العمليات الاستشهادية

 

تمهيد:

 

ثمة من يسعى إلى إيجاد لبس تجاه العمليات الاستشهادية، وإحداث نوع اضطراب في التعاطي معها، وهي التي نشهد الكثير منها في هذا العصر ـ عصر تكالب المستكبرين على المستضعفين بكل ما أوتوا من قوة وضغط ـ وتطورت بشكل لافت في جبل عامل واستفيد منها بشكل فعال في فلسطين المحتلة التي امتحن بها المسلمون عامة والمؤمنون خاصة.

 

ولا يقتصر هذا المسعى على خصوص الذين لا يدينون بدين الإسلام، بل نتلمسه من قبل أفراد أو جماعات أو أنظمة تحسب نفسها على الإسلام وتدعي الإيمان به، وهذا بلا شك يعقد البحث إلى حد ما، ذلك أن الموقف السلبي من العمليات الاستشهادية لو اقتصر على غير المؤمنين أو غير المسلمين فإنه فاقد لقيمته من حين صدوره، ولذا لن يكون له أثر لا على المستوى العملي ولا الإيماني، بينما لو تدخلت عناصر تتزيى بزي الإسلام وأفتت مثلا بحرمة تلك العمليات فلا شك أن هذا سيحدث نوع تشويشاً في أذهان المجاهدين، إن لم نقل بإيجابه لإحباطهم أو إحباط من يتأثر بكلام أولئك المفتين. وربما لن يرتفع التشويش بمحض أن تصدر فتوى مقابلة بتجويز أو بإيجاب تلك العمليات؛ لأن الناس ترى هذا عالما وذاك عالماً، ولا يملك الكثير منهم القدرة على التمييز لتعلم من تتبع من العلماء.

 

ومن هنا كان من الضروري أن يعي الناس أي عالم يجوز لهم أن يتبعوه فيما يقول وأي عالم لا يجوز لهم إتباعه، وهذه ثقافة على المسلمين أن يكتسبوها، في كل شأن من شؤون حياتهم، وإلا فإنهم قد يقعون في مآزق جراء الخلافات والاختلافات في ساحات حساسة ومعقدة، فكيف إذا كان الأمر يمس حياة الإنسان وآخرته، ويمس أمرا لا مجال لتدارك أي خطأ فيه. وعندما ندعو الناس إلى ضرورة التمييز والتعرف على العالِم الأولى بالإتباع، فإننا نعني بذلك ضرورة تحديد قواعد هذا التمييز ومناطاته، وهذا لا يزال يشكل مشكلة في المجتمعات الإسلامية عموما؛ إذ تتحير في أمرها هل تتبع آراء المفتين المعينين في الحكومات، وهل إذا عُيّن شخص مفتيا في موقع رسمي يعتبر العمل برأيه مبرئا للذمة شرعا، أم أن تشخيص المفتي يحتاج إلى ضوابط أخرى؟

 

والحقيقة أن المجتمع الشيعي عموماً لا يعاني من تلك المشكلة؛ لأنه مجهز بالحصانة الكافية التي تدعوه للجوء إلى العالم الأصلح، والولي الفقيه في أمثال هذه الأمور، فلا طاعة إلا للولي فيما يمس شأناً إسلامياًَ عاماً.

 

ومسألة ولاية الفقيه ذات أثر حساس في هذا الموضوع؛ لأن من يملك أن يقول عن العمليات الاستشهادية أنها حرام أو واجبة أو جائزة هو هذا الولي؛ لأنه هو الذي يحدد متى تكون تلك العمليات استشهادية، ومتى لا تكون.

 

ويترتب على ما ذكرناه أن العمليات الاستشهادية ليست دائما كذلك بل تخضع لجملة من الشروط تجب مراعاتها لتأخذ وصفها الاستشهادي. وهذه إشارة نكتفي بها هنا في بداية البحث إذ لا نريد استعجال النتائج الآن.

 

 طرق مقاربة الموضوع:

 

إن البحث عن العمليات الاستشهادية لا ينحصر بطريقة محددة ومنهجية معينة، إذ يمكن البحث عنها من زاوية فقهية شرعية، كما يمكن البحث عنها من زاوية أخلاقية إنسانية عامة ومدى علاقتها بنظرة الإسلام إلى الحياة والموت، وحول الفرق بينها وبين الانتحار.

 

كما يمكن أن يبحث عنها من زاوية عسكرية، ومدى فعالية هذه الوسيلة في تحقيق النتيجة المطلوبة. كما أن البحث، قد اهتم به كثيرون منهم المسلمون ومنهم غير المسلمين، وطرحت آراء لعلماء النفس الذين تاهوا في تحديد دوافع من يقوم بتلك العمليات، وتحيرواً في محاولاتهم لإيجاد فارق بينها وبين الانتحار.

 

ومن يطلع على ما يكتبه بعض المحللين النفسانيين سيدرك حجم الخطأ الذي يرتكبونه وهم يحللون ويقررون. ربما يعود السبب في ذلك إلى أن المدارس المعتمدة في علم النفس عموماً تعيش في عالم مختلف تماماً عن روح من يخوض تلك العمليات. لذا فإنهم يغردون في ساحة منفصلة تماماً عن ساحتها وساحة أشخاصها، دون أن يعني هذا أن كل من يشتغل في هذا العلم على هذه الشاكلة، فإن البعض يسعى للاقتراب قدر الإمكان من تلك الساحة ليتعرف عليها وليكتشف جديدها وليحاول تطبيقها على ما يعرفه من نظريات في هذا المجال، إلا أن مشكلة علم النفس في نظرته لتلك المسائل أنه لا ينظر إلى الموضوع كحقيقة واقعية بل يعالجها كحقيقة في نظر الشخص نفسه، سواء كانت وهم، أم حقيقة، وهذا سيجرد ذلك العالم عن أي قدرة على التفاعل مع ذلك الحدث، وسيبقى في أحسن الأحوال في دائرة تفهم منطلقات ودوافع من يقوم بالعمليات، لكن لن يكون بإمكانه التفريق بين مسلم يقوم بعملية استشهادية في معركة جهادية وبين علماني أو غير متدين يقوم بعمل يشبه العمليات الاستشهادية.

 

 الحالة النفسية للشهيد: ويظن البعض أن من يقوم بتلك العمليات يعيش حالة خاصة فترة زمنية محددة، يغسل فيها دماغه، وينعزل عن مجتمعه، حالماً بالهدف الذي يسعى إليه، فيصير كمن نُوّم مغناطيسياً ليقوم بذلك العمل، وهو ظن ينطلق من عدم تعقل هذا المستوى من الجرأة مع وعي تام للحياة الدنيا، ومن عدم تعقل أهداف كبرى يمكن للإنسان إن يتجاوز لأجلها كل ما يظنه ذلك البعض هدف أكبر في الحياة الدنيا، في أضعف نظرة الحياة وعدم الإيمان بأي حياة أخرى وراءها.

 

وقد دلت التجارب والوقائع على أن الذين يقومون بالعمليات الاستشهادية لا ينعزلون عن مجتمعهم، ولا يعيشون أي نحو من أنحاء العزلة، بل يعيشون حياتهم الطبيعية مع أهلهم وأولادهم، ليس هناك من معزل ينعزلون فيه يتلقون فيه توجيهات، بل هم بأنفسهم اكتسبوا كمالات روحية دعتهم لخوض ذلك العمل، مع التفاتهم التام ووعيهم التفصيلي لما هم مقدمون عليه بكل اختيار؛ ولأنهم كذلك يلقون تشجيعا من بعض معارفهم أحيانا ومن أهلهم أحياناً أخرى.

 

ومن هن، نقرأ للإمام الخميني كلمات معبرة تحكي لغز الشهادة والعمليات الاستشهادية، فيقول: «ما أشد غفلة عبيد الدنيا الأغبياء الذين يبحثون عن معنى الشهادة في صحف الطبيعة، ويفتشون عن أوصافها في الأناشيد، والملاحم، والأشعار، ويجندون فن التخيل وكتاب التعقل لكشفها. هيهات وأنى لهم ذلك فلا حل لهذا اللغز إلا بالعشق»[1].

