه الجامع للشرائط فصحة صلاة الجمعة ومشروعيتها مشروعة بإقامة الولي الفقيه نفسه أو بإقامة من نصبه الولي الفقيه أو لما يعمّها أو إقامة من إذن له بإقامتها.

 

ومن الواضح أن أصل هذا البحث متفرع على أصل القول بمشروعية صلاة الجمعة زمن الغيبة في ما إذا أقيمت حكومة إسلامية.

 

وقد مر الاستدلال على اشتراطها بإقامة الولي المعصوم (عَليهِ السَّلام) أو إقامة من نصبه أو أذن له بإقامتها إذا كان تولّي أمور الأمة بولايته، وقلنا بقيام الإجماع عليه وبدلالة أخبار عديدة كثير منها معتبر السند عليه، وقد مرّ أن الإجماع محتمل المدرك بل مظنونه، فلا حجّة فيه إلاّ أن دلالة الأخبار تامة.

 

وهنا أيضاً نقول: يمكن الاستدلال بالأخبار الماضية أيضاً على اشتراط صحّتها بتولّي الولي الفقيه أو أمره أو إذنه، وذلك بوجهين:

 

أحدهما: بما قدمناه في الفصول السابقة من أن الظاهر الذي لا ريب فيه عرفاً أن اعتبار قيام الإمام بها أو من يأذن له الإمام في صحتها إنّما يكون لأجل أن إليه جميع أمور الأمة، وصلاة الجمعة التي تكون واحدة يجتمع فيه كل الناس في الدائرة المذكورة من هذه الأمور في صلاة الجمعة من الأمور التي يشترط بالإمام المعصوم (عَليهِ السَّلام) بما أنه ولي أمر الأمة، وولايته هي الموجبة لتفويض أمرها إليه وكونها من اختياراته ووظائفه، فإذا كان المفروض أنّ هذه الولاية بسعتها قد جعلت للفقيه الجامع للشرائط كان اللازم تفويض أمر صلاة الجمعة أيضاً إليه، فبهذا التقرير تدلّ الأخبار المذكورة على اشتراطها بإقامة الفقيه المذكور أو بإذنه.

 

الوجه الثاني: إنّ التعبير الواقع في بعض الأخبار المذكورة يقتضي هذا الاشتراط:

 

1ـ فقد جاء في معتبر الفضل بن شاذان ـ المروي في علل الشرائع ـ فإن قال (يعني السائل): فلم جعلت  الخطبة؟ قيل: لأنّ الجمعة مشهد عام فأراد أن يكون للإمام سبب إلى موعظتهم وترغيبهم في الطاعة وترهيبهم من المعصية وفعلهم وتوقيفهم على ما أرادوا من مصلحة دينهم ودنياهم ويخبرهم بما ورد عليهم من الآفات ومن الأحوال التي فيها المضرة والمنفعة ولا يكون الصائر في الصلاة منفصلاً، وليس بفاعل غيره ممن يؤم الناس في غير الجمعة. فإن قال: فلم جُعلت خطبتان؟ قيل: لأن تكون واحدة للثناء والتحميد والتقديس لله عز وجل، والأخرى للحوائج والاعذار والإنذار والدعاء ولما ورد أن يعلمهم من أمره ونهيه لما فيه الصلاح والفساد[1].

 

فكما ترى قد جعل الله تعالى أصل الخطبة في صلاة الجمعة لأن يكون للإمام الذي هو ولي أمر الأمة طريق إلى إبلاغ الناس ما فيه صلاحهم فيفعلوه وما فيه الفساد فيتركوه، ولأن يؤذنهم بأحوال البلاد الإسلامية وغيرها وبما فيها من المضرّة والمفسدة، وهو خاص بإمام الجمعة، ولا يفعله غيره من أئمة الجماعة في الصلوات الأخر اليومية، وقد جعل الخطبة الممحّضة فيه الخطبة الثانية على ما أفاده في جواب السؤال الثاني، فإذا كان الهدف الأصيل من الخطبتين وسيما الثانية منهما هذا الهدف فلا ريب في أنه إنّما يؤتى به بإقامته وليّ الأمر وإن كان غير معصوم أو بإقامة غيره ممن ينصبه لإقامتها، فلا محالة تكون إقامة أو إذن وليّ الأمر شرطاً في صحّة صلاة الجمعة.

 

2ـ وقد جاء أيضاً في نفس هذا الحديث ـ في مقام ذكر العلة لأصل جعل ولي الأمر ـ ما قد مرّ من قوله «فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق مما يعلم أنه لابدّ لهم منه ولا قوام لهم إلاّ به، فيقاتلون به عدوّهم ويقسمون به فيئهم ويقيمون به جمعتهم وجماعتهم ويمنع ظالمهم من مظلومهم»[2].

 

فترى أن الإمام أبا الحسن الرضا (عَليهِ السَّلام) عدّ إقامة الجمعة من الأمور التي إنما تقام بوليّ الأمر، وأنّه لابدّ للخلق في إقامة الجمعة من وليّ الأمر، فأصل الحاجة إلى وليّ الأمر لعلل موجبة له، منها أن إقامة الجمعة منوطة به، ومن المعلوم أن ما يناط به إقامة صلاة الجمعة كغيرها مما قد عدها هو مجرد وجود الولي لا لكونه معصوماً ومن آل الرسول (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم)، وهذه الجهة متحققة في الفقيه الذي يصير وليّ أمر الأمة، فتكون إقامة الجمعة من وظائفه واختياراته.

 

فإن قلت: قد عطف «الجماعة» في الحديث على الجمعة، وكما أن صلاة الجماعة ليست مشروطة بإقامة وليّ الأمر أو أقامة من نصبه ولي الأمر لإقامتها أو أذن له فيها فهكذا صلاة الجمعة.

 

قلت: إنّ ظاهر الحديث هو الاشتراط والإناطة ورفع اليد عنه مورد بالدليل لا يوجب رفع اليد عنه في غيره، بل إنّ لزوم الأخذ في سائر الأمور المذكورة في الحديث مؤكدة لوجوب إرادة الاشتراط فيها أيضاً.

 

الفصل السادس

 

في أنّ أمر صلاة العيدين بيد الولي الفقيه

 

قد مرّ منّا عند البحث عن اختيارات الولي المعصوم أنّ ولاة أمر الأمة كانوا يصلّون صلاة العيدين (الفطر والأضحى) بأنفسهم للناس بجماعة وأن الصلاتين منوطتان بإمامة الإمام ومن اختياراته، وهنا نقول:

 

إنه يمكن الاستدلال بتلك الأخبار لعموم الأمر بالنسبة لما كان وليّ الأمر فقيهاً جامعاً للشرائط، وذلك تارةً بملاحظة أنّ الظاهر أنّ هذا الاشتراط والإناطة إنّما هو لمكان اقتضاء ولايته على الأمة له فلا محالة، حيث إنّ الولاية المزبورة ثابتة بعينها للفقيه الوليّ كانت الإناطة أيضاً ثابتة له، فلا تصحّ صلاة العيدين بعد تشكّل الدولة الإسلامية بولايته إلاّ بإمامته أو بإمامة من نصبه أو أذن له في إقامتها جماعة.

 

ويمكن الاستدلال له تارةً أخرى ببعض الأخبار التي استدللنا به هناك، فمن هذه الأخبار صحيحة عبد الله بن سنان أو خبر عبد الله بن ذبيان أو عبد الله بن دينار عن أبي جعفر (عَليهِ السَّلام) أنه قال: يا عبد الله ما من يوم عيدٍ للمسلمين أضحى ولا فطر إلاّ وهو يجّدد (يجدّد الله ـ التهذيب) لآل محمد (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) فيه حزن (حزناً ـ التهذيب»). قال: قلت: ولم؟ قال: لأنهم يرون حقّهم في يد غيرهم[3].

 

وجه الدلالة: أنّه لا يخفى أنّ سرّ هذا الحزن وتجدّده في العيدين إنّما هو إمامة الطواغيت للناس لصلاة العيدين، وبما أنّ هذه الإمامة كانت حقّاً لهم فلذا يتجدّد فيه حزنهم. فيدلّ الحديث على أنّ الإمامة لصلاة العيد أمرٌ مشروع بيد ولي أمر الأمة كائناً من كان، وذلك يتصدّاها خلفاء الجور. ففيه دلالة على أنّ أمر صلاة العيدين بيد الفقيه الذي تصدى إدارة أمر الأمة.

 

2ـ وقريبٌ منه ما عن سيد الساجدين (عَليهِ السَّلام) في الصحيفة السجادية من دعائه يوم الجمعة والأضحى بقوله: اللهمّ إنّ هذا المقام لخلفائك وأصفيائك ومواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزّوها وأنت المقدّر لذلك... حتى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلولين مقهورين مبتزين يرون حكمك مبدّلاً وكتابك منبوذاً وفرائضك محرّفة عن جهات أشراعِك وسنن نبيك متروكة...[4].

 

والاستدلال به عين ما قدمنا ذيل الخبر السابق.

 

3ـ  وفي صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عَليهِ السَّلام) قال الناس لأمير المؤمنين (عَليهِ السَّلام): ألا تخلف رجلاً يصلي في العيدين؟ فقال: لا أُخالف السنة[5].

 

دلت الصحيحة على تأكّد إناطة إقامة صلاة العيدين بإمامة وليّ الأمر حتى كانت إقامتهما بإمامة غيره مخالفة للسنة ولم يفعلها الأمير (عَليهِ السَّلام).

 

والإنصاف أنّ هذا البيان المذكور ذيل الصحيحة يرجع إلى مغزى البيان العام الذي قدمناه أولاً، وبما أنّ سند الخبرين الأولين غير معلوم الاعتبار فالعمدة في إثبات الإناطة هنا هو الوجه الأول العامّ.

 

الفصل السابع

 

في أنّ الحكم بثبوت الهلال بيد الولي الفقيه

 

لا ريب في أنّ مقتضى الاستصحاب عدم دخول الشهر الآتي بل وبقاء الشهر السابق ما لم يتيقن بانقضائه وبدخول الشهر اللاحق، بل قدر مرّ أنّ المستفاد من الأدلة الخاصّة أيضاً أنّ الهلال لا يثبت إلاّ باليقين أو ما يقوم مقامه من الطرق المعتبرة، وحينئذ فمقتضى القواعد أنّ مجرّد حكم أحد بثبوته لا يُعتنى به في ثبوته ما لم يقم دليل خاص على الاعتناء به.

