بسم الله الرحمن الرحيم

 

{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}

 

آل عمران: 169 ـ 175.

 

روي عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أنه قال:

 

«الخير كله في السيف وتحت ظل السيف».

 

وقال:

 

«إن الله أعزّ أمتي بسنابك خيلها ومراكز رماحها».

 

وقال:

 

«من لم يغزُ ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق».

 

وقال:

 

«فوق كل ذي برٍّ برٌّ، حتى يقتل في سبيل الله، وإذا قتل في سبيل الله فليس فوقه برّ».

 

وروي عن الرسول الأعظم أنه قال لسبطه الحسين:

 

«إن لك منزلة عند الله لا تنالها إلا بالشهادة».

 

قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام):

 

«أما بعد فان الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه، وهو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجنته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل وشملة البلاء، وديث بالصَّغار والقمامة، وضرب على قلبه بالأسداد، وأديل الحق منه بتضييع الجهاد، وسيم الخسف، ومنع النصف».

 

(نهج البلاغة)

 

سأمضي وما بالموت عار على الفتى             إذا ما نـوى خيـراً وجاهدَ مسلما

 

وواسى رجلاً صالحـيـن بنفسـه           وخالف مثبوراً وفـارق مـجـرما

 

فإن عشت لم أندم وإن متّ لـم ألم          كفـى بك ذلاًّ أن تـعيش وترغمـا

 

الحسين بن علي (عليه السلام) مستشهداً بها

 

«القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة».

 

زينب بنت علي (ع)  

 

الشهادة والشهيد

 

حين ينحرف المجتمع الإنساني عن خط الله.. عن خط الفطرة الإنسانية.. يبرز (الطاغوت) ليسيطر على مقدرات أبناء ذلك المجتمع، فيذبح أبناءهم مستهيناً بأرواحهم، ويستحيي نساءهم منتهكاً أعراضهم، ويسومهم سوء العذاب باستغلال كل طاقاتهم ومواهبهم من أجل تحقيق أهدافه الخبيثة.

 

والتاريخ يحدثنا أن الأمم والشعوب تلجأ غالباً ـ أمام ظاهرة التفرعن والطغيان ـ إلى السكون والسكوت، وإلى الابتعاد عن كل ما يثير غضب الطاغوت أو يسيء إلى مصالحه.. بل وتعمد إلى التزلف والتملق إليه طلباً لرضاه وتجنباً لسخطه.. وفي مثل هذه الحالة تضرب على تلك الأمم والشعوب الذلة والمسكنة، وتتحول إلى جسد ميت لا حراك فيه ولا إحساس بما يعانيه من بطش وتنكيل، إذ «ما لجرح بميت إيلام»...

 

مثل هذا المجتمع المستسلم المشول، لا يمكن أن يتحرك إلا أن يكسر طوق الذل المفروض عليه، ولا يمكن أن يتململ إلا بتزريق دم جديد ساخن متدفق في جسده، ولا يمكن أن ينهض إلا أن يرى أمامه نموذجاً تحدي أجواء الإرهاب والتخويف، وكسر كل قيود الذل والعبودية، وضحى بكل ما لديه من أجل الوقوف بوجه الانحراف في المجتمع.

 

وهذا ما يفعله الشهيد..

 

الشهيد يتحدى ما ألفت عليه الأمة من خضوع واستسلام، ويتجاوز جميع الموانع والسدود التي نصبها الطاغوت أمام تحرك الأمة ونهوضها.. ثم يقدم أعزّ ما لديه.. بل كل ما لديه..

 

ونهوضها.. ثم يقدم أعز ما لديه.. بل كل ما لديه.. يقدم دمه.. وروحه، من أجل مقاومة الانحراف.. وهذا الدم يتحول إلى طاقة تدخل جسد الأمة، فتحركه وتدفعه نحو الثورة على الظلم والاستعباد.

 

فالشهادة إذن عملية إحياء وإيقاظ للأمة.. وتحدٍّ لكل ممارسات الطواغيت الرامية إلى استعباد الشعوب، وإنقاذ للمجتمع البشري من الاستكبار المهيمن.  

