كان الغزو الصليبي على مر عصور التاريخ الإسلامي عاملا من عوامل تماسك المسلمين ووحدة صفهم واجتماع كلمتهم.. ولكن المرحلة الأخيرة من هذا الغزو استطاعت أن تمزق وتشتت.. لأنها كانت وفق خطة مرسومة دقيقة.
والخطة تقضي تجنيد أفراد من داخل العالم الإسلامي ينفذون خطة المستعمرين عن قناعة أو عن تطميع. ولذلك ظهر منذ بداية الغارة الأخيرة في جميع أرجاء العالم الإسلامي فئة أطلقت على نفسها أسماء مختلفة: منوري الفكر .. المثقفين.. التقدميين و .. ويجمعها التنكر لجذور الأمة الفكرية والعقائدية والروحية. والهزيمة النفسية أمام الغرب.
وهذه الفئة استطاعت أن نقدم للغزاة خدمة لم تقدمها لهم جيوشهم المجهزة ولا أسلحتهم الفتاكة المتطورة. لأنها توجّهت إلى إضعاف عامل بقاء الأمة وقوامها وتماسكها.
ولكل بلد في العالم الإسلامي تجربته المرة في هذا المجال. وهنا نحن نقدم تجربة إيران في دراسة فريدة من نوعها، عسى أن تكون عاملا على توعية الأمة على ما يحيط بها من محاولات التمزيق والسيطرة.

 


 المقدمة
اتجهت دعوة الأديان الإلهية جميعا إلى دفع المسيرة البشرية على طريق الكامل المطلق سبحانه، لتحقق بمقدار ما أوتيت من قوة وقدرة وتجربة كمالها النسبي في مجال العلم والحكمة والعدل والإبداع والجمال. وكانت الرسالة الإسلاميّة  هي خاتمة الرسالات السماوية، لما تحمله من مقومات الدفع الهائلة للبشرية حتّى يرث الله الأرض ومن عليها.
والواقع أن الإسلام نهض بعملية تحرير كبرى للبشرية حين وضع عنها أصرها وما كان عليها من أغلال العبوديات الكاذبة والأوهام الفارغة والعصبيات الضيقة، وجعلها تنطلق بسرعة فائقة في ميادين الكمال البشري. وهذه الانطلاقة آتت أكلها على الساحة التاريخية وامتد عطاؤها ليشمل كلّ أصقاع المعمورة بصورة مباشرة وغير مباشرة، وليرسم للإنسانية طريق عزتها وكرامتها.
ورغم كلّ ما واجه المسيرة من عقبات الذاتيات المستفحلة، والآلهة المزيفة المتعملقة، والجبابرة الطغاة، والموجات الهمجية، وعمليات الإبادة الحضارية، ومظاهر التزييف والتخدير والتحميق والتحمير باسم الدين، رغم كلّ ذلك ظلت شعلة الدفع الكبرى متوهجة تثير الأشواق البشرية في المجتمعات الإسلاميّة  نحو الفكر والمعرفة والعدل ومقارعة قوى الظلام..
وهذه العلوم الواسعة المعمقة في شتى مجالات المعرفة، وهذا النشاط الواسع في حقل التدريس والتأليف على مرّ العصور، وهذه الثورات المتواصلة رغم كلّ ما لاقته من بطش وتنكيل إنما هي تعبير عملي عن شحنة الدفع التكاملي التي أودعها الإسلام في نفوس أبنائه.
 
غير أن العالم الإسلامي واجه منذ أوائل القرن السابع عشر الميلادي خطة لاقتلاع هذه الروح الإسلاميّة  من النفوس، ولخلق هزيمة نفسية أمام الأعداء، ولتربية جيل يتطوع لتقديم كلّ مقدرات بلاده ضحية على معبد الطاغوت الغربي. ونشأ على أثر ذلك جيل ما يسمى بالمثقفين أو منوري الفكر ليتولى «مسؤولية» تعميق الهزيمة وبيع المقدرات والاستهانة بكل ما هو أصيل في هذه الأمة.
وفي هذه السطور نتحدث عن تجربة إيران في إطار خطة المسخ هذه لنضيفها إلى رصيد تجارب العالم الإسلامي، عسى أن يكون هذا الرصيد لنا عونا في صحوتنا الإسلاميّة المعاصرة.

 


