لا يمكن (تفكير) إيران في حاضر مغلق، فإيران والحركة، حركة الزمان، جانبان متلازمان، فإيران هي الرجوع إلى (الأصل) إلى عصر الرسول (صلى الله عليه وآله) عن طريق أهل البيت (عليهم السلام)، ولا يتم الرجوع إلى عصر الرسول (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) إلا بالانفتاح على المستقبل، ومن هنا لا يمكن (تفكير) إيران إلا بالمستقبل أي دراسة الدولة الإيرانية بمضامين وقيم ومفاهيم الرجوع إلى الأصل والتطلع إلى المستقبل الموعود، ففي إيران الزمان له خصوصيته: الزمان الإيراني هو زمان يتفاعل فيه الحاضر مع (الأصل) ومع (المستقبل): وهذا ما أربك الدولة الغربية في تعاملها مع إيران، فالغرب لم يفهم حقيقة مواقف إيران منذ قيام الثورة الإسلامية فراح الفكر الغربي يصف الإيرانيين بأنهم (مجانين الله) ويصف الدولة بأنها ثيوقراطية عصر الظلمات، فالفكر الغربي لم يستطع أن يتخذ موقفا علميا أو موقفا (عاديا) من التساؤلات التي طرحتها الثورة الإسلامية ودولتها، فهو لم يستجب استجابة منتجة للمعرفة ومنتجة للحوار بل سجن نفسه في دائرة ردود الفعل العدائية والاستعلائية لذلك عجز الفكر المعاصر عن فهم حقيقة الثورة والولاية والدولة الإيرانية لأنه فكر إطلاقي عدمي لا قدرة له على استيعاب المعنى العقائدي والتاريخي والشعبي للدولة الإيرانية.

 

ولاية الفقيه ومعنى التاريخ:

 

ولاية الفقيه هي المرجعية الوحيدة، اليوم في العالم التي تمتلك الطاقة العقائدية والتاريخية وتمتلك المعنى والمعرفة الملازمة لهذا الحجم العقائدي والتاريخي.

 

هذه المرجعية هي مرجعية جديدة في الجغرافيا السياسية والثقافية العالمية، فالفكر المعاصر مازال لم يمتلك بعد الطاقة الموضوعية والمفاهيمية لفهم ولاية الفقيه.

 

فهو قد تسرع وبسط الأمور وحجز ولاية الفقيه في دائرة الثيوقراطية والماضوية، أو حجزها في الصراع بين (الأصوليات) والديمقراطية وعقلانية الثقافة الغربية.

 

فولاية الفقيه هي المرجعية الوحيدة التي تمتلك المعنى والأفق التاريخي الذي يؤسس لسياسة منقطعة النظير: سياسة المعنى وسياسة المسافة الزمانية الواسعة التي تعطي للسياسة وللزمان السياسي كل فعاليتهما وأبعادهما وتفتح المجتمع والدولة على التحولات الكونية.

 

يعتبر الفكر الغربي أن الفلسفة قد وصلت إلى منتهاها، فالعقل والتاريخ قد حققا كل الإمكانيات في المجال الفلسفي ولم يبق إلا الخضوع لتاريخ بمعناه الهيجلي، وهو تاريخ تنفي نهايته كل تطلع بل تنفي كل حلم، هذا الانسداد فرقعته ولاية الفقيه بتفجيرها للثورة وتأسيسها للدولة الممهدة في إيران، فالدولة ليست مجرد دولة ما بعد الثورة أو دولة الثورة بالمعنى العام لمفهوم الثورة بل هي دولة الممارسة السياسية عن طريق استراتيجية المدى القريب والمدى البعيد، لأن مشروع الدولة هو مشروع كوني يلازم كونية عقائدية المستقبل الموعود.

 

لقد أعادت ولاية الفقيه الحياة إلى السياسة والثورة وعلاقة السياسة بالدين وطرحت للتحليل النقدي وإعادة النظر لكل من الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية والعولمة والحروب الإقليمية والسلاح النووي واقتصاد السوق والثقافة، فولاية الفقيه أعادت الحياة إلى الأمة الإسلامية بعد أن أراد الغرب ابتلاعها في التاريخ الهيجلي ابتداء من اتفاقية مخيم داوود إلى مدريد وأوسلو.

 

هذه الاتفاقيات هي كلها هيجلية: بمعنى أنها مجرد تعبيير عن الخضوع للتاريخ المهيمن، تاريخ الأقوياء. في هذا الجو الاستسلامي الذي أسست له كل من واشنطن وباريس عن طريق التبرير الفلسفي الهيجلي (نهاية التاريخ). في هذا الجو كسرت ولاية الفقيه التاريخ وفتحت الأفق لتاريخ جديد: فقم هي الزمان الإيراني، الزمان المهدوي الذي لا يمكن للزمان التاريخي أن يستوعبه، فحجم الزمان المهدوي هو حجم علاقة ما هو نسبي (الاجتهاد والتاريخ) بالغيب وهذا ما جعل السياسة في إيران سياسة زمان منفتح على الغيب إلى درجة أنه يمكن القول بأن هناك في هذا العصر، زمان إيراني يجابه نهاية التاريخ أي يجابه تحديات الغرب الفكرية والسياسية والعسكرية.

 

لا وجود لمجال لا ترتبط به وتتعامل معه السياسة فولاية الفقيه كشفت في هذا العصر، عصر موت السياسة كشفت عن حقيقة السياسة كمفهوم شامل تتفاعل فيه الروحانية مع المادية والدنيا مع الآخرة، لأن (السياسة عبادة والعبادة سياسة) كما أكد الإمام الخميني (قدس سره)، فلا وجود لفكر غريب عن السياسة حتى الفكر الأكثر تجردا والأكثر روحانية كالعرفان. فإذا كان هيجل قد جعل الدولة تجسيدا للعقل الكوني أي للمطلق فإن هذه الصنمية قد عبرت عنها الحروب الاستعمارية والحربان العالميتان، وفي الأخير زالت حقيقة الدولة في نظرية نهاية التاريخ لكوجيف (Kojève) وفوكوياما (Fukuyama) وقد كشفت ولاية الفقيه عن صنمية الدولة الهيجيلية عن طريق الثورة وتأسيس الجمهورية الإسلامية الدولة الممهدة أي الدولة ذات العلاقة بالمثل الأعلى الحقيقي الذي تستمد منه الطاقة للسير نحو الآفاق: آفاق التعبد المنتج للتقدم.

 

فالدولة الممهدة لم تنتج الاستعمار والحروب والفتن على غرار دولة هيجل، بل أنتجت الجهاد أي التحرر من الاستبداد في إيران وفلسطين ولبنان.

 

فالدولة الممهدة التي تقوم على هذا المعني الجديد للسياسة هي دولة الإمكانيات التي تكشف أن التاريخ ليس له اتجاه واحد على غرار التاريخ الهيجلي، فالطاقة التعبدية للدولة تفتح الآفاق وتتجاوز الانسداد الذي نظر له هيجل وماركس ثم فوكوياما اليوم: إنه تاريخ الانتظار أي تجاوز النهايات وتحطيم التاريخ المهيمن للسير في مسار تاريخ جديد في أفق تجسيد مشروع كل الأنبياء عن طريق التطلع والممارسة الثقافية والسياسية للدولة الممهدة.

 

وهكذا فالحقيقة التعبدية للسياسة وللدولة بقيادة ولاية الفقيه تحرر الإنسان من هيمنة التاريخ (الهيجلي)، فحضور الروحانية في السياسة والدولة زلزل الفكر السياسي الغربي وزلزل التاريخ وفتح المجال لزمان جديد نحو تاريخ جديد) الزمان الإيراني) الموجه من طرف الدولة الممهدة نحو المعنى والآفاق لا نحو النهاية وموت السياسة.