 

إن وجود هذا النوع من الأفراد، الذين يمتلكون روحا لا نظير لها في سموها، وقدرة[2]على العطاء لا يوازيها قدرة، واستعدادا لتضحية تفوق كل تضحية متصورة، يعكس حياة الأمة، ويعكس اختزانها لقدر كبير من مقومات الثبات والصبر ثم النصر؛ ولذا فإن من يقدم باختياره على سلوك هذا الدرب، قاصدا القربة إلى الله تعالى، والدفاع عن المستضعفين وبلاد المسلمين، سينال أجره، ولن يتأثر بالخلاف المزعوم حول مسألة العمليات الاستشهادية، فإن الفعل يحاسب صاحبه عليه على أساس ما نوى لا على أساس ما يقوله الآخرون. فإن باب الانقياد واستحقاق فاعله للثواب معروف لدى الأصوليين، وفي علم الكلام.

 

 فعالية هذا السلاح:

 

أشرنا فيما سبق إلى أن منهجية البحث عن العمليات مختلفة. وهنا نستعيد هذه الإشارة لنقول: إننا لن نبحث عنها من كل جوانبها، بل سيقتصر البحث على الجانب الفقهي الشرعي مع إطلالة مختصرة على الجانب الإنساني والأخلاقي. أما الجانب العسكري، فهذا أمر ميداني يُتْرك تشخيصه لأهل الاختصاص، لكننا وإن لم نكن خبراء في هذا المجال، فإن الوقائع دلت على فعاليته في تحقيق الأهداف، خاصة إذا ما رأينا أن أمريكا والجرثومة السرطانية المزروعة في أرضنا تخوضان أشرس المعارك للقضاء على تلك العمليات، فلو لم يكن لها أي فعالية لكان المناسب لهم أن يقبلوا باستمرارها أو على الأقل أن لا يعيروها أي اهتمام، فما هو سر هذا الحشد والإرهاب العالميين الذين يمارسان على هذه الفئة القليلة المستضعفة التي تحملت عبء الجهاد وخوض تلك العمليات؟ وما هو سر تهديد الدول استنادا إلى هذا الموضوع، ولماذا كل هذا الرعب الذي يعيشه العدو الصهيوني جراءها، ولا تزال تطالعنا الصحف والأخبار وتحليلات الصحافة العبرية بالشواهد تلو الشواهد على أن أخطر ما يواجهونه في فلسطين هو تلك العمليات؟ ألا يكشف كل ذلك عن مدى فعالية هذا السلاح، الذي وكما قال بعض قادتنا، سلاح لا يملك العدو معه أي قدرة على التحكم به، فقد عملوا طويلاً على أن يتجهزوا بكل أنواع الأسلحة الهجومية الممكنة، وجهزوا لكل سلاح هجومي سلاحاً دفاعياً مناسباً له، لكنهم يجدون أنفسهم عاجزين تماما عن إيجاد أي سلاح دفاعي مناسب في مقابل هذا السلاح الهجومي الفعال الذي تملكه تلك الفئة المستضعفة؛ ولذا لجأوا إلى التستر بالدين، وطلبوا من المتلبسين بزي الدين أن يخوضوا تلك المعركة عنهم ليفشلوا ذلك السلاح إذ اكتشفوا أن خير معطل له هو أن يعلن تحريمه في الإسلام، وقد استجاب لذلك قوم مكرهين وآخرون طائعين. ومن هن، دعت الضرورة إلى البحث الفقهي المعمق حول مشروعية تلك العمليات لنقف على المبررات الشرعية لذلك.

 

 مفهوم العمليات الاستشهادية:

 

العملية الاستشهادية هي عملية عسكرية يقوم بها مجاهد من المجاهدين لا يبالي أوقع الموت عليه أم وقع على الموت، وأعلى مراتبها عملية يعلم أنه سيقتل فيها لا محالة. هذا هو معنى تلك العمليات، وليس لها أي تفسير آخر، إلا أنها ذات مصاديق مختلفة، فقد يخوض المجاهد معركة في فئة قليلة تواجه فئة كبيرة، وتلك الفئة القليلة تعلم إجمالاً أن أفرادا منها سيقتلون، وقد يخوض المرء معركة في خندق من الخنادق أو لحراسة موقع من المواقع ثم يهاجمه عشرون شخص، فيخوض معركة معهم يعلم أنه سيقتل بعد أن يقتل منهم مقتلة، فهذه عملية استشهادية، وقد يزين نفسه بحزام من المتفجرات ويهاجم العدو، فيقتل منهم مقتلة عظيمة، وهو يعلم أنه سيقتل فهذه عملية استشهادية أيضا.

 

وبهذا المعنى تصبح العمليات الاستشهادية ذات عرض عريض يشمل كل معركة من المعارك التي يخوضها المسلمون، فلولا الروح الاستشهادية والاستعداد للاستشهاد في سبيل الله لم يكن ليشارك في أي معركة ما إلا مضطراً ومكرهاً، ولفر عندما تسنح له الفرصة للفرار.

 

 فإذا كان مفهوم العمليات الاستشهادية لا ينحصر بتلك الدائرة التي اعتاد الناس أن يلحظوها في مفهومها، يصير من نافلة القول إن العمليات الاستشهادية تعتبر فعلاً طبيعياً دائمياً لدى المسلمين في كل المعارك التي يقومون بها، بل هو طبيعي في كل جيوش العالم التي تعد جنودها لتقبل احتمال الموت، بل لخوض معارك حتى مع العلم بالموت، وهذا أمر ثابت لم يحد عنه أي جيش في العالم وإلا لم يكن ليخوض أي معركة. وأظهر مصداق تاريخي من مصاديق العمليات الاستشهادية في الإسلام، مبيت الإمام علي بن أبي طالب(ع) على فراش النبي، وإن لم تصل القضية إلى خاتمتها بسبب تراجع الأعداء، وواقعة كربلاء التي خاضها أبو عبد الله الإمام الحسين(ع) مع قلة من أنصاره وأهل بيته في مواجهة جيش جرار بلغ الألوف، فإذا لم تكن تلك الواقعة من العمليات الاستشهادية، فإننا سنعجز عن فهمها بشكل سليم.

 

من الواضح أن البحث عن العمليات هنا لا يتناول هذا العرض العريض، وإنما يتناول بعض مصاديقه، وهي: أن يفجر نفسه بالأعداء، فهل هناك فرق بينه وبين أي مجاهد يدخل في معركة يعلم أنه مقتول فيها إلا أن القتل يكون بيد العدو؟ وهل يؤثر هذا الفرق على الجانب الشرعي في القضية، هذا ما سنحاول الإجابة عليها فيما بعد.

 

 صعوبة البحث: ومن خلال السؤال عن هذا الفرق تظهر صعوبة البحث؛ ذلك أن المعروف تاريخياً أن العمليات الاستشهادية كانت كلها تنتهي بأن يقتل المسلم على يد العدو، ولم يكن يقتل المسلم نفسه، بل كان يحرم عليه ذلك، فلماذا صار الأمر مباحاً الآن، وهل هي إلا بدعة من البدع؟ وهذا التساؤل يندفع عند أدنى تأمل، فإن العمليات الاستشهادية، محل البحث هنا، ليست مجرد أن يقتل المرء نفسه بيده، بل هي أن يهاجم العدو بجسمه ويخوض معركة يقتل فيها وإن كان بيده.

 

ففرق كبير بين أن يقتل المرء بيد نفسه لا في معركة وبين أن يقتل في معركة وهجوم بجسده يؤدي إلى استشهاده، فهذا الفعل يصدق عليه انه هجوم ومعركة. وهذا فارق مهم بين الماضي والحاضر، إذ لم يكن يملك المسلمون الأوائل مثل هذه التقنية التي نملكها الآن، والتي تسمح بقتل أكبر عدد من العدو من خلال الهجوم بالجسد، فهل لو كانوا يملكون مثل هذه التقنية لكانوا يجتنبونها، وما هو الفرق بين أن يقاتل المرء، فيقتل عشرة أشخاص أو عشرين، الشخص تلو الآخر ثم ينهك، فيقتل في نهاية الأمر، وبين أن يهاجم بجسده، فيقتل عدداً من الأشخاص ثم يقتل.

