حياته

 لم يزل السائرون على خطى علي (ع) يسبغون وضوءهم من منبع الحب الإلهي ليولوا وجوههم شطر كعبة آمالهم معرضين عن كل شيء يترنمون بــ"فزت ورب الكعبة". وكم من الآملين يترقبون خاتمة كهذه بلوعة وحسرة.

 وأحد من عرفه أهل السماء وغبطه العرفاء، الشوكة في أعين الأعداء، البطل المجاهد، نصير الإمام الراحل (ره) الشهيد الحاج مهدي العراقي.

 

علماً كتب عليه "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه".

 كل ما يمكن أن نقوله في الشهيد العراقي قليل في حقه، فإن العراقي لم يعرفه إلا إمامه حيث يقول فيه: "مهدي العراقي لم يكن شخصاً واحداً؛ لقد كان وحده عشرين شخصاً. لقد كان الحاج مهدي العراقي لي أخاً وولداً صالحاً وعزيزاً". وكل ما يقال فيه هو انعكاس عن هذه الحقيقة.

 

فتح محمد مهدي الحاج إبراهيم العراقي عينيه على الدنيا في عام 1930م في محلة ملتزمة من محلات جنوب طهران، وتربى في أحضان أم عفيفة وأب كريم ذي قلب سليم طاهر، فكان يداوم على الفرائض منذ نعومة أظفاره.

 

كانت أيام صباه وشبابه حافلة بأحداث تتجلى شدتها بوضوح من خلال استقرائها؛ وفي الوقت الذي كان فيه الشهيد العراقي يستغرب تلك الأحداث، كان ينظر إليها أيضا ًبعين البصيرة والاعتبار؛ ففي وصيته لأبيه – عام 1965م – يتحدث عن تلك الأيام قائلاً:

 

"أجل أبتاه، لقد تأمّلت صروف الزمان العجيبة بعين الاعتبار، فعرفت النافع من المضر، وميّزت الرابح من الخاسر".

 

درس مهدي العراقي المرحلة الابتدائية في مدرسة حافظ وواصل دراسته في إعدادية مروي ومن ثم في إعدادية دار الفنون، إلا أن متطلبات المعيشة جعلته يتوجه إلى العمل، وإن كان يبدو أن السبب الرئيس في تركه الدراسة هو نشاطه الجهادي وانضمامه إلى فدائيي الإسلام وارتباطه بالشهيد نواب صفوي.  

 

فدائيو الإسلام

 

كان مهدي في أوائل بلوغه في المرحلة الإعدادية ذا روح صافية طاهرة، قد جرت ينابيع الحكمة على قلبه لالتزامه بأحكام الشريعة واهتمامه بالمناسبات الدينية، كما كان يتمتع بالذكاء والفطنة؛ فكانت ثمرة هذا القلب النير والضمير الحي وضوح الحق والحقيقة لديه. في تلك المرحلة من حياته التقى الشهيد نواب صفوي لينذر نفسه من حينها للإسلام وينخرط في منظمة فدائيي الإسلام ويأخذ طريقه إلى لجنتها المركزية، هذه المنظمة التي مثلت في حينها أقوى حركة ناسبت روح الإباء ومقارعة الطغاة التي حملها الشهيد العراقي، حيث وجد قدوته في شخصية نواب صفوي واستغرق في هذه الشخصية.

 

كان أول نشاط لمنظمة فدائيي الإسلام ضد كسروي(*) الذي قُتل آخر الأمر على يد الشهيد السيد حسين الإمامي.

 

وعلى مدى عقد كامل من عمل فدائيي الإسلام، كان للحاج مهدي العراقي دور فعال في جميع نشاطات المنظمة والساعد القوي للشهيد نواب صفوي.

 

وهذه عينات من نشاطاته نضعها بين يدي القارئ الكريم:

 

1 ــ عملية التصويت في الدورة السادسة عشرة لمجلس الشورى الوطني.

 

2 ــ مهمة الاغتيال الثوري لهجير.

 

3 ــ مهمة اغتيال الشاه عند تشييع رضا خان.

 

4 ــ مهمة الاغتيال الثوري لرزم آرا.

 

وغير ذلك من المهمات والعمليات.

 

في خضم الأحداث السياسية لتشكيل الجبهة الوطنية ورئاسة وزارة مصدق وغيرها، كان الحاج مهدي العراقي يمثل حلقة الوصل بين الشهيد نواب صفوي وآية الله الكاشاني ومصدق، وأحد المخططين لتجمع فدائيي الإسلام في ميدان بهارستان للإعلان عن أسباب الاغتيال الثوري لرزم آرا في وقت كان الشيوعيون والقوميون وغيرهم يدعون القيام بهذا العمل.

 

يحدثنا الشهيد الحاج مهدي العراقي عن دوره في تحرك انتهى بتشكيل الجبهة الوطنية بموافقة الشاه ويقول: "قبل أن تبدأ الانتخابات، لا أدري في الشهر السادس أو السابع الإيراني، لا أذكر بدقة في الثامن عشر من الشهر السادس أو السابع، قام مصدق بدعوة ليوم الجمعة الثاني والعشرين من الشهر نفسه في داره. كما كتب رسالة إلى المرحوم نواب أن أرسل أصحابك إلينا فإن لي عملاً معهم. كان صباح الجمعة فذهب بعض الأصحاب إلى دار مصدق، كانت الساعة التاسعة تقريباً عندما خرج مصدق من غرفته؛ هناك سلم في دار مصدق يرتفع عشر أو إحدى عشرة درجة إلى الأعلى حيث يوجد موضع لخلع الأحذية، وقف المرحوم الإمامي قرب موضع خلع الأحذية ذاك، كان بعضهم يقف على السلم، وقسم في باحة الدار، كان عددهم خمسمائة إلى ستمائة شخص تقريباً.

 

عندما جاء مصدق قام أحدهم بإلقاء الشعارات والصلوات، فقال مصدق: السكوت شعارنا، ومن لا يسكت فهو ليس منا، انتبهوا لا تطلقوا أي شعار! نحن نريد الذهاب من هنا إلى البلاط، نذهب لننهي حديثنا مع الشاه، فإذا تحركنا من هنا عليكم بالسكوت، فإن لم يسكت أحد وأطلق شعاراً فأمسكوا به فوراً. فنزل من السلم وبإحدى يديه عصا ووضع الأخرى بيد المرحوم الأمامي. وتحركا وتحرك الناس خلفهم إلى أن اقتربنا من البلاط. وقبل البلاط بقليل أخذ شاب يافع بإطلاق شعار الموت للشاه والحياة لمصدق، إذ قال مصدق أمسكوا به حتى إذا هرعوا إليه ليمسكوه ولى هارباً.

 

عندما وصلنا إلى قرب القصر جاءنا الضابط المسؤول عن القصر وقال ماذا لديكم هنا؟! قال له مصدق: هذه دار الشعب والشعب جاء إلى داره! فذهب إلى الداخل ورجع، وجاء هجير. جاء هجير وقال ما تريدون؟ فقال مصدق لهجير: هجير، أنت لست بهجير، أنت أجير، اذهب للشاه قل له هنا دار الشعب، والشعب يريد الدخول. فذهب هجير إلى الداخل، وعاد ليقول: الشاه يبلغ سلامه ويقول: صحيح أن هذه هي دار الشعب، إلا أنها ليست دارًا تسع لاستقبال الشعب كله، اختاروا نواباً عن الشعب وأرسلوهم إلى الداخل. فقال مصدق: لا هؤلاء ليسوا كل الشعب بل بعض الشعب، اذهب وقل له إنهم يجب أن يدخلوا جميعًا. فقال هو: لا يمكن. فصرخ به الإمامي قائلاً: ألم نقل لك اذهب إلى الداخل، قل نعم. فقال لإمامي: لقد رأيت ماذا فعلت بسادتك، وآتيك بنصيبك أيضاً. وكان يعني الكاشاني. فقال له يا كذا ويا كذا إن لم أقتلك فأنا ابن زنا. عند ذلك طلب مصدق من الإمامي أن يسكت.

 

ذهب هجير وعاد ثانية ليقول: كما قلت لكم أولاً، الشاه يقول اختاروا نواباً عنكم. فاختير هنالك عشرون شخصاً تقريباً: مصدق، شايكان، حائري زاده، عبد القدير آزاد، مكي، عميد نوري، جلالي نائيني، وآخرون. كما تقرر أن تشكل مجموعة أخرى حلقة وصل بين المعتصمين والخارج كي يأتوا ليروا هل من عمل أو شيء. فتقرر أن يأتي الحاج أبو القاسم الرفيعي مسؤول الانضباط في فدائيي الإسلام، مع شخص آخر عند الساعة الخامسة من بعد الظهر ليتصلوا بهم. فجاؤوا في الساعة الخامسة فقالوا لهم اذهبوا وتعالوا عند السادسة. عندما عادوا بعد ساعة أو ساعة ونصف جاؤوا لهم من الداخل بمسودة تأسيس الجبهة الوطنية وأعطوها للحاج أبي القاسم الرفيعي، حيث وجدت بذلك الجبهة الوطنية في إيران بموافقة الشاه.