 

الشهادة في الإطار الإسلامي

 

الدين الإلهي يدعو البشرية إلى العودة إلى الفطرة الإنسانية، ولا تتم هذه العودة دون اقتلاع جذور الطواغيت والفراعنة من المجتمع البشري.. وهكذا فعل الدين.. فقد تحدى فرعون ونمرود وقارون وأبا جهل وكسرى وقيصر ودك حصونهم، وأطاح بمكانتهم وعروشهم.. وما كان ذلك يتم لولا أن بث الدين روح الشهادة في نفوس أتباعه، وانتنزعهم من الخلود إلى الأرض، وغيّر المفاهيم والنفسيات السائدة في المجتمعات البشرية.

 

والإسلام باعتباره المرحلة المتكاملة الأخيرة من الدين الإلهي، ركز على الشهادة لبث الروح والحركة في أتباعه من أجل القضاء على روح التفرعن والطغيان في المجتمع الإسلامي، لصيانة هذا المجتمع من الذل والمسكنة والاستسلام.

 

لقد تجلت عظمة الإسلام في خلق الجماعة المؤمنة المترفعة عن كل ما يشدها بالأرض، والمتعالية على كل عوامل ضعف النفس الإنسانية. فخلق الإنسان الذي يستبشر بالشهادة ويتوق إليها توق الرضيع إلى ثدي أمه، وخلق المجموعة المندفعة نحو ساحات الشهادة لإخراج البشرية من ذل الجاهلية إلى عز الإسلام، ومن ضيق الشهوات المادية إلى رحاب التكامل الإنساني، ومن عبودية الطاغوت والآلهة المتفرقة إلى عبودية الله الواحد الأحد.

 

كتب السير والتواريخ تنقل لنا صوراً رائعة عن هذه التربية الإسلامية في صدر الإسلام.

 

فهذا علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ يقول:

 

«إنه لما أنزل الله سبحانه، قوله: { الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُون} علمت أن فتنة لا تنزل بنا ورسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بين أظهرنا.

 

فقلت: يا رسول الله، ما هذه الفتنة التي أخبرك الله تعالى بها؟

 

فقال: يا علي، إن أمتي سيفتنون من بعدي.

 

فقلت: يا رسول الله، أوليس قد قلت لي يوم أحد حيث استُشهد من استُشهد من المسلمين، وحيزت عني الشهادة، فشق ذلك علي، فقلت لي: «أبشر فأن الشهادة من ورائك»؟

 

فقال لي: إن ذلك لكذلك، فكيف صبرك إذن؟

 

فقلت: يا رسول الله، ليس هذا من مواطن الصبر، ولكن من مواطن البشرى والشكر»‍.

 

وهذا «خثيمة» وهو من عامة الناس يتنازع مع ابنه ليسبقه في الشهادة.

 

وهذا «عمر بن الجموح» يصر ـ وهو أعرج ـ على أن يطأ الجنة بعرجته، ولم يلتفت إلى نصح أبنائه، فيستأذن الرسول ـ ص ـ ويحقق أمنيته في معركة أحد.

 

وامرأة «عمرو بن الجموح» تأتي إلى ساحة معركة أحد فتحمل جثة زوجها وابنها وأخيها وتقفل راجعة للمدينة، مجيبة كل من يسألها عن الخبر: «خيراً.. النبي سالم والحمد لله.. ورد الله الذين كفروا بغيظهم»‍‍!! 

 

روح الشهادة على خط آل بيت رسول الله (ص)

 

حين غرس الإسلام روح الشهادة في نفوس أتباعه وركز هذا المفهوم في القلوب والنفوس فإنه أودع في ضمير هذه الأمة ضمان استمرار بقائها وعزتها وحياتها وحركتها.

 

روح الشهادة هي التي صانت المجتمع الإسلامي في عصور التاريخ الإسلامي من الانحراف التام عن خط الرسالة، وهي التي بعثت الحياة في جسد الأمة متى ما اعترى هذا الجسد خمود وركود، ومتى ما استفحل الانحراف فيه.

 

ومن الطبيعي أن تكون الطليعة المؤمنة من أبناء الأمة هي السباقة لهذه التضحية، لأنها أكثر إحساساً بمسؤوليتها وأكثر اندفاعاً نحو الفوز برضوان الله.