 

إن علاقة ولاية الفقيه مع التاريخ وسعيها، عن طريق الدولة، لتجسيد معنى التاريخ سياسيا وثقافيا واقتصاديا إن هذه العلاقة تقوم على نظام معرفي يختلف عن الفلسفة الغربية ويختلف عن الأساس المعرفي للعلوم الاجتماعية الغربية على العموم، فالفلسفة الغربية اعتبرت نفسها تجسيدا للمطلق في التاريخ عن طريق هيجل، كما أن العلوم الاجتماعية الغربية تدعي الكونية والكونية الوحيدة. في مقابل هذا التسرع في التنظير وفي إصدار الأحكام القطعية والنهائية تنظر ولاية الفقيه إلى الوقائع والأحداث وحركة التاريخ نظرة اجتهادية، أي تعتمد على نظام معرفي ينفي عقائديا وابستمولوجيا، كل المسارات المعرفية التي تؤدي إلى الأحكام القطعية وتؤدي بالتالي إلى الغرور، فالاجتهاد يؤسس لمعرفة نسبية، أي لمعرفة مفتوحة على المستجدات أي مفتوحة على حركة التاريخ، فالثوابت (النص الموحي) لا تنفي النسبية بل تحولها إلى مستوى المعنى التعبدي الذي يؤسس للمعنى المعرفي والابستمولوجي، فالفكر الغربي يرى أن الفلسفة تجسيد للمطلق في التاريخ (فلسفة هيجل) في حين أن ولاية الفقيه تمارس وترى أن الاجتهاد علاقة تعبدية مع الله وعلاقة معرفية مع الواقع والأحداث: علاقة معرفية ذات أفق تعبدي. فولاية الفقيه فتحت الشعوب الإسلامية على معنى التاريخ من خلال الرجوع إلى الأصل لا على أساس (الذاكرة) فحسب، بل على أساس التاريخ، أي انطلاقا من الرجوع النقدي إلى الأصل، وهو رجوع كشف عن الاختلاف الجذري بين خط الإمامة وخط الملك.  فمعنى التاريخ أصبح في إيران فعلا وممارسة أي أصبح عن طريق ولاية الفقيه ملازما للسياسة وللدولة. فقوة الجمهورية الإسلامية الدولة الممهدة تكمن في سيرها في طريق معنى التاريخ، لا تاريخ الأقوياء أي تاريخ القوى المهيمنة في هذا العصر، بل تاريخ معاكس يجعل الدولة الإسلامية وهي الجمهورية الإسلامية اليوم، دولة ممهدة للظهور وللدولة الكونية. فارتباط الأمة بالحدث خاصة إذا كان هذا الحدث في خط أهل البيت (عليهم السلام) فهذا الموقف هو موقف سياسي يعبر عن صمود الشعب ومقاومته لإنقاذ الحدث من النسيان ومن الزوال، فالحدث فكرة ثورية تبعد الشعب عن الخضوع للواقع القائم وتربطه بالمعنى الحقيقي للتاريخ، وهكذا فعلاقة دولة ولاية الفقيه بالواقع وبالأحداث ليست علاقة ظرفية وليست علاقة جزئية بل هي علاقة إشكالية تؤسس للوعي التاريخي الضروري لكل سياسة تسعى إلى التغيرات الكبرى، هذا الوعي التاريخي ليس تجسيدا للعقل الكوني في التاريخ (تألية التاريخ) بل هو أداة ووسيلة لممارسة القيم والمفاهيم الإسلامية ذات الجوانب الروحية والسياسية والاجتماعية وتجسيدها في الواقع لتوجيه حركة التاريخ نحو الأهداف العقائدية التي تتمحور حول وعد الله بنصر المؤمنين، فولاية الفقيه حولت الحياة السياسة في إيران إلى مهدوية يومية تقتلع الشعب الإيراني والدولة من ثقل الواقع وهيمنته، فالواقع الإيراني ليس واقعا هيجليا بل هو واقع إمامي يتميز بالرفض والتجاوز والتطلع إلى التغيرات الكبرى.

 

فكل مواقف الجمهورية الإسلامية منذ قيام الثورة كانت تسير في هذا المسار: الحرب المفروضة، الرفض الجذري للتطبيع مع الكيان الصهيوني، الملف النووي والعلاقة مع الغرب على العموم.

 

لقد حولت ولاية الفقيه جزئيات الأحداث والوقائع إلى باب للدخول إلى الكونية أي إلى طريق نحو الهدف المهدوي الموعود.

 

فولاية الفقيه تجاوزت ابستمولوجيا الانسداد أو الانسداد الابستمولوجي في مجال التنظير والتوقع وجهنم نهاية التاريخ.

 

لقد مات تاريخ الفلسفة (الفلسفة الغربية) في إيران، فالثورة الإسلامية تجاوزت الكونية الغربية وحطمت التاريخ بالمعنى الهيجلي والماركسي، أي التاريخ كمرجعية مطلقة وما يلازمها من رؤى إلى السياسة والدولة والمجتمع والفرد والذات.

 

فولاية الفقيه قلبت علاقة الفلسفة بالواقع، فالفلسفة الغربية كفلسفة نقدية تدعى بأنها تحكم على العالم وتقيمه في حين أن ولاية الفقيه جعلت الواقع (الواقع الإيراني) هو الذي يحكم على الفلسفة وينتقدها ويقيمها، فهذه هي النهاية الحقيقية للتاريخ والنهاية الحقيقية للفلسفة النقدية وفتح المجال لتاريخ معاكس ولفلسفة بديلة هي الفلسفة النبوية أو الإلهية التي يتفاعل فيها الفقه مع علم الكلام والفلسفة والعرفان:

 

الفلسفة الإلهية التي تكسر غرور الفلسفة النقدية باسم التواضع والتقوى بدلا من ادعاء الكونية.

 

إن كل مواقف ولاية الفقيه سواء في الحالات العادية أو في الحالات الاستثنائية: والحقيقة أن زمان الحالات الاستثنائية أطول في إيران من زمان الحالات العادية: الحرب المفروضة، كل أنواع الحصار وأخيرا الأزمة المفتعلة لما بعد الانتخابات الرئاسية سنة 2009، كل هذه المواقف من طرف ولاية الفقيه هي في حقيقتها مجابهة وتحدي للفكر الغربي ولأسسه الهيجيلية في صورتها الماركسية وفي صورتها الأخيرة في كتابات كوجيف (Kojeve) وف. فوكوياما (F. Fukayama) وغيرهما. فولاية الفقيه تطرح في تنظيرها وقيادتها للدولة كونية جديدة ومفاهيم جديدة تقوم على أساس مرجعية تتناقض مع التاريخ كمرجعية مطلقة من منظور هيجل وماركس، فالحقيقة في منظور ولاية الفقيه ليست هي التاريخ بل هي ما يتجاوز التاريخ وهذا ما جعل ولاية الفقيه تنقد وتجابه وتتحدى وترفض: ترفض المرجعية المحاثية والمهيمنة أي ترفض التاريخ القائم وتؤسس لتاريخ آخر هو تاريخ معاكس لتاريخ الأقوياء، تاريخ الأمر الواقع. فإذا كان (كل واقعي معقول كما في منظور الفلسفة الهيجلية، فإن الواقع ليس معقولا في منظور ولاية الفقيه، لأن الواقع ليس مرجعية حقيقية والحقيقة ليست هي التاريخ. خاصة إذا كان هذا التاريخ هو تاريخ الأقوياء. هذا النقد الجذري للمرجعية كما تجسدت في الفكر الغربي الذي أسس له هيجل، هو الذي جعل الثورة الإسلامية ثورة جذرية لا علاقة لها بالثورة الفرنسية والثورة البلشفية وجعل مواقف الولاية تجاه الأحداث مواقف لم يألفها الفكر السياسي الغربي. في أفق هذا الرفض المنطلق من مرجعية غير مرجعية التاريخ كمرجعية مطلقة هناك مشروع كوني يتجاوز المشروع السياسي والحضاري الغربي الذي نفدت طاقة مرجعيته فتحول المشروع إلى مجرد تسيير للواقع القائم الذي لا أفق له إلا المجهول والعدمية، وعلى العكس من هذا المشروع الذي تحيط به جهنم اللامعنى، طرحت ولاية الفقيه المشروع السياسي والحضاري الإسلامي الذي يتمحور حول صرامة ووضوح المعنى: معنى التاريخ الملازم لمعنى الوجود والإنسان، هذا المعنى يفعل علاقة الأمة بالواقع وبالأحداث ويحول، وقد حول بالفعل، الانتظار إلى ثقافة وفعل وممارسة وثورة في عصر موت الإيديولوجيا وموت الثورة.