 

طبعاَ جرى الحديث لاحقاً عما دار هناك؛ فما كان لا يحسن ذكره لم يذكر، وما حسن ذكره كان بالشكل التالي: قال مصدق للشاه أعط أمرًا بانتخابات حرة في البلاد، فقال الشاه إذا صارت الانتخابات حرة سيفوز بها الشيوعيون، فقالوا له: لا. قال: أنتم ليس لكم تنظيم ولستم بحزب ولا شيء آخر، كيف يمكن ذلك وعلى أي أساس؟! وعلى أية حال يتفقون على أنه مادام لا يوجد بشكل عام حزب غير حزب إيران، فستؤسَّس الجبهة الوطنية بذلك النظام الداخلي الذي كان.

 

وعندما جاؤوا بهذه المسودة إلى نواب صفوي لكي يأخذوها إلى الطبع، استاء ومنع الشباب من هذا العمل، وقال: تنظيم وحزب وجبهة تتأسس بموافقة ابن رضا خان لا قيمة لها عندنا، كل المصائب من هنا، مركز الفساد هاهنا، نحن تحدثنا مع الكاشاني لإزالة هذا الفساد؛ إذا بقي هذا ستستمر جرثومة السرطان والملاريا هذه بالنمو لتأتي إلى الخارج، ثم يأتي هذا ليؤسس لنا حزباً بيده!

 

واقتداءً بالشهيد نواب صفوي، لم يمل الشهيد الحاج مهدي العراقي يوماً إلى القوميين، لأنه كان يرى أن القوميين يعتمدون على شيء آخر غير الشعب الإيراني، وذاك هو أمريكا. ويقول في هذا الصدد: "الجبهة الوطنية كانت تعتقد أنه لا يمكن أن تعتمد على الشعب نفسه. لا بد لها من أن تعتمد على شيء آخر غير الشعب... والجبهة تقول هكذا نحن ليس بإمكاننا التقرب من الروس لأن الأجواء الداخلية لا تساعد من ناحية، فأولاً شعبنا شعب متدين ولا يمكننا الاعتماد عليهم... من ناحية أخرى مصدق من أسرة أرستقراطية، من أسرة منعمة، وحتماً لا يرغب في أن تكون له صفة من هذا القبيل. وكانت إنجلترا في حينه في وضع متذبذب كقوة عظمى... كل الحركات أخذت تعمل ضد إنجلترا. إذن لا يمكنهم التقرب منها أيضاً، فاضطروا إلى مغازلة أمريكا شيئاً فشيئاً من وراء الكواليس و...". فارتقى مصدق سدة الحكم بدعم من الشعب وآية الله الكاشاني وكذلك بتضحيات فدائيي الإسلام. ولكنه لما كان قومياً كان بعيداً عن الدين، وإذا كان يتظاهر أحياناً بذلك فهو من سياسته لا من ديانته. كان مصدق يعلم أن أول من سيقف بوجهه هو فدائيو الإسلام، ولأجل أن يشغل أعضاء وأنصار الحركة بقضية أخرى قام باعتقال المرحوم نواب صفوي بحجة واهية ليلقيه في السجن.

 

وفي الحادثة المفتعلة التي جرت في خصوص اغتيال الشهيد نواب صفوي عندما اختلقوا صوراً وأرادت إحدى الصحف طبع الصور مع مقالة، علم بذلك الشهيد العراقي فدعا الأصحاب بكل شهامة ليقضي على تلك المؤامرة.

 

وعند اعتقال الشهيد نواب صفوي، قام الشهيد العراقي مع اثنين وخمسين آخرين بدخول ساحة السجن كزوار ليعتصموا في داخله، وبعد أن سيطروا على السجن تولوا بأنفسهم أمر السجناء وأعلنوا عن بقائهم فيه حتى يتم البتّ في أمرهم.

 

وفي هذه الحادثة استلم الشهيد العراقي عملية تموين السجناء بكل حنكة ودقة، بعد أن قطعت عنهم حكومة مصدق الطعام لتضغط على الفدائيين، إلا أن الشهيد العراقي أخذ بتحديد مقدار المواد الغذائية الموزعة كل يوم ليزيد من مدة المقاومة.

 

وبعد مدة استطاع النظام بمساعدة الشيوعيين في داخل السجن الذين خانوا "الفدائيين"، أن يقتحم السجن ويشن على المعتصمين هجمات شديدة، لينهالوا عليهم بالضرب ويقيدوهم بالأيدي والأرجل. فحكم على الشهيد العراقي آنذاك بالسجن مدة سبعة أشهر وأطلق سراحه بتاريخ 25/ 4/ 1331هــ. ش.

 

وبعد استشهاد نواب صفوي أفل نجم حركة فدائيي الإسلام؛ يقول الشهيد العراقي في هذا الصدد: "بعد شهادة نواب صفوي وذاك الإرهاب الذي أوجدته الأحكام العرفية وأجهزة الأمن التي كانت تعتقلنا في كل أنحاء البلاد، لم تستطع بشكل عام أي منظمة أو حركة، وإن كانت تعمل تحت الأرض، من أن يظهر لها أي تحرك".  

 

زواجه

 

بعد استشهاد نواب صفوي واستتباب حالة من الرعب والإرهاب بفرض الأحكام العرفية وممارسات أجهزة الأمن وتضاؤل العمل الحركي على أثر ذلك، أراد الشهيد العراقي العمل بسنة النبي ليؤسس أسرة بمصاهرة عائلة محترمة تلقب بــ"إيجادي". فكانت ثمرة هذا الزواج ثلاثة أولاد: أمير ونادر (محمود) وحسام. والشهيد العراقي لم يكن ليتخلى لحظة في حياته عن الجهاد والتحرك، وكأن الجهاد في سبيل الله كان هو الأصل في حياته والعيش فرع له. يقول أمير العراقي في هذا الصدد: "لم أكن قد تجاوزت السابعة أو الثامنة من عمري وكنت أرى أبي دوماً خلف قضبان السجون".

 

زوجته، تلك المرأة المقاومة الصبورة، لا أنها لم تقف في طريقه فحسب، بل وكانت تقف إلى جنبه في مصاعب السجون والتفتيش ورجال الأمن ومشكلات الحياة، وكانت في الأوقات التي يغيب فيها الشهيد عن الدار أماً وأباً حنوناً لأطفالها الصغار.

 

يقول السيد محمد حجتي الكرماني في هذا الخصوص: "جرى الحديث عن صبر ومقاومة زوجة الشهيد العراقي وأمثالها ممن كن سنداً حصيناً لأزواجهن، ونحن يجب أن نذكر هنا أيضاً نسوة أخريات ممن جاهدن إلى جانب هذا الشهيد وكن مدداً لأزواجهن على طريق الجهاد الخطير ضد نظام الشاه.، ولكن لم لا أقول هنا إني لم أجد امرأة رضي عنها زوجها منهن كما هو الحال في زوجة الشهيد العراقي. ويقول نادر العراقي: "هذه المرأة وزوجها يحملان روح التضحية بأنفسهما ومن أجل أطفالهما. كانت أمي تذهب بنا في ذلك الصيف القائظ إلى برازجان حيث نواجه أبي... نحن مدينون لأبينا... مدينون لأمنا... مدينون لكليهما...".  

 

معرفته بالإمام

 

بعد وفاة سماحة آية الله السيد البروجردي واجه المسلمون في إيران مشكلة اختيار مرجع تقليد جديد؛ هذا في وقت كان نظام الشاه يحاول تضعيف الحوزات العلمية في إيران بحجة تقوية الحوزة العلمية في النجف ويطلب من الناس أن يرسلوا ببرقيات التعزية إلى آية الله الحكيم في النجف، لا إلى المراجع في قم؛ في هذه الأثناء يقوم الشهيد العراقي مع أصحابه وأسرته بزيارة إلى قم يبحث فيها عن مرجع ليكتشف أن الإمام الخميني (ره) هو الأعلم ويأخذ بتقليده. ويبدو أن علاقة الشهيد العراقي بالإمام ترجع إلى قبل هذا التاريخ، إلا أنه لا شك في أن الشهيد العراقي جذبته الشخصية الروحية والثورية للإمام ووجد فيه ضالته من بعد المرحوم نواب صفوي، فكان من حينها يمارس كل نشاطه السياسي والجهادي تحت إمرة الإمام، فعاهد إمامه بكل وجوده وذاب فيه حتى مضى مضرجاً بدمه على هذا العهد. 

 

اتحاد الجمعيات الإسلامية

 

بالدخول الجدي للإمام إلى ميدان الجهاد السياسي والاجتماعي انفتح للمجاهدين أفق جديد من الفاعلية والنشاط؛ فالشهيد العراقي بتجربته النضالية الطويلة وحسه السياسي المتميز، كان يرى أن تحرك التجمعات الدينية كل على حدة – الأمر الذي يؤدي أحياناً إلى تضارب أعمالها ــ ليس أمراً سليماً، فراح يفكر بتوحيد هذه التجمعات بالتعاون مع صديقيه القديمين الشهيد الحاج صادق أماني والحاج هاشم أماني.