 

وقد مرّ أنّ الأدلة المعتبرة قامت على اعتبار حكم الولي المعصوم (عَليهِ السَّلام) بدخول الشهر في ثبوته ووجوب ترتيب آثار انقضاء الشهر السابق وآثار دخول الشهر اللاحق، فهل يلحق به الوليّ الفقيه أم لا؟ لا يبعد أن يقال باللحقوق، وذلك أنّ موضوع الأخبار الدالّة على اعتبار حكم المعصوم (عَليهِ السَّلام) هو عنوان الإمام، وقد مضى أنّ المراد به المعصوم (عَليهِ السَّلام) بما أنّه متولّ لإدارة أمر الأمة، ولذلك كان مآل مفاد هذه الأخبار أن حكم ولي أمر الأمة الذي يكون تولّيه بأمر الشارع وإعمالاً لما يطلبه فحكم هذا الوليّ طريق معتبر شرعاً لثبوت هلال الشهر الآتي ولانقضاء الشهر السابق، وبما أنّ الفقيه الذي تولى إدارة أمر الأمة مصداق لهذا الموضوع الكلي فكبرى اعتبار الحكم شامل له أيضاً، ويكون حكمه معتبراً لإثبات دخول الشهر.

 

فمن هذه الأخبار صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر (عَليهِ السَّلام) قال: إذا شهد عند الإمام شاهدان على أنّهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوماً أمر الإمام بالإفطار في ذلك اليوم إذا كانا شهدا قبل زوال الشمس، فإن شهدا بعد زوال الشمس أمر الأمام بإفطار ذلك اليوم وأخّر الصلاة إلى الغد فصلّى بهم[6].

 

والصحيحة واضحة الدلالة على أنّ الموضوع فيها هو الإمام الذي يتصدى لإدارة أمر الأمة فيأمرهم بما يجب الأمر به ويباشر بنفسه إقامة صلاة العيد جماعة بهم، وحكم بأنه إذا ثبت لديه انقضاء الشهر السابق بشهادة عدلين أيضا بالنحو المذكور في الحديث يأمر الناس بإفطار ذلك اليوم وترتيب آثار دخول الشهر، بل ويأتي بصلاة عيد الفطر أيضا، فهذا الأثر يثبت للفقيه الذي يتولى إدارة أمر الأمة، ويكون ولي أمرهم شرعاً بالبيان الذي قدمناه.

 

ومثل هذه الصحيحة الأخبار المتعددة الأخرى الماضية، فراجع[7]. فإنّ صحيحة الحلبي وصحيحة شعيب مثل صحيحة محمد بن قيس بعينها، والأخبار الأربعة الأخر بناءً على تسلّم أصل دلالتها كما ليس ببعيد في مرسل رفاعة وصحيحة عيسى بن أبي منصور فإنّ دلالتها على أنّ اعتبار هذا الحكم إنّما هو لأنه حكم من يتصدى لولاية أمر الأمة واضحة، فراجعها متدبراً، والله العالم.

 

ثم إنّ المستفاد من هذه الأخبار إنّما هو اعتبار حكم من كان وليّ الأمة وأما غيره فهو داخل في ما اقتضته القواعد والأصول. وبالنتيجة: لا فرق في عدم اعتبار الحكم بين من كان فقيهاً مجتهداً ليس بولي أمر الأمة وبين سائر الناس، إذ القواعد والأصول تقتضي عدم اعتبار حكم كل أحد. وقد مرّ منّا عند البحث عن اختصاص أمر القضاء بالوليّ الفقيه أنه لا دليل على لحوق غيره من الفقهاء به، وقدمنا أيضا هذا الكلام لدى البحث عن اعتبار حكم الوي المعصوم (عَليهِ السَّلام) أيضاً، فتذكر.

 

الفصل الثامن

 

في أنّ بيد الولي الفقيه تأسيس الإدارات المختلفة

 

في البلاد التي تحت ولايته وغيرها

 

قد مرّ منّا ـ عند البحث عن ثبوت هذه الاختيارات للولي المعصوم (عَليهِ السَّلام) ـ بيان الحاجة إلى تأسيس هذه الإدارات، وأنها ربما تزداد يوماً فيوماًَ بتقدّم العلوم في العالم. وقلنا هناك: إنّ الدليل عليه من طريقين: من جهة اقتضاء نفس اعتبار الولاية للولي، ومن جهة دلالة فقرات عديدة من كتاب الأمير (عَليهِ السَّلام) إلى مالك الأشتر حين ولّاه مصر. وأنت بالتأمل تصدّق بتحقّق كلا الطريقين في ولاية الفقيه أيضاً، فإنّ الروايات الأربع السابقة تدلّ على ولاية الفقيه إذا تهيّأ لإدارة أمر الأمة، ولازم ثبوت الولاية له ثبوت اختيار تأسيس هذه الإدارات، كما أنّ المستفاد من مثل الكتاب المذكور وغيره أنّ ولاية أمر الأمة في الإسلام تكون بثبوت هذه الاختيارات، وأنّ ولاية الأمر معناها تحقّق هذه الاختيارات.

 

وبالجملة: فلا ينبغي الريب في ثبوت هذه الاختيارات في الشريعة الإسلامية لكل من له إدارة أمر الأمة، بلا فرق بين المعصوم والفقيه وغيره، فإنّ ثبوتها لازم قطعي بولاية الأمر، وتدلّ على ثبوتها نفس ولاية الأمر والأخبار المختلفة وليراجع إلى ما قدّمناه هناك في الفصل الثامن من الاختيارات[8].

 

الفصل التاسع

 

في أنّ بيد الولي الفقيه نصب مسؤولي الدولة

 

قد أشرنا في الفصل السابق إلى أن إدارة نـظام المجتمع الإسلامي محتاجة إلى تأسيس إدارات مختلفة في البلاد حسب ما تؤدي إليها الحاجة، وحينئذٍ فلا ريب في أنّ كل إدارة محتاجة إلى أشخاص يقوم كل بما يفوض إليه من العمل. فالمقصود هنا أنه كما أنّ بيد الولي الفقيه تأسيس تلك الإدارات بمقدار تقتضيه المصلحة فكذلك أيضاً بيده أيضاً نصب جميع العمال المحتاج إليهم في هذه الإدارات بل ونصب جميع من يفوّض إليه أمر من أمور الدولة الإسلامية.

 

وقد مرّ بيان ذلك عند عدّ اختيارات الولي المعصوم (عَليهِ السَّلام) مستوفىً، واستدللنا له بوجهين يأتي كلاهما هنا أيضاً. وذلك أن اللازم القطعي لولاية أمر أحدٍ على أمة أن يكون إليه وعليه جميع ما تحتاج عليه إدارة أمورهم. ومن الواضح المسلّم أنّ إدارة أمورهم المختلفة بحاجة إلى نصب عمّال صالحين وتفويض مقدار من الأمر إلى كل منهم كنصب رئيس ومرؤوس حسب ما تقتضيه المصالح، وإلاّ لما تحققّت إدارة أمورهم على ما يتبغى ولم يف وليّ أمرهم بما عليه. وحينئذٍ فالأخبار المتعدّدة الدالة على ثبوت ولاية أمر الأمة للفقيه القائم بذلك تقتضي ثبوت هذه الأخبار به، ووجوب تبعية الأمة لما رآه مصلحة، كما ذكرنا مثله في حقّ تأسيس الإدارات.

 

وهكذا المستفاد من مواضع عديدة من كتاب أمير المؤمنين (عَليهِ السَّلام) لمالك الأشتر حين ولاّه مصر أنّ بيده تعيين العمّال المختلفين من مسؤولي الجند وأعضائه والقضاة بين الناس وعمّاله جباية الخراج وكتّاب كتبه وسائر العمال المذكورين في الكتاب الشريف المذكور، وقد صرّح الكتاب بأنّ مالكاً ولي أمر أهل مصر، ولاّه به أمير المؤمنين الذي هو أيضاً وليّ أمر الأمة من الله تعالى. ولذلك يدّل بوضوح على ثبوت هذه الاختيارات وحقّ نصب العمال لوليّ أمر الأمة شرعاً، وأنّ هذا هو حقيقة الولاية الإسلامية، ففيها بيد وليّ أمر الأمة نصب مسؤولي الأعمال المختلفة في البلاد الإسلامية.

 

ومثل ما في هذا الكتاب ما في مواضع عديدة مذكورة في نهج البلاغة أنّه (عَليهِ السَّلام) حين تصديه لإدارة أمر الأمة بعد بيعة الناس له قد نصب عمالاً كثيرين في البلاد لأغراض مختلفة من أمراء البلاد وعمّال جباية الخراج والزكاة ومن أمراء الجيوش وغيرهم. فالمستفاد من جميع هذه الموارد ثبوت حقّ هذا النصب شرعاً في الولاية الإسلامية لولي الأمر، بل لا فرق أصلاً بين المعصوم وغيره قطعاً، بداهة أنه المفهوم عرفاً من هذه الموارد قطعاً، فلا محالة يثبت هذا الحق بعينه لكل من حقّت له الولاية على الأمة وإن كان فقيهاً جامعاً للشرائط أيضاً.

 

وإن شئت اتّضاحاً أكثر فراجع ما فصّلناه في ذاك الفصل[9].

 

الفصل العاشر

 

في أنّ بيد الولي الفقيه أمر الجهاد

 

قد مرّ منّا ـ عند البحث عن أنّ بيد الولي المعصوم (عَليهِ السَّلام) أمر الجهاد أنّ الجهاد ـ إما ابتدائي يهجم فيه جند الإسلام على بلاد الكفر لتوسعة سيطرة الإسلام على أهلها، وإما دفاعي يدافع فيه المسلمون عن هجوم الكفار على المسلمين، أو عن بغي من بغى على وليّ الأمر من رعيته لتسلم الأمة عن مضارّ هذا الهجوم وذاك البغي. وقد قلنا: إنّ أمر الجهاد مطلقاً بيد وليّ الأمر، ليس لغيره الإقدام حتى على الجهاد الدفاعي، إلاّ في مقام الضرورة بحيث لو لم يقدم على الدفاع لترتّب من الهجوم أو البغي على أنفس المسلمين أو أموالهم مثلاً ضرر قبل أن يطلع ولي الأمر ويرسل الجند، فحينئذٍ يجب على المسلمين أنفسهم الدفاع في عين أنه يجب عليهم أيضاً إطلاع الأمر إلى ولي الأمر ليقوم بإرسال الجند للدفاع أو بما يراه الأصلح.

 

فهنا نقول: إنّ هذا الحقّ الذي ذكرنا ثبوته للوليّ المعصوم (عَليهِ السَّلام) فهو بعينه ثابتٌ للوليّ الفقيه أيضاً بلا تفاوت أصلاً. وتوضيح الأمر أنّا قد نقلنا هناك أقوال جمع كثير من فقهائنا العظام في هذا الموضوع بعين عباراتهم.