 

فولاية الفقيه فككت ودحضت مفهوم (التاريخ الكوني) ونسفت من الأساس الفلسفة السياسية الغربية وتجسداتها في العالم خاصة العالم الإسلامي وكشفت عن حقيقة هذه الفلسفة السياسية كمجرد أداة تبرير لاستغلال الشعوب، فمعنى التاريخ الذي تقوم على أساسه هذه الفلسفة هو معنى لتبرير الاستغلال والهيمنة وليس معنى الحقيقة، فالحقيقة هنا هي مجرد واقع مهيمن منقطع عما يتجاوزه: فالواقع محايث والتاريخ محايث ولا حقيقة إلا المحايثة وهذا ما جعل الفكر الغربي الذي أسس له هيجل ينظر للعبث والعدمية ونهاية التاريخ.

 

ولاية الفقيه تجاوزت، وتتجاوز باستمرار، فخ (الأمر الواقع) أو (ثقل الواقع) لأن الفكر الاجتهادي للولاية لا يكتفي بالتمييز بين الحلال والحرام في حدود فقه الفروع أو بين الخير والشر بدون اهتمام بمعنى التاريخ، فربط المفاهيم الفقهية والكلامية والسياسية بمعنى التاريخ، وهي مفاهيم تقتضي حتما رؤية إلى التاريخ، يحرر الشعوب الإسلامية من الخضوع للحتمية القاهرة للأحداث والقضايا والعوائق التي تقوم أمام تحرير هذه الشعوب، فالمفاهيم الفقهية والكلامية تضع مسار حركة التاريخ موضوع سؤال ونقد وتفتح المجال لتاريخ معاكس للتاريخ القائم وتفتح الأبواب للمستقبل، فمفاهيم وأحكام الحلال والحرام والخير والشر هي مفاهيم وأحكام تحكم على التاريخ بدلا من أن تخضع لحكم التاريخ معيارية هذه المفاهيم وطاقتها التقييمية والتغييرية تنظر إلى الظلم والاستبداد والاستغلال والتبعية كاختلال وفوضى في ميدان (ما هو كائن) باسم (ما ينبغي أن يكون) فالفقه يؤسس لرؤية سياسية خارج الواقعية التبريرية وخارج فلسفة الخضوع للواقع التي أسس كل لها من الماوردي في الأحكام السلطانية والغزالي عن طريق مفهوم (السلطان المطاع).

 

فولاية الفقيه كنيابة، بقدر ما ترسخ الولاية في الواقع والأحداث بقدر ما تفتحها على الأفق التاريخي على المدى البعيد، وهذا ما يحرر السياسة بقيادة ولاية الفقيه، من الحتمية التاريخية القاهرة أو ما يسمى اليوم بالعصر الأمريكي.

 

فالفكر الغربي يسعى إلى إخراج إيران من (الواقع) الواقع الإيراني الكوني عن طريق إخراجها من سياقها التاريخي العقائدي أي من سياقها (الكوني). ونتيجة لذلك أو عن طريق ذلك، يسعى الفكر الغربي إلى لا تسييس الحقيقة الإيرانية كحقيقة عقائدية وتاريخية وثقافية تقودها ولاية الفقيه، إن هذه المفارقة هي من أكبر مفارقات هذا العصر: سعي الغرب إلى دفع الشعب الإيراني نحو العماء واللاعقل واللاسياسة، أي سعيه إلى إخراج شعب تاريخي وأرض تاريخية من التاريخ لأن نظرية نهاية التاريخ تقتضي ذلك! فمن هذا المنظور كل الأحداث التي تقع خارج الغرب، وخاصة الحدث الإيراني، هي مجرد أحداث غامضة وهامشية تعبر عن مرحلة ما قبل الحداثة.

 

في حين أن مفهومي ولاية الفقيه والانتظار يتخذان موقعهما خارج هذا السياق، يتخذان موقعهما في سياق المرجعية الضرورية والكفاية للتاريخ وللإنسان في التاريخ، فولاية الفقيه تقدم للشعوب الإسلامية وللعمل السياسي المعنى الضروري والكافي الذي يدفع بالشعوب الإسلامية نحو الثورة والتغيير، فالولاية التي تتخذ موقعها في أفق الظهور تمتلك أقوى معنى وتعطي للشعوب أكبر أمل لتغيير أوضاعهم، بل تعطيهم ما يتجاوز الأمل: الانتظار.

 

لقد حولت ولاية الفقيه الثورة الإسلامية إلى قطيعة مؤسسة لمرحلة تاريخية جديدة بفضل تأسيس الجمهورية الإسلامية الدولة الممهدة الملازمة لقيم هذه الثورة، فالثورة هي من هذا المنظور، النقطة الفاصلة لحركة التاريخ، بحيث أن هناك مرحلة ما قبل الثورة ومرحلة ما بعد الثورة، فالثورة الإسلامية - بفضل أسسها العقائدية وبفضل قيادتها من طرف ولاية الفقيه كنيابة عن الإمامة - ليست زمانا مستقطعا بل هي مؤسسة لمرحلة تاريخية جديدة: مرحلة الدولة الممهدة.

 

كل دولة تقوم على نظام سياسي وكل دولة لها منطق في تحركها عبر التاريخ. هذه صفة عامة ملازمة لكل دولة في العالم، لكن هناك دول كدول العالم الإسلامي هي دول لا منطق لها والطريق أمامها مسدود والأفق مغلق بل لا أفق لها، هذه الدول هي دولة اليوم لليوم فحياتها حاضر مغلق مقتطع من التاريخ لأنه لا يوجد أمام هذه الدول إلا الفراغ والعدم، وهذا عكس الدولة الإيرانية اليوم حيث أن دولة ما بعد الثورة القائمة على مرجعية ولاية الفقيه هي دولة المعنى ودولة الآفاق الملازمة للمعنى ودولة الفعل والطاقة التغييرية الملازمة للمعنى ولسعة الآفاق، وهي آفاق تلازم المعنى، أي معنى السياسة كجزء من معنى الوجود.

 

وهكذا فدول العالم الإسلامي تفكر بالسلبيات نتيجة لتبعيتها الانتحارية للغرب ونتيجة لانسداد الأفق أمامها ويأسها من التحرر من هيمنة الغرب. في حين أن هذا الواقع هو واقع غير مشروع في نظر ولاية الفقيه، فالولاية تميز بين الواقعي والشرعي، فالدول التابعة للغرب هي واقع ولكنه غير شرعي، فإلى جانب الواقع هناك المثال، المثال والمثالية ليست مجرد مفاهيم بالنسبة لولاية الفقيه بل إنها تتخذ معنى الواجبات الشرعية لأنها متلازمة مع وعد الله بنصر المؤمنين ومتلازمة مع وجود الجهاد، فدولة ولاية الفقيه تفكر بالإيجابيات هي دولة مثالية تنطلق من الواقع. فالغرب يضع عوائق أمام كل تفكير مثالي في الأنظمة السياسية في العالم الإسلامي، ويدفع بهذه الأنظمة إلى التمسك بالمواقف الواقعية التي تفتتح الباب للتنازل تلو التنازل أمام هيمنة الغرب. ولاية الفقيه توجه العمل السياسي على أساس معنى التاريخ: وعد الله بنصر المؤمنين، هذا الوعد يقتضي مواقف مثالية تتجاوز الواقع ولكنها لا تنفيه وإلا تحولت المثالية إلى مثالية مجردة وحالمة فالمثالية الملازمة لولاية الفقيه تغير الواقع انطلاقا من الواقع كما فعل الإمام الخميني (قدس سره) فالإمام فجر الثورة وأسس الدولة بعيدا عن المثاليات الحالمة وبعيدا عن الواقعية المبررة للأمر الواقع.

 

وهكذا فمعنى التاريخ ملازم لولاية الفقيه ولطريقة تعامل الدولة مع الواقع والأحداث، هذا المعنى يتخذ موقعه خارج الفلسفات القاتلة:

 

1. فلسفات الواقعية التبريرية.

 

2. وخارج الفلسفات المثالية المجردة.

 

فمعنى التاريخ مثالية واقعية وواقعيته مثالية.