 

 يقول الشهيد العراقي في ذكرياته: "من بداية تحرك السيد الإمام، كانت كل من هذه التجمعات الثلاثة قد وجدت لنفسها بانفراد شيئاَ من الارتباط بعلماء الدين، وكانت تعمل بهذا الشكل... ونحن بما كان لنا من تجربة جهادية كنا نعلم الأضرار التي تسببها الاختلافات... فكنت أنا في أحد هذه الفروع والمرحوم صادق أماني والحاج هاشم أماني في فرع آخر... فدعونا الحاج صادق وبعض أصدقائه وجرى الحديث بيننا، فلما بيّنّا أضرار هذه الفرقة أحسسنا جميعاً بضرورة إزالتها لتتحول إلى شكل من التآلف".

 

 وهكذا بدأ هذا الائتلاف نشاطه باسم اتحاد الجمعيات الإسلامية، ولكي يتم التحرك بشكل سليم وبعيد عن الانحراف جرى الاتصال بالإمام (ره) من أجل أن يكون العمل بأمره وقيادته، وفي هذا الصدد وضعت القضايا العقائدية للمجموعة تحت إشراف آية الله الشهيد البهشتي (ره) وآية الله الشهيد المطهري (ره) وغيرهما.

 

 يقول الشهيد العراقي في هذا الصدد: "التحرك الأساس [ للاتحاد] كمرحلة أولى كان تطبيق أفكار علماء الدين، ولاسيما السيد الإمام. وإذا كان [للاتحاد ] نفسه بعض الأفكار يأتي لطرحها على الإمام فإذا أيدها يعملون بها...". يتحدث قائد الجمهورية الإسلامية عن تبعية الشهيد العراقي للإمام الراحل ويقول: "كان الشهيد العراقي منذ بداية حركة الثورة والجهاد، أي في عام 1342هــ.ش، يلتف بكل قوة حول المحور الأساس للثورة، أي الإمام، ولم ينحرف عن خطه المستقيم بشكل من الأشكال".  

 

 قم ــ الفيضية ــ 1342هــ.ش

 

بعد أن طرحت قضية لجان المحافظات والمدن وأعلن عن عزاء عام في عيد نوروز من قبل العلماء، قال الإمام في بيان بهذه المناسبة إن علماء الدين ليس لهم هذه السنة عيد. في الخامس والعشرين من شوال الموافق لاستشهاد الإمام جعفر الصادق (ع)، أرسل نظام الشاه إلى قم عدة حافلات من قوات الحرس الخاصة متنكرين بألبسة القرويين وغيرهم بإشراف من الساواك وقيادة العقيد مولوي، وذلك من أجل إحباط حركة العلماء عن طريق الإخلال بهذا التجمع في المدرسة الفيضية وإهانة العلماء، حيث وقعت بذلك الحادثة الدامية للمدرسة الفيضية. وكان أحد أهداف الساواك آنذاك هو الهجوم على دار الإمام (ره). في هذه الأثناء كان الشهيد العراقي في دار الإمام، فأخذ بنشر الرجال لمراقبة الطريق والدور المجاورة واستقر هو مع أحد أصدقائه في الطابق تحت الأرضي من الدار ينتظر هجوم قوات النظام.

 

 يقول الشهيد العراقي في مذكراته: "طبعاً كان الشباب مستعدون، كلّ بما كان لديه، وقد حملوا معهم بعض الأشياء الممكنة. قطع الحرس مقداراً من الشارع الفرعي... وكانوا يهتفون يحيا الشاه يحيا الشاه ويتقدمون حتى إذا وصلوا إلى التقاطع توقفوا... في تلك الليلة كنا في دار الإمام حتى الساعة الثانية عشرة تقريبا...فذهبنا لتوديعه. وقلنا للشباب نحن ذاهبون إلى طهران، فإذا حصل شيء غداًً اتصلوا بنا لنأتي بعدة حافلات لنرى ماذا يحصل".

 

 وفي تلك الليلة ذاتها كتب الإمام بياناً: "حب الشاه يعني السلب والنهب"! وأرسله إلى طهران للطبع، وألقى في 3/1/ 1342هــ.ش خطاباً لمدة ساعتين ونصف كسر به ظلال الخوف التي هيمنت على مدينه قم، وبثّ روحاً جديدة في جسد الطلاب والمجاهدين.  

 

محرم 1342هــ.ش

 

 بعد أحداث المدرس الفيضية، وخطاب الإمام وغيره من العلماء المجاهدين، تقرر أن تقام في يومي التاسع والعاشر من المحرم تظاهرات اعتراضاً على مواقف النظام؛ وعلى هذا الأساس حدد الشهيد العراقي مسير هذه التظاهرات من مسجد الحاج أبي الفتح في ميدان "قيام" وإلى جامعة طهران.

 

 يحدثنا السيد توكلي أحد رفاق الشهيد العراقي عن تلك الأيام قائلاً: "... قبل أن تبدأ التظاهرات، كان هو وآخرون يخططون للأمر في الطابق تحت الأرضي من داره، فلما علم النظام بذلك أغلق مسجد الحاج أبي الفتح وتحرك الناس من قبال المسجد وهم لا يعلمون بهذا الأمر، وفي مقابل مجلس الشورى ألقى الشهيد العراقي كلمة فضح فيها نظام الشاه... فقام على أكتاف الشباب وأخذ يتكلم من دون مكبرة صوت... أين الذين يفتعلون الاستفتاء العام"؟! ويذكر الشهيد العراقي في ذكرياته ذلك من دون أن يذكر اسمه تواضعاً، ولكنه يسجل للتأريخ أنه: "أخ آخر تحدث عن الاستفتاء العام… أولئك الذين يتحدثون عن استفتاء عام مفتعل فليأتوا لينظروا عن قرب جانباً من هذا الاستفتاء الحقيقي…". كانت إحدى المحاولات التافهة للنظام للحيلولة دون هذه التظاهرات هي دفع بعض العناصر المتسيبة التي تمارس العنف في الطرقات ليحولوا دون تحرك الناس من مسجد أبي الفتح؛ فقام الشهيد العراقي بحنكته وتدبيره بالاتصال برؤوس هذه الجماعات واستطاع إقناعها بعدم التدخل.

 

 يحدثنا الشهيد العراقي عن هذه القضية ويقول: "كان توقعنا صحيحاً في أن الحكومة تريد استخدام بعض هؤلاء المعروفين في المدينة، وكان هناك شخص آخر منهم لم نحسب نحن له حساباً يدعى ناصر جكركي ممن يمارس العنف في متنزه الفردوس وتقاطع مولوي...". هذه الجموع التي بلغت مائة ألف تحركت من مسجد أبي الفتح بشعار:

 

 أنا فداء للدين يا أكبر أنا فداء للدين يا أصغر [إشارة إلى علي الأكبر بن الإمام الحسين (ع) والإمام زين العابدين (ع)].

 

مادامت الروح في بدني للظلم لا لن أنحني

 

بقائي من فناء الدين فنائي من بقاء الدين

 

قــال عزيز فاطمة ليــس في الموت لائمه

 

مادامــت الروح في بدني للظلم لا لن أنحني

 

كان الشهيد الحاج صادق أماني هو الذي يردّد هذه الشعارات مع يافطات مختلفة بيد الناس تحمل شعارات ضد أمريكا وإسرائيل والاستفتاء العام.

 

 استمرت المسيرة باتجاه الجامعة، ولدى باب الجامعة ألقى الشهيد العراقي وأحد طلبة العلوم الدينية وطالب جامعي آخر كلمات هناك. وفي كلمة أعلن [الشهيد العراقي] عن تضامنه مع طلاب الجامعة وقال: "نحن جئنا من مكان مقدس ونريد أن نختم هذه المسيرة في مكان مقدس آخر، من المسجد إلى الجامعة...". وعندما عادت الجموع ومرت بالقرب من قصر الشاه رفعت أيديها بغضب باتجاه القصر تنادي:

 

خميني خميني الله يرعاك الموت الموت لعدوك السفاك

 

 ثم تجمع المتظاهرون في مسجد الإمام الخميني ــ حيث سمى الناس من حينها مسجد الشاه بمسجد الإمام الخميني ــ ليختموا مسيرة ذلك اليوم بقراءة قراراتهم التي تكونت من ست مواد.  