 
بدايات الخطة
في سنة 1600 ميلادية (1020 هجرية) وقّعت الملكة «اليزابيث الأولى» على وثيقة حصر التجارة الشرقية باسم شركة الهند الشرقية تمهيدا لغزو الهند. ووضعت وزارة المستعمرات البريطانية خطة السيطرة على إيران، واقترن غزو الهند بالهجوم على إيران، واقتضت الخطة بالنسبة لإيران تنفيذ مايلي:
1
ـ أن تبادر وزارة الخارجية البريطانية إلى تأسيس سفارة ومؤسسات بريطانية في إيران.
2
ـ توجيه التعليمات إلى الشركات البريطانية لتأسيس فروع تجارية في إيران وللعمل على مدّ الطرق وإنشاء البنوك والحصول على امتيازات استثمار المناجم.
3
ـ توجيه التعليمات إلى المستشرقين للتوجه إلى إيران ودراسة آداب هذا البلد وتاريخه وفنونه.
4
ـ إصدار التعليمات إلى علماء الآثار لدراسة الآثار التاريخية في هذا البلد، وكانت هذه الدراسة مقرونة طبعا بنهب منظّم دقيق لكثير من كنوز إيران الأثرية.
5
ـ أن تنشط المحافل الماسونية البريطانية الفرنسية في إرسال أفرادها إلى إيران لتشكيل تنظيمات ماسونية فيها، وتشجيع الإيرانيين الوافدين على بريطانيا للانتماء إلى الماسونية.
6
ـ أن  تنشط الإرساليات البريطانية إلى إيران في الاستفادة إلى أقصى حد مما في البلد من فساد وارتشاء وسرقة، وأن لا يعملوا أبدا على معالجتها، بل أن يسعوا في إشاعتها.
7
ـ منح الدبلوماسيين البريطانيين المقيمين في إيران صلاحيات لعقد معاهدات تتوجه إلى تقسيم البلاد، وإضعاف الحكومة المركزية، وصد أية عملية تنمية فيها.
وكانت كلّ بنود هذه الخطة تتجه إلى تمهيد السبل أمام الغزو البريطاني لإيران.(1)
ولو أمعنا النظر في جذور كثير من الحوادث المفتعلة خلال القرنين الأخيرين في إيران لوجدناها تعود إلى تلك الخطة الموضوعة.
لقد بدأ تنفيذ هذه الخطة حين كان أبناء هذا البلد يغطّون في سبات عميق، لا يدرون ما يجري حولهم، ولا يفكرون إلاّ في معاناتهم اليومية من الجوع والمرض وأنواع الأوبئة الوافدة من شبه القارة الهندية. وعلى حين غرّة اقترنت أمراضهم وأوبئتهم بأمراض وأوبئة «سياسية» غير مشهودة، ظهرت آثارها فيهم بالتدريج، وظهر الضعف والهزال في جسد هذه الأمة العظيمة المقاومة الصامدة على مرّ التاريخ، وأنزلوا كلّ يوم جرحا عميقا في شلو من أشلائها، وحالوا دون تطبيب
هذا الجرح ومعالجته، ولما آل الأمر إلى عفونته، تقدموا متلبسين بلباس جرّاح عطوف إلى فصل هذا الشلو عن الجسد. واستفحل الفساد بألوانه حتّى خيم اليأس على الناس، وأيقنوا أن لا قدرة لهم على العلاج.
في مثل هذه الظروف الحاكمة تحرك الخناسون ليكتبوا لآلام هذه الأمة المحتضرة وصفة دواء ربّما أزالت بعض العوارض وسكّنت بعض الآلام، لكنها كانت تؤدي فيما تؤدي إلى الغفلة عن جذور المرض وعلاجه.
يبدو أن أول مبعوث رسمي بريطاني قدم إلى إيران في العصر الصفوي هو «انطوني جنكنسن»، فقد بعثته ملكة بريطانيا محمّلا برسالة إلى الشاة طهماسب تخاطبه فيها بما يتناسب مع مزاج الشاه الصفوي من ألقاب: شاهنشاه إيران وشعب «ماد» و «پارت» و «گرگان» و «كرمان» و «ماركو» (مرو) وقبائل ضفتي شط دجلة وسائر القاطنين بين بحر الخزر والخليج الفارسي .. الصوفي الكبير .. الحاكم العريق والمقتدر .. ثم تقول له : لقد بعثنا إليكم خادمنا الوفي انطوني جنكنسن ليتجول في بقاع مملكتكم ولاقامة علاقات تجارية مع رعاياكم..
يقول اللورد كورزن (curzon) في كتابه إيران ومسألة إيران (persia and persian Question)): «حين قدم جنكنسن قزوين وقابل الشاه وسلمه رسالة ملكة بريطانيا قال له الشاه: آه، أيها الكفار، نحن لسنا بحاجة إلى صداقتكم، وأمره بالعودة من حيث أتى، ثم أمر الشاه أن تعفّر آثار أقدام هؤلاء البريطانيين بالتراب لأنهم نجّسوا الأرض التي وطأوها».
خرج هذا المبعوث البريطاني من إيران خائبا، واتجه إلى موسكو، وقضى الشتاء هناك، وفي العام التالي عاود الكرة واصطحب معه شخصين هما «توماس الكوك» و «ريتشارد جني»، وتوجه نحو إيران، لكنه وجد من «عبدالله خان» والي شيروان صدودا وإعراضا، لان هذا الوالي كان ساخطا بسبب مقتل أحد المسلمين
على يد أحد أتباع روسيا! فعاد الثلاثة أدراجهم يجرون أذيال الخيبة.
ويظهر أن محاولات البريطانيين وخططهم للنفوذ في بلاط الشاه تواصلت بكثافة، إذ نرى بعد عامين يدخل بلاط الشاه طهماسب وفد تجاري بريطاني مبعوث من شركة الهند الشرقية، وينجح الوفد في كسب موافقة الشاه على إعفاء الشركة من الحقوق الجمركية والترانزيت، وعلى إجازة الشركة أن تسافر إلى كلّ أجزاء إيران وتتاجر فيها.(2)
هذا أول موضع قدم للبريطانيين في إيران، وتبعه نشاط دائب أدى إلى إقامة علاقات ودية!! بين البلدين.
يحسن بنا أن نستقرأ في هذا المجال بعض النصوص في كتاب تاريخ العلاقات الإيرانية الأوروبية:
جورج منوارينغ (George Manwaring) من مرافقي «السير انطوني شرلي» يتحدث عن وصول الوفد البريطاني قزوين والضيافة التي أعدها له الشاه عباس، يقول:
«
في قصر فخم جدا ورائع جدا، علقت على جدرانه المنسوجات المذهبة الثمينة، وفرشت على أرضه سجاجيد جميلة، وضع على المائدة ألوان الأطعمة، وأذكر منها فقط أنواعا من الرز، كلّ نوع بلون معين. وفي المجلس عدد من مطربي البلاط يشتغلون بالعزف، وفي داخل البيت مجموعة خاصة من العازفين. وإضافة إلى ذلك ثمة عشر نساء جميلات فاتنات يلبسن ثمين الثياب كن يمارسن خلال مدة الضيافة الرقص والدبك على الطريقة الإيرانية».
.. «
السير روبرت شرلي بعد مغادرة أخيه تولّى منصب قيادة عسكرية، ونال الرتب والنياشين الراقية خلال حروب شاه إيران مع السلطان العثماني، وأبدى من الحزم وفنون الحرب ما جعل الإيرانيين يهدونه التاج تقديرا لفتوحاته. حين واجه العدو أخذ بيده رمحا وحمل على الأتراك حملة أثارت الحيرة والدهشة، وأدت إلى هزيمة الأتراك».
«
صموئيل پرچاس» (Samuel Purchas) القسيس البريطاني الذي زار المشرق خلال السنوات بين 1613 و 1626 يكتب في رحلته:
«
الحكومة العثمانية التي بثت الخوف والرعب في العالم المسيحي، هي الآن مذعورة من فرد بريطاني هو السير انطوني شرلي، وقلقة على مصيرها. لقد تعلم الإيرانيون فنون الحرب من شرلي...».(3)
في هذه النصوص التاريخية نكات على غاية الأهمية تستطيع أن تضع النقاط على كثير من الحروف. يتبين منها:
أولا: أن السياسة الاستعمارية تقضي أن المستعمرين حين يطردون من الباب يحاولون أن يتسوّروا المحراب. ويواصلون المحاولات تلو المحاولات بشتى الأساليب حتى يحققوا ما يصبون إليه من أهداف.
ثانيا: إن الوضع الداخلي للبلاط كما ورد في النص يميط اللثام عن حقيقة الحكم الصفوي. فهو ـ رغم اشتهاره بالدفاع عن التشيع وإفساح المجال لمراقبة وإشراف علماء الدين ـ كان غارقا فيما يغرق فيه الطواغيت والمتفرعنون.
ثالثا: مدى ما كانت تحمله الصليبية من حقد على الدولة العثمانية، وسبب اهتمام انطوني شرلي بتدريب الإيرانيين عسكريا، وتحويلهم إلى خنجر يطعن ظهر العثمانيين.
 
رابعاً: فتح الطريق أمام الغزو الثقافي والمسخ الثقافي..
كل الجهود انصبت على طريق نهب ثروات الشعوب وعلى إزالة كل مانع في هذا الطريق. ولم يكن ثمة عقبة أمام نفوذ الأجانب في بلدان العالم الإسلامي أكبر من الإسلام بمعناه الشامل. وكان الغرب الصليبي على علم كامل بخطر الإسلام، ولذلك لا نشك في وجود الأيدي الصليبية وراء هجوم المغول على العالم الإسلامي، ووراء الصراع الدموي بين العثمانيين والصفويين.
كانت الأيدي الغربية الآثمة تسعّر نار الخلافات والحروب بين الاخوة المسلمين الإيرانيين والأتراك لتضعفهما معا ولتوقف الإيرانيين عند حدود مصالح إمبراطورية الهند الشرقية وتوقف الأتراك عند حدود أوروبا المركزية، ثم لتأتي على سائر أجزاء العالم الإسلامي لتأكلها واحدة بعد أخرى بعد أن أكلت الثور الأبيض.
واجتمعت العوامل لتنخر في جسد الحكومة الإيرانية وتؤدي بها إلى منتهى الضعف والهزال: تدهور الحكومة الصفوية.. وهجوم الأفغان.. وقيام شركة الهند الشرقية.. وتنفيذ الدسائس في الحدود الجنوبية والجنوبية الشرقية.. وتزلزل الحكومة الزندية.. وفشل «لطف علي خان الزندي» في الاحتفاظ بالسلطة التي وطدها له أبوه.. والمجازر الدموية الظالمة التي ارتكبها «آقا محمد خان القاجاري»..
ولسوء الحظ فان هذا الضعف والهزال في جسد الحكومة الإيرانية صادف ذروة اقتدار «نابليون» ملك فر انسه الذي استشعر حلول روح «الاسكندر المقدوني» فيه، وطمح إلى أن يسخّر الشرق والغرب تحت قبضته.. واستهدف إلى أن يتعاون مع «بولس الأول» قيصر روسيا، ومع الجيش الإيراني ليخرج الهند من قبضة البريطانيين. من هنا دخل البريطانيون بكل قواهم ساحة المعركة ليحولوا دون تنفيذ خطة نابليون، واتجهت جهودهم بالدرجة الأولى صوب إيران التي كانت تعتبر يومئذ بوابة الهند.
«
السير هاردفورد جونز» و «السير جان ملكم» وهما من كبار أساتذة الماسونية يدخلون إيران، ويذكر جونز في مذاكرته: «... لقد أدخلت في الماسونية ما استطعت من رجال إيران ووفّرت الأجواء لقدوم السير جان ملكم».(4)
فتح علي شاه الذي كان يعاني من عجز في الميزانية ومن النفقات الباهضة لبلاطه وبيت حريمه اضطر إلى تأمين احتياجاته عن طريق أخذ الرشوة تحت عناوين مختلفة من الأوربيين.
حاشية الشاه اقتدوا بالشاه في أخذ مثل هذه الرشاوي. على سبيل المثال وزير خارجيته «ميرزا أبو الحسن خان الشيرازي»، الذي شغل قبل ذلك منصب سفير إيران في بريطانيا، كان يتقاضى راتبا شهريا بمبلغ ألف روبية من شركة الهند الشرقية، منذ سنة 1810 حتّى وفاته سنة 1846، ومن الطريف أنّه  تقدم سنة 1843 بطلب إعطاء نصف هذا المبلغ لولده بعد وفاته!5 هذا الطلب رفضه «اللورد بالمرستون» وزير خارجية بريطانيا آنئذ. وسنعود إلى الحديث عن ميرزا أبو الحسن هذا في مناسبة أخرى.
«
جان ويليام كي» البريطاني يتحدث في كتابه: «تاريخ الحروب الأفغانية» عن مهمة السيرجان ملكم والسير هاردفورد جونز، وتوزيعهما الرشاوي على الشاه وحاشيته ويقول:
«
كان ملكم يحل مهمة الدخول في محادثات مع إيران عن أحد طريقين: الأول: إعطاء 300 ـ 400 ألف روبية على شكل قرض لمدة ثلاث سنوات إلى الحكومة الإيرانية. والثاني: أن يكسب الشاه وحاشيته بدفع الرشاوي لهم. وملكم اختار الطريق الثاني ونال مبتغاه.(6) كانت كلّ المشاكل تحل عن طريق الجنيهات والذهب البريطاني بشكل سحري.
..
على سبيل المثال لو أريد إخراج أحد أتباع فرنسا من إيران، فان قيمة إخراجه يساوم عليها كما يساوم على ثمن الحصان. إيران بلد لا يمكن القيام فيه بأدنى خطوة دون إنفاق مبالغ ضخمة».(7)
خطط بريطانيا الماهرة في زمن حكومة نابليون بشأن إيران تعد من أتقن الخطط وأبرعها في تاريخ الدبلوماسية العالمية. فقد نجحت هذه الخطط في إحباط محاولات فرنسا وروسية للإغارة على الهند، بل ونجحت أيضا في فصل أجزاء مهمة عن إيران وشراء ذمم عدد من الرجال وتحويل الحكومة إلى كائن هزيل لا يقوى على شيء.