 

سنبين فيما بعد أنه لو كانت الحرمة ثابتة بعنوان قتل النفس، فستكون محرمة على كل حال سواء كان ذلك بيده أم بيد غيره، ولو كانت جائزة في حال المعركة، فإنها جائزة على كل حال لا فرق بين أن يكون لفعل الشخص دخل في قتله، أو بين أن يكون القتل بيد العدو. ما ذكرناه يعني أنه لا خصوصية للوسيلة في الحكم، لا على مستوى التحريم، ولا على مستوى المشروعية.

 

 حرمة الانتحار في الإسلام:

 

تمت الإشارة سابقا إلى أن قتل المرء بيد نفسه انتحاراً محرم، وهذا الحكم متسالم عليه شرعاً بين علماء المسلمين كافة، بل يعرفه كل مسلم؛

 

لذا صار مستغنياً عن كل دليل، إلا أن الخلط الذي يحصل هنا أن تستخدم هذه الفكرة لتطبيقها على موضوع البحث، فيعتبرونها انتحاراً. ليس المهم هنا أن نحقق في معنى الانتحار؛ لأنه لم يرد في أي نص ديني جملة «الانتحار حرام» لنحتاج إلى مثل هذا التحقيق، كما لن يكون مؤثرا مفهوم الآخرين للانتحار، وإنما المهم هنا أن يقال: لو اُريد من الانتحار قتل النفس كيفما كان ولو في معركة، فهذا لا دليل على حرمته وإن كان المقصود منه الانتحار عن يأس من الحياة دون أن يكون هناك هدف مشروع يجوِّز ذلك القتل فهذا حرام بلا ريب.

 

وهكذا يتضح أن مآل البحث في الحرمة هنا إلى حرمة مقيدة بعدم وجود هدف مشروع يجوّز ذلك، وهذا يقتضي التساؤل عما إذا كان هناك هدف من هذا القبيل؟ من الطبيعي أن يكون الجواب بالإيجاب، فمن علم بتوقف إنقاذ حياة النبي(ص) على تعريض نفسه للموت، يكون من الباذلين أنفسهم في سبيل الله. ومن علم بتوقف إنقاذ النبي على أن يقتل نفسه بيده يكون في عليين. ومن علم أنه إذا وقف في وجه دبابة، فإنه سيتمكن من تفجيرها وإنقاذ المئات من الناس من شره، فلا شك مأجور. ومن علم أنه إذا وقف في وجه سيارة تدهسه، فيموت من دون أن يكون له أي هدف إلا الموت، فقد ارتكب حراماً وإن كان القتل بفعل الغير. ومن شرب السم بنفسه لا لهدف إلا يأساً من الحياة، فقد ارتكب محرماً.

 

هذا كله يدل على أن مسألة حرمة قتل النفس ليست من المسائل البتية غير المعلقة على أي شرط، وليست من المسائل التي يجزم العقل بها من دون أن يلحظ أي أمر آخر، بل هو ينتظر رأي الشرع قبل أن يبت بالتحريم، لو كان التحريم هنا من مدركات العقل ومجالاته، وإنما يكون قتل النفس في نظر العقل ظلما إن لم يكن لهدف مشروع.

 

ولذا لم يكن من المستغرب أن تحترم كل المجتمعات الإنسانية كل قتل للنفس في سبيل هدف مشروع يجوز ذلك، فمن من تلك المجتمعات لا يقدس مقداماً يرى شخصاً بصدد إطلاق قنبلة على مجموعة من الناس، فينقض عليها وتنفجر به فيقتل! ومن منهم لا يعتبره مضحياً بنفسه من أجل الآخرين ورفع خطر الموت عنهم؟ ومن سيلتفت حينئذ إلى ما قد تقوله الفئة التي تنتمي، إلى الشخص الذي كان سيطلق القنبلة من نعوت بحق من ضحى بنفسه؟.

 

إذن ليس المهم تحقيق معنى الانتحار والاستغراق فيه، بل المهم بيان الضابطة الشرعية والمسوِّغ الشرعي الذي يوضِّح الحد الفاصل بين الموت المحرم، والموت المباح.

 

وإنما قلنا الضابطة الشرعية مع أن قدسية تلك العمليات تتجاوز المجتمعات الإسلامية، لأن ضوابط المشروعية قد تختلف بين مجتمع وآخر، إضافة إلى إننا مسلمون نأخذ شرعية أي عمل من ديننا لا من أي شي آخر.

 

أدلة قد يستدل بها على عدم مشروعية تلك العمليات:

 

 ومع أن ما ذكرناه في غاية الوضوح دينيا وعقلائياً، فإن هناك من وقع في الخلط الذي اشرنا إليه قبل قليل فتمسك بالعقل تارة، وبآيات وروايات تارة أخرى زاعماً أنها تدل على الحرمة، والجواب وان صار واضحاً عن ذلك لكن لا بأس بالنظر في تلك الأدلة، حتى نزيل أي شبهة قد تثار من هنا وهناك.

 

أما العقل؛ فقد تقدمت الإشارة إليه آنفا، وما قدمناه يبين بكل وضوح أنه لا يصح الاتكال في مبدأ التحريم على ما قد يقال له حكم العقل في المسألة، فيدعى أن العقل قاض بقبح قتل المرء نفسه، فإنها دعوى غير محقة؛ لأن العقل لا يملك مثل هذا الحكم على هذا المستوى. وبعبارة أخرى، فإن المتصور من حكم العقل هنا أن يكون بأحد الوجوه التالية:

 

1 ـ أن يحكم بقبح القتل مطلقاً من غير تقييد ولا تعليق على شيء، وهذا لا شك في عدم واقعيته؛ لأنه لو تم ذلك، وحيث إن أحكام العقل غير قابلة للتخصيص ـ كما هو المعروف بعلم الأصول، وليس هنا محل بيانه ـ مما يعني أن قتل النفس إن كان قبيحاً مطلق، فهو قبيح من غير فرق بين أن يكون القتل بيد نفسه أو بيد غيره، والنتيجة هي تعارض لا حل له بين العقل والشرع عندما يسوغ الشرع الجهاد وإن أدى إلى قتل النفس، فهل يمكن تعقل مثل هذا الأمر، بل هل يمكن الالتزام بأن العقل يرى ذلك القبح بشكل مطلق؟ وهل يرى العقل ضرورة الاستسلام لكل عدو حذراًَ من أن يقتل أي واحد منا، ونترك القتل فينا بيد عدونا من دون أي مقاومة ولا ردع، يهاجم أطفالنا ونساءنا، ويتفنن في القضاء علينا كلما سنحت له الفرصة، غير عابئ بردود فعلنا؛ لأنه على التقدير المشار إليه لن يكون لدينا أي رد فعل. إن حكم العقل بقبح قتل النفس، لو فرضنا ثبوته، فإنه لن يكون على النحو المذكور في هذا التصوير.

 

2 ـ أن يكون حكم العقل بالقبح هنا على نحو الاقتضاء، ويكون الحكم النهائي فيه معلقاً على ملاحظة ما إذا طرأ على الفعل عنوان يوجب حسنه، أو يزيل قبحه، مثل الكذب فالعقل يحكم بقبحه على سبيل الاقتضاء، لكن لو كان بهدف الإصلاح بين الناس، أو كان بهدف آخر مهم عقلائياً أو شرعاً، فإن القبح يرتفع ويصير الكذب أمراً حسناً بنظر العقل. وعلى هذا التقدير لا يكون دليل العقل هنا نهائياً قبل النظر في وجود العناوين التي تزيل القبح عن قتل النفس وتحوله إلى أمر حسن، وبهذا لن يكون البحث منصباً حول حكم العقل بل حول تلك العناوين، وهو ما سنبين وجودها في استكمالات البحث الآتية.

 

3 ـ أن يكون العقل على الحياد تماما في مسألة قتل النفس لا رأي له فيها على الإطلاق، والفرق بين هذا وسابقه، أنه على التقدير السابق يكون الانتحار قبيحاً فعلياً في نظر العقل بمجرد عدم وجود المسوغ، ولا ينتظر المنع الشرعي، بينما على التقدير الثالث لا يكون للانتحار أي موضوعية في نظر العقل، ولا حكم له بنظر العقل حتى مع عدم وجود المسوغ الشرعي، بل يكون حكم المورد شرعياً بحتاً، فإن أفتى الشرع بالتحريم تبعه العقل وإلا سكت. وتبعية العقل هنا للشرع إنما هي من باب حكمه بوجوب الالتزام بأحكام الشريعة والانقياد لطاعة المولى سبحانه وتعالى. وعلى هذا التقدير أيضا يفقد المانعون القدرة على الاستدلال بالعقل.