 

وقدر لهذه الطليعة أن تتجسد على مسرح التاريخ الإسلامي غالباً في آل بيت رسول الله وإتباع مدرستهم.. ويكفي إلقاء نظرة واحدة على كتب الرجال والسير والتاريخ.. بل على كتاب «مقاتل الطالبيين» فقط، للتأكد من هذه الحقيقة، فالكتاب يذكر مواكب الشهداء من آل محمد (ص) وأتباع آل محمد التي وقفت بوجه الانحراف وتحملت التشريد والإرهاب والسجون والتعذيب والقتل.

 

هذه القوافل من الشهداء هي التي صانت الإسلام في العصور المختلفة من كيد الكائدين وحافظت على معنويات الأمة، وضخت في شرايينها دماءً زكية نقية ومنحتها الحيوية والصمود والبقاء ووقتها من الوهن والنكول والزيغ والانحراف.  

 

رأس الحربة في تاريخ الإسلام الثوري

 

«تاريخ أمتنا النضالي تاريخ مضي؛ فالثورات التي قامت بها أمتنا عبر العصور كانت دائماً تعبر تعبيراً تلقائياً حراً عن هذه الأمة، وعن إنسانيتها، وعن رغبتها الحارة في أن تعيش متمتعة بكافة حقوقها الإنسانية.

 

وتأتي ثورة الحسين ـ عليه السلام ـ كربلاء على رأس هذا التاريخ.. فهي رأس الحربة في التاريخ الثوري، هي الثورة الأولى التي عبأت الناس ودفعتهم في الطريق الدامي الطويل، طريق النضال، بعد أن كادوا أن يفقدوا روحهم النضالية بفعل سياسة الأمويين.

 

وهي أغنى ثورة بالعزم والتصميم على المضي في النضال الدامي إلى نهايته أو النصر، فقد عرضت على الثائرين أمتع حياة، ولكنهم أبوا هذه الحياة، التي سيسكتون معها عن الظلم والتعسف وإرهاب الأمة[1].

 

هذه الثورة اتجهت بالدرجة الأولى إلى كسر طوق الإرهاب والتخويف الذي فرض على الأمة وإلى تزريق جسد الأمة ـ الذي أريد له أن يشل ـ بدم جديد ساخن متدفق.

 

لقد أساء نفر فهم هذه الثورة، حيث وصفها بأنها انتهت بفشل الحسين وانتصار اعدائه، أساء فهمها لأنه قاسها بالمفاهيم السائدة اليوم عن الفشل والانتصار، ولم يفهم منطق الشهداء الثائرين.

 

منطق سيد الشهداء الحسين بن علي نفهمه من أقواله التي رددها يوماً وهو في طريقه إلى كربلاء، ومنها:

 

سأمضي وما بالمـوت عار على الفتى                إذا ما نوى خـيـراً وجـاهـدَ مسلما

 

وواسى رجلاً صالحيـن بـنـفسـه            وخالف مثـبـوراً وفارق مجــرمـا

 

فإن عشت لم أندم وإن مـتّ لـم ألم          كفى بـك ذلاًّ أن تـعـيش وتـرغـما

 

ومنها أيضاً:

 

«والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبيد؛ إلا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك، ورسوله والمؤمنون، وجدود طابت، وحجور طهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام».

 

وقال أيضاً يخطب أصحابه:

 

«أما بعد؛ فقد نزل من الأمر بنا ما ترون. وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت، وأدبر معروفها، ولم يبق منها إلا صُبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل. إلا ترون إلى الحق لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله؛ فإني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برماً».

 

وكان يقول كثيراً:

 

«موت في عز خير من حياة في ذل».

 

وثورة هذا منطقها لا تستهدف تحقيق نصر آني على العدو، ولا ترمي إلى فوز عسكري، بل إنها ذات هدف اجتماعي، تريد أن تقدم المثل السامي للموقف الذي ينبغي أن يتخذه الإنسان المسلم من الظلم والظالمين.. إنها تجسيد لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حين يتطلب هذا المبدأ بذل كل غال ونفيس.. حتى الدم والنفس.