 

تزايد النفوذ الماسوني في جهاز الحكم القاجاري
من أجل أن نلقي الضوء على الأوضاع في العصر القاجاري ننقل أولا بعض النصوص عن كتاب «ناسخ التواريخ» الذي يعتبر أفضل مصدر عن هذا العصر:
«
حين تسلط الروس على أرض المسلمين اعتدوا على الأعراض والأموال. بلغ خبر ذلك «السيد محمّد أصفهاني» عن طريق بعض خدم نائب السلطنة ممن كان مستاء من مصالحة الروس. وكتب السيد الأصفهاني الذي كان يقطن العتبات المقدسة إلى جهاز بلاط الشاه أن قد حان حين الجهاد مع الروس فما هو رأي الشاه في ذلك؟ فقال الشاه: نحن كنا دائما في فكر الجهاد ونذرنا أنفسنا لترويج الدين والشريعة. وما إنّ  سمع السيد الأصفهاني برأي الشاه حتّى توجه إلى دار الخلافة فوصل طهران في العشر الأواخر من شهر شوال المكرم، واستقبله جميع الأمراء والعلماء..».
«..
من جانب آخر أمر الشاه «الميرزا أبو القاسم مستوفي الأصفهاني» أن يستضيف »جان مكدانولد كيز» البريطاني الذي أرسلته حكومة الشركة الهندية ليقيم في إيران وكيلا لدولة بريطانيا خلفا لـ«هنري دلك»..».
«..
وأرسل «نيقولا« إمبراطور الروس »كينياز بخشكوف» ليكون سفيرا في إيران.. واستقبله الشاه في السادس عشر من ذي العقدة، فتسلم الشاه رسالة الإمبراطور وعرشا من البلّور مهدى إليه. وهذا العرش كان قد أعده لشاه إيران «الكسندر بادلويج»، ولكنه لم يبق في الحكم، وعندما جلس أخوه نيقولا على عرش السلطنة أرسل ذلك العرش. وهو بطول ثلاثة أذرع وعرض ذراعين من البلور الأبيض المرصع، على كلّ جانب منه ثلاث مشارب يفور منها الماء، وخلف المقعد تمثال قرص الشمس من البلور الصافي..».
«..
يوم الجمعة السابع عشر من ذي القعدة، جناب السيد محمّد والملا محمّد جعفر الاسترآبادي، والسيد نصر الله الاسترآبادي والسيد محمّد تقي القز ويني والسيد عزيز الله طالشي وعلماء وفضلاء آخرون وردوا معسكر الجيش، واستقبلهم الأمراء والحكام. ويوم السبت وصل الملا أحمد نراقي الكاشاني وهو ممن بزّ أقرانه من علماء الاثنى عشرية يرافقه الملا عبد الوهاب القز ويني وجاعة من العلماء والحاج ملا محمّد نجل الحاج ملا أحمد الذي كان هو أيضا من أفاضل المجتهدين. وسارع كلّ الأمراء والحكام والأعيان لاستقباله، واصطحبوه إلى محل إقامته بالتكبير والتهليل. وهؤلاء المجتهدون اتفقوا على إصدار فتوى الجهاد، وأنّ كلّ من يتهاون في جهاد الروس فقد عصى الله وتابع الشيطان..».
«...
وبين هؤلاء كان معتمد الدولة الميرزا عبد الوهاب ووزير الخارجية الميرزا أبو الحسن ممن لا يرتضي محاربة روسيا. أرسل المجتهدون إليهما خطايا شديد اللهجة وقالوا لهما: إنّ في عقيدتكم ودينكم لفتورا، وإلا فلم تستكرهون جهاد الكفار.. فسكت هذان عن المعارضة...».
«
سفير الروس يأس من الحديث مع جهاز الدولة وأراد أن يقابل العلماء عله يصرفهم عن موقفهم، ويقنعهم بأنه يتعهد أن يبعد الروس عن حدود إيران. فأجابه المجتهدون بأن الحديث مع الكافر بلين واستسلام ذنب كبير في شريعتنا، وأننا نعتقد بوجوب جهاد الروس حتّى ولو ابتعدوا عن حدودنا. وفي النهاية استدعى الشاه سفير روسيا وقال له: الأمر الآن أصبح يقوم على أساس مباني الشريعة، ونحن فضلنا دائما قوام الملّة على مصلحة الدولة. وأجازه أن ينصرف، وأعطاه ألف تومان ذهبا وأشياء أخرى...»(8)
ولنتعرف على ميرزا أبو الحسن خان المعروف بـ«ايلچي» (مبعوث الحكومة) الذي أصبح فيما بعد وزيراً للخارجية:
«..
في سنة 1215 هـ حين أمر فتح علي شاه بتنحية الحاج إبراهيم كلانتر عن رآسة الوزارة واعتقاله، أصبح أعضاء أسرة الحاج إبراهيم بين أسير أو قتيل أو مسمل العيون أو مشرد، كان ميرزا أبو الحسن خان آنئذ حاكم شوشتر، فجيء به أسيرا إلى طهران، وهمّ الشاه أن يقتله لو لا وساطة بعض أعضاء البلاط، فعفي عنه وأجبر على الإقامة في شيراز. لكن الميرزا  هذا استطاع بمساعدة الإنجليز أن يذهب إلى الهند عن طريق البصرة، وأقام في بمبي. وفي سنة 1223، توسط الصدر الأصفهاني فأعاده إلى طهران. وبعد عامين ذهب إلى لندن بعنوان مبعوث الحكومة يرافقه جيمز موريه سكرتير السفارة البريطانية.
«
السير جور اوزلي بارت «Sir Gre Ozely Bart» مستضيف أبو الحسن خان ومن زعماء الماسونية عرف ضيفه بسرعة ورآه مناسبا للورود في حلقة الماسونية. والميرزا أبو الحسن خان مثل الميرزا عسكرخان (أول ماسوني إيراني) طوى كلّ مراسم الماسونية بسرعة، وخلال مدة قصيرة اعتلى منصب «پاست جراند ماستر» «Past Grand Master» وتولى من قبل «جراند لوج انجلند» مهمة التعاون مع السير جور اوزلي ـ الذي ارتقى إلى  منصب رئاسة الماسونية الإقليمية في إيران ـ لتأسيس لوج ماسوني فيها...».(9)
ولنلق الآن نظرة على أهداف روسيا في هجومها على المناطق الحدودية الإيرانية من خلال البند التاسع من الوصية المنسوبة إلى «بطرس الكبير» إمبراطور روسية المقتدر في النصف الأول من القرن التاسع عشر:
«
يجب أن نقترب ما وسعنا من اسلامبول والهند. من يحكم هذه المناطق يحكم العالم حقيقة. من هنا لابد من إثارة حروب مستمرة مع الإيرانيين، يجب إنشاء أحواض صناعة السفن على ساحل البحر الأسود واحتلال هذا البحر والبحر البلطيقي بالتدريج، فهما يشكلان منطقتين مهمتين للتقدم وتنفيذ الخطة. ولابد من العمل على الإسراع في اضمحلال إيران والسيطرة على الخليج الفارسي، وإعادة الحياة قدر الإمكان إلى الطريق التجاري الشرقي القديم عبر سوريا حتّى الهند التي هي بمثابة مستودع العالم. وحين نصل إلى هذه المناطق بإمكاننا أن نعرض عن ذهب بريطانيا».(10)
الضعف التدريجي الذي دبّ إلى جسد الحكومة الإيرانية خاصة في عصر فتح علي شاه قد وفّر الفرصة لهجوم روسيا على إيران، الحروب الروسية الإيرانية التي استهدفت تحقيق أهداف القياصرة التوسعية جرت في مرحلتين، واستغرقت 11 شهرا. المرحلة الأولى: من 1218 إلى 1228 هـ ، والمرحلة الثانية: من 1241 إلى 1243 هـ وأسفرت عن انفصال 17 مدينة من اكبر مدن إيران الشمالية والتحاقها بروسية.
ولنقف ـ ولو قليلا ـ عند ردود الفعل تجاه هزيمة إيران أمام روسيا لأنها هامة في إلقاء الضوء على تسلسل بحثنا هذا. ونكتفي بمثال واحد من أصحاب «الأصالة» وبمثال من «المستغربين».