 

نخلص مما تقدم أن الاستدلال بحكم العقل متوقف على إثبات التصور الأول، وهو يكاد يكون من المستحيلات.

 

أما الآيات:

 

فنذكر نماذج منها:

 

1 ـ قوله تعالى {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ}[3] وقوله تعالى {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا}[4].

 

قيل إن هذه الآيات تدل على حرمة قتل كل نفس محترمة سواء كان القاتل قاتل نفسه، أم كان قاتل غيره، والعمليات الاستشهادية موضوع البحث من مصاديق قتل المرء نفسه.

 

وهذه الصيغة في بيان الاستدلال ضعيفة للغاية، فإننا لا نخالف في أن تلك العمليات من مصاديق إقدام المرء على قتل نفسه، والآيات لم تحرم ذلك بنحو مطلق؛ إذ الآية الأولى قالت: «إِلاَّ بِالْحَقِّ» والثانية ربطت حرمة ذلك بـ «وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا» وهذا تعبير آخر عن تعليق الحكم على عدم وجود هدف مشروع يجوّز ذلك، أو انه اعتداء وظلم، سواء كان الأمر متعلقاً بقتل النفس أم بقتل نفس أخرى، ما دام المستدل افترض أن الآيتين تشملان قتل النفس، أما متى يكون القتل بالحق، ومتى لا يكون كذلك، ومتى يكون عدوانا وظلما ومتى لا يكون كذلك، فالآيات لم تبين ذلك.

 

فيكون القول بأن العمليات الاستشهادية من قتل النفس المشمول لهذه الآية تعسفاً ومصادرة يتوقف على أن يكون قتل النفس فيها بغير حق وعدواناً وظلماً وهذا ما لم يثبته المستدل. ثم لو سلمنا أن الآيات بالإطلاق تثبت التحريم مطلقاً، فإنه معارض باطلاقات أخرى كما سنشير إلى ذلك عند الحديث عن أدلة المشروعية.

 

2 ـ قوله تعالى: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[5]. وقد فسر البعض التهلكة بالموت، فكل إلقاء باليد إلى ما يؤدي إلى الموت محرم، وهذا هو حال العمليات الاستشهادية.

 

وجواب هذا واضح من جهات مختلفة:

 

أولاً: لم تقل الآية بخصوص حرمة إلقاء النفس في الموت بيد الشخص نفسه أو بيد آخر فلو كانت الآية تحرم كل إلقاء باليد فيما يؤدي إلى الموت فلن يكون هناك أي فرق بين أن يكون الموت بفعل النفس أم بفعل الغير. وعليه فمن يخوض معركة جهادية يعلم أنه سيقتل فيها بيد العدو يكون قد ألقى نفسه في التهلكة فيحرم، وهذا يعني أنه لو تم ما ذكروه في دلالة الآية، فلا خصوصية لقتل النفس باليد. ولا نظن أن مسلماً يسلم بهذا التحريم بهذه السعة من دون أي تقييد، وإن كان من قيد، فهو يشمل كلا الحالتين؛ لأن القيد لا يرتبط بالوسيلة بل بمورد القتل وهدفه.

 

ثانياً: إذا حرم ألقاء النفس بما يؤدي إلى الموت، حرم ذلك، سواء كان جازماً بأدائه إلى الموت أم كان ضاناً، ولذا يحرم على المرء أن يتناول دواء يحتمل احتمالاً معتداً به أنه يميته، أو أن يسلك طريقاً يحتمل احتمالاً معتداً به أن حيواناً سيفترسه، وسيكون من موارد التحريم حينئذ خوض الجهاد مطلقاً، ولازم الأخذ بذلك التفسير إبطال تشريع الجهاد والقتال حتى، وان كان دفاعاً عن النفس.

 

وهذا يدل على أن موضوع التهلكة أريد به معنى لا يتنافى مع مشروعية الجهاد والدفاع عن النفس، خاصة وأن الآية وردت في مورد الجهاد كما يمكن أن يلاحظ ذلك من أدنى مراجعة للقرآن الكريم، وهذا يعني أنه لو أريد من التهلكة الموت وجب أن لا يكون شاملاً للموت في الجهاد في سبيل الله، فإذا خرج إلقاء النفس فيما يؤدي إلى الموت في حالة الجهاد عن مورد الآية، فالخروج شامل لحالة مثل النفس في العمل الاستشهادي.

 

ثالثاً: إن التهلكة تارة يراد منها الهلاك الشخصي وأخرى الهلاك الاجتماعي، ثم إنه تارة يكون المقصود هو الموت وأخرى يراد الضيق الشديد والعذاب الأليم، كما أن التهلكة تارة يراد منها التهلكة الدنيوية وأخرى يراد بها التهلكة الأخروية، وقد استعملت التهلكة ومشتقاتها في كل هذه المعاني. فقد قال تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ}[6] والمراد به مات، وقال تعالى في قوم من الكفار أنهم قالوا: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}[7] ومرادهم ما يميتنا، وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}[8]، والمراد أتعذبنا بما فعل المبطلون، بقرينة أنه كلامهم يوم القيامة. وقال تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}[9] والمقصود أنهم يوجبون لأنفسهم العذاب الأخروي. وقال تعالى: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا}[10] والمراد أنزلنا عليها العذاب الشديد في الدنيا المؤدي إلى الاستئصال، ومثله قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ}[11]. وقال تعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}[12] والمقصود بـ {يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ}، أما الهلاك المترتب على الكذب والنفاق، أو يهلكون أنفسهم بما بذلوه من جهد في اختراع وسيلة تسمح لهم بعدم الخروج إلى القتال طمعا في عرض الدنيا، ليأمنوا أي لوم، أو عتاب، أو ذم، أو تقريع بالاعتذار بالعذر الكاذب على نبيهم والحلف في ذلك بالله كاذبين.

 

وقد استعملت كلمة الهلاك ومشتقاتها في النصوص بمعان مختلفة، مثل ما ورد عن الإمام أبي جعفر الباقر(ع) أنه قال: «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة»[13]، والمقصود منه مخالفة التكليف. ومثل ما ورد عنه (ع) انه قال لقتادة: «ويحك يا قتادة إن كنت إنما فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت وإن كنت قد أخذته من الرجال فقد هلكت وأهلكت»[14]. وقد كثر في الأحاديث استعمال كلمة «هلكت وأهلكت» والمقصود به الإتيان بأمر عظيم، وقال ابن الأثير: وفى حديث عمر «أتاه سائل فقال له: هلكت وأهلكت»؛ أي هلكت عيالي[15].

 

وما ذكرناه حول استعمال الكلمة في عدة معان، لا يخلو من تسامح في التعبير، وإلا فإن ما ذكرناه من تعداد لا يعدو كونه تعدادا في مصاديق المعنى، والموت احدها، بل قيل إن الهلاك لم يستعمل في القرآن في الموت إلا بقصد الذم، فلا يستعمل في الموت مطلقاً إلا بنحو قليل، وهو ما ذكره الراغب الأصفهاني في مفرداته[16]، الذي صرح أيضاً بأن الهلاك يطلق على العذاب والخوف والفقر.

 

ومن كل هذا نستخلص أن البناء في الاستدلال على أن المراد من التهلكة في الآية الموت مما لا وجه له.