 

«إني لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي؛ أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر؛ فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين».

 

هذه الثورة حققت نصرها الكبير في استنهاض المسلمين وفي بث الروح والحياة في الجسد الذي أوشكت روحه النضالية على الضمور والخمود، كما دخلت ضمير الأمة لتبعث فيها هزة متى ما اعتراها ركود وجمود.  

 

منطق الشهيد والشهادة

 

ذكرتُ في مقدمة ترجمة كتاب (شهيد يتحدث عن الشهيد) للأستاذ الشهيد مطهري: «إن الحديث عن الشهادة والشهيد لا يمكن أن يصاغ بعبارات علمية، ولا بمعادلات رياضية؛ إذ إنه حديث (الروح) لا حديث (العقل).

 

التحليلات الفلسفية والعلمية والعقلية لا تستطيع أن تخلق الإنسان المجاهد، ولا بمقدورها أن تبعث في الموجود البشري اندفاعاً نحو الاستشهاد.

 

الشهيد إنسان ارتفعت روحه إلى مستوى الشهادة، وتحررت روحه من قيود الشهوات الهابطة، فأضحى منطقه منطقاً جديداً قد لا يفهمه (العلماء) و(الفلاسفة) و(عقلاء القوم)!

 

إنه منطق آخر لا أستطيع أن أعبر عنه أكثر مما عبر عنه الأستاذ الشهيد مطهري في كتابه المذكور حين تحدث عن (منطق الشهيد ) وقال:

 

«لكل إنسان منطق خاص، وطريقة تفكير خاصة. ولكلٍّ معايير ومقاييس يحدد بموجبها موقفه من المسائل والظواهر المختلفة.

 

وللشهيد منطق خاص.. إنه (منطق الشهيد) الذي لا يمكن قياسه بمنطق الأفراد العاديين؛ فمنطق الشهيد أسمى.. إنه مزيج من منطق المصلح ومنطق العاشق.. منطق المصلح الذي يتضور قلبه ألماً لمجتمعه، ومنطق العارف العاشق للقاء ربه.

 

بعبارة أخرى: لو امتزجت مشاعر عارف عاشق للذات الإلهية بمنطق إنسان مصلح لنتج عن ذلك (منطق الشهيد).

 

لا أحسب أنني استطعت أن أعطي (منطق الشهيد) حقه من التصوير والتوضيح، فلأضرب لذلك مثلاً:

 

حين توجه الحسين بن علي ـ عليه السلام ـ نحو الكوفة، أجمع عقلاء القوم على منعه من السفر قائلين: إن عزمه على السفر إلى العراق غير منطقي.

 

وكانوا صادقين فيما يقولون.. لم يكن عزم الإمام ينسجم مع منطقهم.. مع منطق الإنسان الاعتيادي، مع منطق الإنسان الذي يدور فكره حول محور مصالحه ومنافعه. لكن الحسين كان له منطق أسمى، كان منطق الشهيد، ومنطق الشهيد أسمى وأرفع من منطق الأفراد العاديين.

 

لم يكن (عبد الله بن عباس) و(محمد بن الحنفية) من عامة الناس، بل كانا سياسيين عالمين، ومنطقهما منطق السياسة والمصلحة، منطق الحنكة والذكاء الذي يدور حول محور المصلحة الفردية والانتصار الشخصي على المنافسين.

 

وذهاب الحسين إلى العراق عملية خاطئة استناداً إلى هذا المنطق.

 

وهنا تجدر الإشارة إلى اقتراح ذكي قدّمه ابن عباس إلى الحسين..

 

لقد اقترح عليه أن يسلك طريقاً سياسياً من نوع الطرق التي يسلكها (الأذكياء) ممن يتخدرون الناس وسيلة لتحقيق أهدافهم وممن يقفون في المؤخرة دافعين الجماهير نحو مقدمة الجبهة، فإن أحرز النصر نالوا ما جنته يد الجماهير، وأن فشلت الجماهير وقفوا على التل سالمين.