 

15 خرداد 1342هــ.ش

 

 بالإعلان عن خطب مراجع التقليد للناس بقم في يوم عاشوراء، توجه الكثير من الناس من طهران وغيرها من المدن إلى قم، وقد أعلن منذ الصباح عن أن الإمام الخميني (ره) سيلقي خطاباً في عصر عاشوراء في المدرسة الفيضية، تلك المدرسة التي شهدت قبل أشهر مجزرة للعلماء وطلاب العلوم الدينية. وعلى الرغم من كل التهديدات وأجواء الرعب، توجه الإمام إلى المدرسة الفيضية بكل صلابة ومن دون أن يعبأ بذلك؛ وكان شعار الجماهير التي سارت خلف الإمام (ره) هو:  

 

 خميني خميني أنت نجل الحسين

 

كان دور الشهيد العراقي في عصر يوم عاشوراء بالشكل التالي: "بسبب الخطر المحتمل على حياة الإمام (ره)، توجهت مجموعة ثورية شجاعة إلى قم بتخطيط الحاج مهدي العراقي بعد الظهر بعد انتهاء مسيرة طهران، فتشكلت على مجاميع مختلفة بالأسلحة التي كانت لديها على عهد فدائيي الإسلام لحماية الإمام بين الناس وأثناء الخطاب". وبعد خطاب الإمام (ره) الذي كان حماسياً مثيراً بكل معنى الكلمة حيث واجه به إسرائيل والشاه والاستفتاء العام ويدافع عن علماء الدين، لم يجد النظام حلاً سوى اعتقال الإمام (ره).

 

 في الساعة الثالثة من ليلة 15 خرداد 1342هــ.ش كانت الشاحنات العسكرية تستقر خارج مدينة قم وشوارع المدينة مليئة بالقوات الخاصة والجنود المسلحين؛ كان التمهيد لمداهمة دار الإمام قد أعد، لينتهي اعتقاله بصيحة: "أنا روح الله الخميني، دعوا الآخرين".

 

بعد انتشار خبر اعتقال الإمام الخميني (ره) خرجت تظاهرات عظيمة شكلت بمجموعها حادثة 15 خرداد.

 

 يقول الشيخ الهاشمي الرفسنجاني عن التحرك الثوري للناس ودور الشهيد العراقي في أحداث 15 خرداد في طهران: "لا أزال أذكر في حادثة 15خرداد هذا العراقي الذي كان شاباً وبتجربة أقل يجلس في إحدى غرف السوق ليقود تلك الثورة العظيمة آنذاك من غرفة واحدة".

 

 يقول السيد توكلي أيضاً: "كان له دور فاعل في 15 خرداد، فبعد ظهر ذلك اليوم شكلت لجنة اتحاد الجمعيات الإسلامية جلسة من اجل عدة قرارات وكان دور الشهيد العراقي دوراً فاعلاً وممتازاً.. أول قراراته كان تعطيل السوق، ودفع المراجع وكبار العلماء إلى التحرك من الحوزات نحو مراكز المدن وطهران والهجرة إليها، وإصدار بيانات من المراجع والعلماء ساهمت في تثبيت مرجعية الإمام".

 

 "من التحركات المصيرية التي جرت إبان اعتقال الإمام الخميني (ره) هو التحرك الجماعي للمراجع والعلماء من الطراز الأول في قم وغيرها من المحافظات إلى طهران".

 

 "وأخيراً قرر الشاه ومستشاروه، بعد أن لم يجدوا لأنفسهم من حيلة، أن يطلقوا سراح الإمام الخميني(ره) بصورة محدودة على أثر ضغط الناس. في يوم الجمعة 12 ربيع الأول 1348 للهجرة أصدر أمر إطلاق سراحه مع آيه الله القمي لينقلا إلى أحدى دور الساواك في منطقة الداودية".

 

 وبعد سقوط دولة "علم" واستلام منصور للحكم، أخذوا الإمام إلى قم بتاريخ 14 فروردين 1343هــ.ش وأنزلوه بالقرب من حرم السيدة المعصومة (س).

 

 يقول الشهيد العراقي في ذكرياته: "وصل خبر إطلاق سراح الإمام الخميني في اليوم التالي إلى طهران.. فذهبت مجموعة من شبابنا إلى قم واستمر هذا الذهاب والإياب إلى عشرة أو خمسة عشر يوماً يدير خلالها شبابنا دار الإمام".  

 

بيان الإمام في الذكرى السنوية الأولى لــ 15 خرداد.

 

 أحد النشاطات الناجحة والمنظمة للاتحاد كان نشر وتوزيع بيانات العلماء ولاسيما الإمام.

 

 بعد مرور عام على الحادثة الدامية في 15 خرداد، أصدر الإمام الخميني بياناً كشف به عن طبيعة النظام المخالفة للدين وبعث روحاً جديدة في الناس من بعد أن أصيبوا باليأس والقنوط.

 

 هذا البيان كان يجب أن يمضيه أيضاً آية الله الميلاني وآية الله القمي في مشهد، فأعطي إلى أعضاء الاتحاد. من ناحية أخرى اطلع رجال الأمن على خبر صدوره وأخذوا بمراقبة مطابع طهران وقم وداهموا بعضها أيضاً.

 

 فقام الشهيد العراقي بخطة دقيقة مباغتة أعد فيها البيان للطبع قبل إمضائه من قبل العلماء الآخرين حتى إذا أمضوه قام بطبعه بسرعة فائقة أثارت عجب رجال الساواك.

 

 يقول هو في هذا الصدد: "أخذنا البيان وجئنا ليلاً، وأول عمل قمنا به هو أن هيّأناه للطبع، أي رتبنا نسخة واحدة منه، بعد ذلك أعطيناها للمطبعة ليصفّوا حروفها. بقينا تنتظر ماذا؟ ننتظر التوقيع … في اليوم التالي أرسلنا اثنين من الأخوان إلى مشهد … كانت الساعة الواحدة وعشرة دقائق عندما اتصل بنا أحدهما من مشهد وقال: ذهبنا إلى المستشفى و زرنا كلا السيدين الذين أصيبا في الحادثة، وحالهما جيد جداً تقريباً، وأنا أرسلت أخي أيضاً. فعلمنا أن الأمر قد تم".  

 

الذكرى الثانية لفاجعة 15 خرداد

 

 كانت أيام محرم تحيي في الناس دوماً شعوراً من الحب والولاء الخاص للإمام الحسين (ع) ولشهداء كربلاء، وكان ذلك بحد ذاته مناسبة وفرصة إعلامية جيدة. من هنا فإن اتحاد الجمعيات الإسلامية، الذي كانت له تجربة تظاهرات عشرات الآلاف في العام الماضي، قرر التخطيط بدقة لتحرك مماثل في يومي تاسوعاء وعاشوراء من هذه السنة ليقوم من خلالها بالكشف عن طبيعة نظام الشاه وأهداف حكومته.

 

 يقول الشهيد العراقي في ذكرياته: "أعد الشباب أنفسهم لتجمع عاشوراء، وتقرر هذا العام التحرك من مسجد الشاه إلى شارع سيروس، ومن هنالك إلى المجلس ومنه إلى الجامعة. أعددنا صوراً للسيد الإمام واليافطات هي تلك اليافطات التي بقيت من العام الماضي". يقول السيد علي أكبر محتشمي عن ذكرياته: "كان شارع بزرگ مهر ومسجد الإمام قد حوصرا بقوات الشرطة والقوات الخاصة المسلحة.. كانت هناك مدرعة قبال المسجد مستعدة لإطلاق النار. الأجواء البوليسية والأحكام العرفية خيمت على منطقة السوق... دخل المتظاهرون من بزرگ مهر إلى شارع سيروس... عندما وصلنا إلى (سرجشمه) وجدنا قوى الشرطة والقوات الخاصة قد أغلقت الشوارع الشرقية الغربية وشارع بهارستان من الوسط أيضاً... وعندما وصلت جموع العاشُورَائيين المرصوصة إلى ميدان بهارستان وأمام مجلس الشورى الوطني، خرج العقيد طاهري (لمعروف بالكلب الأسود) إلى وسط الشارع وأطلق صافرة... فصدر أمر الهجوم رأساً! لم تكن القوات الخاصة ترحم أحداً..."!

 

 وفي هذه التظاهرات اعتقل الشهيد العراقي مع 38 شخصاً آخرين. شعارات أحداث عاشوراء المسجلة في وثائق الساواك هي: "إن لم يكن لكم دين فكونوا أحراراً في دنياكم (الحسين بن علي)، كونوا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً... اقطعوا الأيدي الخبيثة لعملاء إسرائيل من بلدنا الإسلامي...".

 

اعتقل الشهيد العراقي مع آخرين وكان يحقق معه باعتباره أحد قراء القرآن على مدى مسير التظاهرة. يقول السيد محتشمي في هذا المجال: "الصمت الذي كان يعم الجموع وتلاوة آيات: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون}... كان قد جعل بحق الأجواء في ذلك اليوم إلهية وعاشورائية. كانت دموع الناس تسيل بهدوء... وفجأة حدثت حادثة وهي قذف مواد محرقة داخل سيارات جيب الشرطة، فزاد جلاوزة النظام من هجماتهم وألقوا القبض على العناصر الفعالة. فاعتقل ذلك اليوم ما يقرب من أربعين أو خمسين عنصراً فعالاً، بل وعناصر محورية كالحاج مهدي العراقي. وعندما سمعنا بعد ذلك باعتقال الشهيد العراقي تأثرنا جميعاً، لأنه كان في الحقيقة عمود الجهاد في طهران". وقد أصدر أمر إطلاق سراح الشهيد العراقي في تاريخ 31/4/1343 بكفالة قدرها خمسون ألف ريال آنذاك. وقد ذكر الشهيد العراقي أن مدة توقيفه كانت من سبعين إلى خمسة وسبعين يوماً.  