 

الشيخ شامل
الشيخ شامل رئيس الطريقة الصوفية النقشبندية، وزعيم المجاهدين المسلمين القفقاسيين، أعلن الحرب على روسيا في أواسط القرن الثالث عشر الهجري وحارب لسنوات جيش القياصرة، لتحرير القفقاس من السيطرة الروسية. وتعاون لمدة مع «القاضي ملا» المجاهد القفقاسي المعروف، وبعد مقتل القاضي ملا قتل أيضاً خلفه «حمزة بيك» (1834م) فأصبح الشيخ شامل زعيم مجاهدي داغستان. حارب هذا الشيخ مدة 25 سنة (1834 ـ 1859م) لتحرير بلاده ضد قادة جيش الإمبراطورية الروسية، وحمّل الجيش الروسي خسائر فادحة، وأبدى مهارة قتالية فائقة. استمرار هذه الحرب وطول مدتها أرهق أنصاره وأتعبهم، فتفرق عنه أكثرهم، وكانت النتيجة أن انهزم أمام جيش عظيم وجهه إليه قيصر روسيا المعروف «الكساندر الثاني»، فاعتقل، واقتيد إلى سان بطرسبورغ عند القيصر، فأمر بنفيه إلى كالوغا. وسقطت كلّ القفقاس بيد روسيا، وأصبحت كلّ قبائل القفقاس خاضعة بالتدريج للسيطرة التزارية. طلب الشيخ شامل سنة 1285 هـ أن يؤذن له بالحج، فذهب إلى الحجاز وتوفي في المدينة المنورة. ولده «قاضي محمّد» انخرط في خدمة الدولة العثمانية وشارك في حربها ضد روسيا سنة 1877م. لكن مساعيه لاستثارة شعب داغستان لم تسفر عن نتيجة، وتوفي في مكة المكرمة.(11)

 

ميرزا فتح علي آخوندزاده
من أجل أن نكون موضوعيين في الحديث عن هذا الرجل نقتطف ما كتبه عنه واحد من أشد مؤيديه هو الدكتور فريدون آدميت في كتابه: «انديشه هاي ميرزا فتحعلي آخوندزاده» = أفكار... يقول: «في تيار الفكر الجديد، ميرزا فتح علي آخوندزاده (1228 ـ 1295) يعتبر من المبدعين، ممثل الفكر العملي النقدي، رائد كتابة المسرحية والقصة الأوربية في الشرق، مبتكر إصلاح الخط وتغيير حروف الهجاء في العالم الإسلامي، منتقد الأدب الكلاسيكي ومحطم التقاليد في كتابة التاريخ، وداعية أخذ العلم والحكمة والمدنية من الغرب، منظّر القومية الإيرانية، ناقد السياسة والدين، والمؤمن بانفصال السياسة عن الدين انفصالا مطلقاً، وعدو الحكومة الاستبدادية وكل ألوان الحكم الفردي، نصير المشروطة العقلية العرفية القائمة على أساس الحقوق الطبيعية. المنادي بإصلاح الدين (البروتستانتية الإسلاميّة ) مفكر مادي بأفكار وآراء مضبوطة منسجمة ليس في نظامه الفكري خلل وتناقض. كلّ ما فيه أصالة المادة وسلطان العقل».
«
ميرزا فتح علي نشأ في عائلة متوسطة في آذربايجان، والده تبريزي وأمه من مراغة، هو يقول عن نفسه بأنه من العنصر الفارسي. إنه من الشعب الإيراني ووطنه أرض إيران.
...
كان والده عمدة مدينة «خامنه» من أعمال تبريز حين كان «عباس ميرزا» وليا للعهد ونائبا للسلطنة في آذربايجان.
في سنة 1227 نُحّي والده من منصب العمدة، فهاجر إلى مدينة «شكي» في القفقاس حين كانت جزء من إيران. وفي سنة 1328 يولد فتح علي في «نوقة» من ضواحي شكي، وبعد عامين تعود العائلة إلى تبريز، بعد خمسة أعوام تفترق أمة عن والده بسبب خلاف بينهما، وتأخذ ابنها وهو آنئذ في السابعة من عمره وتذهب إلى قرية مشكين من أعمال أردبيل عند عمها «آخوند حاج علي أصغر». ويظل فتح علي تحت رعاية آخوند علي أصغر حتّى الثانية عشرة من عمره، وعرف باسم الحاج علي أصغر اوغلي (الابن)، ولهذا حمل لقب آخوندزاده (وليد  الآخوند).
في سنة 1241 آخوند علي أصغر رافق نائب السلطنة عباس ميرزا إلى مدينة گنجه في القفقاس واصطحب معه ميرزا فتح علي وأمه.. كان فتح علي في الثانية والعشرين من عمره حين قدم تفليس.. فعرّفه آخوند علي أصغر على عباسقلي بيك المعروف باسم بكي خان، وهو مؤلف وعالم ومترجم الحاكم الروسي في القفقاس.. وهذا الاخير امتحن فتح علي، وعيّنه مساعد مترجم في مكتب الشؤون الإدارية لحكومة القفقاس وفي ورقة استخدامه، ذكرت بداية خدمته: الأول من نوفمبر 1834 المطابق للحادي عشر من شهر رجب 1250 (بعد احتلال الروس لأرض القفقاس)..».
ويكتب فريدون آدميت في كتابه:
«
في نفس المدرسة التي درّس فيها ميرزا فتح علي اللغة التركية بتفليس توطدت صداقة بينه وبين رفيق فكره وزميله الأرمني «خاجاطور أبو فيان» (1810 ـ 1846). وأبو فيان كاتب ومتحرّر ومؤسس الأدب الواقعي الأرمني الجديد،
وكاتب رواية «جرح ارمنستان». وبقدر ما كان ميرزا فتح علي ساخطا على المسجد كان أبو فيان ناقما على الكنيسة».(12)
«...
في دفتر حياة الميرزا فتح علي وكتاب أفكاره تشاهد بوضوح أصالته الإيرانية. كان في السادسة عشرة من عمره حين فصلت القفقاس بحراب الجيش الروسي عن أرض إيران. قضى خمسين عاما من عمره في القفقاس القابعة تحت حكم الأجنبي. وعمل أربعين عاما في جهاز نفس تلك الحكومة الأجنبية، لكن أصالة شخصيته كانت ثابتة دائماً. كان منشدا إلى إيران طوال الوقت، يتحدث باستمرار عن هموم شعب إيران والقفقاس، والروح الشعبية تشكل سدى ولحمة أفكاره وعواطفه. وهو بنفسه يقول: وإن كنت على الظاهر تركيا، فان أصلي من الفرس.. وأرجو أن يعلم الإيرانيون أنني ابن الفرس ووطني إيران»..(13)
ويقول فريدون آدميت في موضع آخر من كتابه:
«
ميرزا فتح علي كان رجلا ذكيا موهبا وكان يتمتع ـ كما يقول هو عن نفسه ـ بوحدة الذهن... كثير المزاح وفطن وقوي الملاحظة. وكان أحيانا يلقي الحديث الجادّ في أسلوب مازح. ومن الناحية النفسية كان رجلا متعادلا، وكان يتمتع بحياة هانئة مرفهة..»(14)

 