 

قال ابن عباس للحسين:

 

«يا ابن عم، إني أتصبّر ولا أصبر، إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال؛ إن أهل العراق قوم غدر فلا تقربهم! أقم في هذا البلد، فإنك سيد أهل الحجاز؛ فإن كان أهل العراق يريدونك ـ كما زعموا ـ فاكتب إليهم، فلينفوا عاملهم وعدوهم، ثم أقدم عليهم»[2].

 

فابن عباس يريد أن يضع جماهير العراق في مقدمة الجبهة والحسين في المؤخرة.

 

يريد أن يقول للحسين: دع أهل العراق يواجهون العدو بأنفسهم، فإن انتصروا فقد استتب الأمر لك، وإن لم يفعلوا كنت في حل منهم، ولن يصيبك مكروه.

 

لم يعر الحسين أي اهتمام لهذا الاقتراح، وأعلن عن عزمه على الذهاب.

 

فقال له ابن عباس: فإن كنت سائراً، فلا تسر بنسائك وصبيتك.

 

أجابه الحسين: «يا ابن عم، إني لأعلم أنك ناصح مشفق، وقد أزمعت وأجمعت المسير‍‍»!

 

نعم..

 

منطق الشهيد منطق آخر.. منطق الشهيد منطق الاشتعال والإضاءة، منطق الانصهار والانحلال في جسم المجتمع في أجل بعث الحياة في هذا الجسم، وبعث الروح في القيم الإنسانية الميتة.. منطق تسجيل الملاحم.. منطق النظرة البعيدة.. البعيدة جداً.

 

ومن هنا كانت كلمة (الشهيد) مقدسة عظيمة.

 

ومن هنا فإننا لا نعطي الشهيد حقه إن وصفناه انه (مصلح) لأنه فوق المصلحين.

 

أو أنه (بطل) لأنه أعظم من الأبطال.

 

لا يمكن وصف الشهيد إلا أنه (شهيد) وليس بمقدورنا أن نستعمل كلمة أخرى.

 

فلسفة الجهاد في الإسلام (الشهادة أو النصر)

 

د. محمد فتحي الدريني

 

في ما يلي الحلقة الثانية والأخيرة من بحث الدكتور محمد فتحي الدريني «فلسفة الجهاد في الإسلام» وفيه يتحدث عن الجهاد بالنفس والمال واللسان والعلم كما يتطرق إلى أهداف هذا الجهاد وآدابه واعتباره من أفضل الطاعات:

 

الجهاد ـ في الأصل ـ فرض كفاية، يقوم به الجيش المدرب، ممن هم أهل للقتال على أصوله الفنية، فإذا قام بهذه الفريضة سقط الفرض عن الأمة كلها، وإذا لم يقم به احد في زمن ما ـ وهو ما لا يقع ـ أثم الكل من المكلفين العالمين بتركه.

 

وكون الجهاد فرض عين على كل شخص قادر في الدولة إذا هجم العدو، وكان لا يندفع شره ولا يتم إجلاؤه ودحره إلا بجهاد من قبل أهل الوطن جميعا، لان المقصود ليس مجرد إشعال نار الحرب، بل قهر العدو ودحره.

 

الجهاد بالمال واللسان والعلم

 

تعددت صور الجهاد في الإسلام حتى شملت جميع إمكانيات الأفراد وقواهم العقلية والنفسية والمالية والبدنية، وذلك لأن إعداد القوة بأقصى مستطاع ـ وقد اُمرنا بإعدادها ـ لا يتم بغير ذلك، قال تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ} وجاء الأسلوب القرآني الكريم بالتعميم: {من قوة} دون اقتصار على نوع معين منها، فشمل كل ما يعتبر عدة للقتال، ماديا ومعنويا، فالسلاح والعتاد والتدريب على فنون الحرب، وإنشاء المصانع الحربية لإنتاج أدوات القتال والذخيرة، والعلوم الكيماوية والفيزيائية والهندسية والطبية. وتنمية موارد الإنتاج في البلاد. زراعياً وتجارياً وصناعياً، تدعيماً لاقتصاد الدولة. وسائر العلوم النظرية الأخرى كالعلوم السياسية والقانون والأدبية والفنية، كل أولئك وغيره من وسائل إعداد القوة الذي جاء القرآن الكريم بالأمر به، في قوله تعالى: { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ}.