 

لا يمكن في عصرنا الانتماء إلى ولاية الفقيه، مهما كانت صورة هذا الانتماء، دون الانتماء إلى تاريخ الأمة ودون اتخاذ موقف من الحاضر ومن القضايا والأحداث انطلاقا من تاريخ الأمة، أي انطلاقا من علاقة الأمة بالإمامة عن طريق علاقة حجية ولاية الفقيه بالإمامة. فولاية الفقيه ليست مفهوما مجردا وليست قيمة عقائدية وأخلاقية وسياسية لا تتجاوز حدود الآمال والتمنيات فولاية الفقيه كانت دائما مرتبطة بالتاريخ من خلال ارتباطها بالإمامة ومن خلال ارتباطها بالواقع وبالأحداث في جزئياتها وكليتها لأن الولي فقيه، ومن المميزات الأساسية للفقه أنه يعالج قضايا الواقع واهتمامات الأمة ولا يحلق فوقها ليتحول (الفقه) إلى مجرد حالة وعظية تتغافل عن الواقع الحي.

 

وهكذا فبمجرد ارتباط ولاية الفقيه بالإمامة ترتبط بالتاريخ من جانبين:

 

1. ترتبط بالتاريخ كتاريخ موجه من طرف العصمة (عصمة الإمامة).

 

2. وفي عصر الغيبة ترتبط ولاية الفقيه بالتاريخ كتاريخ موجه من طرف الاجتهاد.

 

فحجم ولاية الفقيه هو حجم كوني لا يمكن أن يبقى محصورا ومحجوزا داخل فقه الفروع، أي داخل الفتاوى والحلول الجزئية. فولاية الفقيه تقوم بدورها الحقيقي لما تؤسس لحركة تاريخية تتجه نحو مشروع كوني.

 

التركيبة العقائدية لولاية الفقيه تجعلها منفتحة على الواقع وعلى المجتمع وعلى التاريخ، فالولاية حوار مستمر مع الواقع ومع التاريخ، إلا أن هذا الحوار ليس من قبيل الخضوع لروح العصر، فالولاية اجتهاد أي جهد لتوجيه التاريخ وتغييره لا مجرد الخضوع له، فولاية الفقيه طرحت في هذا العصر رؤية إلى الوجود والمجتمع ورؤية إلى المستقبل، وفتحت أفقا للتغيير عن طريق الثورة وتأسيس الدولة. فالثقافة الملازمة لولاية الفقيه هي ثقافة القطيعة البناءة، أي القطيعة المستوعبة لعطاءات العصر بصورة نقدية، ومن هنا الاختلاف بل التناقض بين ولاية الفقيه ومكونات الدولة في العالم الإسلامي (في القديم وفي هذا العصر): دولة الملك والمستبد العادل وفي عصرنا دولة الزعيم.

 

إن علاقة السياسة بفلسفة التاريخ أصبحت رغم ضرورتها ومضطربة بل متناقضة بسبب ارتباك بل زوال إطلاقية التاريخ كمرجعية بعد سقوط جدار برلين، ففلسفة التاريخ في الغرب لم تستطع التأسيس للسياسة لأنها لم تستطع أن تحول العبث والعدمية إلى سؤال منتج لإعادة البناء، بل بقيت سجينة لهذا العبث ولهذه العدمية. وهذا عكس ولاية الفقيه التي تحمل في تركيبتها وبنيتها معنى التاريخ. فكل فصل بين ولاية الفقيه ومعنى التاريخ يزيل المعنى الحقيقي للولاية، أي يجردها من معناها العقائدي والسياسي فتفقد ولاية الفقيه حقيقتها ودورها. فبمجرد ارتباط ولاية الفقيه بالنبوءة عن طريق الإمامة ترتبط بالتاريخ وبمعنى التاريخ، وهذا هو معنى (النيابة) أو جانبا من جوانب معنى (النيابة). فموقع الولي الفقيه هو موقع في حركة التاريخ وموقف من حركة التاريخ.

 

فالولاية جاءت لتعالج مشكلة زمانية أي تاريخية في الأساس: علاقة ولاية الفقيه بالإمامة أي علاقتها بالغيبة وبالظهور. فكل هذه المفاهيم (الغيبة، الانتظار، الظهور. . . ) لا يمكن فهمها بدون ربطها بحركة الزمان أي بمعنى التاريخ.

 

ولاية الفقيه تفعل العلاقة بين الأمة وحركة التاريخ عن طريق تفعيل العلاقة بين حركة التاريخ و)النص). أي بين حركة التاريخ والمعنى، فعملية التنظير والممارسة للولاية تتم ضمن علاقة إطلاقية (النص) بنسبية المرحلة (أي العصر) وآفاق المستقبل الموعود، ومن هنا فالوضع الإيراني وضع معقد لا يريد حل مشاكله عن طريق الزعامة والزعيم بل عن طريق الولاية كامتداد للإمامة، فحل المشكلة بتناسب مع طبيعة المشكلة وآفاقها.

 

المشكلة الإيرانية ليست مشكلة قومية أو وطنية، كما أنها ليست مشكلة تخلف واستبداد فقط، المشكلة الإيرانية مشكلة كونية: عودة الأمة الإسلامية إلى التاريخ، وكل ما يلازم هذه العودة من تغيرات جذرية في كل المجالات الثقافية والسياسية والاقتصادية والإقليمية والدولية، لذلك لا يمكن فهم ولاية الفقيه ودورها وآفاقها المستقبلية إلا ضمن هذه الخلفية.

 

لذلك يمكن القول بأن ولاية الفقيه تجسد اليوم، من خلال الشعب الإيراني والجمهورية الإسلامية، الأبعاد الكونية للإمامة. فكما أن الإمامة طرحت الدولة في أفق الأمة المنفتحة على البشرية متجاوزة القبيلة فكذلك ولاية الفقيه تؤسس اليوم للسياسة وللدولة خارج القومية، فنظرية ولاية الفقيه هي نظرية للدولة والثقافة وللاقتصاد على الصعيد الإسلامي والبشري على العموم لا على الصعيد الوطني الإيراني لوحده، فالولاية ليست مجرد سياسة أو عملية سياسية، فهي في سياق الإمامة التي يتجاوز إطارها الحدود السياسية.

 

فكما أن الإمامة ليست منحصرة في السياسة، خاصة السلطة أي السياسة كتنافس على السلطة بل هي (أي الإمامة) امتداد للنبوءة. فدائرتها واسعة وشاملة لكل جوانب حياة الإنسان فكذلك، الأمر بالنسبة لولاية الفقيه فدورها أوسع من الفتاوى ومن الاجتهادات الجزئية، فهي تؤسس لنظرية وممارسة الدولة والمجتمع والاقتصاد والثقافة والأمة وعلاقتها بالشعوب والثقافات. فالولي يفكر بالنبوءة من خلال الإمامة، فهو يضع بينه وبين الوقائع والأحداث مرجعية عقائدية منقطعة النظير: إنها مرجعية النبوءة من خلال الإمامة. أي مرجعية معصومة من خلال مرجعية معصومة، فعلاقة ولاية الفقيه بالإمامة تنتج عنها صيغة أخرى وإشكالية أخرى لعلاقة العقل بالنقل. وعلاقة (النص) بالتاريخ. فالعقل في نظرية ولاية الفقيه أكثر قوة وأكثر جاهزية من العقل بإطلاق، أي من العقل المجرد من الانتماء إلى الإمامة في علاقته بالنبوءة وبالنص، فالعقل في وضع ديني وتبصري أعلى من وضع وموقع العقل بإطلاق، كما أن الرجوع إلى الإمامة وإلى (النص) من خلال الإمامة يحرر الفكر الإسلامي بكل جوانبه حتى الفقهية، من محدودية المذهب ومن المذهب كعائق ويجعل الفكر الإسلامي ينشط في الخط الرسالي قبل الخط المذهبي.

 

فعلى هذا الأساس وفي هذا السياق نؤكد بأن نظرية ولاية الفقيه للإمام الخميني (قدس سره) أحدثت تغييرا شاملا في الفقه وفي الفكر الإسلامي بكل جوانبه الفقهية والكلامية والفلسفية والعرفانية والسياسية والثقافية، فنظرية ولاية الفقيه وممارستها اليوم في إيران على أساس علاقة الولاية بالظهور هي نموذج فكري بديل خاصة في هذه المرحلة حيث سقطت كل البديهيات وكل المطلقات التي لازمت الفكر الغربي كفصل الدين عن السياسة وتأسيس الديمقراطية على الأغلبية كمرجعية تكفي نفسها بنفسها، فالبشرية في هذه المرحلة تصطدم بفكر النهايات والموت.