وقفة أطول عند أفكار آخوندزاده
من أجل أن نطّلع أكثر على أفكار واحد من روّاد التغرّب في إيران نقف أكثر عند أفكار آخوندزاده. يقول فريدون آدميت:
«
فكرة إصلاح الخط وتغيير الحروف الهجائية من آثار التفاعل بين
المدنيتين الشرقية والغربية، وسيطرة المدنية الأوربية. رائد هذا التفكر ومبتكر الخط الجديد في المجتمعات الإسلامية ميرزا فتح علي. ومنه سرت هذه الفكرة إلى تركيا. لقد ولد هذا الوعي الاجتماعي في إيران وتركيا نتيجة التفاعل بين الغرب والشرق ونتيجة التجارب العينية المكتسبة. هذا الوعي دفع إلى تعقّل أسباب الانتكاس التاريخي والانحطاط المادي، والى التفكير في سبل التقدم وتعلم العلوم والفنون الأدبية...
أفكار ميرزا فتح علي تطوّرت على مرحلتين متمايزتين تطورا كليا: المرحلة الأولى، إصلاح الحروف الهجائية. الثانية، تغيير الخط.
في المرحلة الأولى: ألغى نقاط الحروف، وجعل شكل الحرف وحده مميّزا للحرف عن الآخر. وحركات الأعراب جعلها جزءا من الحروف وكتبها بازائها...
وفي المرحلة الثانية: تغيرت فكرة ميرزا فتح علي تماما، واعتقد بعدم جدوى إصلاح الحروف الهجائية. ولابدّ للخط أن يتغيّر وأن تستبدل بهذه الحروف الموجودة الحروف اللاتينية. وأن تكتب من اليسار إلى اليمين. وعلى هذا الأساس قدم مشروعا جديدا يمثل تحوّلا تكامليا في أفكاره».
وبشأن بدايات فكرة إصلاح الخط، وكيف خطرت في ذهن ميرزا فتح علي يقول فريدون آدميت:
«..
لا أدري، ولا جدوى في التخمين والتقريب. أنا على إطلاع إلى حدّ ما على مصدر فكرته هذه، إنها تجربة قيصر الروس (بطرس) في روسيا. يقول ميرزا فتح علي في بعض كتاباته: رأى القيصر أن خط الروس القديم يحول دون تقدّم الشعب في العلوم فتركه واستحدث خطا بالحروف اللاتينية. خالفه العوام والقساوسة وأشراف مملكته. ورفعوا عقيرتهم بالقول إننا سنفقد ديننا.. فلم يبال القيصر بحماقاتهم وجدّ في عزمه.. وبسبب تغيير الخط هذا ساروا على طريق الرقي آنا فآنا».(15)

 


وحول دافع فتح علي لإصلاح الخط يقول فريدون:
«
يمكننا بنظرة سطحية أن نعتبر الدافع في ذلك كراهية الكاتب للعنصر العربي وما يرتبط بالعرب. عندنا دليل ـ يبدو وجيها ـ لتأييد ما ذهبنا إليه. هو (ميرزا فتح علي) يقول في كتاباته: أحد الآثار المشؤومة لسيطرة العرب الوحوش على ثغور إيران تحميلنا خطا يجعل المستوى المتعارف من التعليم من أشق الأعمال ... والآن فان المصنف يبذل غاية مساعيه لإنفاذ شعبه من هذا الخط القذر الدنيء المتبقي من تلك الأقوام، ولانتشال شعبه من الظلمة والجهالة إلى نور المعرفة».
«...
ثمة عاملان جديدان كان لها الأثر في ترسيخ هذه الفكرة في ذهن ميرزا فتح علي إلى حد كبير: الأول مضمون رسالة «شارل ميسمر» الفرنسي مستشار «فؤاد باشا» الصدر الأعظم العثماني. فقد اقترح في هذه الرسالة تغيير الحروف الهجائية التركية والأخذ بالحروف اللاتينية... والثاني ـ التجربة العملية لحكومة الروس. بعد احتلال داغستان كتب ميرزا فتح علي إلى ميرزا ملكم خان يقول:
حكومة الروس بعد احتلال داغستان، أي منذ سنتين، وضعت لشعوب الاوار والشيشان والجركس حروف هجاء مستقلة بخط لاتيني. وقررت هذا الخط في المدارس الجديدة التي فتحت هناك، ونقلت بعض الكتب الإسلاميّة  إلى هذا الخط. سيصبح هؤلاء أهل ثقافة وعلم. أما أهالي القفقاس وهم ما يقرب من مليونين فلا يزالون يقبعون تحت كارثة الخط الإسلامي القديم عميانا جهلاء مثل الحيوانات».(16)
وينقل فريدون آدميت عن ميرزا فتح علي عبارات تدل على نمطه الفكري بقول: «في كل العالم الغربي يدور هذا السؤال: هل إن المعتقدات الباطلة أي المعتقدات الدينية تؤدي إلى سعادة الشعب والوطن أم إلى ذلة الشعب والوطن؟ كل فلاسفة تلك الأقاليم متفقون على أن المعتقدات الدينية تؤدي إلى ذلة الشعب والوطن في كل المجالات».(17)
وبشأن مجالس عزاء الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ  يقول الميرزا فتح علي:
«
روّج لهذه المجالس الديالمة والصفويون في أيامهم، باقتضاء سياستهم. والآن فقد انتهت تلك الدواعي، ولكنك ترى هذه المجالس أينما ذهبت. ترى، هل إنّ  هؤلاء الناس وقد تراكمت المصائب عليهم، بحاجة إلى من يذكرهم بمصائب القرون الغابرة ويلهيهم عن كسبهم وعملهم؟ هذه المجالس لا فائدة فيها أصلا لا لك ولا للإمام».2
ولآخوندزاده أشعار كل مضامينها تنطوي على الإلحاد وكراهية الإسلام وخاصة التشيع...

 