 

لائحة حفظ المصالح الأمريكية (كاپيتولاسيون)

 

 "لقد أقرت لائحة صيانة المستشارين والمواطنين الأمريكان في إيران بتاريخ 13/7/1342هــ.ش في وزارة أمير أسد الله علم، وفي الشهر الخامس من عام 1343 ذهبت اللائحة إلى مجلس الشيوخ الأمريكي ليقرها. وبعد  اغتيال "علَم" استلم علي حسن علي منصور رئاسة الوزارة، فأخذ اللائحة المذكورة إلى مجلس الشورى الوطني ليقرها نواب المجلس".

 

 إقرار هذه اللائحة في مجلس الشيوخ الأمريكي ومجلس الشورى الوطني لم يكن تقريباً قد أعلن عنه، وصحف البلاد لم تعلن عنه أيضاً بسبب الرقابة التي تفرضها الحكومة.

 

 وبعد مدة أصدرت النشرة الداخلية لمجلس الشورى النص الكامل لكلمات وحوار النواب ورئيس الحكومة في هذا الصد. فتسرب خبر إقرار لائحة حفظ المصالح إلى الشهيد العراقي عن طريق أحد الأصدقاء، ومن خلال ذلك وصلت وثائقها إلى الإمام.

 

 يقول الشهيد العراقي في ذكريات تلك الأيام:"في أواخر الشهر السادس الإيراني تقريباً أو أواخر السابع أخبرنا أحد الأصدقاء في المجلس أن الحكومة تريد الإتيان بلائحة إلى المجلس تعطي بها صيانة لألف وسبعمائة مستشار أمريكي... جاء هذا الشخص وطرح هذه القضية على الإمام، فلم يقبل منه الإمام بهذا الشكل، وقال: ما لم تكن هناك وثائق لا يمكننا التحدث عنها، هل يمكنك أن تأتي بوثائقها. جاءت اللائحة إلى المجلس فخالفها بعض من في المجلس، فأرسلنا لاستنساخ محضر الجلسة التي جرت في المجلس، فأخرجنا محضر الجلسة نفسه في مجلس الشورى وفي مجلس الشيوخ الأمريكي، وقدمنا كلا المحضرين إلى السيد الإمام".

 

 فاختار الإمام (ره) لخطبته اليوم الرابع من الشهر الثامن الإيراني الذي يعد يوماً مهماً بالنسبة لحكومة الشاه، حيث صادف أيضاً يوم ولادة السيدة الزهراء (س).

 

 وللحيلولة دون خطاب الإمام (ره)، أرسل النظام شخصاً إلى قم استطاع للقاء الشهيد السيد مصطفى ليذكر له أن الحديث على أمريكا من قبل الإمام هو أخطر من الحديث ضد الرجل الأول في البلاد.

 

"... ولعلمه بنقطة ضعف النظام هذه، هاجم الإمام في خطابه المثير أمريكا بشكل مباشر، وأخذ يوجه إلى الولايات المتحدة أشد النقد والاعتراض. ولأن خطابه قد لا يصل إلى أسماع كل الناس، أعد الإمام بياناً عن الأوضاع الجارية في البلاد ولاسيما موضوع إقرار لائحة صيانة الأمريكان... وأعطاها في اليوم ذاته إلى الحاج مهدي العراقي وأوصاه أن يتم طبعها ونشرها باحتياط وسرية قدر الإمكان لكي لا يلقى القبض على أحد. وهكذا أنجز هذا العمل القيم بإبداع الشهيد الكبير والتحرك المنظم للاتحاد الإسلامي والقوى الطلابية...". [من مذكرات السيد علي أكبر محتشمي].

 

 يحدثنا الشهيد العراقي عن تلك الأيام ويقول: "توزيع البيان نفسه خلال ساعتين (من الساعة العاشرة وإلى الساعة الثانية عشرة ليلاً) خاصة في المناطق التي يسكنها الأمريكان، أزعج قوى الأمن إلى حد ما، فأخذت تضغط بشدة على نصيري ( رئيس الشرطة) لكشف الفئة التي تعمل للسيد الخميني لأنها تنظيم مرتب، إذ استطاع توزيع هذا العدد من البيانات خلال ساعتين في طهران وكثير من المدن ولم يمكنكم اعتقال شخص واحد منهم"!

 

 بعد هذه الحادثة، في 13/8/1343هــ.ش حاصر المئات من القوات الخاصة والمظليين المسلحين دار الإمام (ره) في قم ودخلوا داره من السطح والسياج ليعتقلوه ويقتادوه إلى طهران بسيارة أعدت لذلك من قبل.

 

 لم تكن شمس يوم 13/8 قد أشرقت بعد، عندما أخرج قائد النهضة الكبير من وطنه لينفى إلى تركيا بسبب الدفاع عن استقلال البلاد وازدهارها.  

 

اغتيال حسن علي منصور

 

 باعتقال ونفي الإمام الذي تم بسرعة فائقة، أخذ النظام يفكر مغروراً بإلحاق ضربات أخرى إلى الدين وعلمائه.

 

 وبعد أن وجد اتحاد الجمعيات الإسلامية أن قائده في المنفى، اتخذ جلسة قرر فيها أن يقوم بحركة.

 

 اتحاد الجمعيات الإسلامية يتألف من مجاميع هي: التنفيذ، دراسة القضايا السياسية، وقضايا العقيدة، والمسائل الاقتصادية.. بعد الخامس عشر من خرداد، طرح بعض من يعتقد بغير الأساليب السياسية في داخل الاتحاد خطاً آخر باسم الخط العسكري ووافق الاتحاد عليه.

 

يتحدث الشهيد العراقي عن شروط الاتفاق على تشكيل الخط العسكري ويقول: "طرحت فكرة فتح خط يسمى بالخط العسكري داخل المنظمة، فوافق الشباب على ذلك، وطبعاً رتبنا كيفية ذلك بحيث لو أن يوماً حدث أمر وانكشف بعضهم فإن المسؤولية تقع بشكل مباشر على عاتق مسؤولي هذا الخط أنفسهم..."

 

 تشكل الخط العسكري للاتحاد على يد الشهيد العراقي والشهيد صادق أماني وبدأت مجموعات العمليات بالتدريب تحت إشرافهما.

 

 في هذه الأثناء جرت محاولات لأخذ حكم بارتداد حسن علي منصور من المراجع والعلماء. وفي جلسة سرية اشترك فيها نحو عشرين من أعضاء المنظمة، تقرر اغتيال حسن منصور علي كأول شخصية مسؤولة ومفسدة في الأرض... فتقرر أولاً اغتيال حسن علي منصور في بيته ومن ثم اغتيال آخرين هم المشير نصيري والفريق أيادي والدكتور إقبال على التوالي. وبعد أخذ الفتوى جرى الترتيب للعمليات بشكل جيد. فتحدد أفراد العملية ومهمتهم وتم التخطيط للعملية بكامل الدقة والسرية.

 

 في ليلة السابع عشر من شهر رمضان المبارك، تعاهد الشهداء: الحاج صادق أماني، ومحمد بخارائي، ومرتضى نيك نجاد، ورضا صفار هرندي، والسيد علي اندرزكو لتنفيذ المهمة، ورتبوا بياناً وسجلوا أشرطة بوصاياهم للحيلولة دون انتساب هذا العمل للمجموعات القومية والشيوعية وغيرها وكذلك من أجل إيضاح هدفهم ودوافعهم الإلهية منه واستعدوا للعملية.

 

 في صباح اليوم الأول من بهمن 1343هــ.ش، تحرك الأفراد المكلفون بتنفيذ العملية إلى الموقع ــ ميدان بهارستان ــ تحت إمرة الشهيد الحاج صادق أماني.

 

 في الساعة العاشرة صباحا، أطلق الشهيد بخارائي عدة عيارات نارية قضى بها على حسن علي منصور، ولكنه عندما ركض كي ــ يختفي سقط على الأرض بسبب الجليد الذي كان على الأرض، وألقي عليه القبض.

 

 وعلى الرغم من السكوت البطولي للشهيد بخارائي تحت التعذيب حتى سمي بالشاب الأخرس، استطاع النظام التوصل إلى آخرين من خلال أمه وأبيه واعتقال رفيقيه الشهيدين نجاد نزاد وصفارهرندي والقيام بغير ذلك من التحريات الفنية. وبعد المتابعة وتفتيش الدور ومراقبة الأقارب والأصدقاء، شنت حملة اعتقال واسعة لأعضاء الاتحاد الإسلامي، حيث ألقي القبض على الشهيد العراقي أيضاً بتاريخ 19/11/1343.