 

1ـ وكان المستفاد من عبارة الشيخ (قدّس سرّه) في النهاية أن الجهاد الابتدائي لا يسوغ إلاّ بأمر الإمام الظاهر أو من نصبه، وأنّ قتال البغاة لا يجوز لأحد إلاّ بأمر الإمام، نعم الجهاد دفاعاً مع الكفار المهاجمين واجب على المسلمين دفاعاً عن حوزة الإسلام وعن المؤمنين. ومثله عبارة ابن إدريس في جهاد السرائر.

 

2ـ ومفاد عبارة مبسوط الشيخ اشتراط جواز الجهاد الابتدائي مع الكفار بأمر الإمام أو منصوبه. نعم الجهاد للدفاع مع الكفار المهاجمين الذين خيف منهم على الإسلام أو على قوم من المسلمين واجب بعنوان الدفاع لا بعنوان إدخالهم في الإسلام، ولم يتعرّض المبسوط لحكم جهاد البغاة بالمرّة.

 

3ـ وقد تعرّض في الكتاب الجهاد من الجمل والعقود لحكم الجهاد الابتدائي ولقتال البغاة وجعل جوازهما مشروطاً بأمر الإمام أو من نصبه.

 

4ـ وأفاد ابن البرّاج في كتاب الجهاد من المهذّب أن الجهاد الابتدائي لا يجوز إلاّ بأمر الإمام أو منصوبه بخلاف الجهاد الدفاعي مع الكفار المهاجمين فإنه جائز بعنوان الدفاع عن النفس والمال.

 

5ـ والمستفاد من عبارة ابن حمزة في جهاد الوسيلة أن الجهاد الابتدائي لا يجوز بغير الإمام العادل، وأمّا الدفاعي عن الإسلام أو عن أنفس المسلمين وأموالهم فهو واجب في زمان غيبة الإمام أيضاً.

 

6ـ ومفاد عبارة فقه القرآن للراوندي (المتوفى سنة 573هـ) أنّ شرط وجوب الجهاد ظهور الإمام العادل، إذ لا يسوغ الجهاد إلاّ بإذنه، وإنّ الداعي إلى قتال البغاة هو الإمام أو من يأمره.

 

7و8ـ والمستفاد من الشرائع والمختصر النافع عدم جواز الجهاد الابتدائي في زمان الغيبة، وأما الجهاد للدفاع عن حوزة الإسلام أو عن نفسه فهو جائز حتى مع الجائر وفي زمن غيبة الإمام أيضاً.

 

9ـ كما أنّ المستفاد من الجامع للشرائع ليحيى بن سعيد (المتوفى سنه 690ﻫ) أنّ جواز الجهاد الابتدائي مشروط بدعوى الإمام أو أميره.

 

وهؤلاء العلماء العظام قد أفتوا بما ذكرنا بلا دعوى إجماع أو لا خلاف أو شهرة على ما أفتوا به.

 

10ـ والعلامة في التذكرة نصّ على أنّ الجهاد الابتدائي لا يجوز إلاّ بإذن الإمام العادل أو من نصبه لذلك عند علمائنا أجمع. قال: لأنه أعرف بشرائط الدعاء... ولخبر بشير الدهّان. قال: وأما الجهاد الدفاعي عن هجوم الكفار فهو واجب كفائي على عدّة يندفع بدفاعهم المهاجمون. وقال: بأنّ قتال البغاة واجب على الإمام وللإمام أو منصوبه دعوة الناس إلى قتالهم.

 

فحاصل مفاد عبارته: اشتراط الجهاد الابتدائي وجهاد الباغين بإذن الإمام وأمره، مدّعياً لأنه في الجهاد الابتدائي قول علمائنا أجمع إلاّ أن الجهاد الدفاعي غير مشروط بذلك.

 

11ـ والمستفاد من عبارات قواعد العلامة اشتراط الأقسام الثلاثة للجهاد بحضور الإمام وأمره أو أمر نائبه. والمنقول عن منتهى المطلب للعلامة اشتراط الجهاد بإذن الإمام دون الدفاع عن أنفس المسلمين، فالدفاع مشروع حال الغيبة دون الجهاد.

 

12ـ ويستفاد من الشهيد في الدروس اشتراط جواز الجهاد الابتدائي كقتال البغاة بأمر الإمام أو منصوبه، بخلاف الدفاع عن الإسلام أو المسلمين فإنّه جائز، بل واجب حتى مع السلطان الجائر.

 

13ـ وفصّل الشهيد الثاني في المسالك بين الجهاد الابتدائي والدفاع من هجوم الكفار على بلاد المسلمين، فشرط في الابتدائي إذن الإمام أو منصوبه، وصرّح بعدم توقف الدفاع على إذن الإمام ولا حضوره.

 

14ـ وبعد هؤلاء العظماء قال صاحب الرياض في الجهاد الابتدائي: إنّما يجب الجهاد بالمعنى الأول على من استجمع الشروط المزبورة مع وجود الإمام العادل وهو المعصوم (عَليهِ السَّلام) أو من نصبه لذلك، أي النائب الخاص، وهو المنصوب للجهاد أو لما هو أعمّ، وأمّا العام كالفقيه فلا يجوز له ولا معه حال الغيبة بلا خلافٍ أعلمه كما في ظاهر المنتهى وصريح الغنية، إلاّ من أحمد ـ كما في الأوّل ـ وظاهرهما الإجماع، والنصوص به من طرقنا مستفيضة بل متواترة... قال: وعلى هذا الشرط فلا يجوز الجهاد مع الجائر إلاّ أن يُدهَم المسلمون من أيّ عدو يخشى منه على بيضة الإسلام، أي أصله ومجتمعه، فيجب حينئذٍ بغير إذن الإمام أو نائبه أو يكون بين قوم مشركين ويغشاهم عدوٌ فيجاهد حينئذٍ ويقصد الدفع عن الإسلام وعن نفسه في الحالين... ولا يخفى أنّ هذا الاستثناء منقطع، إذ الجهاد الذي يعتبر فيه إذن الإمام وسائر الشروط إنّما هو الجهاد بالمعنى الأول دون غيره اتّفاقاً، والجهاد بعد الاستثناء غيره، ولذا قال في الشرائع بعده: «ولا يكون جهاداً...» انتهى نقل ما في الرياض.

 

أقول: هذه كلمات عمدة العلماء من المتقدمين إلى المتأخرين قد اشترطوا جواز الجهاد الابتدائي بأمر الإمام أو منصوبه. وقد صرّح بعضهم كالعلامة في التذكرة والطباطبائي في الرياض بأن المراد من الإمام هو المعصوم (عَليهِ السَّلام)، ولعلّه يستظهر من إطلاق الإمام العادل، واقتصر جلّهم على مجرّد الفتوى به، إلى أن ادّعى العلامة أنّ هذا الشرط عند علمائنا أجمع، وحكى الطباطبائي دعوى الإجماع عليه عن الغنية وعن العلامة في المنتهى. وبعده قال في الحكم بالاشتراط: بلا خلاف أعلمه.

 

والحق أنّ دعوى الإجماع هنا ممنوعة، وذلك لوجدان القول بالخلاف من جمعٍ من أعاظم الفقهاء.

 

1ـ فممّن أجاز بل أوجب الجهاد الابتدائي زمن الغيبة لفقهاء الشيعة الشيخ المتقدّم المفيد في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المقنعة قال بما نصّه: فأما إقامة الحدود فهو سلطان الإسلام المنصور من قبل الله تعالى وهم أئمة الهدى من آل محمد (عليهم السَّلام) أو من نصبوه لذلك من الأمراء والحكام، وقد فوضوا النظر فيه إلى فقهاء شيعتهم مع الإمكان مَن تمكن من إقامتها... وهذا فرض متعين على مَن نصبه المتغلّب لذلك على ظاهر خلافته له أو الإمارة من قبله على قوم من رعيته، فيلزمه إقامة الحدود وتنفيذ الأحكام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار ومن يستحق ذلك من الفجار، ويجب على إخوانه المؤمنين معونته على ذلك إذ استعان بهم ما لم يتجاوز حدّاً من حدود الإيمان[10].

 

فهو كما ترى قد صرّح بوجوب جهاد الكفار ومن يستحق ذلك من الفجار على فقهاء الشيعة إذا تمكنوا منه، وبأنّ ذلك مفوّض إليهم من الأئمة المعصومين (عليهم السَّلام) مثل إقامة الحدود بلا فرق أصلاً، والجهاد المذكور شامل للجهاد الابتدائي والدفاعي مع الكفار وللجهاد مع البغاة الذين هم المراد بـ«مَن يستحق ذلك من الفجار».

 

2ـ ومنهم أبو الصلاح الحلبي (المتوفى سنة 447ﻫ) تلميذ السيد المرتضى والشيخ وخليفتهما بالبلاد الحلبية، حيث قال في فصل الجهاد وأحكامه من الكافي: يجب جهاد كل من الكفار والمحاربين من الفسّاق... بشرط وجود داعٍ إليه بعلم أو بظنّ من حاله السير في الجهاد بحكم الله تعالى ـ إلى أن قال: ـ وحكم جهاد المحاربين من المسلمين حكم مَن خيف منه على دار الإيمان من الكفار في عموم الفرض من غير اعتبار صفة الداعي[11].

 

وكلامه أيضاً كما ترى كالصريح في جواز بل وجوب الجهاد بأقسامه الثلاثة من غير اعتبار أزيد من أن يكون الداعي إليه يسير في الجهاد بحكم الله تعالى. ومن الواضح أنه شامل للفقيه بل العادل الذي لا يفعل فيه إلاّ ما أراده الله تعالى أيضاً.

 

3ـ والظاهر أنّ منهم سلاّر (حمزة بن عبد العزيز الديلمي المتوفى سنة 448 أو 463ﻫ تلميذ السيد المرتضى والشيخ المفيد) في باب الأمر بالمعروف من المراسم حيث قال فيه ما نصّه: ولفقهاء الطائفة أن يصلّوا بالناس في الأعياد والاستسقاء، وأمّا الجمع فلا. فأما الجهاد فإلى السلطان أو من يأمره السلطان إلاّ أن يغشى المؤمنين العدوّ فليدفعوا عن نفوسهم وأموالهم وأهليهم[12].

 

وبيان دلالته: أنّه شرط في الجهاد غير الدفاعي قيام السلطان أو من يأمره، ولا يبعد دعوى شموله لوليّ أمر الأمة ـ وإن كان من الفقهاء الجامعين للشرائط أو من عدول المؤمنين فلغير المعصوم أيضاً إذا كان وليّ أمر الأمة ـ الجهاد الابتدائي أيضاً.