 لماذا هذا الاستعراض لجذور التغرّب
الذي دفعني إلى هذا التقصّي لجذور التغرّب في إيران هو محاولة إعطاء تحليل دقيق لحركة المشروطة أو الحركة الدستورية في إيران.
لقد تناول دراسته هذه الحركة كتاب كثيرون تناول كلّ واحد منهم جانبا منها.وعلى رأسهم أحمد كسروي في كتابه: «تاريخ مشروطة إيران». ويمكن تقسيم هذا الكتاب على قسمين:
الأول ـ جمع الوثائق التاريخية المرتبطة بالحركة، وهو عمل قيّم ومفيد، خاصة وهو يرتبط بفترة حساسة جدا من تاريخ إيران.
والثاني ـ تحليل هذه الوقائع وإطلاق الأحكام عليها، وهي أحكام تبتعد غالبا عن الأنصاف.
المعيار في كلّ أحكام كسروي هو الثناء على من ناصر المشروطية والهجوم المقذع على من خالفها لأي سبب من الأسباب، لاعتقاده بأن المشروطة عطاء عشرات السنين من الجهود التي بذلها المتغربون والمتجددون.
أنظر إلى حكمه على واحد من كبار العلماء هو المرحوم السيد محمّد كاظم اليزدي (رضوان الله تعالى عليه)، الذي كان معارضا للمشروطة غير المشروعة (غير القائمة على أساس الشرع المقدس):
«...
السيد كاظم الذي كان حاذقا في خداع الناس وإثارة العامة، تحرك بشدّة، أرسل إلى العشائر العربية القاطنة حول النجف وكربلاء وعلى ضفاف الفرات، وهم من الشيعة، أن يأتوا زرافات إلى النجف بأسلحتهم ومعداتهم ويحوطوا السيد بالدبكات والهوسات والشعارات المعادية للمشروطة. وكانوا لا يألون جهدا في إيذاء كلّ من يعرفون فيه تأييدا للمشروطة. وفي كلّ يوم يؤم فيه السيد الصحن لأداء الصلاة كان عدة الآف من الإيرانيين والعرب يصطفون للصلاة خلفه...»(19).
وهناك من راح يحلل حركة المشروطة تحليلا ماركسيا وفق القوالب النظرية التي وضعتها المادية التاريخية ومقتضيات الصراع الطبقي.(20)
واقتصر بعض الباحثين على ترجمة رجال المشروطة معتقدا أن هذه التراجم تستطيع أن تسلط الضوء على وقائع ذلك الزمان من خلال ارتباط طبيعي بشخصياتها (21).
غير أن الطريقة التي احتذاها احمد كسروي في دراسة المشروطة تسربت إلى الكتب الدراسية الإيرانية قبل انتصار الثورة الإسلاميّة ، والى جيل من الدراسين.
واللغز الذي بقي غامضا علي هو التزام رجال السياسة في العهد البهلوي بهذه الطريقة الكسروية في تحليل المشروطة يثنون ـ رغم حقدهم على علماء الدين ـ على ذلك الرهط من علماء الدين الّذين أقاموا المشروطة ، وينددون مقابل ذلك برجال الدين الّذين عارضوها مثل «الشيخ فضل الله النوري»!! لماذا هذا الالتزام بالنهج الكسروي؟!
لقد كنت منذ صباي أعيش تناقضا في الرؤى تجاه المشروطة.
من جهة أقرأ في المدرسة أن المشروطة ثمرة حركة الناس والعلماء ، وهذه الحركة أدت إلى ظهور «فرمان» المشروطة على عهد الشاه مظفر الدين . وأهل الذوق استخرجوا مادة تاريخ هذا الفرمان بعبارة «عدل مظفر». وحدثت بعد ذلك مشاكل مرت بسلام من ذلك أن الشاه محمّد علي المستبد بمساعدة الحكومة الروسية قصف مجلس الشورى بالمدفع لأن الأجانب (المقصود روسيا) لم يكونوا يريدون لهذه النهضة الشعبية أن تؤتي ثمارها.
كنا نقرأ أيضاً : أن بعض الروحانيين السطحيين مثل الشيخ فضل الله نوري !! كانوا في صف المعارضين للمشروطة ولكن القوى المناضلة المناصرة للمشروطة واصلت كفاحها ، وأجبرت الشاه محمّد علي على الفرار تحت حماية المظلة
الروسية (وهذا تأكيد آخر على حماية روسيا للشاه المستبد) ، وأعدم الشيخ فضل الله ، واتجه كلّ شيء إلى الاستقرار.
وقرأنا كذلك : إنّ  الدول الأجنبية ساءها أن ترى الشعب الإيراني يعيش بسعادة في ظل المشروطة . فشرعوا في التدخل في شؤون إيران . وحركوا العشائر ، وثارت في كلّ ناحية فتنة عشائرية . ومن هؤلاء المتمردين «الكلنل محمّد تقي خان پسيان» و«ميرزا كوچك خان».. حتّى جاء «رضا شاه» ، وتحرك لقمع الفتن وقطع يد الأجانب ، فنشر الأمن والرفاه وحق الاستقلال للبلاد ، ثم جاء بعده «محمّد رضا» فواصل إصلاحات والده!!
هذا ما كنا نقرأه في الكتب الدراسية ، ومن جهة أخرى كان المرحوم والدي يقول:
«
كنت طفلا في السابغة أو الثامنة من عمري حين رآني أبي وأنا أشدّ على ساعدي علامة المشروطة ، فتغير وجهه حين رآني وقال : افتح هذه العلامة !».
وجدي كان مزارعا ولم يكن اقطاعيا يخشى على مصالحه من المشروطة ولم يكن مرتبطا ببلاط القاجار أو أجير للشاه محمّد علي . ومتى ما ذكر المرحوم الشيخ فضل الله النوري كان يتأوه من الاعماق ألما على ما نزل بالشيخ من ظلم.
كنا نعيش هذا التناقض في فهم المشروطة حتّى صدر كتاب «غرب زدگى» = التغرب ، للمرحوم جلال آل أحمد وفيه يتصدى ـ لأول مرة ـ مثقف تقدمي ، ولكن لا من النوع المتداول ، للثناء على المرحوم الشيخ فضل الله ، ويعلن أن صعود جسده على المشنقة علامة استيلاء التغرب.
وثمة أسئلة كانت تطرح نفسها في هذا المجال وتضغط على ذهني ، ولا تزال مطروحة على بساط البحث:
1
ـ لماذا كان الشيخ فضل الله النوري وهو من المجتهدين البارزين مساندا
للمشروطة في البداية ثم أصبح بعد ذلك معارضا لها ؟
2
ـ لماذا كان أنصار المشروطة يلجأون إلى السفارة البريطانية متى ما ساءت الأوضاع.
3
ـ لماذا كان يدافع عن المشروطة أفراد مشكوكون أمثال ملكم خان.
4
ـ لماذا أصبح «يپرم خان الارمني» (عضو فرقة الداشناك) مدافعاً عن المشروطة؟
5
ـ بعد بدء النزاع بين الشاه محمّد علي وأنصار المشروطة، لماذا يسرع «الجنرال أسعد بختياري» وهو من كبار رؤساء العشائر (خان) إلى العودة من أوروبا إلى عشيرته ، فيقود خيالة عشيرة البختياري ويهجم على طهران للدفاع عن أنصار المشروطة ..هذه المشروطة التي شاع عنها بأنها معادية لنظام الخانات (النظام العشائري)؟
6
ـ لماذا قاوم أنصار المشروطة إضافة كلمة «المشروعة» (وتعني الاستمداد من الشريعة الإسلاميّة) إلى كلمة «المشروطة».
7
ـ لماذا تطورت الأوضاع في مجلس الشورى حتّى أصبح «السيد حسن المدرس» معزولا وغريبا فيه؟
8
ـ لماذا أهمل بشكل كامل الأصل المتمم للدستور القاضي بأن يضم المجلس خمسة مجتهدين من الطراز الأول ليطابقوا بين قرارات المجلس وقوانين الشريعة الإسلاميّة؟
9
ـ ما هو دور المتغربين في هذه النهضة؟
10
ـ لماذا كان كثير من الماسونيين شديدي الاهتمام بإقامة المشروطة ، وأي نفع في المشروطة للماسونية ؟
11
ـ لماذا كانت الحكومة البريطانية والمستشرقون البريطانيون مثل «ادوارد
براون» من أنصار المشروطة؟!

 


 آثار الهزيمة أمام الروس
الأسئلة المذكورة دفعتني إلى جانب غيرها من الدوافع إلى السعي لدراسة المشروطة بمعزل عن الالقاءءات الكسروية ، وأبحث عن جذورها ولما كانت الفكرة أساسا من واردات الغرب فلابد من متابعة تاريخ التغرب في إيران عدت إلى تاريخ الصفويين وعهد الشاه طهماسب وقضايا الاخوة «شرلي» ، ووقفت عند عصر «فتح علي شاه»، لأن علاقات إيران بالغرب قد اتسعت في هذا العصر ، وكنا نعاني آنئذ من الحروب الإيرانية ـ الروسية. وبدأت البعثات الدراسية إلى أوروبا ... إلى آخر مسلسل الأحداث.
نفس هزيمة إيران أمام روسيا كانت لها آثار عظيمة أهمها الهزيمة النفسية فرجالنا رؤوا هزيمة المجاهدين الايرانيين رغم قوة عقيدتهم وجسامة تضحياتهم .. هزيمتهم أمام قوة «التكنولوجيا» فأقدموا على إيفاد الطلاب إلى الغرب ، وكان لهؤلاء الموفدين لدى عودتهم أثر كبير على التحولات الفكرية في إيران فقد بلغ الانبهار بهؤلاء درجة دفعتهم إلى تقليد أعمى وأسقطت بعضهم في فخ العمالة والتبعية وبيع المقدرات وذكرنا نموذجا من هؤلاء حين تحدثنا عن «أبو الحسن خان الايلجي» فهذا الاجير كان يتقاضى ألف روبية شهريا ثمنا لعمالته وفي معاهدة العار المسماة «معاهدة گلستان» توسط ، من أجل أن يجبر تقصيره أمام الإمبراطورية ، لتسليم مناطق شمال غربي إيران إلى روسيا .. وكانت مواقفه من أولى محاولات تصدي المستغربين لمعارضة الإسلام.
جماعة معارضي الإسلام كانت على نحوين : الأولى ذكية فطنة ، نجدها جميعا تتغذى من مائدة سفارة واحدة والثانية ـ غبية تردد كالببغاء ما يقوله لها الآخرون أكثرهم من العائدين من أوروبا وتبعهم في ذلك رهط من غيرهم .
أشرنا فيما سبق إلى الظروف التي أحاطت بالحرب الإيرانية الروسية وأضيف هنا أن الأحداث بعد هذه الهزيمة تطورت حتّى حولت هذا البلد العريق العظيم إلى شبح بلد ، تفتك به الصراعات الداخلية ، وتتناوشه شتى الاطماع الخارجية وكان هناك عامل واحد لا غير يصون المجتمع من الابادة والتمزق والانفراط وهو الإسلام ، وخاصة «التشيع» ولذلك كان من الطبيعي أن تتجه كلّ جهود الأعداء والطامعين إلى اضمحلال هذا العامل .
في قضية الحرب الإيرانية الروسية مر بنا أن فتح على شاه لم تكن له قدرة على الحرب وروسيا كانت قد عرفت كلّ نقاط ضعفه كانت التقارير تتوالى عن اعتداءات الجيش الروسي على مدن إيران ، وفي الوقت ذاته يقدم بخشكوف ، ممثلا عن نيقو لا قيصر الروس ، عرشا من البلور هدية إليه والميرزا أبو الحسن خان وزير الخارجية الذي يتقاضى ألف روبية من البريطانيين بواسطة شركة الهند الشرقية لا يرتضى الحرب مع روسيا أي أن كلّ الظروف كان مهيئة لتقديم مدن القفقاس إلى ورثة بطرس الكبير إزاء عرش نيقولا البلوري وكان الشاه «الرجعي» راضيا بذلك وكذلك ميرزا أبو الحسن «التقدمي» المنفتح على الغرب.
كان هناك عامل واحد فقط استثار غيرة الحكومة وهو النداء الصارخ الذي أصدره المجتهدون والفقهاء المراجع مثل سيد محمّد مجاهد والملا أحمد النراقي كان هذا النداء هو الحافزالوحيد لما أبداه الناس من حماس للجهاد في سبيل رضوان الله تعالى في هذه الحرب غير المتكافئة بين واحدة من أكبر القوى العالمية آنئذ ، وحكومة واهية في مهب الريح.
رب سائل يسأل : وما جدوى حكم الجهاد؟ فالنتيجة كان الهزيمة وانفصال 17 مدينة من إيران . والجواب : أن الروس كانوا يطمعون من حروبهم الوصول إلى المياه الدافئة في الخليج الفارسي ، ومقاومة المجاهدين أوقفتهم عند جبال الأرس.
أضف إلى ذلك إنّ المقاومة الصلبة التي أبداها المجاهدون خلال أحد عشر عاما بمساندة العلماء أوشكت أن تثمر لولا خيانة العملاء فلو تعمقنا في تاريخ تلك الفترة لألفينا أن روسيا قد استنزفت قواها جراء حربها الطويلة مع إيران ، وأحيطت بمشاكل ومصائب في أوربا ، وكانت تبحث عن «مبرر» لمصالحة إيران والخروج من الأراضي المحتلة ولكن تدخل السفير البريطاني وخيانة العملاء أدت إلى تسليم الأراضي المحتلة إلى القوى المهاجمة ، ضمن معاهدة خيانية ومن الطريف أن الذي مثل إيران في عقد هذه المعاهدة نفس ميرزا أبو الحسن خان وزير الخارجية، سفير إيران السابق لدى بريطانيا والماسوني ذو راتب الألف روبية ، وغير الراضي عن محاربة الروس!!
 