 

رابعاً: التهلكة، كما ذكر اللغويون، هي: كل شيء يصير عاقبته إلى الهلاك[17]، والهلاك أما أن يقصد منه العذاب الدنيوي، أو العذاب الأخروي، أو الأعم؛ ولا يصح هنا تفسيره بالموت، لما ذكرناه سابقاً، مضافاً إلى عدم الدليل عليه، وإن حكي هذا عن الشيخ الطوسي في الخلاف والمبسوط، ولو فرضنا إرادة الموت، فلا بد أن يكون المقصود به هنا إلقاء النفس في ما يؤدي إلى الموت المذموم، فلا يصح الإستدلال بالآية من على أن كل إلقاء للنفس بالموت مذموم، لما تقرر في علم الأصول من أن القضايا لا تثبت موضوعاتها، فوجب أن نحرز أولاً إن إلقاء النفس بما يؤدي إلى الموت من خلال عملية جهادية استشهادية، هو من الموت المذموم، قبل أن نأتي ونستدل بالآية على أن هذا الإلقاء محرم، وسنبين فيما بعد ما يدل على أن هذا من الموت الممدوح لا المذموم، فلا يكون مشمولاً بالآية، على تقدير إرادة الموت. ومن هن، قيل: إن الآية ليست في مقام بيان حكم تكليفي؛ لأن الذم لا بد أن يعرف من أدلة أخرى ليؤخذ بمفاد الآية، وإذا عُرِف ثبتت الحرمة بمعزل عن الآية، وإن لم يثبت لم تكف الآية لإثباته.

 

والأرجح أن يكون المراد منها ما يؤدي إلى العذاب، يدل عليه أن مضمون الآية لا علاقة له بالموت بل له علاقة بالأمر بالإنفاق في سبيل الله، لأن النهي عن إلقاء النفس في التهلكة جاء بعد الأمر المذكور ثم عقبه بالأمر بالإحسان، وهذا الربط يمكن أن نفهمه بوجوه:

 

أحدها: أن عدم الاستجابة لهذا الأمر، وترك الإنفاق في سبيل الله؛ والذي يكون الجهاد من أظهر مصاديق السبيل، هو من إلقاء النفس بالتهلكة، فيكون النهي عنها تأكيداً للأمر بالإنفاق، وإنما يكون ترك الإنفاق مؤدياً إلى الهلاك؛ لأنه يؤدي إلى تسلط الأعداء علينا وشيوع المنكر، وتضييع سبيل الله تعالى.

 

وهذا يؤدي إلى هلاك المجتمع وعطبه، أو لأنه يؤدي إلى أن يصيبه عذاب من عند الله، أو الأعم من هذا وذاك.

 

وعلى هذا، تكون الآية هنا أحد التطبيقات العملية لقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[18].

 

ونجد هذا المعنى في كثير من الأحاديث الواردة في الجهاد، منها ما ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، وذكره الشريف الرضي في نهج البلاغة، وهو قوله (ع): «أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه وهو لباس التقوى ودرع الله الحصينة، وجنته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل وشملة البلاء وديث (ذُل) بالصغار والقماءة (الهوان) وضرب على قلبه بالأسداد (الحجب) وأديل (أخذ) الحق منه بتضييع الجهاد وسيم الخسف (المشقة الشديدة) ومنع النصف»[19]

 

ثانيهاً: أن يكون المراد التزموا بالإنفاق ما لا يؤدي بكم إلى التهلكة فكأن الآية أرادت أن تحدد سقفاً في الإنفاق يحرم تجاوزه.

 

ثالثهاً: ما احتمله جملة من العلماء[20]، وهو أن ألقاء النفس في التهلكة يكون من خلال تعريض النفس إلى نقصان الأموال بترك الإنفاق في سبيل الله، فكأنه تعالى ينبه على أن من يخشى من نقصان أمواله إذا أنفقها في سبيل الله، فهو إنما ينقصها ويؤدي إلى هلاكها إذا لم ينفق على عكس ما يتوهمونه، ليكون مضمون الآية موافقها لما رواه الكليني في الكافي عن أبي الحسن الكاظم(ع)، ورواه الشيخ الصدوق في من لا يحضره الفقيه والخصال عن الإمام الصادق(ع)، أنهما قالا: «حصنوا أموالكم بالزكاة»[21]، والتي دلت على أن الهلاك متعلق بالمال لا بالنفس.

 

وأصح الوجوه في كشف العلاقة بين الأمر بالإنفاق والنهي عن إلقاء النفس في التهلكة هو الوجه الأول، ولذا جاء الأمر بالإحسان بعد النهي المذكور؛ لأن الأمر به ليس للوجوب قطعاً؛ لأن مرتبة الإحسان مفتوحة إلى أقصى حد، وهي فوق الواجب وزائدة عليه، فلا يكون في تركه تعرض للتهلكة، بخلاف ترك الأمر الواجب؛ ولذا جاء مقترناً به مباشرة.

 

 أما الروايات: فنذكر منها:

 

 1 ـ ما رواه ناجية عن أبي جعفر (ع) أنه قال: «إن المؤمن يبتلى بكل بلية ويموت بكل ميتة إلا أنه لا يقتل نفسه»[22].

 

2 ـ ما رواه أبو ولاد الحناط قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: «من قتل نفسه متعمداً فهو في نار جهنم خالداً فيها»[23].

 

3 ـ ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن رسول الله (ص) أنه قال: «من قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة»[24]

 

4 ـ ما في صحيح مسلم أيضا من قصة رجل كان يقاتل قتال الأبطال مع المسلمين ضد الكافرين فجرح جراحاً عظيمة حتى ظن أنه مات فقيل فلان شهيد، فقال الرسول (ص) «فلان في النار» ولما اطلع عليه بعض المسلمين تبين أنه لم يمت ورآه يقتل نفسه برمح أو سيف، فتبين معنى قوله (ص)، ثم قال (ص): «إن الله قد ينصر هذا الدين بالرجل الفاجر»[25].

 

فربما يقال هنا، إن هذه الروايات صريحة في أنه لا يجوز للمؤمن أن يقتل نفسه، والعمليات الاستشهادية من هذا القبيل.

 

 والجواب: أما عن التمسك بالرواية الأولى فواضح؛ لأنها ناظرة إلى من يريد أن يتخلص من البلايا بقتل نفسه، فقالت إن هذا غير جائز، فلا علاقة للرواية بموضوع بحثنا، وهي أقرب إلى البحث المعروف تحت عنوان الموت الرحيم الذي يراد من خلاله القضاء على حياة إنسان بحجة أنه يعاني من آلام رهيبة، فدلت هذه الرواية على عدم جواز ذلك. ومثلها الرواية الرابعة.

 

أما عن التمسك بالرواية الثانية والثالثة، فبأن المتبادر منها النهي عن قتل النفس لمجرد أنه قتل النفس من دون أن يكون هناك أي هدف مشروع يسوغ ذلك، فلا تشمل حالات وجود مثل هذا المسوغ.

 

ولو افترضنا وجود إطلاقات في هذه الروايات، فإنها معارضة بإطلاقات أدلة المشروعية الآتي ذكرها، وسنعود إلى هذا التعارض حينها لنبين كيفية رفعه.

 

 أدلة مشروعية العمليات الاستشهادية:

 

علينا أن نشير في البداية إلى أننا لا نعني بالمشروعية هنا الإباحة التي يتساوى فيها طرفا الفعل والترك، فهذا لا معنى له هنا؛ إذ لا معنى لأن يكون قتل النفس مباحا سواء كان ذلك بيده أم بيد غيره، بل المقصود بالمشروعية هنا عدم الحرمة، وإلا فإن العمليات الاستشهادية من سنخ القضايا التي إن ثبتت شرعيتها ثبت رجحانها الأعم من الوجوب والاستحباب، ضمن ضوابط تفرضها علينا أدلة المشروعية نفسها، كما سيأتي.

 

وبعد هذا نقول: أن من ينصف البحث، لن يصعب عليه العثور على أدلة تثبت هذه المشروعية، وربما يتمكن القارئ من استخلاص بعض منها مما سبق، وتعتمد هذه الأدلة على عمومات وإطلاقات وردت في القرآن الكريم والسُّنة المنقولة عن المعصومين(ع). والروايات وهي عمومات إن تمت، فلن يختلف الحال فيها بين وسيلة القتل، كما أنه لو حرم القتل لم يكن من فرق بين الوسائل كما تقدمت الإشارة إلى ذلك سابقاً:

 

 أما من القرآن الكريم:

 

فآيات كثيرة، نذكر بعضها على سبيل النموذج وإلا فإن إحصاءها يحتاج إلى توسعة لا يسمح به المجال:

 

 1 ـ فمن هذه الآيات قوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}[26].