 

4ـ ولعل من هؤلاء قطب الدين البيهقي الكيدري محمد بن الحسين (من علماء القرن السادس والسابع الهجري) في كتاب الجهاد من إصباح الشيعة حيث قال ما نصّه: الجهاد من فرائض الإسلام... أما شرائط وجوبه فالحرية... وأمر الإمام العادل به أو من ينصبه الإمام أو ما يقوم مقام ذلك كحصول (من حصول ـ خ ل) خوف على الإسلام أو على الأنفس والأموال، ومتى اختل أحد هذه الشروط سقط الوجوب[13].

 

فإذا كانت العبارة: «كحصول خوف...» فقد جعل كل ما يقوم مقام أمر الإمام ومنصوبه موجباً لوجوب الجهاد، وحينئذٍ فربما كان أمر ولي أمر الأمة إذا كان غير معصوم قائماً مقامه، فكان الكيدري من القائلين بعدم اشتراط الوجوب بحضور المعصوم (عَليهِ السَّلام). نعم، إن كانت النسخة: «من حصول» ما كانت له هذه الدلالة لكون حصول الخوف المزبور بياناً للمراد بالموصول في قوله «ما يقوم مقام ذلك» ومنحصراً فيه.

 

فالفحص عن أقوال العلماء يعطي أن إسناد القول باشتراط جواز الجهاد بإذن الإمام أو منصوبه إلى علمائنا أجمع في التذكرة الذي صار منشأ لاستظهار الإجماع منه في الرياض ليس مقبولاً بل الأعلام الثلاثة من المفيد والحلبي وسلاّر بل والكيدري على احتمال من المنكرين له أو الناصّين بخلافه.

 

وأما نقل الاجماع عن ابن زهرة في الغنية فهو غير صحيح من رأس، وذلك أنه في أول كتاب الجهاد منه ـ بعد ذكر اشتراط وجوب الجهاد بشرائط منها أمر الإمام العادل أو من ينصبه الإمام به ـ قال ما نصّه: ومتى اختل شرط من هذه الشروط سقط فرض الجهاد بلا خلاف أعلمه[14]. وهو قد ادعى عدم علمه بالخلاف مع اختلال أمر الإمام أو منصوبه به، وعدم علمه بالخلاف غير الإجماع، مع أنّا كما عرفت علمنا القول بالخلاف من بعض علمائنا القدماء، كما مرّ.

 

فالمتحصّل ممّا مرّ: أنّ إجماع الأصحاب على اشتراط جواز الجهاد أو وجوبه بأمر أو إذن الإمام المعصوم (عَليهِ السَّلام) أو منصوبه غير متحقق، بل المسألة خلافية من زمن القدماء.

 

وإن سلمنا انعقاد الإجماع فمن المعلوم أنّ الإجماع بنفسه لا حجية له عندنا، وإنّما حجيته بعناية كونه كاشفاً عن رأي المعصوم أو عن خبر معتبر لو وصل إلينا لرأيناه أيضاً تام الدلالة، ومن الواضح أنّ الإجماع المدّعى هنا محتمل المدرك بل مظنونه، فإنّه قد وصلت إلينا أخبار عديدة يحتمل استظهار الدلالة على الاشتراط من بعضها، بل العلاّمة في التذكرة بعد إسناد الاشتراط إلى علمائنا أجمع استدل نفسه له بخبر بشير الدهّان الذي هو من هذه الأخبار، ورواه الكليني في الكافي والشيخ في التهذيب أيضاً، وهكذا صاحب الرياض استدل لإثبات هذا الاشتراط بهذا الخبر وأمثاله. فالإجماع مظنون المدرك جدّاً ولا حجة فيه بنفسه، بل اللازم هو البحث عن مفاد الأدلّة والقول به.

 

بل نزيد عليه أن عدّة من العلماء الذين نقلنا عباراتهم وكانوا قائلين باشتراط جواز الجهاد بأمر الإمام أو منصوبه كان موضوع كلامهم الإمام العادل، وعنوان الإمام العادل وإن كان ربّما يدّعى انصرافه إلى الإمام المعصوم (عَليهِ السَّلام) إلاّ أنه قد ذكرنا هناك أنه لا يبعد دعوى أن يكون المراد به من يحقّ له شرعاً ولاية الأمر في قبال ولاة الجور، ولذلك فتمام موضوع هذا الحكم والحقّ هو الوليّ على الأمة بحكم الشريعة، فيعمّ الفقيه الذي يتولى إدارة أمر الأمة بل وعدول المسلمين بل وفسّاقهم أيضاً إذا اقتضى الدليل ولايتهم، ولذلك فإثبات هذا الحق للولي الفقيه ليس مخالفاً لفتوى هؤلاء الأصحاب أيضاً، بل عدم تعرّض كثير منهم لثبوت هذا الحقّ بالصراحة للفقيه الذي يكون وليّاً إنّما هو نظير عدم تعرّضهم لولاية الفقيه أصلاً، كما قد مرّ الكلام عنه.

 

فبعد ذلك نقول: إن الأدلة الكثيرة التي استدللنا بها لثبوت هذا الحق للولي المعصوم (عَليهِ السَّلام) بكثرتها ترجع إلى قسمين: فقسم منها يدل على ثبوت هذا الحق للإمام (عَليهِ السَّلام) بعناية أنه ولي أمر الأمة، وبملاحظة أن هذا الحق ثابت عند العقلاء أيضاً لأولياء أمورهم فيرجع هذا الدليل إلى أن شرع الإسلام أيضاً قد حكم مثل حكم العقلاء بأنّ وليّ أمر الأمة إليه أمر الجهاد بأقسامه. وحينئذٍ فسّر ثبوت هذا الحق للمعصوم (عَليهِ السَّلام) إنّما هو مجرد كونه عند الله ولي أمر الأمة. ولا ريب في أن هذا السرّ موجود بعينه للفقيه الذي صار وليّ أمرهم، فيثبت بموجب دلالة الأدلة السالفة على كون الفقيه زمن الغيبة ولي أمر الأمة أن هذا الحق ثابت للفقيه أيضاً، كما ذكرناه في الحقوق الأخر أيضاً، فتذكر.

 

القسم الثاني أدلة وأخبار عديدة تثبت هذا الحق للولي المعصوم (عَليهِ السَّلام) وتخصّه به بغير عنوان الولاية المذكورة. ولا يبعد دعوى إلغاء الخصوصية في هذه الأخبار أيضاً عن شخص المعصوم إلى كل من ثبت له في الشرع حقّ الولاية، والقرينة لهذه الدعوى هي نفس ما قدّمناه آنفاً في سرّ الاستفادة من القسم الأول من تلك الأدلة، وهو أن ارتكاز العقلاء قد ثبت بلا ريب على أنّ ولاية الأمر شرعاً هي الموجبة لثبوت هذا الحق لوليّ الأمر، فإذا قال الشارع إنّ النبي أو الإمام المعصوم (عَليهِ السَّلام) لهم هذا الحق يستفيد العقلاء منه أنه لهم هذا الحق لأنهم ولاة أمر الأمة، فإذا ثبتت الولاية الشرعية لآخر كالفقيه الواجد للشرائط القائم بإدارة أمر الأمة كان هذا الحق بعينه ثابتاً له أيضاً.

 

بل وعلاوة على هذين الوجهين يمكن دلالة بعض هذه الأخبار على ملاك ثبوت هذا الحق للإمام المعصوم (عَليهِ السَّلام)، ونرى أنّ هذا الملاك بعينه متحقّق في الفقيه الذي يصير وليّ أمر الأمة أيضاً.

 

1ـ فمثلاً من هذه الأخبار ما رواه الكليني في الكافي بسندٍ موثق عن أبي عبد الله (عَليهِ السَّلام) قال: لقي عبّاد البصري علي بن الحسين صلوات الله عليهما في طريق مكة فقاله له: يا علي بن الحسين! تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت على الحج ولينته!! إنّ الله عز وجل يقول: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾. فقال له علي بن الحسين (عَليهِ السَّلام): أتمّ الآية، فقال ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾[15] فقال علي بن الحسين (عَليهِ السَّلام): إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج[16].

 

فقد بيّنا هناك بالتفصيل دلالة الموثقة على اختصاص حق القيام بالجهاد بأقسامه والأمر به لوليّ الأمر المعصوم (عَليهِ السَّلام) ونزيد هنا أن الإمام زين العابدين (عَليهِ السَّلام) قد نص على أن سرّ هذا الاختصاص هو أنهم مصاديق للعناوين المذكورة في الآية الثانية، فيستفاد من كلامه (عَليهِ السَّلام) أن كل وليّ أمر كان مصداقاً للعناوين المذكورة، فأمر الجهاد مختص به والإطاعة عنه في حضور الجهاد واجبة. ومن الواضح أن العناوين المذكورة منطبقة على الفقيه الجامع للشرائط الذي تصدى لإدارة أمر الأمة، فإنه عالم بأحكام الشرع كلّها وقام بتصدي أمر الأمة لإقامتها، وهو على الفرض متصف بالعدالة اللازمة في ولي الأمر، فهو من التائبين العابدين... إلى آخر العناوين. فلا محالة ذاك الحقّ ثابت له أيضاً.

 

ومثل هذه الموثقة ما روي عن أبي حمزة الثمالي بسند فيه ضعف وإرسال[17]، فراجع.

 

2ـ ومن هذه الأخبار أيضاً ما عن أمير المؤمنين (عَليهِ السَّلام) في خطبة له في نهج البلاغة يخاطب فيها أصحابه: «أما والذي نفسي بيده ليظهرنّ هؤلاء القوم عليكم، ليس لأنهم أولى بالحق منكم ولكن لإسراعهم إلى باطل صاحبهم وإبطائكم عن حقّي، ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها وأصبحت أخاف ظلم رعيّتي، استنفرتكم للجهاد فلم تنفروا، وأسمعتكم فلم تسمعوا، ودعوتكم سرّاً وجهراً فلم تستجيبوا...»[18].

 

فكلامه المبارك وإن كان ناصّاً في بيان ذكر حقّه على الأصحاب بوجوب إطاعتهم عنه إذا استنفرهم للجهاد فلا محالة يكون الاستنفار للجهاد من حقوقه ووجوب الإطاعة عنه و النفر إلى الجهاد من وظائف أصحابه إلاّ أن قوله (عَليهِ السَّلام) قبل ذكر هذا الحق بالخصوص لنفسه وذكر وجوب الطاعة عنه حقّاً على الأصحاب: «ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها وأصبحت أخاف ظلم رعيتي» يدل على أن كلا هذين الحقّين حق الراعي على الرعية وحقّ على الرعية للراعي بحيث يكون عدم رعاية هذا الحق من جانب الرعية ظلماً منهم على الراعي ووليّ الأمر، فلا محالة يدلّ بوضوح على أن كل من كان في الشرع ولي أمر على الأمة فحقّ استنفار الرعية إلى الجهاد حقّ إسلامي به يجب على الأمة الجواب الموافق له والإطاعة عن أمره كما أن ترك النفر منهم عقيب الاستنفار ظلم من الأمة لواليهم فالعموم المستفاد منه دليل على ثبوت هذا الحق للوليّ الفقيه أيضاً.