 

إن الولي الفقيه مسكون بالأمة وباهتماماتها ومسكون بالعمق العقائدي للأمة ومسكون بالقيم والمفاهيم الإسلامية الموجهة لحركة الأمة عبر التاريخ.

 

لا يمكن حجز ولاية الفقيه في مفهوم النخبة، ولا يمكن حجز طاقتها العقائدية والتاريخية والشعبية في إطار مفهوم مثقف السلطة أو فقيه السلطة، فموقع الولاية خارج هذه الأطر، فلا معنى للالتزام عندما نتكلم عن علاقة الولي بالمجتمع، فوجود الولي من وجود الأمة ومن وجود تاريخ الأمة، فبمجرد وجود عصر الغيبة توجد النيابة أي القيادة في خط هدفية الإمامة.

 

فالمسألة ليست مجرد التزام وليست مجرد انحياز، فوجود الأمة هو وجود الولاية ووجود الولاية هو وجود الأمة.

 

وهكذا فالتزام الولي هو التزام بالتاريخ كله من موقع الالتزام بالعقيدة كلها، وهذا ما يتجاوز كل أنواع الالتزام الحزبية وغيرها.

 

يتمتع الولي الفقيه بوعي تاريخي منقطع النظير، فهو في التاريخ وفي نفس الوقت خارج التاريخ، هذا ما يتضمنه امتداد ولاية الفقيه للإمامة، فالولاية نيابة، والنيابة تقتضي التاريخية وتجاوز التاريخية في نفس الوقت. فالولي يستوعب معنى الواقع ويستوعب معنى التاريخ، فولاية الفقيه هي نقد للعقل السياسي ونقد للعقل التاريخي وهذا ما جعل الولاية تقدم للفكر الإسلامي مفاتيح لفهم العالم المعاصر ومفاتيح لفهم مستقبل العالم.

 

إن ولاية الفقيه هي إعادة بناء الاستمرارية التاريخية للأمة في مسار ومنطق الإمامة: تحويل الانتظار إلى تطلع وفعل وإعادة بناء والتحرك نحو المستقبل عن وعي لا عن مجرد هروب من قساوة الواقع، إن قيادة ولاية الفقيه هي نوع من حضور المستقبل، أو هي حاضر المستقبل،فدور الولاية يتضمن التعامل مع القضايا في سياق آفاقها المستقبلية. ومعنى هذا أن ولاية الفقيه لا يمكن تصور وجودها بدون آليات ممارسة السياسة المهدوية، فالولاية والمشروع والاستراتيجية مفاهيم متلازمة. فالحاضر لا يستغرق العمل السياسي لأن النظام السياسي في إيران هو نظام مهدوي منفتح على المستقبل. لكن هذه العلاقة بين الدولة والمستقبل لا تؤسس لسياسة مثالية مجردة أو للطوباوية، فحضور المثالية يلازمه حضور الواقع ويلازمه حضور المستقبل، على هذا الأساس يتم فعل التعبير عن آليات السياسة المهدوية، أي على هذا الأساس تقوم الاستراتيجية بفعلها وبدورها. من خلال هذه الرؤية تجسدت استراتيجية الجمهورية الإسلامية في الحرب المفروطة وفي مجابهة الحصار بكل صوره، ومن خلال هذه الرؤية تتجسد استراتيجية الجمهورية الإسلامية تجاه إسرائيل والولايات المتحدة والغرب على العموم.

 

وهكذا فنظام ولاية الفقيه هو حاضر المستقبل (المهدوي)، فالعمل السياسي هنا هو حاضر ومستقبل أي هو حاضر منفتح على المستقبل، ومن هنا ثورية العمل السياسي، ومن هنا عقلانيته الصارمة واستراتيجيته ومبدئيته، فإستراتيجية السياسة المهدوية لا يحاصرها الزمان بل هي التي تحاصر الزمان بالتوقع المهدوي وبالانتظار العقائدي وبالوعي التاريخي المهدوي.

 

هذه الإستراتيجية هي إستراتجية نظام سياسي إعجازي كشفت عن استراتيجيات الفوضى والسقوط الملازمة للنظامين الاشتراكي والرأسمالي والتي تسعى بدفع الشعوب في متاهات عدمية التبعية، وعلى العكس من ذلك فإن السياسة المهدوية تلازمها استراتيجية تمنح للشعوب الثقة في المستقبل. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الأنظمة العربية لم تفهم (أو تدعي لم بأنها تفهم) حقيقة الملف النووي الإيراني بكل أبعاده. في حين أن مصير العرب والمسلمين واحد والاستراتيجية يجب أن تكون واحدة، فسياسة إيران ليست سياسة محورية: العلاقة مع سوريا هي علاقة تؤسس لوحدة الأمة عن طريق فتح القومية على ما يتجاوزها.

 

الدولة الممهدة دولة المعنى والآفاق

 

إن طرح المهدوية في سياق حركة التاريخ يكشف عن خصوصية السياسة المهدوية وخصوصية الثقافة المهدوية وخصوصية الدولة الممهدة. الدولة الممهدة تقتضي قيادة في حجم التمهيد: ولاية الفقيه، فولاية الفقيه تمتلك الطاقة العقائدية والتاريخية والشعبية والفكرية لقيادة وتوجيه دولة التمهيد. فولاية الفقيه هي (نيابة) أي السياسة على أساس العقيدة ومعنى التاريخ.

 

فعن طريق العقيدة ومعنى التاريخ يتم:)العبور) إلى عصر الظهور. ولاية الفقيه تعيد بناء الدولة الإسلامية، المشروع السياسي لإعادة بناء الدولة هو مشروع بناء الدولة الممهدة والدولة الممهدة ليست دولة توافقية بين القوميات وليست دولة الأحزاب فحسب بل هي دولة كونية مرتبطة بمعنى التاريخ ومتفاعلة معه.

 

إن التأطير السياسي للانتظار لا يمكن أن تستوعبه الدولة بمفهومها الغربي لأن الهدف يعبر عن كونية أسس لها كل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والشعار المفهوم:) لا شرقية لا غربية جمهورية إسلامية) يعبر بعمق عن حقيقة دولة الانتظار أو الدولة الممهدة فهذه الدولة هي دولة التجاوز على الصعيد المعرفي (الأساس المعرفي للدولة) وعلى الصعيد السياسي وليست دولة التوفيق بين الإسلام والرأسمالية أو بين الإسلام والاشتراكية.

 

إن المهدوية تكشف حقيقة الحاضر، خاصة حقيقة الأنظمة السياسية وتمهد للتنظير للاستراتيجية عن طريق رسم إطار لصورة عامة واستباقية للآفاق المستقبلية، فالدولة الممهدة ليست كالدول الأخرى تخطط على أساس الفرضيات والاحتمالات التي تتخذ صورة الخيال أكثر مما تتخذ صورة التوقع. إن الخطأ الأكبر والمميت الذي وقعت فيه دول العالم الإسلامي هو محاولة فرضها لمستقبل معين على الشعوب كالمجتمع اللاطبقي أو المجتمع اللائيكي أو تحديث الدولة والمجتمع بالمعنى الغربي الدقيق للحداثة.

 

في هذا السياق تتجلى خصوصية علاقة الدولة الممهدة بالشعب. فإذا كانت الأنظمة السياسية ذات المرجعية الغربية تسير في مسار القطيعة بين الشعب والدولة (دول العالم الإسلامي) فإن النظام السياسي الذي يمارس نشاطه واستراتيجيته في إطار الرؤية السياسية المهدوية يؤسس لعلاقة تفاعلية بين الشعب والنظام السياسي لأن القيم والمفاهيم السياسية المهدوية هي قيم ومفاهيم تستوعبها الشعوب بالمعنى العقائدي الإلزامي، هذه العلاقة بين الشعب والدولة تتجاوز الحدود السياسية حيث تتدخل العناصر الروحية والعاطفية والأخلاقية في هذه العلاقة بصورة (تعبدية) عندما تكون مهدوية سياسية الدولة مؤطرة شرعا وعقلا على غرار النظام السياسي في إيران حيث أن الدولة والنظام السياسي على العموم، يقومان على أساس ولاية الفقيه، أي على أساس (النيابة). فالإطار المهدوي للسياسة يحمي السياسة من الانزلاق في متاهات المعنى أو المفهوم الانحرافي للسياسة، كما أنه يحمي النظام السياسي من الإنزلاق في هذه المتاهات الانحرافية، فالجمهورية الإسلامية إسلامية ولا صفة أخرى تضاف كما أكد الإمام الخميني (قدس سره)، والديمقراطية هي ديمقراطية دينية أو الحكومة الدينية الشعبية. فالمفهوم الديني للديمقراطية يستقطب معنى للمسؤولية وللحرية غير معنى الديمقراطية الغربية، في هذه الأخيرة الحرية تكفي نفسها بنفسها. في حين أن مفهوم الحرية الملازم للديمقراطية الدينية يقوم على مرجعية قيمية تعطيه المعنى والتوجيه وقوة الإلزام وقوة الفعل والتأثير.