 

أمرت هذه الآية بالقتال في سبيل الله، ولم تحدد وسيلة القتال، ولا شك في أن العمليات الاستشهادية من مصاديق هذا القتال؛ لأن مفروض البحث أن الذي يأتي بها إنما يقاتل الذين يقاتلوننا، وأن هدفه رضا الله تعالى، وفي سبيل الله، ومعنى أنه في سبيل الله هو وقوع الفعل في طريق تحقيق الأهداف التي أمر الله تعالى بها، وتحرير الأرض هدف إسلامي مقدس تعلق به أمر إلهي بلا ريب. ولا سبيل لإخراج العمليات الاستشهادية من منطوق هذه الآية إلا بأحد طريقين:

 

أولهما: أن يقال إن الأمر بالقتال مشروط بأن لا يؤدي إلى قتل أنفسنا، وهذا التقييد مرفوض من قبل الجميع؛ لأنه ببساطة غير موجود في النص، بل إن الآيات أمرت بالقتل مع الأخذ بعين الاعتبار أن القتل سيصيب جماعة المقاتلين، وجعلته من أسرار مدح الذين يقاتلون في سبيل الله تعالى، كما مدحهم الله تعالى في قوله: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ...}[27].

 

ثانيهماً: أن يقال إن الآية ونحوها من الآيات وإن لم تخصص وسيلة القتال بوسيلة معينة، إلا أنه يعمل بها ضمن الوسائل التي كانت متاحة في زمن نزول الآية، وحيث إن العمليات الاستشهادية لم تكن موجودة، فلا دليل على أنها مشمولة بالآية، وأمثالها من الآيات.

 

وهذا أيضاً مردود؛ لأن مقتضاه عدم جواز استعمال الدبابات وكل الوسائل العسكرية المتطورة، لأنها لم تكن أيضاً موجودة في عصر نزول الآية، ولو أردنا البناء على هذا المنطق في التعامل مع القرآن الكريم، لوجب أن نرفض كل ما هو جديد وحديث من السيارة إلى الطائرة، وكل ما في هذه الحياة من مستحدثات طرأت فقلبت الحياة عما سبق كلياً.

 

لا مجال لمثل هذا المبنى في فهم الآيات، فإن الكتاب الكريم كتاب لا يختص بعصر دون عصر، ولو كانت هناك إرادة للتخصيص بوسائل معينة، لكان من الطبيعي أن يتم التنبيه عليه بإشارة معينة. وهي غير موجودة بل الموجود خلافها كما سيتجلى ذلك في بعض الآيات الآتية.

 

2 ـ ومن هذه الآيات أيضاً قوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}[28]. وهي تدل على مدح كل من يقتل في سبيل الله تعالى ووعده بالحياة والرزق من عند الله تعالى، من غير تفصيل بين كيفيات القتل ووسائله؛ لأن المعيار هو كون القتل في سبيل الله لا من اجل أي هدف آخر.

 

3 ـ ومن هذه الآيات قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ.. أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}[29]. وليس للجهاد في سبيل الله تعالى معنى إلا بذل الجهد في قتال أعداء الدين في هذا السبيل، وهو معنى ينطبق على العمليات الاستشهادية كما ينطبق على أي عملية عسكرية.

 

4 ـ ومن هذه الآيات قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[30]

 

ومن أظهر مصاديق بذل النفس لله تعالى، بذلها في القتال، وفي عملية عسكرية جهادية، والعمليات الاستشهادية أرقى مصاديق هذا البذل.

 

والحقيقة أن كل آيات الجهاد والقتال في سبيل الله تشمل العمليات الاستشهادية دون أن تشذ عنها أي آية، وليس هناك أي طريقة تسمح بتخصيص تلك الآيات بما عدا تلك العمليات، إلا أن يكون هناك مكابرة وعناد فيقال: إنها ليست من القتال في سبيل الله ولا من الجهاد في سبيله، وهذا أمر يكذبه الوجدان، ولا يحتاج إثبات بطلانه إلى أي بيان.

 

 أما من الروايات:

 

ففيها الكثير مما ينطبق على العمليات الاستشهادية، نذكر بعضا منها كنموذج:

 

1 ـ فمن ذلك ما عن أبي جعفر الباقر(ع) أنه قال: إن علي بن الحسين(ع) كان يقول: قال رسول الله (ص): «ما من قطرة أحب إلى الله عز وجل من قطرة دم في سبيل الله»[31]. فمن ذا الذي لديه الجرأة ليجزم أن دماء الشهيد الذي يسقط بعملية استشهادية ليست قطرات في سبيل الله.

 

2 ـ ومن ذلك ما عن الإمام الصادق(ع) عن أبيه عن آبائه(ع) أن النبي(ص) قال: «فوق كل ذي برٍّ برٌّ حتى يقتل في سبيل الله فإذا قتل في سبيل الله فليس فوقه بر»[32].

 

والحق يقتضي منا أن نقول إن إثبات مشروعية العمليات الاستشهادية أبسط من أن يحتاج إلى دليل؛ لأنه إذا توقف تحرير الأرض ورفع الظلم عن العباد على العمليات الاستشهادية، فإن ضمير كل ذي ضمير وعقل كل عاقل يفرض عليه الإيمان بمشروعية تلك العمليات، والإقرار بأنها مطلوبة لتحقيق ذلك الهدف، وإلا فما معنى أن يضن الشخص بنفسه دون أن يحرك ساكناً وهو يرى الأعراض تنتهك، والبلاد تحتل، والنفوس تقتل من غير ذنب ولا جرم؟! وما هي قيمة حياة فرد إذا توقف عليها تنفيذ التكاليف الإلهية؟ أوليس من مبادئ ديننا الأساسية التضحية بالنفس من أجل إنقاذ المجتمع ورفع راية الإسلام والمسلمين، ونشر عزتهم، ورفع كل ذل ومظلومية عنهم، أوليس من مبادئ ديننا الواضحة أن ينسى المرء نفسه في سبيل ربه وتحقيق ما أمر به.

 

إن الشهيد بأي عملية كان من خيرة المحسنين: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[33]

 

قصة النبي يونس(ع): ويؤيد ما ذكرنا من كون قتل النفس في سبيل الآخرين أمراً مشروعاً من الناحية المبدئية، في نظر العقل والقرآن، ما حكاه القرآن الكريم؛ حيث يقول: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ}[34]. يقول العلامة الطباطبائي: «.. وركب البحر في فلك مشحون فعرض لهم حوت عظيم لم يجدوا بداً من أن يلقوا إليه واحداً منهم يبتلعه وينجو بذلك، فساهم وقارعوا فيما بينهم فأصابت النبي يونس(ع) فألقوه في البحر فابتعله الحوت ونجت السفينة»[35].

 

وهذه الحكاية تدل على أن التضحية بالنفس من أجل إنقاذ المجموع أمر منطقي وعقلائي تماماً، كما يتبعه أي مجتمع عقلائي لو ابتلى بمثل هذه الحال، ورعاية للحالة العقلائية هذه، كانت القرعة هي وسيلة الاختيار. وقد تأكد الجميع بأن الحل المطروح أولى بأن يتبع ولذا ساهموا وساهم معهم النبي يونس (ع) ولم يمتنع عن ذلك بحجة حرمة قتل النفس، أو تعريضها للهلاك، وهو ما كان يقصد من المساهمة إذ إن إلقاء البدن للحوت لن يؤدي، بحسب ظاهر الأمر لدى أهل السفينة إلا إلى موت الملقى إليه وأكل الحوت له، ولم يكونوا على علم بالتدبير الإلهي والإ لبادروا إلى إلقاء النبي يونس(ع) من غير حاجة إلى القرعة.

 

وبعد أن جاءت النتيجة لصالح إلقاء النبي (ع) لم يعترض بل ألقى بنفسه، أو ألقي في البحر والتقمه الحوت. ولم تعقب الآيات التي تحدثت عن هذه القصة بما يشير إلى أي استنكار الهي تجاه هذا التصرف، إذ لو كانت تلك الطريقة غير مرضية كان من الطبيعي أن يُزال ما يعلق في الذهن جراء الاطلاع عليها، من منطقية ومشروعية مثل ذلك التصرف، وهو ما لم يحصل، وقد جاء في روايات القرعة مدح لتلك الطريقة التي اتبعت، مع أن موردها قتل النفس، مثل ما نقل عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: «ما تقارع قوم فوضوا أمرهم إلى الله عز وجل إلا خرج سهم الحق، قال: وأي قضية أعدل من القرعة إذا فوض الأمر إلى الله؟ أليس الله عز وجل يقول: فساهم فكان من المدحضين»[36].