 

ثم إنّ هذا الاستدلال بالخطبة المباركة إنّما يكون مبنيّاً على أنّ عبارة الخطبة هي ما حكيناها كما في نهج البلاغة إلاّ أن عبارتها المنقولة في تمام نهج البلاغة مغايرة لما في النهج ولم يذكر عبارة «ولقد أصبحت الأمم... الخ» ذيل تلك الجملة السابقة، فلا مجال لذاك الاستدلال بما في نسخته. ولابدّ من ملاحظة هذه النسخة بنفسها فنقول: قد جاء في متن تمام نهج البلاغة أنّ هذه الخطبة خطب بها قبل أيام من استشهاده، كما جاء في ذيله أنه على رواية أنّ النص المذكور فيها كتبه (عَليهِ السَّلام) ليقرأ على الناس لعدم تمكنه من الخطبة لعلّته، كما أنه ذكر بعد تمام الخطبة ما نصّه: «قال نوف: وعقد (علي (عَليهِ السَّلام) بعد هذه الخطبة) للحسين (عَليهِ السَّلام) في عشرة الآف ولقيس بن سعد في عشرة الآف، ولأبي أيوب الأنصاري في عشرة الآف، ولغيرهم على أعداد أخر، وهو يريد الرجعة إلى صفين، فما دارت الجمعة حتى ضربه الملعون ابن ملجم، فتراجعت العساكر، فكنّا كأغنام فقدت راعيها تختطفها الذئاب من كل مكان[19].

 

وكيف كان، فهذه الخطبة الطويلة أو ذاك الكتاب الكبير مع اختلاف عباراتها لما في نسخة نهج البلاغة تدل على المطلوب أيضاً.

 

وذلك أنه (عَليهِ السَّلام) قال في أوائل الخطبة: «ولكنه سبحانه جعل حقّه على العباد أن يطيعوه وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضيلاً منه وتطوّلاً بكرمه وتوسّعاً بما هو من المزيد أهله، ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقاً افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها، ويوجب بعضها بعضاً، ولا يستوجب بعضها إلاّ ببعض وأعظم ما افترض الله سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله سبحانه لكل على كل فجعلها نظاماً لألفتهم وعزّاً وقواماً لسنن دينهم، فليست تصلح الرعية إلاّ بصلاح الولاة، ولا يصلح الولاة إلاّ باستقامة الرعية، فإذا أدّت الرعية إلى الوالي حقّه وأدى الوالي إليها حقّها عزّ الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم الحقّ، وجرت على إذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان، وطاب به العيش وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء[20]... فأما حقكم عليّ فالنصيحة لكم ما صحبتكم، والعدل وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كي لا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا. وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم، فإن يرد الله بكم خيراً تنزعوا عمّا أكره وترجعوا إلى ما أحب، تنالوا بذلك ما تحبون وتدركوا ما تأملون. أيها الناس، إنّ الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصّة أوليائه... ألا يا أهل الكوفة إني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً وسرّاً وإعلاناً، وقلت لكم: ويحكم اغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قومٌ قط في عقر دارهم إلاّ ذلّوا، فتواكلتم وتخاذلتم واستصعب عليكم أمري، وثقل عليكم قولي، فاتخذتموه وراءكم ظهرياً... أيها الناس، إني استنفرتكم للجهاد فلم تنفروا، وأسمعتكم فلم تسمعوا، ودعوتكم عوداً وبدءاً وسرّاً وجهراً وفي الليل والنهار والغدوّ والآصال فلم تستجيبوا، ونصحت لكم فلم تقبلوا، شهود كغيّاب، وعبيد كأرباب، وأحياء كأموات... أما والذي نفسي بيده ليظهرن هؤلاء القوم عليكم، ليس لأنهم أولى بالحق منكم، ولكن لإسراعهم إلى باطل صاحبهم، وإبطائكم عن حقّي، ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها وأصبحت أخاف ظلم رعيتي[21].

 

فعبارة الخطبة وإن كانت مغايرة لما في نسخة النهج إلاّ أنه لا ريب في دلالة أوّلها على إثبات حقّ إلهي للوالي على الرعية وللرعية على الوالي، وحيث إن موضوع الحقّ الوالي فلا ريب في شموله للوالي الإسلامي وإن كان غير الإمام المعصوم (عَليهِ السَّلام)، فيشمل الفقيه وعدول المؤمنين. وذكر بعده أن من هذه الحقوق حق الاستنفار إلى الجهاد، وأنه يجب على الرعية الإطاعة عن الوالي واستجابة ما يأمرهم به من الجهاد، فلا محالة هذا الحق ثابت للوليّ غير المعصوم ويجب على الرعية الاستجابة لدعوة الجهاد. ومن الواضح أن الجهاد المذكور شامل للجهاد الابتدائي والدفاعي، فحقّ الاستنفار إلى كليهما ثابت لولي أمر الأمة وإن كان غير المعصوم ووجوب الإطاعة له واجب على الأمة.

 

فالمتحصل: أن دلالة الأدلة على ثبوت هذا الحق للولي الفقيه أيضاً تامّة، والحمد لله تعالى.

 

3ـ ثم إنه مما يدل على أن ولاية أمر بلدٍ تقتضي وكول أمر جهاد عدوّها إلى واليها ما كتبه أمير المؤمنين للأشتر النخعي حين ولاّه مصر، فإنه (عَليهِ السَّلام) كتب في أوله: هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين مالك بن حارث الأشتر في عهده إليه حين ولاّه مصر جباية خراجها وجهاد عدوها واستصلاح أهلها وعمارة بلادها[22].

 

فإنّ ذكر جهاد عدوّ مصر في ما ولّى الأشتر له بياناً لما ولاه ظاهر في أن ولاية بلدة مصر ـ إذا كانت مطلقة ـ فلا تتحقق إلاّ بأن يكون أمر جهاد عدوّها أيضاً موكولاً إلى واليها، وهو بما أنه مفوض من صاحب الولاية الكبرى دليل على أن إليه أمر جهاد أعداء بلاد الإسلام كلها، وبما أنه ذكر تبييناً لموارد اختيارات ولي مصر دليل على أنّ إطلاق الولاية لبلد يقتضي أن يكون أمر جهاد عدوّ البلد إلى واليه، كما ذكرناه هنا واستفدناه منه. وجهاد العدو بإطلاقه شامل للابتدائي منه والدفاعي فهو بكلا قسميه موكول إلى الوالي.

 

وممّا يشهد أيضاً على أن الأمور الأربعة المذكورة التي منها الجهاد من آثار الولاية المطلقة قوله (عَليهِ السَّلام) بعد ذلك بقليل: «ثم اعلم يا مالك أني قد وجّهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدلٍ وجور، وأنّ الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم، وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده ـ إلى أن يقول: ـ فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاّك، وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم»[23].

 

وجه الشهادة أن الفقرات الأولى تدلّ على أن مالكاً أيضاً والٍ على أهل مصر مثل سائر الولاة الذين كانوا قبله، فلا محالة تدلّ على أن الولاية على الأمور الأربعة المذكورة إنّما هي مقتضى الولاية لا مقتضى ولاية خصوص مالك.

 

كما أن الفقرات الثانية تدل على أن استكفاء أمر مصر وأهلها من مالك إنّما هو من لوازم الوالية عليها، فلا محالة الولاية لا تكون إلاّ بالإطلاق المذكور.

 

وهذا الذي ذكره الإمام (عَليهِ السَّلام) في أمر الجهاد هنا إجمالاً قد بيّنه بالتفصيل أيضاً حين ما تعرّض في كتابه هذا لوظيفة مالك في قبال الجنود. فقد علّم مالكاً كيفية انتخاب الجند ورؤوسهم وما ينبغي أن يواظبه فيهم، فمما نص عليه هناك قوله (عَليهِ السَّلام): «وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته، وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم ويسع من وراءهم من خُلوف[24] أهليهم، حتى يكون همّهم همّاً واحداً في جهاد العدو، فإنّ عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك... فافسح في آمالهم، وواصل في حسن الثناء عليهم، وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم، فإنّ كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهزّ الشجاع وتحرّض الناكل إن شاء الله[25].

 

فقد أمره بإيثار رؤوس الجند ما يسعهم ويسع أهليهم حتى يكونوا ذوو همٍّ واحدٍ في جهاد العدوّ، معلّلاً لذلك بقوله (عَليهِ السَّلام): «فإنّ عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك» وهو دليل واضح على أن جهاد العدو تكليف أولي لولي أمر مصر، وأن الجند وسيلة بيده عليه أن يعطف قلوبهم على نفسه، وهو ما نحن بصدده من أن أمر الجهاد بيد ولي الأمر وإن كان غير معصوم.

 

كما أن الفقرات الأخر التالية الذكر أيضاً تعليم لطريق آخر إلى هز الشجاع أكثر مما كان عليه وإلى تحريض الناكل عن الهجوم على العدوّ إلى الهجوم عليه، وهذا أيضاً دليل على المطلوب بمثل ما ذكرناه.

 

4ـ وقد يستدل لإثبات المطلوب بما رواه الصدوق في العلل بسنده المعتبر عن القاسم بن يحيى عن جده الحسن بن راشد عن أبي بصير عن أبي عبد الله عن آبائه (عليهم السَّلام) قال أمير المؤمنين (عَليهِ السَّلام): لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمن على الحكم ولا ينفذ في الفيء أمر الله عز وجل، فإنه إن مات في ذلك المكان كان معيناً لعدوّنا في حبس حقّنا، والإشاطة بدمائنا، وميتته ميتة جاهلية[26].

 

وتقريب الدلالة: أنه (عَليهِ السَّلام) نهى عن الخروج في الجهاد مع من لا يراعي أحكام الإسلام، ومفهومه جواز الخروج في الجهاد مع من كان مراعياً لأحكامه، وحيث إن الفقيه العادل أو عدول المؤمنين إذا تولّوا إدارة أمور المسلمين يراعون أحكام الإسلام فالخروج معهم إلى الجهاد وتولّيهم للأمر بالجهاد جائز، وبما أن الجهاد بإطلاقه شامل للابتدائي والدفاعي فمفاد الحديث ثبوت هذا الحق لهم أيضاً حتى في الجهاد الابتدائي.

 

إلاّ أنه يمكن منع هذا المفهوم باحتمال أن يكون الإمام (عَليهِ السَّلام) في مقام بيان ممنوعية الخروج إلى الجهاد تحت أمر هذا الفاقد لوصف رعاية أحكام الإسلام، وأما أنّ وجدان هذا الوصف تمام الموضوع لجواز تولي أمر الجهاد فغير معلوم فلعلّه كان المعتبر فيه وجدان وصف العصمة أو أمر المعصوم أيضاً.