 

وهكذا فالانتظار يقتضي وجود (دولة) لا وجود (سلطة) فصياغة الغد للمسلمين وللعالم تقتضي وجود (دولة) أي سياسة بمعناها الحقيقي الذي يؤسس للدولة الكونية، أي المستقبل الموعود يقتضي وجود نظام سياسي يحدث التفاعل بين الدولة والمجتمع.

 

لقد اتخذ النظام السياسي في إيران موقفه من الحداثة وما بعد الحداثة بصورة مهدوية، تبنى النظام السياسي قيم ومفاهيم الحداثة. بإعطاء الأهمية للعقل وللحرية وللديمقراطية وللتقدم العلمي لكن على أساس مرجعية ضرورية وكافية تتجاوز مرجعية قيم ومفاهيم الحداثة فإذا كانت الحداثة وما بعد الحداثة قد انطلقتا من الإنسان خارج كل بعد متعالي وغيبي فإن مفاهيم وقيم الحداثة في النظام الإسلامي في إيران قد تحولت بفضل ربطها عقائديا وسياسيا واستراتيجيا بالأفق المهدوي، قد تحولت إلى مفاهيم وقيم مهدوية. وقد بينت التجربة التاريخية حقيقة الموقف الإيراني من الغرب ومن الحداثة فالحداثة في الغرب وصلت إلى ما بعد الحداثة أي إلى أزمة شاملة: أزمة العقل وأزمة السياسة وأزمة الاقتصاد وأزمة الديمقراطية وأزمة الإنسان والقيم، فالموقف الإيراني موقف مهدوي بمعنى أنه يتجاوز قيم ومفاهيم الحداثة وما بعد الحداثة ويفتح المجال لحل الأزمة وإنقاذ الغرب والبشرية جمعاء، فالحل الذي قدمه نيتشه (Nietzsche) وهيدجر (Heidegger) وغيرهما هو حل تمت صياغته حسب (بديهيات) الفكر الغربي وعلى أساس مرجعية الحداثة وهي مرجعية العقل أو المجتمع أو التاريخ وهي كلها مرجعيات غير كافية بسبب غياب البعد المتعالي الذي يحولها إلى مرجعية ضرورية وكافية. وحتى محاولة الغرب الرجوع إلى التعالي فهو مجرد تعالي صوري لا أساس له لأنه من صنع الإنسان وليس تعاليا حقيقيا كالنزعة التاريخية والنزعة الاجتماعية والضمير الجمعي.

 

وهكذا فما بعد الحداثة بدلا من أن تحل المشكلة وسعت الأزمة وكشفت عن حقيقتها القاتلة للإنسان وللتاريخ وللإيديولوجيا.

 

وهنا يتجلى المشروع الإنقادي والخلاصي أي المهدوي لموقف الجمهورية الإسلامية الدولة الممهدة من الغرب ومن الحداثة وما بعد الحداثة: فهذا المشروع تعبر عنه إستراتيجية إنقاذية. وهذه الإستراتيجية التي تهيء الطريق لإنقاذ البشرية تتمتع بالمرجعية الضرورية والكافية وتتمتع بالمستقبل الموعود، فليس هناك قفز في المجهول حتى تفقد الاستراتيجية مشروعيتها ودورها، فدور الاستراتيجية (استراتيجية الدولة الممهدة) هو دور مهدوي يرتبط عقائديا ومعرفيا بالمستقبل الموعود.

 

لقد استوعبت استراتيجية الدولة الممهدة أن التحديث تغريب وأن هذا التحديث يقوم عن نظام معرفي يتمحور حول الوضعية وحول النزعة العلمية الملازمة لها، فاستراتيجية الدولة الممهدة تقوم على مراجعة شاملة للحداثة ولما بعد الحداثة، مراجعة نقدية للنظام المعرفي الذي تقوم عليه الحداثة بالتركيز على معنى جديد وبديل للعقل الوضعي الأداتي، العقل المنفتح على الله تعالى، وبرؤية جديدة إلى العلم لا تنتهي إلى النزعة العلمية الرافضة للغيب، بل العلم عبادة، لذلك يمكن القول بأن إستراتيجية الجمهورية الإسلامية الدولة الممهدة تقوم على رؤية جديدة إلى التغيير:

 

التغيير حسب متطلبات الهوية العقائدية وحسب متطلبات الرؤية المستقبلية التي تقوم على أساس عقائدي، وهذا ما جعل عملية التغيير والإستراتيجية الملازمة لها تسير في أفق مشروع تحرري يتجاوز التحديث الذي يستقطب مفاهيم التغريب والتبعية ويؤسس الإستراتيجية على (التجديد) ومن هنا الرؤية الجديدة إلى السياسة وإلى الديمقراطية وإلى العلاقات الدولية ومؤسساتها، خاصة مجلس الأمن ومنظمة حقوق الإنسان والرؤية الجديدة إلى التقدم الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي، (الملف النووي الإيراني)، ورؤية جديدة إلى القضية الفلسطينية حيث أن استراتيجية الدولة الممهدة ترى أن الصراع صراع حضاري على أساس خلفية عقائدية وليس مجرد صراع سياسي، فالإستراتيجية هنا تنشط في مسار مشروع كوني: صراع كوني بين الأمة الإسلامية وإسرائيل والغرب المؤسس لإسرائيل أي تسير الاستراتيجية في مسار صراع الكونيانت، كونية المشروع المهدوي الإسلامي وكونية المشروع الغربي، ففي هذا السياق تقوم الدولة الممهدة بدورها في تعميق الوحدة الإسلامية.

 

وهكذا فالفكر الإسلامي مجهز عقائديا ومعرفيا (الاجتهاد) للتفاعل مع الزمان ومع حركة التاريخ من موقع ربط المتغيرات بالثوابت، منهجية ربط المتغير باللامتغير أدت بإيران في هذا العصر إلى التأسيس لمفهوم للتغير غير المفهوم الغربي، فالتغيير الذي تمارسه الدولة الممهدة هو (تجديد) وليس (تحديثا) كما أشرنا فيما سبق، والعولمة (تعارف) ليست (تغريبا) أو (أمركة) فالتعارف يؤسس للأمة الإسلامية أي لحداثة كونية مبنية على القيم لا على الأعراق والكونية القاتلة أي الكونية المصطنعة والضيقة التي لا تتجاوز المصلحة وقهر الشعوب واستغلالها، فكونية الدولة الممهدة هي عكس العولمة التي لا تتجاوز حدود الرؤية المادية إلى الكون والإنسان والتي تلازمها (مهدوية شيطانية) تستغل الشعوب وتغربها باسم التقدم والتحديث.

 

في هذا السياق تتم ممارسة السياسة المهدوية في إيران خارج ردود الفعل الظرفية بل من موقع رؤية مستقبلية واستراتيجية ملازمة لها، فممارسة الدولة الممهدة للسياسة المهدوية هي سياسة منقذة للغرب من مآسي شيطانية استغلال الشعوب أي من مآسي (المهدوية الشيطانية).