 

وبهذه الإشارات التي أشرنا إليها حول القصة، يتبين بطلان القول بأن أهل السفينة ليسوا من أهل الإيمان، فقد ظهر لك أن هذه الخصوصية لا تبطل ما فهمناه من الآية.

 

 تعارض الأدلة:

 

 بقي أن نشير إلى أنه قد يثير بعض الذين تشوشت المسألة في أذهانهم أو يتعمدون تشويش أذهان الآخرين، تشكيكا بالمشروعية انطلاقا من معارضة الأدلة التي ذكرناها مع بعض الروايات التي تقدمت، إذ ليس في الآيات أي آية تنافي العمومات المذكورة. فقد يحلو للبعض أن يقول هنا إن الروايات تخصص العمومات القرآنية، فإذا دلت الروايات على حرمة أن يقتل المرء نفسه، تخصص الآيات بما عدا ذلك.

 

والجواب:

 

أولاً:

 

 إذا دلت الروايات على حرمة قتل المرء نفسه، فهي لا تتحدث عن خصوص قتل نفسه بيده، بل تتحدث عن قتل نفسه كيفما كان، ولو بيد الغير، فلو أريد تخصيص الآيات بها، لوجب القول بعدم مشروعية أي معركة تؤدي إلى أن يقتل فيها بعض المؤمنين، وهذا إلغاء لمشروعية الجهاد وقول بحرمته؛ لأن هذا هو حال كل قتال، خاصة مع قلة العدد والعدة، والتاريخ مليء بمثل تلك المعارك، فوجب على هذا أن يقال: إن معركة بدر كانت محرمة، وهكذا غيرها؛ لأنه أدت إلى قتل المؤمنين. هذا كله يدل على أنه لا يمكن أن يكون للروايات شمول لمورد الجهاد والقتال في سبيل الله.

 

 ثانياً:

 

لو فرضنا الشمول فالنسبة هي العموم والخصوص المطلق؛ لأن الآيات تتحدث عن مدح القتل في سبيل الله، وكل استشهاد ناشئ عن فعل جهادي، والروايات الناهية عن قتل النفس، كالآيات الناهية عنه، لو فرضنا شمولهاً لموردنا، فهي إنما تشمله بالإطلاق، اقتضى حمل المطلق على المقيد كما يعبر علماء الأصول، والقاعدة في هذه الأمور تقييد المطلقات والعمومات وفق ما تقتضيه التقييدات والتخصيصات، فيصير مآل الروايات والآيات الناهية إلى أن يستثنى منها ما يكون قتلاً في جهاد في سبيل الله.

 

 ثالثاً:

 

لو أنكرنا ما سبق، وقلنا: إنه مختص بالآيات أما الروايات، فهي تتحدث عن خصوص قتل المرء نفسه بيده، ومن هذه الجهة تكون الروايات أخص من الآيات المادحة لقتل النفس؛ لأنها مطلقة من جهة كون القتل بيد نفسه أم بيد غيره.

 

لو قلنا هذا لقلنا إن النتيجة هي كون النسبة العموم والخصوص من وجه إذ كما أن للروايات جهة خصوص فإن للآيات أيضاً جهة خصوص؛ لأن الروايات تتحدث عن حرمة قتل المرء نفسه، سواء كان ذلك في جهاد أم في غيره، فتكون نقطة التعارض هي قتل المرء نفسه في عملية عسكرية جهادية في سبيل الله تعالى، ومقتضى إطلاق الآيات مدحه ومقتضى إطلاق الروايات حرمته، ولا شك في أنه إذا تعارض النص القرآني مع نص روائي فالمقدم هو النص القرآني، لما تسالم عليه المسلمون من أن القرآن الكريم وان أمكن تخصيص نصوصه بالأحاديث الشريفة إلا أن هذا عندما تكون النسبة بين الآية والرواية العموم والخصوص المطْلق. أما إذا كان هناك عموم وخصوص من وجه، ما يعني التباين في مورد الاجتماع، فهنا يدور الأمر بين العمل بالرواية وبين العمل بالآية، وفي مثله يكون العمل بالآية لا بالرواية، وعلى هذا تتخصص الروايات بالقتل لا في الجهاد، وهو ما لا تتحدث عنه الآيات ولا تنافيه، ويؤول الأمر إلى مسألة الانصراف التي أشرنا إليها سابقاً.

 

الفتاوى المغايرة: وبعد كل ما تقدم فلن يكون هناك أي أثر عملي لأي فتوى مخالفة تفتي بحرمة العمليات الاستشهادية؛ لأنه إن كان المقصود الحرمة مطلقاً ومبدئياً، فهذا لا يمكن لأي عالم أن يتفوه به، ولا لفقيه أن يتبناه، بل لو قال ذلك لشككنا في علمه. وإن كان المقصود هو وجود حالتين وظرفين، ظرف المشروعية وظرف عدمها، وأنهم بإعلان التحريم يشخصون أن الظرف ليس مؤاتياً للقيام بمثل هذا النوع من العمليات، فهم وإن أصابوا في التقسيم لكن ليس منهم يؤخذ التحريم، وتحديد أي ظرف هو الظرف الذي نحن فيه، بل يؤخذ ذلك من القادة الحقيقيين، لا منهم خاصة إذا أحيطوا بما يوجب اللوث والتهمة كأن يكونوا أتباع سلطان لا يؤمن بتلك العمليات، أو يؤمن بضرورة الاستسلام للعدو ويعمل على مشاركته في إذلال الأمة، حتى صار يشكل خط الدفاع الأول عنهم.

 

إن قسماً كبيراً من المفتين بالتحريم، ليسوا إلا أبواقاً إعلامية تردد صدى ما يقوله أسيادهم أعداؤنا، في أمريكا وإسرائيل؛ ولذا لن يستنكف جورج بوش عن أن يدخل في سلك المفتين، ويعلن رأيه صراحة باسم الإسلام في هذه العمليات الاستشهادية، ويدعو أتباعه لكي يقوموا بتكليفهم وتعميم هذه الفتوى على سائر الناس.

 

ولسنا هنا في وارد التشكيك بجميع المترددين والذين قد يخطر على بالهم الاحتياط في هذه الموارد، ولا التقليل من شأن أحد، وإنما نتخوف عليهم ومن عدم تعمقهم وتأثيرهم على بعض شباب الساحة فيزرعوا الخوف في نفوسهم ويخلقوا فيهم حالة التردد وعدم القدرة على مواجهة العدو، فهؤلاء مسؤولون، وليس لهم أن يستعجلوا الرأي وإبداءه، وهم يعلمون أن لازم ذلك الخنوع والاستسلام واستحكام سيطرة العدو على بلاد المسلمين، وعليهم إبداء بعض الحرص على المصالح العليا، وأن يلتفتوا إلى لوازم أقوالهم وأفعالهم، إن كانوا من أهل الإخلاص والوفاء للإسلام ديناً منهجاً ومعتقداً.

 

 مدنيون وعسكر:

 

ثم إن قوماً ينسبون أنفسهم إلى الاعتدال، ويقولون إن العمليات الاستشهادية إنما تكون مشروعة، في فلسطين، إذا كانت ضد العسكريين، وهي غير مشروعة ضد المدنيين.

 

وهذا الكلام ترديد لفكرة رفض العمليات بلبوس آخر، ويحمل في طياته دلائل فساده؛ ذلك أن مشروعية العمليات الاستشهادية من مشروعية الجهاد نفسه، وليست منفكة عنه لتقيد بقيود منفصلة عن قيود الجهاد ومشروعيته، فكل مورد من موارد الجهاد والدفاع عن الأرض والعرض والنفس، هو أيضاً مورد من موارد تلك العمليات من غير أي تفصيل. وبناء عليه، فإذا كان طرد المحتل الصهيوني واجبا شرعاً، سواء كان يلبس لباساً عسكرياً أم كان يلبس لباساً مدنياً، فإن طرده يصير واجباً بكل ما يتوفر من أسلحة، فإذا توقف الطرد على العمليات الاستشهادي كانت مشروعة، حتى في وجه من يسمى بالمدني؛ لأن خصمنا وعدونا الذي نجاهده وندفعه عنا، هو كل معتد محتل غاصب، مدنياً كان أم عسكرياً. والفرق بين المدني والعسكري أن الثاني يحمي احتلال الأول، فالمدني المحتل الغاصب يريد أن يعيش احتلاله وغصبه في ظل من يدافع عنه ويحميه، وليس في فلسطين المحتلة مدني صهيوني برئ من تهمة الاعتداء والاحتلال، والله تعالى يقول في كتابه الكريم: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}[37] ولم تشترط الآيات أن يكون المعتدي عسكرياً بل هي مطلقة شاملة لكل معتد.