 

مضافاً إلى ضعف سند الحديث بيحيى بن القاسم والحسن بن راشد.

 

ومثله الكلام في ما رواه في الخصال ضمن الحديث الأربعمائة[27].

 

5ـ وقريب من الخبر المذكور ما رواه الشيخ في التهذيب عن محمد بن عبد الله السمندري قال: قلت لأبي عبد الله (عَليهِ السَّلام): إني أكون بالباب، يعني باب الأبواب ـ فينادون بالسلاح فأخرج معهم. قال: فقال لي: أرأيتك إن خرجت فأسرت رجلاً فأعطيته الأمان وجعلت له من العقد ما جعله رسول الله (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) للمشركين، أكان يفون لك به؟ قال: قلت: لا والله جعلت فداك ما كانوا يفون لي به، قال: فلا تخرج. قال: ثم قال لي: أما إن هناك السيف[28].

 

وتقريب الاستدلال به أيضاً مثل ما مرّ في خبر العلل، والنقاش فيه أيضاً مثله. وسنده أيضاً ضعيف بجهالة إسناد الشيخ إلى الهيثم بن أبي مسروق وبجهالة الهيثم وعبد الله بن المصدّق والسمندري.

 

إلاّ أن دلالة معتبر سماعة والعهد المبارك كسندهما تامّة، كما أن دلالة خطبة النهج وتمامه أيضاً تامة. مضافاً إلى تمامية دلالة الوجه الأول أيضاً.

 

6ـ وقد روى الصدوق في العيون بإسناده المعتبر عن الفضل بن شاذان عن الرضا (عَليهِ السَّلام) في كتابه إلى المأمون قال: والجهاد واجب مع الإمام العادل «العدل»[29]. ومثله المروي في تحف العقول عنه (عَليهِ السَّلام)[30] والمروي في الخصال عن الأعمش عن الصادق (عَليهِ السَّلام) في حديث شرائع الدين[31].

 

وبيان دلالته: أنه صرّح بوجوب الجهاد مع الإمام العادل. ومن الواضح أن الإمام العادل شامل للولي الفقيه ولعدول المؤمنين، فتدل هذه الأخبار أيضاً على جواز قيام الولي الفقيه أيضاً بالجهاد الشامل للابتدائي وأن الحضور معه فيه واجب.

 

لكنه قد يقال بورود روايات عديدة ربما تدل على اشتراط جواز الجهاد الابتدائي بأمر المعصوم أو إذنه، فمن هذه الروايات ما رواه ثقة الإسلام الكليني بسند معتبر عن سويد القلاّء عن بشير الدهان عن أبي عبد الله (عَليهِ السَّلام) قال: قلت له إني رأيت في المنام أني قلت لك: إن القتال مع غير الإمام المفترض طاعته حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير، فقلت لي: نعم هو كذلك. فقال أبو عبد الله (عَليهِ السَّلام): هو كذلك، هو كذلك[32].

 

بيان دلالته: أن الإمام (عَليهِ السَّلام) حكم بحرمة القتال مع غير الإمام المفترض طاعته، ولا ينبغي الريب في أن الإمام المفترض الطاعة إنّما هو الإمام المعصوم (عَليهِ السَّلام)، فلا محالة يكون مدلول كلامه (عَليهِ السَّلام) أن القتال بأمر غير الإمام المعصوم حرام. ومن الواضح أن الفقيه أو عدل المؤمنين داخل في عنوان غير الإمام المفترض الطاعة، فالقتال معهم أيضاً حرام، وهو شامل للقتال الابتدائي بلا ريبة.

 

إلاّ أن لنا أن نقول: قد مرّ في كلماتنا مراراً أن إطاعة ولي الأمر وإن كان غير معصوم واجبة، فإن وجوب الإطاعة عنه من لوازم فعلية ولايته، فإنه لا معنى لولاية أمر أحد على جمع إلاّ أن له وعليه أخذ التصميم اللازم في أمورهم الاجتماعية ووجوب الأخذ بما عزم في أمورهم. هذا بملاحظة لزوم الإطاعة عن الولي عند العقلاء، مضافاً إلى التصريح به في ذيل الخطبة الشقشقية وفي رواية تحف العقول الماضية أيضاً وغيرهما، فإذا تولى الفقيه الواجد للشرائط إدارة أمور الأمة فهو إمام للأمة والإطاعة عنه واجبة، فيكون إماماً في الشريعة مفترض الطاعة. فعنوان الإمام المفترض طاعته شامل لكل من يجوز الشرع ولايته وإمامته، فليست الرواية دليل الخلاف، بل إنها أيضاً موافقة لأدلة الإثبات.

 

فإن قلت: قد وردت روايات عديدة ربما يستظهر منها أن الإمام المفترض الطاعة هو خصوص الإمام المعصوم (عَليهِ السَّلام)، فقد روى الكليني بسند معتبر عن الحسين بن أبي العلاء الثقة قال: ذكرت لأبي عبد الله (عَليهِ السَّلام) قولنا في الأوصياء: إن طاعتهم مفترضة. قال: فقال (عَليهِ السَّلام): نعم، هم الذين قال الله تعالى: ﴿أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ وهم الذين قال الله عز وجل: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ﴾[33].

 

وروى أيضاً في الصحيح عن أبي الصباح الكناني قال: قال أبو عبد الله (عَليهِ السَّلام): نحن قوم فرض الله عز وجل طاعتنا، لنا الأنفال ولنا صفو المال... الحديث[34].

 

وروى أيضاً عن بشير العطار قال: سمعت أبا عبد الله (عَليهِ السَّلام) يقول: نحن قوم فرض الله طاعتنا، وأنتم تأتمّون بمن لا يعذر الناس بجهالته[35]. إلى غير ذلك من أخبار أخر[36].

 

فقد دلّت إن أئمتنا المعصومين (عليهم السَّلام) هم الذين طاعتهم مفترضة، فالإمام المفترض طاعته هو كل واحد منهم، ولا مجال لشموله لغير المعصومين (عليهم السَّلام).

 

قلت: غاية مدلول هذه الأخبار أن هؤلاء المعصومين (عليهم السَّلام) طاعتهم مفترضة. بل وأن المراد بأولي الأمر المذكور في آية إيجاب إطاعتهم هو خصوصهم، وأما انحصار من يجب طاعته من أولياء الأمر الذين ولايتهم مشروعة فيهم فلا دلالة لهذه الروايات ولا لنظائرها عليه، كيف وقد عرفت تمامية دلالة أخبار معتبرة عديدة على مشروعية ولاية الفقيه زمن الغيبة بل وزمن الحضور أيضاً، كما عرفت تمامية دلالة الأدلة على وجوب الإطاعة عنه، وأن طاعته في الأمور المفوّضة شرعاً إليه مفترضة، فلا محالة هو حينئذٍ إمام مفترض الطاعة فيكون مشمولاً للإمام المفترض طاعته، ولا يقتضي خبر الدّهان حرمة الجهاد معه وبأمره، بل يقتضي جوازه.

 

نعم، بين الفقيه الولي والإمام المعصوم فرقٌ وهو أن الإمام المعصوم نصبه للولاية والإمامة متحقق من الله تعالى وبلا أية حالة منتظرة، بخلاف الفقيه فإن فعلية ولايته ـ بعد فرض واجديته للشرائط ـ منوطة بإبراز قيامه مقام تولّي أمور الأمة كما مرّ تفصيله، ولعلّه لذلك قالوا: «نحن قومٌ فرض الله عز وجل طاعتنا» بمعنى أنه لا يشترط في فرض طاعتنا أزيد من وجودنا بلا اعتبار قيامنا مقام تولّي أمر الأمة، والله العالم.

 

فالمتحصل من الأدلة جواز قيام الوليّ الفقيه أيضاً بالجهاد الابتدائي لشمول إطلاق الأدلة له مثل الجهاد الدفاعي، مع أن أدلة خاصة تدل على جواز القيام بالجهاد الدفاعي زمن ولاة الجور أيضاً.

 

فقد روى الكليني في الصحيح عن يونس عن أبي الحسن الرضا (عَليهِ السَّلام) قال: قلت له: جعلت فداك إن رجلاً من مواليك بلغه أن رجلاً يعطي السيف والفرس في سبيل الله، فأتاه فأخذهما منه وهو جاهل بوجه السبيل، ثم لقيه أصحابه فأخبروه أن السبيل مع هؤلاء لا يجوز وأمروه بردهما، فقال: فليفعل، قال: قد طلب الرجل فلم يجده وقيل له: قد شخص الرجل، قال: فليرابط ولا يقاتل، قال: ففي مثل قزوين والديلم وعسقلان وما أشبه هذه الثغور؟ فقال (عَليهِ السَّلام): نعم، فقال له: يجاهد؟ قال: لا، إلاّ أن يخاف على ذراري المسلمين (فقال:) أرأيتك لو أن الروم دخلوا على المسلمين لم ينبغي لهم أن يمنعوهم؟ قال: يرابط ولا يقاتل، وإن خاف على بيضة الإسلام والمسلمين قاتل فيكون قتاله لنفسه وليس للسلطان. قال: قلت: فإن جاء العدو إلى الموضع الذي هو فيه مرابط كيف يصنع؟ قال: يقاتل عن بيضة الإسلام لا عن هؤلاء لأن في دروس الإسلام دروس دين محمد (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم)[37].

 

وهو في إيجاب الجهاد الدفاعي زمن ولاة الجور دالّ بالصراحة، وتعليله الأخير شاهد على ثبوت هذا الوجوب في جميع الأزمنة حتى في ولاية الفقيه أيضاً، وقد روى الحديث بهذا المضمون في تهذيب الشيخ وعلل الشرائع وقرب الإسناد، فراجع الوسائل[38].

 

تكملة

 

في أنّ أمر الصلح أيضاً بيد الولي الفقيه

 

ومقصودنا أنه في ما إذا كان الصلح مع المحاربين مشروعاً في قالب الجواز المحض أو الوجوب فأمر أصل عقد الصلح معهم بيد الولي الفقيه يعقده بنفسه أو بمن هو مأذون من قبله.

 

وقد ذكرنا هذا المطلب عند البحث عن وكول أمر الجهاد إلى الولي المعصوم (عَليهِ السَّلام) تكملة لذاك المبحث، وقد استدللنا له بوجهين كلاهما جار في مبحثنا هذا.