 

السياسة المهدوية ليست إذن هروبا من الواقع نحو ستقبل تعويضي، ولكنها ليست استغراقا في الواقع والخضوع لثقله، لذلك يجد الباحث صعوبات في دراسة السياسة المهدوية كما تمارسها الدولة الممهدة في إيران اليوم، فأدوات التحليل لكل من هيجل وماركس والعلوم الإنسانية الغربية على العموم عاجزة عن الفهم، إنها أدوات ومفاهيم (محجوبة) بسبب خلفياتها الوضعية التي لا تسمح لها بتجاوز) المنظور) أي (الظاهر) أو المادي بالمعنى الإمبريقي لعلاقة الذات بالموضوع في المجال المعرفي، فقانون الأحول الثلاثة للأوجست كونت يحدث قطيعة بين الحاضر: الحاضر الوضعي أو لحاضر العقل الوضعي وبين الميتافيزيقي واللاهوتي، فاللاهوتية والميتافيزيقيا أصبحتا مجرد تراث في أحسن الأحوال، في حين أن السياسة المهدوية تتفاعل فيها اللاهوتية مع الميتافيزيقيا ومع الوضعية بل ومع العرفان الذي يتجاوز العقل ولا ينفيه، وهكذا ففي السياسة المهدوية تتفاعل كل مراحل حركة التاريخ وكل الأزمنة، فالمستقبل الموعود (حاضر في الحاضر)، أي حاضر في الانتظار كعملية وفاعلية وتطلع عن طريق الثورة وتأسيس الدولة الممهدة.

 

ونفس النقد يوجهه النظام المعرفي الذي تقوم على أساسه الدولة الممهدة إلى الفلسفة الهيجلية: حيث أن واقع الأمة (ليس معقولا) أو ليس كله معقولا لأن الأمة في علاقتها بالمستقبل الموعود هي أمة في تحقق مستمر، وهذا التحقق قد يصل أحيانا إلى كسر الواقع والمعقول أي يصل إلى (كسر التاريخ) والتأسيس لتاريخ آخر على غرار ما وقع أو يقع في إيران منذ الثورة.

 

ونفس النقد توجهه الدولة الممهدة إلى الفلسفة الماركسية بصورة مباشرة أو ضمنية: حيث أن ما يجري في إيران منذ قيام الثورة الإسلامية يفلت من كل تحليل يقوم على أساس معرفي يتم داخل التاريخية كنزعة تاريخية، أي داخل التاريخ كمرجعية تكفي نفسها بنفسها، وهذا ما جعل سياسة الجمهورية الإسلامية سياسة دولة ممهدة تتحدى كل العوائق والعراقيل، وتتحدى استراتيجية الغرب ذات المرجعية المحايثة عن طريق استراتيجية تعتمد على التاريخ كتاريخ مرتبط بما يتجاوزه وليس تاريخا قائما بذاته، فقوة المرجعية، من حيث هي مرجعية مطلقة وضرورية وكافية وواجبة شرعا وعقلا: إن هذه القوة تنعكس على الاستراتيجية وعلى علاقاتها بامتداد الأفق المهدوي، لذلك فمن أهم صفات استراتيجية الدولة الممهدة أنها إستراتيجية التحدي والآفاق.

 

إن ما تقدم يبين بكل وضوح بأنه لا يمكن لإستراتيجية الدولة الممهدة أن تتم داخل الحداثة أو ما بعد الحداثة، فالحداثة أنتجت اللامعنى ودفعت بالعقل في طريق مسدود في حين لا يمكن تصور سياسة الدولة الممهدة أو المهدوية الإسلامية على العموم، إلا على أساس عقلانية متفاعلة مع الروحانية ومع الغيب، فالمهدوية والمعنى متلازمان. لقد وصلت الحداثة إلى استيعاب حقيقة ضرورة الروحانية، أي ضرورة المعنى عن طريق ربط العقل والسياسة بما يتجاوزهما. غير أن عملية التجاوز التي لجأ إليها الغرب هي مجرد رهان لأن الطريق أمام العقل هو طريق مجهول والمستقبل بدوره هو مستقبل مجهول وليس مستقبلا موعودا، فالتقدم أنتج العبث والعدمية والرعب من المستقبل المجهول وليس الأمر كذلك بالنسبة للسياسة الملازمة للدولة الممهدة حيث أن علاقة العقل بما يتجاوزه ليست مجرد حالة تطلع عفوي، فالعقيدة الإسلامية ترشد التجاوز وتوجهه، فالمستقبل مجرد تفكير فلسفي أو فرضية بل هو مستقبل موعود عقائديا، فالدولة الممهدة المرتبطة بالعقل المتفاعل مع العرفان أي المرتبطة بالشريعة المتفاعلة مع الحقيقة تنتج (اليقين) والفعل والتجاوز، تجاوز ما هو معطي وحاضر نحو ما هو آتي ومستقبلي، فكل شيء نسبي: العقل والتاريخ والقوى المهيمنة فالأفق مفتوح والثورة هي أداة التجاوز والحركة، والدولة هي الموجهة للسياسة المفعلة للانتظار أي الممهدة والمفعلة لحركة الأمة نحو عصر الظهور.

 

وهكذا فاستراتيجية الدولة الممهدة هي النقيض الذي لا يعرف التركيب لنهاية التاريخ ولنهاية البديهيات ولنهاية العلوم الاجتماعية ذات النظام المعرفي الوضعي، فولاية الفقيه الموجهة للدولة الممهدة تقوم على نظام معرفي (الاجتهاد) يتجاوز النهايات وينظر لاستراتيجية دولة المسافات البعيدة.

 

ففكر ولاية الفقيه يختلف عن الإيديولوجيات، الأيديولوجيا لا تعطي مساحة واسعة أو كفاية للعقل وللروحانية، فالعقل إن وجد، فهو ليس عقلا مفتوحا وناقدا والروحانية تكاد لا تتجاوز ردود الفعل الانفعالية، فهي موقف عاطفي وذاتي أكثر مما هي روحانية لذلك تميز فكر ولاية الفقيه بالنقد والمجابهة لا بردود الفعل الانفعالية تجاه الأحداث وتجاه الغزو الثقافي الغربي وتجاه العولمة على العموم.  فليس هناك انطواء على الذات أو اللجوء اللاوعي إلى الماضي بل هناك اجتهاد يضع ولاية الفقيه في قلب حركة التاريخ.

 

إن موقف الإمام الخميني (قدس سره) من الغرب ليس مجرد موقف انفعالي ورد فعل لشراسة وجنون الغرب تجاه إيران المسلمة. فـ)أمريكا الشيطان الأكبر) ليس مجرد شعار عابر وظرفي، فالإمام يحدد موقفه من الأحداث عن طريق الاجتهاد، فشيطانية أمريكا لا تشمل الشعب الأمريكي بل النظام السياسي وممارسته التي لا يمكن وصفها إلا بأنها شيطانية (غياب القيم وسيطرة المعايير المزدوجة وقهر الشعوب واستغلالها) والواقع الذي يعيشه العالم، خاصة الشعوب الإسلامية، يبين صحة وعمق موقف الإمام من الغرب ومن أمريكا خاصة، فالشيطانية هنا تعبر عن مفهوم كوني هو مفهوم (الاستكبار) الذي يقتضي النقيض الكوني والوجودي: (الاستضعاف) هذان المفهومان من ثوابت الفكر السياسي الإسلامي بمعناه العقائدي، أي بمعناه المهدوي، فالصراع لا يتم في تاريخ لا معنى له، فوجود المستنكبرين والمستضعفين هو وجود مؤقت في سياق الرؤية المستقبلية المهدوية، لذلك تخطط الدولة الممهدة برامجها وإستراتيجيتها على هذا الأساس العقائدي والسياسي في أفقه المهدوي.

 

إن هذا الموقف يعبر عن انفتاح نقدي تجاه الغرب أي يعبر عن ثورة ابستمولوجية، فولاية الفقيه كفكر منظر وموجه للثورة والدولة لم تعتمد في مواجهته للغرب على علم الكلام الدفاعي (أو الوعظي الإرشادي بل اعتمدت على علم الكلام النقدي، فهي لم ترفض الفكر الغربي جملة وتفصيلا، ولم ترفض الفكر السياسي الغربي بإطلاق بل أخضعته لنقد جذري ولمراجعة جذرية، مثلا لم ترفض ولاية الفقيه العلوم الإنسانية بإطلاق بل انتقدها وأسست لصياغة وتنظير علوم إنسانية إسلامية وهي لم ترفض الديمقراطية بإطلاق بل ترفض غياب مرجعيتها وغياب أفقها التاريخي أي ترفض عدميتها.