 

إن كل أرض محتلة وكل مستوطن غاز هو ساحة من ساحات الجهاد والقتال المشروع. وبالتالي، ساحة من ساحات العمليات الاستشهادية. ومن يريد أن يحمي قسماً من هؤلاء المعتدين بحجة أنهم مدنيون، فهو في الواقع يريد أن يحمي اعتداءهم بالنيابة عن جند العدو ليبقى المستوطنون آمنين.

 

إن كل تلك المحاولات لا تستهدف إلا تعطيل أي قدرة لدى الشعب الفلسطيني وأي شعب مستضعف عن مقاومة العدو المستكبر، سواء صدرت من أعدائنا أم ممن يوهمونا أنهم منا، عن وعي منهم أم عن جهل وغباء.

 

 شروط المشروعية:

 

إن كل ما تقدم لا يعني بأي حال من الأحوال أن ينطلق كل فرد منا في عملية استشهادية كيفما كان، وبدون حساب أهمية العملية وتأثيرها في طريق الجهاد وتحرير الأرض، فمع أن هذا النوع من العمليات يمثل أرقى فعل جهادي استشهادي، وصاحبه ينال مرتبة هي فوق مرتبة الجنان بكثير، إلا أنها ذات حساسية ودقة شديدتين بحجم أهميتها وفعاليتها، وحرمة المؤمن عظيمة عند الله تعالى وفي الإسلام، وقتل النفس لا يجوز أن يكون إلا لمسوغ شرعي بحجم الوسيلة؛ ولذا كان من الطبيعي أن تقنن تلك الوسيلة لتصير خاضعة لجملة شروط يمكن تقسيمها إلى قسمين:

 

شروط شرعية:

 

بمعنى أن يشخص الولي الفقيه أن هذه المعركة، أو أي معركة أخرى تحتاج إلى استخدام هذا الأسلوب، وهذا الشرط متحقق في العصر الحاضر، وفي المعارك الفعلية التي ابتليت بها الأمة الإسلامية.

 

شروط ميدانية عسكرية: وهو تشخيص أهداف العملية ومدى تناسبها مع حجم الفعل، وهذا شأن القادة العسكريين الميدانيين الذين أخذوا على عاتقهم تنفيذ هذا الفعل الجهادي المبارك.

 

 وختاماً:

 

علينا هنا في هذا البحث أن نعترف بأن العمليات الاستشهادية، رغم أن البحث الفقهي يدل على مشروعيتها، من دون أي تردد، إلا أن الأذهان والنفوس كانت تضطرب من هذه الفكرة، وهو اضطراب ناشئ من ضعف النفوس لا من ضعف الدليل، ومما ارتكز في الأذهان على مدى قرون طويلة، من ضرورة الاحتياط في الدماء، مع أنه لا معنى لهذا الاحتياط في فعل الجهاد والدفاع عن بلاد المسلمين إلا التخاذل والاستسلام حتى مع القدرة على الدفاع، ومن هنا ندرك عظمة الإمام الخميني (قده) الذي ملك من العلم بالله وشرعه ما يسمح له بتقديم الموقف السليم في الظرف المناسب، ولذا بارك ذلك الطفل الذي لم يبلغ الحلم أو بالكاد بلغه، والذي فجر نفسه تحت دبابة أثناء الغزو العراقي للجمهورية الإسلامية، أعني به الشهيد حسين فهميده، الذي قال الإمام الخميني في حقه: «إن قائدنا هو ذلك الطفل ذو الاثني عشر عاماً صاحب القلب الصغير الذي يفوق المئات من ألسنتنا وأقلامنا الذي حمل قنبلته ورمى بنفسه تحت دبابات العدو ففجرها محتسياً شراب الشهادة»[38]. وهو الإمام الذي حسم جدلاً انطلق في لبنان أثناء الاحتلال الصهيوني لجنوب لبنان والبقاع الغربي، حول مشروعية تلك العمليات، فأصدر فتواه في هذا الشأن، وما هي فترة قليلة حتى اصطف وراءه الجميع ولم يعد هناك من يعترض على تلك العمليات من حيث المبدأ.

 

 وأخيراً:

 

لا أدعي أنني قدمت الجواب الكافي الشافي، وما قدم في هذا البحث ليس إلا محاولة إظهار وجهة نظر مبدئية حول قضية العمليات الاستشهادية، نسأله تعالى التوفيق وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 الهوامش:

 

ـــــــــــــــــــ

 

[1] الكلمات القصار، من إِصدارات الوحدة الثقافية في حزب الله ص 75.

 

[2] المصدر السابق.

 

[3] سورة الإسراء: الآية 33.

 

[4] سورة النساء: الآيتان 29 ـ 30.

 

[5] سورة البقرة الآية 195.

 

[6] سورة النساء الآية 176.

 

[7] سورة الجاثية الآية 24.

 

[8] سورة الأعراف الآية 173.

 

[9] سورة الأنعام الآيتان 25، 26.

 

[10] سورة الأعراف الآية 4.

 

[11] سورة الأنعام الآية 6.

 

[12] سورة التوبة الآية 42.

 

[13] وسائل الشيعة المجلد الثامن عشر ( دار الكتب الإسلامية ) كتاب القضاء الباب الثاني عشر، الحديث الثاني.

 

[14] الكافي الشيخ الكليني ج 8 ص 311.

 

[15] النهاية في غريب الحديث ـ ابن الأثير ج 5 ص 271.

 

[16] مفردات الراغب، مادة هلك.

 

[17] كتاب العين ـ الخليل الفراهيدي ج 3 ص 377.

 

[18] سورة النور الآية 63.

 

[19] نهج البلاغة شرح محمد عبده طباعة دار الهدى الوطنية ج 1 ص 68. ورواه مع اختلاف يسير في الألفاظ الكليني في الكافي ج 5 ص 4.

 

[20] منهم الشهيد السعيد آية الله السيد محمد باقر الصدر، راجع الجزء الخامس من بحوث في علم الأصول، ص 84.

 

[21] راجع الكافي ج 4 ص 61، وفقيه من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 416 والخصال ص 630.

 

[22] وسائل الشيعة كتاب القصاص الباب الخامس.

 

[23] المصدر السابق.

 

[24] صحيح مسلم كتاب الإيمان ح 1.

 

[25] المصدر السابق.

 

[26] سورة البقرة الآية 190.

 

[27] سورة التوبة الآية 111.

 

[28] سورة آل عمران الآية 169.

 

[29] سورة الأنفال الآية 74.

 

[30] سورة التوبة الآية 111.

 

[31] وسائل الشيعة للحر العاملي طباعة دار الكتب الإسلامية ج 11 ص 6.

 

[32] المصدر السابق ص 10.

 

[33] سورة التوبة الآية 91.

 

[34] سورة الصافات الآيات 139 ـ 142.

 

[35] تفسير الميزان ج 17 ص 166

 

[36] فتح الأبواب للسيد ابن طاووس الحلي الباب الحادي والعشرين.

 

[37] سورة البقرة الآية 194.

 

[38] الكلمات القصار، من إصدارات الوحدة الثقافية في حزب الله ص 77.

 

مواضيع ذات صلة

 

فلسفة الجهاد في الإسلام

 

شهيد يتحدث عن الشهيد

 

الجهاد المشروع وضوابطه الأخلاقية والقانونية [1]

 

الجهاد الاستشهادي مقاربة تاريخية فقهية في الإطار الإسلامي

 

قبسات من السنة الصحيحة حول «العمليات الاستشهادية»[1]

 

قبسات من السنة الصحيحة حول «العمليات الاستشهادية» [2]