 

 لم يكن السجن أمراً جديداً بالنسبة للشهيد العراقي، إذ تعود سابقته فيه إلى أيام فدائيي إسلام، وسجنه في مدينه قزوين وفي عاشواء 1343، والحقيقة هي أن في مثل هذه المواقع يكشف عن معدن الناس ويعرف الخالص من المغشوش.

 

تحدثنا زوجه الشهيد العراقي عن حادثة اعتقاله وتقول: "كنا نتناول الإفطار والأطفال جالسون عند المدفئة. فجأة رأيت عشرة أو أحد عشر من أفراد الساواك يقفزون من باب الدار إلى الداخل. قلت من هذا؟! على أية حال دخلوا، كنت أظنهم سراقاً، ولكنهم قالوا لا تقلقي يا سيدة، واعتذروا، وأخذوا بتفتيش الدار فوجدوا بعض الصور وكتاب في الأحكام الشرعية للسيد الخميني، ثم جاء الشهيد العراقي مع شريكه في الساعة الثانية عشرة. فقالوا لهم تعالوا معنا نريد أن نجري معكم استجواباً، فأخذوهما أخذة طالت ثلاث عشرة سنة...".

 

 يقول السيد عسكر أولادي الذي اعتقل في الوقت الذي اعتقل فيه الشهيد العراقي: "عندما اعتقل، كنت أسمع صوته من لاسلكي الساواك يقول بكل قوة وصلابة: لا تخافوا، لماذا ترتجفون؟! فأنا أسير في أيديكم"!

 

 يحدثنا الشهيد العراقي عن ليلة اعتقاله ويقول: "عندما جئنا إلى الدار وفتحنا الباب رأينا بعض الأفراد نهضوا، فقال رفيقي من هؤلاء؟! قلت أظن أن لديهم عملاً معي. فذهبت إلى الداخل فوجدت بعض رجال الأمن كانوا بانتظارنا منذ الغروب...".

 

 وكان كل جهد الشهيد العراقي أثناء التحقيق هو تقليل عدد من يكشف عنهم ويعتقلون. ولأجل ذلك تحمل هو مسألة توفير السلاح.

 

 يقول أبو الفضل الحيدري في هذا الصدد: "أذكر في الملف وجود سلاح، لم يعرف من أين جاء هذا السلاح... حتى جاؤوا يوماً بي معه إلى غرفة الرئيس… فرأيت أنهم قلعوا أظفاره وقيّدوه. فجرى التحقيق والاستجواب ولم يحصلوا على شيء. ولكي يخفف عن الإخوة الذين كانوا أصغر منه سنّاً، لا أزال أذكر أنه اقترح على ذلك العقيد بقوله أنا الذي أتعهد بقضية السلاح...".

 

 هذا نموذج واضح لروح التضحية والإيثار التي كان يحملها الشهيد العراقي. أولئك الذين يعلمون شيئاً عن مقابع سجون الساواك وأساليب التعذيب لديهم سيدركون بهذا المثال عمق المقاومة التي كان يمتلكها الشهيد العراقي. وبعد انتهاء التحقيق تم إرسال الملفات إلى المحاكم العسكرية. وفي بداية الأمر أصدر حكم الإعدام بحق ستة كان منهم الشهيد العراقي.

 

 ولما كان أحد آمال الشهيد العميقة هو أن يلقى الله تعالى وهو مخضب بدمه، قام عند سماع حكم المحكمة بإرسال الحلوى إلى رئيس السجن وضابط الحراس وشرطته ليعلن لهم عن سروره لقرار المحكمة!

 

يقول الشهيد في ذكرياته: "عندما دخلوا للتداول أبدلوا الحكم بإعدام أربعة إلى إعدام ستة، ففرح الشباب وأخذوا يطلقون الصلوات... وعندما ذهبنا إلى السجن وجدنا بالإضافة إلى ملابسنا كعكة معجنات أيضاً... استدعينا ضابط الحرس وقلنا له ائت لنا بسكين وثلاثة صحون وقسمنا الكعكات وأعطينا قطعة لرئيس السجن و... قلت:.. قل هذه بمناسبة حكم المحكمة اليوم. فقال:لا آخذها... قلت حتى لو كنت قلت لك ما تكره من القول، يجب عليك أن تذهب وتقول، ما علاقتك أنت بهذا؟! قل له أرسلها فلان[العراقي]، فاضطر لذلك وأخذها". وباستماعه لصدور حكم الإعدام، كتب الشهيد العراقي وصيته إلى كل من والديه وأخيه بانفراد، الأمر الذي يعكس مدى علوّ روحه وحبه لله وترقبه للشهادة.

 

 يقول حجة الإسلام السيد علي أكبر محتشمي في ذكرياته: "بعد الإعلان عن حكم إعدام أبناء الإسلام هؤلاء، عمّت المجتمع موجة من الاضطراب والتوتر يصحبها السخط والغضب على نظام الشاه. فنهضت مرة أخرى الحوزة العلمية في قم والطلاب والفضلاء... من أجل إنقاذ أرواح هؤلاء الأعزة. فبدأوا أولاً بإرسال رسائل وبرقيات إلى المراجع ولاسيما في النجف الأشرف يستفتون عن حكم إعدام المحكمة العسكرية، واستنجدوا بهم لإنقاذ حياة أبناء الإسلام الغيارى هؤلاء. كما عطّلوا الحوزة العلمية في بيان أصدروه... عطل الطلاب والأساتذة الحوزة بتنسيق مشترك وفي تاريخ 11 خرداد 1344هــ.ش وتوجهوا في مجموعات محددة يقودها بعض الأساتذة إلى بيوت المراجع الثلاثة [ليعتصموا هناك … في اليوم الثالث حاصرتنا الشرطة… المسؤولون السياسيون الأمنيون ومديرو الشرطة والساواك سارعوا للقاء المراجع الثلاثة… وعندما وجدوا أنفسهم قد فشلوا في هذه المرحلة قرروا فوراً التشديد وتضييق المحاصرة… انتهى الاعتصام الذي كان على أمل أن يفي السادة المراجع بوعدهم ويحولوا دون إعدام هؤلاء الشبيبة. ولكن بعد مدة وجيزة وصل خبر إعدام أربعة منهم رمياً بالرصاص إلى قم في تاريخ 26خرداد 1344هــ.ش… وبهذا الخبر عمّت الناس جميعاً حالة العزاء … غضب الناس … عمت حالة من الغضب لا توصف ضد النظام في سائر أنحاء البلاد ولا سيما في قم وطهران … الشهيد العراقي وآخرون كانوا محكومين بالإعدام، إلا أن هذا الاعتراض أدى إلى حكم بعضهم بالسجن المؤبد ليعدم أربعة منهم فقط". يقول الشهيد العراقي في قضية تبديل حكم إعدامه إلى المؤبد ووداعه لرفاقه الشهداء: "… قلنا إننا كنا تعاهدنا على أن نكون معاً في هذا السفر، وكنا نأمل أن نكون معاً إلى آخر الخط، ولكن كل أمر يحتاج إلى لياقة، وأنا وأخي هاشم لا نمتلك لياقة مرافقتكم في هذا السفر، وعلى أي حال هاأنتم هؤلاء كأنكم أخذتم قصب السبق منا. وأنا بدوري متأثر ومتأسف لأني لم أمتلك هذه اللياقة كي أسير خلفكم وعلى خطاكم على الأقل".

 

إن أخّرتني عن قربه في عملي النواقص

 

تبقى إلى كرمه مني الأبصار الشواخص

 

لا تحسبن حمرة وجهي تحكي عن طرب

 

فالقلب لا يعكس على الوجه ما فيه كتب

 

لم أزل أحرس القلب ليلة من بعد أخرى

 

كي لا يكون في هذه المهجة لغيره ذكرى  

 

أيام السجن

 

 بعد الإعلان عن تخفيف حكم الشهيد العراقي والحاج هاشم أماني وإعدام رفاقهم، انتقل الشهيد العراقي ورفاقه إلى سجن قصر لتبدأ مرحلة جديدة من جهاد جندي الإمام القديم هذا.

 

 ليس هناك الكثير من المعلومات عن نشاط الشهيد العراقي في السجن سوى الوثائق الموجودة، وهي الفترة التي أبدلت شبابه إلى شيخوخة وشعره الأسود إلى أبيض!

 

 يقول أمير العراقي: قال السيد الإمام (ره) عند لقائه بالطلبة الجامعيين في نوفل لوشاتو: "الشبيبة التي كنت إذا صافحتها في السابق تجد فيها يد رجل بطل، اليوم عندما أراهم أرى الشيب قد اعتلى اللحى والرؤوس"! ويواصل أمير الحديث قائلاً: "بعد كلا م الإمام هذا وقعت عيني على أبي فرأيت الدموع تنهمر من عينيه".

 

 وللتحدث عن ذكريات سنوات السجن الطويلة، لا بد من التحدث إلى رفاق السجن الذين يجب عليهم تسجيل ما قام به الشهيد العراقي ليصونوا تاريخ النضال من الضياع ولا تترك هذه الجهود والتضحيات في مهب النسيان.