 

فأولهما: أنه لازم قطعي عند العقلاء جميعاً لولاية والٍ بنحو الإطلاق على أمة، فإن مقتضى هذه الولاية أن يكون إلى الوالي مهام أمور الأمة، ولا ريب في أن من أوضح هذه المهام الصلح مع الأعداء إذا اقتضته المصلحة، فعلى ولي الأمر التفكر بالمقدار اللازم والعزم على الصلح إذا اقتضته المصلحة، كما أن على الرعية لزوم إتباعه. وبالجملة: فالأخبار الدالة على ثبوت ولاية أمر الأمة للفقيه الجامع للشرائط تدل على أن إليه أمر جهاد الأعداء والبغاة، وعلى أنّ عليه وإليه أمر عقد الصلح بلا فرق فيه بين كون ولي الأمر معصوماً أو غير معصوم.

 

والوجه الثاني: أن لازم كون أمر الجهاد بيد الولي الفقيه أن يكون أمر الصلح أيضاً بيده، وذلك أنه إذا كان أمر الصلح أيضاً بيد الفقيه الذي هو وليّ أمر الأمة فلا يلزم محذور، وأما إذا جاز لغيره أيضاً عقد الصلح فإن عقده حينئذٍ فلا محالة يكون عقده لازم الإتباع، ومعه فليس لولي الأمر القيام بالجهاد، فلم يكن أمر الجهاد موكولاً إليه، وهو خلف، فلا يمكن مع فرض أنّ أمر الجهاد بيد الولي الفقيه ـ كما مرّ الدليل عليه ـ فلا يمكن أن يكون أمر الصلح بيد غيره أصلاً.

 

كما أنه إذا أقدم ولي الأمر على عقد الصلح والتزم به فإن لم يكن عقده واجب الإتباع على غيره جاز للرعية الإقدام على الجهاد، وهو منافٍ لما قد مرّ من أن أمر الجهاد بيد الولي الفقيه.

 

وبالجملة: فلازم وكول أمر الجهاد إلى الولي الفقيه أن يكون أمر الصلح موكولاً إليه.

 

ويدل على المطلوب أيضاً ـ مؤكداً للوجه الأول ـ قول أمير المؤمنين (عَليهِ السَّلام) في عهده المبارك للأشتر: ولا تدفعنّ صلحاً دعاك إليه عدوك ولله فيه فإن في الصلح دعةً لجنودك وراحةً من همومك وأمناً لبلادك[39].

 

 بيان الدلالة: أنه لا ريب في دلالته على أن أمر عقد الصلح مع العدوّ إلى مالك، وقد تقدم منّا قبيل هذا أنه بعبارة أخرى بيان لمقتضى إطلاق الولاية على بلد مصر مثلاً، فلا محالة يدل على أنّ الولاية المطلقة أينما تحققت فلازمها أن يكون أمر الصلح مع أعدائها بيد ولي الأمر، وحيث إنّ ولاية الفقيه أيضاً مطلقة فاللازم ثبوت هذا الحق له، وهو المطلوب.

 

ومما ذكرناه من إيكال أمر الحرب والصلح مع الأعداء إلى الفقيه الذي تولى أمور الأمة يظهر أن ما يترتّب على الجهاد من تقسيم الغنيمة وسائر ما يلزمه فهو موكول إلى الفقيه المزبور، فإنه لازم قطعي عند العقلاء من إيكال أمر الجهاد إلى ولي الأمر، وقد قدمناه أيضا هناك[40].

 

الفصل الحادي عشر

 

في أنّ بيد الولي الفقيه تعيين البلد غير الإسلامي الذي يصلح إقامة العلاقات معه والذي لا يصلح

 

قد مرّ منا أن شريعة الإسلام وإن كانت عالمية إلاّ أن سيطرتها على كل العالم الأرضي تدريجية، فمهما لم تتحقق هذه السيطرة لها وكانت هناك بلاد عديدة أخر غير مسلمة ولا يكون المسلمون في حالة محاربة معها فربما كان الارتباط مع أي منها مستحسناً في جميع الجهات أو في بعضها، وربما كان غير مستحسن بالمرّة، فتعين كل من هذه البلاد وتعيين مقدار الارتباط المستحسن أو غير المستحسن بيد الولي الفقيه كما كان كل منهما بيد الولي المعصوم (عَليهِ السَّلام) حسبما مرّ.

 

والدليل عليه هنا هو عين ما استدللنا به هناك، وقد كررناه مراراً، وهو أن ولاية أمر بلدةٍ وأهلها تقتضي وكول أمر الأمور الاجتماعية التي لهذه البلدة وأهلها إلى ولي أمرهم، ولا ريب في أن من مهام هذه الأمور إيجاد الارتباط مع ما يكون الارتباط معه مستحسناً وتركه في ما كان غير مستحسن، وهكذا تعيين الجهة المستحسن الارتباط فيها والجهة غير المستحسنة، فأدلة إثبات الولاية المطلقة لأحد على بلد الإسلام والمسلمين هي بعينها دليل ثبوت حق تعيين أمر البلاد الأخر من الجهة المزبورة له من دون تفاوت أصلاً بين أن يكون ولي الأمر معصوماً أو فقيهاً أو عدلاً أو عدولاً من المؤمنين أو غيرهم.

 

الفصل الثاني عشر

 

في أنّ على الولي الفقيه صرف المال

 

الهدف من هذا الفصل لإثبات أن الشارع أوجب على الولي الفقيه أيضاً صرف الأموال في موارد إجمالاً لكي يستنتج منه لا محالة أن الشرع قد قرّر له منابع مالية، ولسنا بصدد تبيّن تلك الموارد كما مرّ منّا بيانه عند البحث عن وجوب مثله على الولي المعصوم (عَليهِ السَّلام) أيضاً[41].

 

وقد استدللنا لإثبات ذلك للنبي والإمام المعصوم (عليهم السَّلام) بآيتي الأمر بأخذ النبي للصدقة من أموال المسلمين[42] وبيان مصرف زكاة المال[43] بانضمام الأخبار الدالة على جريان الحكم في الإمام (عَليهِ السَّلام) أيضاً أو الدالة على أنّ النبي (صلّى اللهُ علَيهِ وآلهِ وَسلّم) كان يوجّه عمال أخذ الزكاة والطسوق، فإنّ المستفاد منها أنّ الولي المعصوم (عَليهِ السَّلام) بعد ما اخذ الزكاة فهو مأمور بمصرفها في المصارف الثمانية.

 

كما قد استدللنا له بموارد متعددة من إيجاب صرف المال مذكورة في عهد أمير المؤمنين (عَليهِ السَّلام) للأشتر حين ولاّه مصر، وبما أنه كان وليّاً على مصر بتولية ولي أمر المسلمين فيعلم منه أن ولي أمر الأمة يجب عليه صرف المال في تلك الموارد وما هو من قبيلها، ولذلك وجب صرفه فيها على مالك الأشتر.

 

وهنا نقول: لا يبعد دعوى أن ثبوت هذا التكليف لمثل مالك إنّما هو لمجرد أنه ولي أمر الرعية في مصر وأن كل من صار ولي أمر أمة فعليه أن يصرف المال في مثل تلك الموارد، فإذا فرض صيرورة الفقيه ولي أمر الأمة فلا محالة يجب عليه هذا التكليف، بل ربما تلغى الخصوصية عن الولي المعصوم (عَليهِ السَّلام) أيضاً.

 

ونزيد عليه أن في كلام أمير المؤمنين (عَليهِ السَّلام) في هذا الكتاب المبارك قرائن عديدة تدل على أن ثبوت هذه الوظيفة على مالك إنّما هو لأنه ولي الأمر.

 

1ـ فمن هذه القرائن ما نصّ (عَليهِ السَّلام) عليه في أول هذا الكتاب المبارك بقوله: هذا ما أمر به عبد الله علي أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصر جباية خراجها وجهاد عدوّها واستصلاح أهلها وعمارة بلادها[44].

 

فإنه دالّ بوضوح على أن كل ما أوجبه عليه إنّما هو بعناية أنه ولي على مصر وأهلها، فكل من كان ولي أمر امة في الشريعة تثبت عليه هذه الوظائف، وقد عدّ من هذه الوظائف جباية خراج مصر الذي لا ريب في أن جباية الخراج مقدّمة لمصرفه في المصارف المقرّرة له شرعاً، وأنّ على ولي الأمر صرفه فيها.

 

2ـ ومنها قوله (عَليهِ السَّلام): فالجنود بإذن الله حصون الرعية وزين الولاة وعز الدين وسبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلاّ بهم، ثم لا قوام للجنود إلاّ بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقومون به على جهاد عدوهم ويعتمدون عليه في ما يصلحهم ويكون من وراء حاجتهم[45].

 

فهذه الفقرة علاوة على دلالتها على وجوب صرف الخراج الذي جباه مالك في ما يصلحهم وحوائجهم تدلّ على أنّ الجنود حصون الرعية وزين الولاة، فإيجاب صرف الخراج فيهم إيجاب لصرفه على الولاة، ولا ريب في أنّ الفقيه أيضاً من الولاة كمالك، على أنّ سعة ولاية الفقيه أكثر، فيجب على الوليّ الفقيه أيضا صرف المال في موردهم.

 

3ـ ومنها قوله (عليه السلام) قبل الفقرة السابقة وبعدها: وأعلم أنّ الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلاّ ببعض، ولا غنى ببعضها عن بعض: فمنها جنود الله، ومنها كتّاب العامّة والخاصّة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمّال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمّة ومسلمة الناس، ومنها التجّار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوى الحاجة والمسكنة، وكلّ قد سمّى الله له سهمه، ووضع على حدّه فريضةً في كتابه أو سنّة نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) عهداً منه عندنا محفوظاً.

 

فالجنود بإذن الله حصون الرعية وزَين الولاة وعزّ الدين وسُبل الأمن، وليس تقوم الرعية إلاّ بهم. ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به على جهاد عدوّهم، ويعتمدون عليه في ما يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم.

 

ثم لا قوام لهذين الصنفين إلاّ بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتّاب، لما يحكمون من المعاقد، ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامّها. ولا قوام لهم جميعاً إلاّ بالتجار وذوي الصناعات فيها يجتمعون عليه من مرافقهم، ويقيمونه من أسواقهم، ويكفونهم من الترفق بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذي يحق رفدهم ومعونتهم.

 

وفي الله لكل سعة، ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه، وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك إلاّ بالاهتمام والاستعانة بالله، وتوطين نفسه على لزوم الحق، والصبر عليه في ما خف عليه أو ثقل[46].