 

والآية صريحة في وجوب إعداد تلك القوى إلى أقصى حد مستطاع، إما ذكر {الخيل} فهو على سبيل الرمز أو المثال، لأنها كانت الوسيلة الأولى للجهاد عصر التنزيل، ولا نزاع في أن أنواع الأسلحة تختلف باختلاف الأزمان، والعدة اليوم هي الأسلحة المختلفة في البر والبحر والجو، فالواجب هو إعداد العدة على أكمل وجه، وأقصى حد مستطاع، وذلك إنما يكون بتخيّر احدث أنواع الساحلة وأقواها وأمضاها، فإذا استطعنا إنتاجها بمصانعنا ـ وهو المفروض أولاً ـ فيها ونعمت، وإلاّ، فالواجب الحصول عليها عن طريق الشراء، ولا يتم ذلك إلا بالمال، ولذا جاء الأمر بالإنفاق في سبيل الله كوسيلة لإعداد القوة، قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ * وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.

 

لقد أمر الله سبحانه وتعالى ببذل المال في سبيل «المصالح العامة» لأن الله غني عن العالمين، وعلى رأس تلك المصالح الجهاد، لأنه وسيلة حفظ الأوطان والأنفس والأعراض والأموال، وإعلاء كلمة الحق، فإنفاق المال في الجهاد لتوفير العدة والعتاد وما يتطلبة المجهود الحربي، إنما هو لشراء الكرامة والشرف والحرية والعزة، والحياة بدونها هلاك محقق، ولذا ربط الله سبحانه الإنفاق بدوام الحياة، بحيث إذا بخل الناس وامتنعوا عن البذل في هذا السبيل، ألقوا بأنفسهم في هوة الدمار والهلاك: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}.

 

 دور المال

 

والذي يستخلص من ذلك:

 

أولاً ـ إن المال عصب الحياة وقوامها ولكنه لا يعلو عليها ولا يسمو، ومن أولى وظائفه بذله في سبيل بقاء الأمة وكرامتها وعزتها، وتوفير أسباب الحياة الحرة الكريمة.

 

ثانيا ـ إن مالك المال من وظائفه الأساسية المفروضة إنفاق ماله في سبيل مصالح أمته، وان الضن به يوقع الأمة في الهلاك، ويعرضها لان ينتهك العدو حرماتها، ويغزو بلادها، ويستعبد أبناءها، ويعتدي على مقدساتها، ويسلب خيراتها، ويستولي على مصادر ثرواتها، ولا ريب أن كرامة الفرد من كرامة أمته، وبقاءه في بقائها، فكأن من يبخل بماله متسبب في هلاك نفسه أيضاً، قال تعالى: {وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ}.

 

ثالثاً ـ إن الأمر بالإنفاق في سبيل الله يستلزم أن تكون عندنا الأموال الكافية للاستعداد لرد عدوان أي معتد على بلادنا، وذلك يبيح للدولة أن تجبي من أموال القادرين ـ فضلا عن المفروض عليهم ـ ما تقتضيه ظروف الدفاع، خشية المصير إلى الهلاك، كما يستلزم وجوب تنمية موارد البلاد، واستثمار مصادر إنتاجها.

 

رابعاً ـ إن إعزاز الله للمؤمنين، ووعده بنصرهم لا يخليهم من مسؤولية إنفاق المال، وبذل النفوس رخيصة في سبيله، وكلاهما واجب ديني ووطني، فالانتصار له أسبابه ووسائله التي يجب الأخذ بها أولاً، وتلك سنة الله الثابتة في الخلق والكون والأمر بعدئذ لله، والمؤمن الآخذ بالأسباب ممتلئ قلبه ثقة مطلقة بالله سبحانه بالنصر والتأييد.