 

 في الشهر الأول من حبسه في سجن قصر، تحولت غرفة مواجهة السجناء إلى صالة لقاء وكلمات الشهيد العراقي وأصحابه إلى الحد الذي دعا مسؤولي السجن إلى تقسيم غرفة المواجهة بينهم وبين غيرهم من السجناء كي لا يختلط زوار السجناء بزوار الشهيد العراقي وأصحابه..!

 

 من بعد ذلك قاموا بإضراب عن الطعام لكي ينقلوهم إلى جناح السجناء السياسيين، لأنهم كانوا قد وضعوا أولاً في قسم السجناء العاديين، فنجحوا أخيراً بالانتقال إلى جناح السجناء السياسيين. هذا وإن كان الشهيد العراقي وأصحابه قد أبدلوا جناح السجناء العاديين أيضاً إلى مدرسة وراحوا يوجهون المهربين والسراق وغيرهم، وكانوا يعزون تلك المفاسد الاجتماعية إلى الحكومة ويبينون أهداف الدين الحنيف وأفاعيل النظام البهلوي، وكانوا يحاولون من خلال الاحتفال بالمناسبات الدينية ترسيخ المعتقد الديني لدى السجناء.

 

 يقول الشهيد العراقي في هذا الصدد: "احتفلنا في السجن بعيد أو عيدين، كان أحدها منتصف شعبان؛ كان الجناح الذي كنت فيه رقم 9، وكان جناحاً كبيراً جداً، ففرشنا المكان… ووزعنا الحليب والكاكاو للسجناء جميعاً... ولأجل ذلك صار للشباب مكانة في داخل السجن". ولم ينس الشهيد العراقي وهو في السجن إمامه وقدوته وكانا يتبادلان السلام عن طريق الزائرين.

 

 يقول آية الله أنواري: "كان الشهيد العراقي في السجن، بعد أن التقيناه، قال: جاء أحدهم من النجف كان قد ذهب إلى الإمام، فسأل الإمام عنّا ودعا لنا، وقال من بعد أن سجن الأصحاب أخذت أشركهم في أعمالي المستحبة".

 

 وفي أيام السجن عندما رأى الشهيد العراقي أن الطعام الذي يقدم للسجناء غير جيد، تبرع أن يقوم هو بنفسه بإعداد طعام السجناء. كانت مسؤولية تتطلب النهوض من الصباح الباكر لتنتهي عند ساعة متأخرة من الليل كي ينعم السجناء بطعام مناسب.

 

يقول أبو الفضل الحيدري في هذا الصدد: "كان يأتي آخر الليل مرهقاً ومسروراً لتقديمه خدمة،

 

إذ حال دون هدر المواد الغذائية واستطاع طبخ طعام مناسب للسجناء، ولاسيما لأولئك الذين قاموا لدعم وإحياء النهضة".

 

في عام 1348هــ.ش تقرر نفي الشهيد العراقي مع آية الله أنواري والسيد عسكرأولادي إلى قلعة برازجان بسب (الإخلال بالنظام وعدم الالتزام بالمقررات)! ولكنه طلب بعد فترة نقله إلى سجن طهران لمعاناته في لقاء أهله، فتمت الموافقة على ذلك.

 

 يحكي لنا أمير العراقي عن أحد هذه اللقاءات ويقول: ذهبنا أنا وأسرتي جميعاً لزيارته، كان حسام طفلاً ــ بين سنتين وأربع ــ فسأله: بابا ماذا فعلت ليأتوا بك إلى هنا؟! فأجاب أبي بابتسامة قائلاً: صليت على النبي. فقال الحارس يا حاج، لماذا تحرف الولد؟! قل صليت صلاةً فاح عطرها".

 

 لم يكن الشهيد العراقي يختلط عليه خط الإسلام الأصيل بقيادة الإمام (ره) في وسط الأفكار والآيديولوجيات، ولم يرض بكلمة واحدة أكثر أو أقل مما كان يقوله الإمام.

 

 فمن خلال جمعه لمعلومات السجن وبحثه مع أصحاب الأفكار الانتقائية من السجناء، استطاع الوقوف بوجه التغير الفكري الذي طرأ على منظمة المجاهدين، وحال من خلال التوضيحات التي كان يقدمها للبسطاء من السجناء دون التأثر بهم. هذا في الوقت الذي كان فيه في موقع الأب يدافع عن الشباب ويعمل على مساعدتهم.

 

 يقول حجة الإسلام الكروبي في إحدى كلماته في مجلس الشورى الإسلامي: "لقد كان كالأب حقاً بالنسبة إلى السجناء، وكان يبعث المعنويات في نفوس الشباب دوماً".

 

 وفي بهمن من عام 1355هــ.ش خرج من السجن مع بعض الرفاق ليواصل نشاطه من جديد.  

 

أيام الثورة الإسلامية

 

 بعد أن أطلق سراح الشهيد العراقي، انطلق إلى الجهاد كأنه جندي نزل توّاً إلى ميدان القتال على الرغم من أنه كان تحت رقابة شديدة من قبل الساواك؛ فقد كان يشخص ببصره إلى أفق الانتصار ويعشق الإسلام والإمام ويتحمل الرزايا و المصائب منذ أن وضع قدمه على هذا الطريق وينتظر الوصال بكل حزم وصبر.

 

 ولما كان على علم كامل بالانحراف الفكري والعملي لحركة مجاهدي خلق ومعرفته بأن الحركات القومية التي تتظاهر بالدين هي من صنائع أمريكا وعملائها، التحق الشهيد بالمنظمات الإسلامية حديثة التنظيم من قبيل مجموعة توحيد الصف ومجموعة "المنصورون" ومجموعة بشير وغيرها وقدم لها ما حمله من تجربة جهادية طويلة وبذل قصارى جهده في تعزيز قواها وقدراتها حتى أن وثائق الساواك كانت تعتبره محرك هذه المجموعات.

 

 وكان ينبه على خطر انحراف الثورة الإسلامية ويعمل على مواجهة إطلاق الحريات والإصلاحات الكاذبة للنظام لتغيير مسير الثورة الإسلامية وتضليلها من خلال طرح شخصيات قومية معروفة كالجبهة الوطنية وغيرها. وكان يعتقد بنظرة موضوعية ثاقبة بأنه يجب العمل بشكل بحيث تجتمع العناصر المؤمنة التي عانت التعذيب والقتل للتحرك تحت راية الإمام.

 

 لقد جاء في وثيقة للساواك بتاريخ 12/7/1357هــ.ش أن: "الشخص المذكور[ العراقي] يقول لأن النظام أخذ من ناحية يقوم بمجموعة إصلاحات جدّية كإلغاء الرسوم وتقليل الضرائب وتوسيع المساحات وإطلاق بناء الدور، ومن ناحية أخرى فسح المجال أمام مجموعات وطنية ومعروفة كالجبهة الوطنية ولجنة الدفاع عن حقوق الإنسان وغيرها، وأخذ يعطيها حجماً، ومن المحتمل أن يستلم السلطة بعد حين عناصر من قبيل أميني ويحتمل أن يدخلوا إصلاحات أكثر. بالنظر إلى هذه الأمور فمن الضروري تشكيل تنظيم ديني على وجه السرعة يحتوي عناصر من أصحاب النفوذ ومتدينين ووطنيين حقاً كعناصر حركة الحرية ــ طبعاً في الكوادر الدنيا ــ…".

 

 هذه القضية تدل على سعة نظر الشهيد العراقي، إذ يشير في تلك السنة الخطيرة إلى حركة الحرية بقوله "كعناصر حركة الحرية طبعاً في الكوادر الدنيا"، ذلك أنه كان لا يراهم يصلحون ككوادر عليا، وأن خطرهم في انحراف الثورة الإسلامية لا يقل عن الجبهة الوطنية.

 

كان الشهيد العراقي يتعامل بغاية الدقة والحذر ومن دون أي مداهنة مع أي مجموعة لا تعتقد بالولاية أو لديها انحراف في الفكر أو العمل، وكان يقود بنفسه أغلب النشاطات الثورية.

 

وعندما انتقل الإمام من العراق إلى نوفل لوشاتو في فرنسا، اقترح عليه الشهيد آية الله البهشتي (ره) الذهاب إلى فرنسا لترتيب قضية استقرار الإمام وسكنه هناك.

 

 وعلى الرغم من علم الساواك بقضية سفره، إلا أنه لوجود عناصر تعمل إلى جانبه، لم يمانع عن سفره تفادياً لإثارة الموضوع.

 

 أول لقاء للشهيد العراقي بالإمام (ره) يصوره شاهد عيان بالشكل التالي: كان ذلك بعد صلاة المغرب والعشاء وكان الإمام في غرفة النساء يريد إلقاء كلمة فيهن كما كان مقرراً، فدخل المرحوم إشراقي وأخبره بإن السيد العراقي قد جاء. قال الإمام: قولوا له يدخل، كان سماحته جالساً على كرسي، فقام ونظر إليه وقال: أنت مهديي أنا؟ لماذا كبرت بهذا الشكل، فقبل السيد العراقي يد الإمام ووضع رأسه بين ركبتيه وبكى وقال: أنا لا أذكر أساساً أنه حدث شيء".