 

فهو (عَليهِ السَّلام) قد عدّ طبقات الرعية سبعة لا غنى ببعضها عن بعض، وصرّح بأن صلاح كل منهم مرتبط بصلاح الآخرين. ومن المعلوم أن الجنود والكتاب والقضاة والعمال بحاجة إلى أن يبذل لهم ما يكفي لمعيشتهم، كيف لا وهم بعبارة أخرى عمال الحكومة يستحقون أجرة أعمالهم. كما أن الطبقة السفلى بحاجة جداً إلى قضاء حوائجهم الذي يحتاج في الغالب إلى صرف الأموال. بل إن عمارة أرض الخراج أيضاً بحاجة إلى صرف الأموال لمثل تسطيح الأرض وإعداد الماء بمثل شق الأنهار والإتيان به من الأنهار ذوات الماء الكبيرة وبمثل حفر الآبار سيما في مثل زماننا، وهكذا أمر التجار وذوي الصناعات، فإن حصول الأمن لتجارتهم والسهولة لنقل الأعراض التي يحملونها إلى البلاد والأمكنة المختلفة بحاجة إلى سبل ذوات أمن وصحة وصلابة، وهي لا تكون إلاّ بصرف أموال لتحصيلها. وصرفها بحسب العرف العقلائي على عهدة الدولة ومسؤوليتها، والى هذه الجهة يشير قوله في الفقرات الأخيرة: «وفي الله لكل سعة، ولكل على الوالي حق بقدر ما يصلحه، وليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه الله من ذلك إلاّ بالاهتمام والاستعانة بالله، وتوطين نفسه على لزوم الحق، والصبر عليه في ما خف عليه أو ثقل» فهي تصريح بلزوم صرف الأموال في جميع الموارد المذكورة. وقد عبّر عمّن يجب عليه من الله تعلى صرف الأموال فيها بالوالي، فمورد كلامه وإن كان مالك الأشتر إلاّ أنه لا يجب عليه بما انه شخص بل بما أنه والي الناس، فالواجب عليه صرف الأموال هو الوالي وهو عنوان صادق على وليّ الأمر الفقيه أيضاً، بل وعلى عدول المؤمنين بل وفسّاقهم إذا انتهى الأمر شرعاً إلى ولايتهم.

 

4ـ ومنها قوله (عَليهِ السَّلام) في وظيفته بالنسبة إلى الطبقة السفلى من الرعية:  واحفظ لله ما استحفظك من حقّه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك وقسماً من غلاّت صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكل قد استرعيت حقّه، فلا يشغلنك عنهم بطر... وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه، وذلك على الولاة ثقيل والحق كله ثقيل[47].

 

ودلالته على وجوب صرف بيت المال والخراج والزكاة في الطبقة السفلى واضحة وتعبيره الأخير بقوله: «وذلك على الولاة ثقيل» دليل على أن سر هذا الإيجاب عليه أنه ولي الأمر بالنسبة لهم، فيدل على ثبوت هذا الإيجاب على كل من كان ولي أمر الأمة فيعم الولي الفقيه أيضاً.

 

ومنها موارد أخر مذكورة في الكتاب عبر بالوالي يظفر بها المتتبع المتأمل، وهذه الموارد العديدة قرينة قطعية على أن ثبوت هذه الوظائف المالية على مالك الأشتر إنّما هو بملاك أنه ولي الأمر على مصر وأهلها، فيستفاد منها بوضوح أن هذه الوظائف ثابتة على الفقهي الذي صار ولي أمر الأمة، بل وعلى غيره من عدول المؤمنين، بل وفسّاقهم إذا صاروا أولياء أمور الأمة.

 

وهنا طريق ثالث لإثبات وجوب صرف المال على وليّ الأمر بلا فرق بين أن يكون معصوماً أو فقيهاً أو غيره ممن يتولى إدارة أمر الأمة وذلك في جميع الموارد التي ثبت فيها وجوب صرف المال فيها على الولي المعصوم (عَليهِ السَّلام)، وهذا الطريق أن جميع تلك الموارد قد قامت الأدلة على أن اختيار جميعها بيد ولي الأمر، وهو موظف من جانب الشرع برعايتها وأداء الوظيفة اللازمة فيها، فأمر عمّال الحكومة بسعتهم المحتاج إليها في بلاد الولاية الإسلامية بيد ولي أمر الأمة، وهكذا أمر القضاة، بل وهكذا أمر استصلاح الرعية وعمارة البلاد. وقد مرّ في الفصول الماضية أن جميع هذه الاختيارات والوظائف ثابتة لكل من كان ولي أمر الأمة وعليه وإن كان فقيهاً جامعاً للشرائط أو من عدول المؤمنين بل أو من فسّاقهم.

 

وحينئذٍ فإذا قامت أدلة معتبرة على أنه يجب على النبي والإمام والولي المعصوم (عَليهِ السَّلام) إنفاق ما يحتاج إليه من المال في هذه الموارد علم أن قوام الولاية الإسلامية بأن على ولي الأمر إنفاق الأموال في تلك الموارد كما لعلّه المتعارف في دول العالم أيضاً. فإيجاب إنفاق المال على الولي المعصوم (عَليهِ السَّلام) في تلك الموارد ليس لخصوصية في المعصوم بل لأجل أن تولية أحد على مثل هذه الموارد تستلزم تجويز أو إيجاب إنفاق المال فيها، ولأجل ذلك يثبت هذا التكليف لكل من فوض إليه إدارتها وإن كان فقيهاً جامعاً للشرائط أو غيره ممن يفوض الشرع إليه.

 

والإنصاف أن هذا الطريق أيضاً كسابقيه واضح الدلالة على المطلوب جداً.

 

والموارد الخاصّة المذكورة إنّما هي من باب الأنموذج لما يجب أو يجوز صرف المال فيه، وإلاّ فبلاد المسلمين بل والبلاد الواقعة تحت ولاية أمر الولي وأهل تلك البلاد كلها وكلّهم تحت ولاية ولي الأمر، وهو مأمور بعمارتها واستصلاح أهلها فإنه لازم الولاية قطعاً، ولذلك ذكر أمير المؤمنين (عَليهِ السَّلام) في أول كتابه إلى الأشتر «حين ولاّه مصر... استصلاح أهلها وعمارة بلادها» ففي كل مورد يحتاج إصلاح أمر الرعية وعمارة البلاد والأمكنة إلى صرف مال كان صرفه فيها من اختيارات ولي الأمر ووظائفه، ومن أجل ذلك نصل إلى أن في الشريعة الإسلامية بيت مال يكون تحت اختيار ولي الأمر. وللأمر تتمة مقال بعهدة ما يلي إن شاء الله تعالى.

 

ـــــــــــــــــــ

 

[1] علل الشرائع: ج1 الباب 182 ص 265 ضمن الحديث 9.

 

[2] المصدر السابق: ص 53 ضمن الحديث 2.

 

[3] الوسائل: الباب 31 من أبواب صلاة العيد ج5  ص 136 الحديث 1، أخرجه عن الكافي والتهذيب والفقيه وعلل الشرائع.

 

[4] الصحيفة السجادية: الدعاء رقم 48.

 

[5] الوسائل: الباب 17 من أبواب صلاة العيدين ج5 ص 119 الحديث 9، أخرجه عن التهذيب.

 

[6] الوسائل: الباب 1 من أبواب صلاة العيد ج5 ص 104 الحديث1، أخرجه عن الفقيه والكافي.

 

[7] ج1 ص 410.

 

[8] راجع ج1 ص 418ـ 426.

 

[9] راجع ج1 ص 427ـ 433.

 

[10] المقنعة: ص 810.

 

[11] الكافي في الفقه: ص 246 طبعة أطفهان.

 

[12] المراسم: ص 264 طبعة المجمع العالمي لأهل البيت (عَليهِم السَّلام).

 

[13] إصباح الشيعة: ص 187.

 

[14] الغنية: ص 199 طبعة مؤسسة الإمام الصادق (عَليهِ السَّلام).

 

[15] التوبة: 111 و112.

 

[16] الكافي: ج5 ص 22 الحديث1.

 

[17] الوسائل: الباب 12 من أبواب جهاد العدو ج11 ص 34 الحديث  6، أخرجه عن الكافي.

 

[18] نهج البلاغة: الخطبة 97ص 141، تمام نهج البلاغة: الخطبة 161 ص 503.

 

[19] تمام نهج البلاغة: الخطبة 61 ص 491 و 524.

 

[20] المصدر السابق: ص 492.

 

[21] تمام نهج البلاغة: ص 494 و497 و 498.

 

[22] نهج البلاغة الكتاب 53 ص 426 ـ 428.

 

[23] نهح البلاغة: الكتاب 53 ص 426 ـ 428.

 

[24] الخلاف: ـ جمع الخلف ـ وهو من يبقى في الحيّ من النساء والعجزة بعد نفر الرجال.

 

[25] نهج البلاغة: الكتاب 53 ص 433.

 

[26] علل الشرائع: ص 464 طبعة النجف، عنه الوسائل: الباب 12 من أبواب جهاد العدو ج11 ص 34 الحديث 8.

 

[27] الخصال: ص 625 ضمن الحديث 10، عنه الوسائل: الباب السابق.

 

[28] التهذيب: ج6 ص 135 الحديث 3، عنه الوسائل: الباب السابق الحديث 7.

 

[29] العيون: الباب 35 ج2 ص 124 الحديث 1، عنه الوسائل: الباب 1 من أبواب جهاد العدو ج11 ص11 الحديث 24.

 

[30] تحف العقول: 419، عنه الوسائل: الباب 12 من أبواب جهاد العدوّ ج 11 ص 35 الحديث 10.

 

[31] الخصال: ص 607 ضمن ح9، عنه الوسائل: الباب السابق الحديث 9.

 

[32] الكافي: ج5 ص 23 الحديث 3 وص 27 الحديث 2، عنه الوسائل: الباب السابق ص 32 الحديث1.

 

[33] الكافي: ج1 باب فرض طاعة الأئمة ص 186ـ 189 الحديث 7. والآيتان المذكورتان هما 59 من سورة النساء و55 من سورة المائدة.

 

[34] الكافي: ج1 باب فرض طاعة الأئمة ص 186 ـ 189 الحديث 6و3.

 

[35] المصدر السابق.

 

[36] راجع الباب المذكور من الكافي: وتفسير البرهان: ذيل آية وجوب إطاعة أولي الأمر و...

 

[37] الكافي: ج 5 ص 2 الحديث 2.

 

[38] الباب 6 من أبواب جهاد العدو ج11 ص 19 الحديث 2، والباب 7 منها ص 21 الحديث 2.

 

[39] نهج البلاغة: الكتاب 53 ص 442.

 

[40] راجع ج1 ص 434 ـ 538.

 

[41] راجع ج1 ص 541.

 

[42] التوبة 103.

 

[43] التوبة 60.

 

[44] نهج البلاغة: الكتاب 53 ص 426.

 

[45] نهج البلاغة: الكتاب 53 ص 422.

 

[46] نهج البلاغة: الكتاب 53 ص 431 و432.

 

[47] نهج البلاغة: الكتاب 53 ص 438.