على أي حال عقدت اتفاقية ضمنت المصالح المشتركة لروسيا وبريطانيا ، فروسيا اقتربت من المياه الدافئة التي تصبو إليها ، وبريطانيا حققت أهدافها في إضعاف الحكومة المركزية وتجزئة إيران وإزالة ما قد يشكل خطرا على شركة الهند الشرقية وهذه الاتفاقية واجهت ردود فعل الفئات الاجتماعية المختلفة ونحن ذكرنا آنفا نوعين من ردود الفعل ، أحدهما لأصحاب «الأصالة» والآخر عن «المستغربين» وقصدنا بأصحاب الأصالة الجماهير المسلمة وقادتهم الدينيين الّذين تتبلور فيهم آمال الأمة وآلامها وعقائدها وجذورها الثقافية..
بعد سقوط القفقاس ، نهض مسلمو تلك الديار ... هؤلاء المسلمون الّذين يسميهم فتح علي آخوند زاده عميانا جهلاء ... نهضوا لمقاومة استتباب التسلط الروسي ، وجاهدوا بصلابة وصبر مدة 49 عاما (1292 ـ 1243 هـ. ق). (22)
قيادة هذه النهضة تولاها علماء الدين والشخصيات الإسلاميّة مثل القاضي ملا ، وحمزه بيك ، والشيخ شامل وأمثالهم (23).
ولم ينهض ولا واحد من هؤلاء «التقدميين» «المتجددين» ليرفع راية ضد الروس القياصرة الّذين كانوا في أنظار الإيرانيين محتلين ، وفي أنظار المثقفين الروس رجعيين مستبدين .. لم ينهض واحد من هؤلاء .. بل الأسوأ من ذلك أن «آخوندزاده» أصبح موظفا أجيرا في حكومة المحتلين ..ولقد ذكرنا أنّه  بقي في خدمة المحتلين مدة 45 عاما وكان يعيش حياة مرفهة ناعمة !!

 


 انظر إلى تقابل الصورتين:
أجزاء من أرض الوطن تتعرض لهجوم المحتلين ، فتتصدى لهم جماهير مؤمنة لا تطلب شهرة ولا مكسبا عارضا ، يحدوها الإيمان والعشق ، وتنضوي تحت لواء علماء الدين ، وتقاوم لسنين بأسلحتها البسيطة أمام المحتلين وتقدم آلاف الشهداء .
وأحد هؤلاء القادة الشيخ شامل يقاوم مدة ربع قرن حتّى يقع في الاسر دون أن يستسلم للذل ، وفي أواخر حياته يطلب أن يذهب إلى الحجاز ليختار مثواه الاخير جوار رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام يذكرنا الرجل بحياة الصحابة المجاهدين في صدر الإسلام ، لم يهن ولم ينكل بل مضى على بصيرة من أمره يقاوم ويقاوم حتّى أسر مثل أسد هصور يقع في شرك الصيد .. ثم يموت ميتة طيبة لها معان كبيرة مثل حياته المفعمة بالمعاني الجسام.
وبالمقابل لانرى في جيل أدعياء التقدمية سوى بعض الانتقادات على طريقة البطر والاسترخاء الفكري ، ولم ياب زعيمهم ورائدهم أن يصبح موظفا لدى المحتلين ويعيش حياة رفاه ونعومة ، ثم يصدر من مكانة الناعم وصفات علاج لكارثة هذه الأمة تتلخص في الهجوم على مجالس الإمام الحسين عليه السلام
وعلى الخط العربي وعلى كلّ القيم المعنوية والمعتقدات الدينية لهذه الأمة المقاومة المكافحة الصابرة الصامدة المضحية ... ويصبح هذا الشخص مفخرة لدى نظرائه من أمثال فريدون آدميت الذي مر بنا حديثه عن فتح علي آخوندزاده.
 وجهة الدارسين في الغرب
حرب إيران والروس كشفت عن حقيقة مرة ، وأفهمت حكومة القاجاريين مدى تخلفهم عن قافلة العلم والرقي وجد المخلصون من أمثال «ميرزا عيسى» المعروف بالميرزا الكبير وزير عباس ميرزا نائب السلطنة ، في إرسال مبعوثين إلى الدول المتقدمة ليتعلموا وينقلوا التطور التقني الغربي إلى بلادهم .
لأول مرة توجه اثنان من الطلبة الإيرانيين سنة 1326 هـ ق إلى بريطانيا عباس ميرزا قال لسفير بريطانيا : «اهتموا بتدريس هذين ليعودا بالنفع علي وعلى أنفسهما وبلدهما». أحدهما توفي بعد عام ونصف العام من إرساله ، والثاني عاد إلى الوطن بعد أن درس الطب لست سنوات.
عقب ذلك توجهت بعثة من خمسة أشخاص سنة 1330 هـ ق لدراسة الهندسة والطب والمدفعية والرياضيات واللغة والحكمة الطبيعية إلى بريطانيا.
غادروا عن طريق روسيا إلى لندن ، وعادوا سنة 1235 وتولى كلّ منهم مسؤولية من المسؤوليات اثنان منهم تولى مناصب رفيعة أحدهم «ميرزا جعفر المهندس» الذي أصبح فيما بعد سفير إيران لدى الدولة العثمانية وتلقب بلقب مشير الدولة ، ثم أصبح رئيس شورى الدولة وهو نفسه الذي كتب إليه ميرزا ملكم خان رسالته باسم «كتيب الغيب أو دفتر التنظيمات » في إصلاح الحكومة الإيرانية .