 

 أهداف الجهاد

 

لم يفرض الله الجهاد لإكراه الناس على الإسلام، فالإكراه ـ كما قلنا ـ لا يؤسس عقيدة، قال تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}، ولذا لا يقهر الإسلام أمراً على دين يرفضه، وعلى هذا، فالحرية الدينية مكفولة في أحكام الإسلام، وفرية إن الإسلام إنما جاء لإكراه الناس على اعتناقه بالسيف، روجها بعض المستشرقين المغرضين، غير أن المنصفين منهم، يؤكدون كفالة الحرية الدينية في الإسلام، وانه لم يستل السيف عدوانا على احد، ولا أكراها للناس على اعتناقه، وإلاّ فبأي وجه فرضت الجزية، وبقي غير المسلمين في حرية تامة، محترمة عقائدهم ومعابدهم، يطبق كثير من أحكام دينهم فيما بينهم، هذا وقد جاءت النصوص الصريحة بتحريم إيذائهم وتركهم وما يدينون مما يقطع الحجة على ذلك الافتراء، قال عليه السلام: «ومن أذى ذميا فأنا خصمه».

 

وقد اتخذ الإسلام الحجة وسيلة لنشر دعوته، قال تعالى: { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وقال تعالى: { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}، وقال تعالى في موضع آخر: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}، وقال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ 21 لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ }، وقال أيضا: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} إلى غير ذلك من النصوص التي لا يستطيع احد فيها جدلاً.

 

يقول بعض المستشرقين المنصفين في وصف الحركات الحربية الأولى بأنها وليدة البحث «لا عن وطن يستطيع فيه المسلم أن ينطلق من قيود المستغلين وحسب، بل هي وليدة السعي إلى إقامة بلاد تسود فيها آداب الإسلام، ويمنع فيها ظلم الأغنياء للفقراء، ويتبع فيها الولاة وصايا العدل الاجتماعي التي يتعلمونها من سماحة الشريعة.

 

 أساس إعلان الحرب

 

ويمكن تلخيص ذلك الأساس في العناصر الآتية:

 

أولاً ـ إزالة عوائق الحرية العقلية في جميع مظاهرها، كفالة لحماية الشخصية الإنسانية من الأعذار في هوة من الإسفاف، وإتاحة المجال للتعبير عن خصائها الخيرة، وتخليصها من شوائب الخرافة والوهم وعبادة المادة، واستغلال المستضعفين لتتقرر كلمة الله في الأرض وتعلو.

 

ثانياً ـ رد الظلم والبغي والعدوان عن الدين والوطن والأهل والمال والولد قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}، وقال عليه السلام: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه، فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد».

 

ورد الاعتداء فضيلة خلقية وإنسانية يقررها «حق الدفاع عن النفس» وهو قانون الفطرة المعترف به دوليا: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}.

 

ثالثاً ـ كفالة حرية الدين والاعتقاد.

 

رابعاً ـ تأمين طريق الدعوة الإسلامية باعتبارها رسالة اجتماعية إصلاحية شاملة تنطوي على مبادئ الحق والخير والعدل والمساواة والإخاء.

 

خامسا ـ نصرة المظلومين المضطهدين، قال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ}.

 

 آداب الجهاد

 

أولاً ـ قصر الحرب على الجيش المحارب، فلا يجوز التعرض للنساء والأطفال والشيوخ والرهبان، ومن هنا تعلم مدى مقت الإسلام لاستخدام القنابل المحرقة «كالنابالم» التي يقذف بها على الآمنين دون تمييز بين المحارب وغيره من المستضعفين: من الولدان والشيوخ والنساء، وتدرك أن الإسلام اشد مقتا لاستخدام القنابل «الذرية» المبيدة لكل شيء، وقد روي عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في وجوب تضييق نطاق الحرب حتى لا تتعدى إلى غير المحارب انه قال: «لا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع» وروى عنه أيضا: «لا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا صغيراً، ولا امرأة».

 

وروى مسلم عن بريدة قال: «كان رسول الله إذا أمَّرَ الأمير على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى، ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: اغزوا باسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا».

 

وأوصى أبو بكر أسامة فقال: «لا تخونوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلا، ولا شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة ثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقر ولا بعيراً إلا للأكل».

 

ثانياً ـ تحريم التمثيل بالقتلى وإحراقهم بالنار.

 

رابعاً ـ تحريم تجويع الأعداء.

 

خامساً ـ الإحسان إلى الأسرى.

 

سادسا ـ مراعاة القواعد الإنسانية في الحرب.