 

قلت في نفسي ستأتي وأناغيك بما في القلب من هم

 

كيف أشكوك وقد ولّى جميعاً حينما أقبلتَ؟! ما في القلب من هم

 

استلم الشهيد العراقي الشؤون الداخلية لبيت الإمام (ره) في نوفل لوشاتو وكان يثابر في خدمة سماحته وكان يحوم كفراشة حول نوره المقدّس.. وكان يقوم بإرسال أشرطة خطب السيد الإمام إلى الداخل.

 

 وبعد أن رتب شؤون بيت الإمام، عاد إلى طهران لتنظيم تظاهرات يومي تاسوعاء وعاشوراء مع مجموعة من الكراسات والكتب والصور المخبّأة وهو معبّأ بوصايا الإمام وإرشاداته.

 

وفكانت تجربته السابقة في إدارة تظاهرات محرم في عام 1342 و1343هــ.ش، قد مكنته من جعل تظاهرات تاسوعاء وعاشوراء في عام 1357هــ.ش تحركاً عظيماً هز به الأعداء. من هنا كان الساواك يعتبره الرأس المدبر لهذه المجموعات والملجأً لها ولعناصرها.

 

وبعد أن أنهى مهمته، قرر السفر مرة أخرى بحجة رؤية ولده أمير العراقي ــ الذي كان يدرس في أمريكاــ ليذهب إلى فرنسا مرة أخرى ويعود مع الإمام إلى إيران.

 

تقول نشرة "اميد جوان" في تصويرعودته:"في اللحظة التي نزلت بها الطائرة على أرض المطار كانت كل العيون والكاميرات موجهة إلى باب الطائرة، فخرج أول شخص من الطائرة فوقف على السلم وألقى نظرة هنا وهناك، وعندما أخذ بالنزول من السلم كان يراقب أيضاً كل شيء. في تلك اللحظة دار سؤال في خلد جميع المراسلين الإيرانيين والأجانب عن هوية هذا الشخص!… فعلمنا بعد ذلك أن أول شخص خرج من الطائرة هو الحاج مهدي العراقي الذي كان من خلّص أصحاب الإمام (ره). وبعد عودة الإمام إلى إيران، أخذ الشهيد العراقي بإدارة الأمور في المدرسة العلوية، وبعد أن حصل اضطراب في سجن قصر عيّنه الإمام رئيساً للسجن، وبعد فترة عيّنه الإمام (ره) عضواً في اللجنة المركزية لمؤسسة المستضعفين، وفي الوقت الذي كان فيه مسؤول المالية في المؤسسة استلم هو والسيد حسين مهديان إدارة صحيفة كيهان.

 

 كانت الظروف المحيطة بمؤسسة كيهان عندما ذهب إليها الشهيد العراقي بهذا الشكل: "كانت المؤسسة بعد الثورة مليئة برجال الساواك والوصوليين وتشكل خليطاً خاصاً... وكانت على وشك الانهيار عندما أقدمنا على حراستها وصيانتها... كانت الظروف بحيث تحتاج إلى فرد قوي ومفكر كالشهيد العراقي لكي يمكنه الخروج من عهدة هذا العمل، فشعر هو بذلك كوظيفة إلهية وأخذ تأييد الإمام...".  

 

الشهادة

 

إن أداء التكليف ــ بغض النظر عن النتيجة ــ من القضايا التي تحتل مكانة خاصة في فكر الإمام الخميني، وطلاب الإمام يعتقدون دائماً بأن أداء التكليف هو من أهم الواجبات.

 

 والشهيد العراقي الذي كان من خلّص أصحاب الإمام، لم يكن يدخل مجالاً من المجالات إلا على أساس أداء التكليف، ولم يكن يغفل لحظة عن أداء تكليفه.

 

 ومن اليوم الأول الذي وضع قدمه في ميدان الجهاد، كان على أمل بالشهادة التي يعتبرها فوزاً عظيماً.

 

 يقول أمير العراقي: "لقد كان أبي ينتظر الشهادة مدة عشرين سنة، وكان يأمل أن يراق دمه في سبيل الإسلام".

 

 يقول السيد عسكرأولادي: "في الأيام الأخيرة قبل شهادته في المكتب المركزي للحزب الجمهوري الإسلامي... قال لي الشهيد العراقي بطريقته المعهودة في الكلام: لقد خرجنا من السجن، وتحولت الحركة إلى ثورة... أخاف أن نذهب سدى ونحرم من الشهادة... لقد عشنا إلى جانب العديد من الشهداء، أودعنا الشهداء جميعاً التراب، ولا نزال نحن أحياء. أخاف أن تذهب حياتنا سدى"! ويقول شيخه وقدوته الخميني الكبير ما فيه فصل الخطاب: "كان لابد له أن يستشهد، فالموت على فراش النوم دون شأنه".

 

 وهكذا لقي الشهيد العراقي أمله الطويل برصاص أناس عرفهم قبل الثورة، بل وكان المدعو آشوري منهم ممن اتصل به في قضايا سياسية من قبيل اتحاد اليساريين وما شاكل ذلك، وكان الشهيد العراقي يقف على انحرافهم بشكل كامل.

 

هذه المجموعة قادها علي أكبر گودرزي الذي بدأ نشاطه بتفسير القرآن في مساجد المدينة، وابتدأت نشاطها باسم مجموعة "الكهفيين"، ومن ثم سمت نفسها بمجموعة الفرقان، واتصلت بالأجانب وأخذت من خلال تعليماتهم برصد الشخصيات الفعالة في تثبيت الثورة الإسلامية من أجل اغتيالها.

 

 خرج الشهيد العراقي من الدار كعادته كل يوم مع ولده حسام ــ أصغر ابنائه ــ ليذهبا إلى دار السيد حسين مهديان كي ينطلقوا معاً إلى محل العمل في مؤسسة كيهان.

 

 كانت السيارة في حركتها عندما سد المجرمون الطريق أمامها، وراحوا يمطرونها بالرصاص، فاستشهد على أثر ذلك الشهيد العراقي وولده حسام فوراً!

 

 ويحسن هنا أن نذكر شيئاً عن الشهيد حسام العراقي الذي ترعرع في أحضان أم مضحية وأب مجاهد مؤمن يعشق الولاية.

 

 كان حسام طفلاً صغيراً ذا سنتين عندما بدأ أبوه جهاده إلى جانب اتحاد الجمعيات الإسلامية، وقد ترعرع في وقت كان يلتقي أباه بين الحين والآخر في السجن، فعاش في وجوده إيمان عميق بأبيه وطريقه، بحيث كان في كل أسبوع يذهب للقاء أبيه وكان مسؤولو المدرسة يسمحون له بذلك لعلمهم بتعلّقه بأبيه.

 

 يقول الشيخ الهاشمي الرفسنجاني عن حسام: "ولده[حسام] كان منذ صغره نجمة مضيئة... تضيء بشكل آخر، هو أكثر نوراً من سائر أطفالنا".

 

ويتضح دور حسام العراقي أيام الثورة في وثائق الساواك من خلال تسجيل الأشرطة واستنساخ البيانات، حيث كانت له طابعة أعدها لهذا الغرض.

 

 يقول قائد الثورة الإسلامية عن شهادة حسام العراقي: "أودع وهو رضيع واستعيد وهو شاب، فأخذه [الشهيد العراقي] معه إلى ضيافة الله".

 

 أجل بلغ الشهيد العراقي مناه آخذاً ولده معه ذبيحاً…!

 

 أمر الإمام (ره) بنقل الجثمان الطاهر للشهيد العراقي إلى مدينة قم ليشارك هو في تشييعه المهيب… وبعد أن ووري جثمانه الثرى عند مرقد السيدة فاطمة المعصومة (س)، وفي ساعات السحر، حيث كان المرقد خالياً من الزوار، كان إمام العراقي يجلس عند تربة صاحبه يبتهل إلى الله تعالى.

 

ـــــــــــــــــــ

 

(*) كسروي كاتب مأجور غربي النزعة, أرخ حركة الدستور لصالح الإنجليز وضد علماء الدين وأساء في كتاباته لآية الله الشيخ فضل الله النوري، وتعاون مع القنصلية الإنجليزية في الحركة التي قام بها حجة الإسلام الشيخ محمد خياباني في تبريز. كان يعمل في وزارة الفنون والثقافة على عهد رضا خان وكانت له مكانة لديهم. وبعد أن فر رضا خان واتسعت الحركات الدينية بقيادة المراجع وعلماء الدين أخذ يبث الشكوك في العقيدة الدينية ويثير الريبة في علماء الدين، وراح يحيك الدساس للإسلام باسم تطهير الدين من الخرافات، الأمر الذي دعا الإمام الخميني إلى كتابة كتابه"كشف الأسرار" رداً على مؤلفه "أسرار الألف عام".