 


والآخر ميرزا محمّد صالح الشيرازي وكان من أهل الفضل والكمال والذكاء
والحنكة تعلم في بريطانيا اللغة الانجليزية والفرنسية واللاتينية والحكمة الطبيعية والتاريخ وفن الطباعة ، وارتبط بالمحفل الماسوني هناك بعد عودته أصبح مترجم الدولة الرسمي ، ثم وزير طهران وكلف بعدة مهام سياسية..
الميرزا صالح نفسه يقول عن انتمائه إلى المحفل الماسوني : «كنت منذ أمد أرغب في الانتماء إلى الماسونية ، ولكن لم تتح لي الفرصة ، حتّى استطعت دخول المحفل مع المسترپارسي والمستردارسي ، تناولت طعام العشاء هناك ، وعدت في الساعة الحادية عشرة ، ولا يجوز أن أتحدث أكثر من ذلك حول هذا الموضوع»! (24)
هذا الذي أرسل إلى الغرب ليكون بلسما لجراح أمته ووسيلة لانقاذها من تخلفها التقني يصبح أداة انتشار الماسونية في بلده ، وضمانا لاستمرار السيطرة الاستعمارية الطويلة على شعبه كما إنّ  غسيل الدماغ الذي طاله يؤدي به إلى القول:
«
إنّ  سلسلة الملالي (ويقصد بهم علماء الدين) ماداموا يتدخلون في شؤون الدولة العثمانية فليس يؤمل قط في تقدم هذه الدولة».
هل هذا الكلام ينطلق من فهم للداء والدواء أم من عقدة وكراهية للدين وأهله؟!
كلّ إنسان مسلم حادب على بلده ، مهتم بمصالح شعبه يأمل أن يرى شعبه سعيدا ووطنه آمنا مستقلا في المجال السياسي والاقتصادي ، وبلده ذا علاقة بالمنظومة الدولية قائمة على أساس السيادة الكاملة والاحترام المتبادل كلّ إنسان مخلص يأمل أن يرى بلده قد وصل إلى حد الاكتفاء الذاتي في حقل الزراعة والصناعة ، وأن يسير في ركب العلم والمعرفة نحو الفلاح المادي والمعنوي.
فهل هذه الوصفات التي كتبها أمثال ميرزا فتح علي آخوندوف ، وعبد الرحيم طالب أوف (سيأتي ذكره) ، وميرزا صالح الشيرازي ومن لف لفهم قادرة على تحقيق هذه الأهداف ؟ ألم تجرب تلك الوصفات في القرون الأخيرة؟
عم أسفرت؟
من آخوندزاده حتّى سعيد نفيسي أجمع أدعياء التقدمية على ضرورة تغيير الخط ولو أن الشاه آتته الفرصة لفعل ذلك ولكن لا تأسفوا أيها السادة على سقوط الشاه وعدم استطاعته تغيير الحروف العربية ، فلقد جربت تركيا هذا الغيير على يد مصطفى كمال باشا وتبدل الخط العربي إلى لاتيني ، فماذا جنت تركيا من هذا التغيير ؟ ، وأي تطور علمي شهدته جراء لجوئها إلى الخط اللاتيني ؟ انظروا إلى اليابانيين .. خطهم فيه كثر من الصعوبة وكثير من التعقيد ، لكنهم لم يجروا عليه أي تغيير ، ومع ذلك حققوا أسرع تطور علمي وتقني في تاريخ البشرية . ولولا ما تحيط بهم من ضغوط أميركية لاستطاع الين الياباني أن يحطم الدولار الأميركي أكثر فأكثر ، ولاستطاعت «تويوتا» أن تشل «جنرال موتورز»(25).
لقد أنشد «عارف القزويني» أن كلّ مصائب هذا البلد من «رجال الدين ورجال القاجار» ، وكلاهما أخرجا من الساحة تماما لدى استيلاء رضاخان ، أسقط النظام القاجاري وأصبحت العمامة جريمة لا تغتفر وحلت السترة والبنطلون محل القباء الايراني ، والقبعة بدل الطاقية ، والشوارب الفرنسية والهيتلرية بدل اللحية، والتنورة بدل الشادر، والابتدائية بدل الكتاب ، والجامعة بدل الحوزة العلمية...
 
فماذا حصل عليه الشعب من تقدم ؟! ألم يعمدوا إلى تمديد «اتفاقية دارسي» بكل فخر وإعزاز؟! مع فارق هو أن الإنسان الإيراني في هذا العصر الجديد فقد حرية الاعتراض تماما، فمن ينطق بأدنى اعتراض يسل لسانه من قفاه.
كلّ أدعياء التقدمية في إيران ركزوا على القومية الإيرانية، وعلى إيران قبل الإسلام .. انظر إلى عبارة آخوندزاده : «وإن كنت على الظاهر تركيا فاصلي فارسي...» (26) وبهذه العبارة يشير إلى أن جده هاجر من «رشت» إلى آذربايجان.
هذا التأكيد على العنصر الفارسي يسود ذهنية كلّ جيل المستغربين . لا أدري أهم عالمون أم جاهلون بأخطار مثل هذه الدعوة على إيران التي تضم أجناسا مختلفة.
الإسلام في إيران صهر الأتراك والعرب والبلوش والفرس و... في بوتقة واحدة ، وجعل منهم أمة منسجمة تشترك في الآمال والآلام والعقيدة والعواطف، فلماذا ترفعون شعارا يمزق ويفرق ويجلب ويلات الصراع العنصري في هذا البلد؟!
الغريب أن هؤلاء القوميين الإيرانيين سارعوا إلى مساندة «انقلاب رضاخان» لأنه رفع راية «القومية الإيرانية المعادية للإسلام» . فهل يبقى شك في الأيدي الاستعمارية المتسترة وراء هذا التيار؟!
لقد كان الميرزا صالح يأسف على وضع الدولة العثمانية وتخلفها بسبب تدخل رجال الدين فيها وقد تحقق حذف رجال الدين من تركيا تماما ، فماذا حققته من تقدم جراء عملها هذا ؟!
لقد كان الميرزا أبو الحسن خان الايلجي الماسوني ممثلا لإيران في معاهدتي «تركمان چاي» و«گلستان».. وهما معاهدتا الذل اللتان أعقبتا الحروب الروسية الإيرانية .. وبموجبهما اقتطعت أجزاء هامة من إيران ، وأصبحت روسيا صاحبة نفوذ واسع في هذا البلد المسلم(27).
_____________________
ـ إسماعيل رائين، فراموشخانه وفراماسونرى در إيران (فارسي)، طهران، منشورات أمير كبير.
ـ نصر الله فلسفي، تاريخ روابط إيران واروپا (فارسي) / 188.
ـ نفس المصدر / 122.
ـ مذكرات جونز، نقلا عن رائين، مصدر مذكور 1/16.
ـ وثائق وزارة الخارجية البريطانية 142/60، نقلا عن رائين، مصدر مذكوراً/334.
ـ ابراهيم تيموري، عصر بي خبري (فارسي) نقلا عن: رائين مصدر مذكور 1/18.
ـ جرنت واتسن، تاريخ ايران في العصر القاجاري /19، نقلا عن رائين 1/18.
ـ ميرزا محمد تقي سپهر (لسان الممالك)، ناسخ التواريخ، طبعة حجرية، ج1، من «تاريخ القاجارية» ذيل «وقائع سنة 1241هـ وابتداء نقض الروس لعهدهم مع إيران».
ـ رائين، مصدر مذكور /319 ـ 321.
10 
ـ علي اكبر بينا، تاريخ سياسي وديبلوماسي إيران (فارسي) 1 / 12.
11 
ـ غلام حسين مصاحب، دائرة المعارف (فارسي) 2 / 1438، طهران، شركت سهامي كتابهاي جيبي، وانظر أيضاً بريتانيكا 20 / 455.
12 
ـ الكتاب المذكور / 16.
13 
ـ نفس المصدر / 22.
14 
ـ نفس المصدر / 20.
15 
ـ نفس المصدر / 74.
16 
ـ نفس المصدر / 76.
17 
ـ نفس المصدر / 210.
18 
ـ نفس المصدر / 191.
19 
ـ احمد كسروي تبريزي، تاريخ مشروطة إيران (فارسي)، طهران، منشورات أمير كبير، ط12 ، ص382.
20 
ـ مثل محاولة: محمد رضا فشاهي، از گاتها تا مشروطيت (فارسي)، طهران، منشورات غوتنبرغ، 1354.
21 
ـ مثل كتاب : إبراهيم صفائي ، رهبران مشروطة (فارسي) ، طهران ، 1344.
22 
ـ دائرة معارف مصاحب / 1438.
23 
ـ يريتانيكا / مصدر مذكور.
24 
ـ فريدون آدميت ، فكر آزادي ومقدمه نهضت مشروطيت (فارسي) ، طهران ، منشورات سخن 1340 ، ص 23 ـ 24 ولابد أن نذكر هنا أن حقيقة الماسونية لم تكن معروفة آنذاك كما نعرفها اليوم ، وبقيت هذه الحقيقة مجهولة لسنوات طويلة ولذلك نرى في قائمة المنتمين إلى المحفل الماسوني أسماء رجال كبار انتموا في فترة من حياتهم إلى الماسونية.
25 
ـ كتبت هذه الدراسة قبل سقوط الدولار الأخير أمام الين الياباني (المترجم).
26 
ـ آدميت ، انديشه هاي ميرزا فتحعلي .. (فارسي) /22.
27 
ـ رائين ، مصدر سابق / 232 . وانظر أيضاً : حسن پيرنيا وعباس إقبال آشتياني ، تاريخ إيران ، طهران، منشورات خيام ، 1347 ، ص 797.