 

سابعا ـ ضرورة إعلان الحرب قبل البدء بالقتال، حتى لا تكون الحرب وسيلة للخداع والخيانة، ولا تعلن إلا بعد استنفاد جميع وسائل النصح والدعوة إلى الكف عن الظلم والأذى والغدر.

 

ثامناً ـ عدم التفاخر بالنصر أو التظاهر بالقوة ومراءاة الناس: {46 وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ}.

 

تاسعاً ـ ليس الاستعمار ولا الغنائم هدفا من أهداف الجهاد، ولذا لا تجد القرآن والسنة يذكران الجهاد إلا مقروناً بكلمة في سبيل الله، كما أن نصوصاً أخرى توضح هذا المعنى  بأجلى بيان، قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}.

 

وقال تعالى في نفي الاستعمار نفياً باتاً: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا}.

 

وقال عليه السلام : «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله».

 

 من أفضل الطاعات

 

رفع الإسلام من فضل الجهاد، باعتباره سبيل «العزة والمنعة» وإعلاء كلمة الله في الأرض، فجعله عهداً وميثاقاً بين الله وعباده المؤمنين، قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.

 

ثم إن العهد من شأن المؤمن الوفاء به، والصدق به، قال تعالى: { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا}، والجهاد أفضل من كل ما في الحياة من مال أو أهل أو ولد، أو تجارة أو مساكن، بل هو أفضل من الحياة نفسها، لأنه دليل حب الله تعالى الذي لا يعدله حب أي شيء في الوجود، ولذا حثهم القرآن الكريم على التضحية بكل شيء في هذا السبيل، قال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}.

 

وقال عليه الصلاة والسلام: «لغزوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها». هذا، ويحرك القرآن مشاعر المؤمنين، ويثير فهم روح الجهاد، ويقلل من شأن الحياة إزاء ما يترتب على الجهاد، من نصر وعزة في الدنيا ونعيم خالد في الآخرة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ}.

 

ويهدد المتخلفين عن الجهاد بالعذاب الأليم في الآخرة، والخزي في الدنيا {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا}.

 

ولقد حثنا القران على الاستشهاد والتفاني، وحملنا على ان يكون شعارنا «الشهادة أو النصر» قال تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}.

 

ثم إن الجهاد لتمحيص قلوب المؤمنين، ليثبتوا صدق إيمانهم، فالمؤمن، إذا أُصيب بنكسة لم تفت في عضده،  ولم تنل من معنوياته، إذا اخذ بالأسباب كاملة، واستقصى جهده فيها، لأنه لا يضره بعد ذلك ما تفعل به المقادير، ثقة منه بحكم الله وقضائه وعدله.

 

قال تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}. والإسلام في سبيل الحث على الجهاد والتضحية، يبصر بحقيقة الحياة والموت، فالأجل معلوم مداه ومقدر في كتاب، وانه لا يقصره جهاد، ولا يطيله قعود عنه: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}، والمجاهدون إن فقدوا الحياة العاجلة القصيرة الأمد، الممتلئة بالأذى والشر فسينتقلون  إلى حياة حقيقية خالدة فيها النعيم المقيم.

 

فليس الاستشهاد موتا، ولكنه حياة حقيقة مفعمة بأسباب نعيم الله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} وهذا الجزاء لا ينال إلا بالجهاد وأنه لمن أعظم الطاعات والعبادات.

 

(انتهى) د. محمد فتحي الدريني عميد كلية الشريعة في جامعة دمشق.

 

 ـــــــــ

 

[1]  محمد مهدي شمس الدين، «ثورة الحسين».

 

[2]  ابن الأثير، ج4، ص16.

 

 

 

 مواضيع ذات صلة

 

نظرية الجهاد عند الإمام الخميني الجزء[1]

 

نظرية الجهاد عند الإمام الخميني قراءة وتأملات [2]

 

الشهادة ثمرة الجهاد

 

فلسفة البكاء على الشهيد

 

آداب الجهاد وأخلاق المجاهدين

 

تصاعد الروح الثورية في نفوس المنتظرين

 

الجهاد والشهادة دروس من خط الإمام الخميني