 

فولاية الفقيه انتقدت ورفضت عن وعي عقائدي وابستيمولوجي الديمقراطية الغربية ونقلت الديمقراطية من سياقها العدمي:

 

سياق موت السياسة ونهاية التاريخ إلى السياق العقائدي والمهدوي الذي يعطيها المعنى ويعطيها الفعل لدفع الأمة في مسار التجاوز: تجاوز أزمة الديمقراطية وموت السياسة وانسداد الأفق، أي يفتح الديمقراطية على الأفق المهدوي من خلال تفعيل العلاقة بين الدولة الممهدة والمجتمع وهذا ما جعل الجمهورية الإسلامية كدولة ممهدة تعتمد في استراتيجيتها على الشعوب لا على الأنظمة الحاكمة.

 

إن مرجعية النظام السياسي وأفقه المهدوي تقتضي مفهوما جديدا للديمقراطية، هذه الأخيرة ليست على غرار ما وقع في الغرب، تعبيرا عن عقل الأنوار الذي جاء كنقيض (لظلامية) المسيحية الكنسية بتعبير الفكر الغربي، بل هي تعبير عن بنية الفكر السياسي الإسلامي بمعناه العقائدي. فالديمقراطية في الدولة الممهدة اليوم هي ديمقراطية دينية، والحكومة هي حكومة دينية شعبية. هناك أزمة ثقة بين الشعوب والحكام منذ ظهور الملك على يد معاوية بن أبي سفيان وولاية الفقيه أعادت الثقة والأمل إلى الشعوب الإسلامية.

 

إن التحولات الكونية التي تسير في خطها الدولة الممهدة تقتضي نظاما سياسيا يتمتع بمرجعية مطلقة، مرجعية ضرورية وكافية: الإسلام عصر الرسول (صلى الله عليه وآله) وعصر الأئمة (عليهم السلام) في عصر الغيبة لا وجود لعصمة ولكن هناك إطار عقائدي ومعرفي يعصم عملية التنظير من الوقوع في الأخطاء الكبرى، على غرار ما وقع في الأنظمة السياسة الأخرى، هذا الإطار هو الاجتهاد الذي تمارس ولاية الفقيه نشاطها ودورها ضمنه، فالدولة الممهدة تجابه مآسي التاريخ عن طريق جهازها المعرفي القائم على العمق العقائدي، هذا الجهاز المعرفي لا ينظر إلى الزمان كزمان متعالي ولا ينظر إلى التاريخ كمطلق أو مرجعية مطلقة، فالدولة الممهدة هي دولة الممارسة ودولة الروحانية والتطلع في نفس الوقت لأن السياسة عبادة والطابع التعبدي يقتضي ويتضمن الروحانية ويقتضي الفعل. بهذا المعنى يمكن القول بأن هناك في هذا العصر زمان إيرانيا: زمان دولة الثورة أي دولة الروحانية ودولة الفعل والتمهيد.

 

لقد أعادت ولاية الفقيه صياغة مفهوم السياسة، غير أن هذه الصياغة لم تتم في الإطار السياسي إلا بعد أن أسست لها نظرة جديدة إلى الفقه وعلم الكلام والفلسفة والعرفان فتحت المجال لفلسفة ما بعد كانط (Kant) ولفلسفة ما بعد هيجل (Hegel):

 

1. فلسفة ما بعد كانط عن طريق التأسيس للعلاقة التفاعلية بين الفقه والفلسفة والعرفان وتجاوز العقل الوضعي الذي ظن أنه أسس لعصر جديد عصر ما بعد الميتافيزيقا.

 

2. فلسفة ما بعد هيجل: ولاية الفقيه فكرت ما بعد هيجل أي تجاوزت فلسفة هيجل لأنها أسست لمراجعة نقدية جذرية للتاريخ بفضل ارتباطها العقائدي والتاريخي بالإمامة وبالأفق المهدوي. وهذا ما جعل ولاية الفقيه تطرح المشكلة السياسية ومشكلة الدولة في سياق معنى جديد للتاريخ وللسياسة وللدولة في نفس الوقت. فالسياسة عبادة والدولة ليست مجرد آلة بيد طبقة معنية، كما أنها ليست تجسيدا للمطلق بل هي أداة التفعيل الحضاري الذي يمهد لعصر الظهور، والتاريخ الذي تتخذ فيه الدولة موقعها هو تاريخ له هدف غير الهدف الهيجلي والماركسي. في هذه الفلسفات هدف التاريخ لا يرضي العقل ولا يرضي تساؤلات الإنسان وتطلعاته. ففلسفات التاريخ الغربية كما تتجلى في خط هيجل وماركس وفي الممارسة السياسة الغربية في هذا العصر خاصة في هذه الأيام هي مجرد فلسفات عدمية.

 

وهكذا فولاية الفقيه نظرت لرؤية جديدة إلى التاريخ ولرؤية جديدة إلى السياسة، فالدولة الجرمانية (هيجل) لا تنتهي التاريخ والديمقراطية الليبرالية الأمريكية (فوكوياما) لا تنهي التاريخ وكذلك دولة لنين (Lenine). والتاريخ لن يبق بيد الأقوياء، في هذا الانسداد وفي هذا الجو العدمي أسست ولاية الفقيه. لدولة الآفاق بدلا من دولة النهاية: الدولة الممهدة التي كسرت نظرية (الواقعي معقول والمعقول واقعي) (هيجل). الدولة الممهدة دولة مقاومة العبث: الصهيونية واقع غير معقول، وهيمنة الغرب واقع غير معقول، فباب التغيير مفتوح، فالمستقبل له معنى والدولة الممهدة تسير نحوه لتحقيقه.

 

لقد كشفت ولاية الفقيه بتفجيرها للثورة وتاسيسها للدولة الممهدة بأن فكرة (الواقعي معقول والمعقول واقعي) ليست نظرية بل هي مجرد رهان أو شعار، هذه الفكرة تقضي على الزمان كحركة وتطلع لأنها تذيب الزمان في حاضر أبدي رغم قيام فلسفة كل من هيجل وماركس على الجدلية والصيرورة.

 

وهذا عكس الزمان المهدوي الذي تجسده اليوم الدولة الإيرانية فهو زمان النقد والرفض والمقاومة والتغيير والانفتاح على الآفاق. كما أن ولاية الفقيه كشفت عن حقيقة الفكر الهيجلي والفكر الغربي على العموم، كفكر غربي (استعلائي) ينطلق من المركزية الغربية في زمانها ومكانها ليقدمها ككونية يجب أن تشمل كل شعوب العالم. تجاه هذه الرؤية الاستعلائية وغير العلمية لمهدوية الفكر الغربي في صورته الهيجلية بدأت ولاية الفقيه تؤسس لكونية جديدة لا تنفي خصوصيات ومصالح الشعوب بل تستوعبها استيعابا تفاعليا تكامليا. فالدولة الممهدة تؤسس لسياسة الأمة بمعناها الإسلامي ككونية تقوم على (التعارف) والحوار لا على القومية أو العرق أو الصدام واستغلال الشعوب.

 

فولاية الفقيه أرجعت الفكر الغربي إلى (حجمه) أي إلى مكانه وزمانه أي إلى حقله النظري الذي أنتجه، فليس هناك كونية غربية بل هناك قوة فرضت نفسها على الشعوب والثقافات وبررها الفكر الغربي عن طريق فلسفة هيجل وعن طريق العلوم الاجتماعية على العموم، فهيجل لم (يفكر الزمان) لأن فلسفته مستغرقة في محايثة مطلقة أي فلسفته ذائبة في المرجعية، في التاريخ هذه المحايثة تشكل عائقا ابستمولوجيا في طريق تنظير فلسفة التاريخ وموقع الدولة والسياسة في هذه الفلسفة فهيجل، بدلا من أن ينتقد المحايثة ويتجاوزها نظرها وبررها وحولها إلى مرجعية مطلقة. في هذه النقطة بالذات أتت ولاية الفقيه بالرؤية الجديدة، فبمجرد ارتباط ولاية الفقيه عقائديا وتاريخيا وفقهيا وفكريا بالإمامة فإنها تتمكن من اتخاذ (مسافة) من المحايثة، أي تتخذ (مسافة) من التاريخ ومن هيمنته، وبعبارة أخرى فإن ولاية الفقيه تتمتع بالقدرة على اتخاذ (مسافة) من الزمان والأحداث وهيمنة الحاضر الذي يغلق الآفاق. فمستقبل البشرية ليس مجهولا والتنظير لرؤية فلسفية إلى التاريخ أو التنظير لإستراتيجية الدولة الممهدة ليس مجرد تنظير يتم في دائرة المحاولة والخطأ، أي في محدودية التجربة في دائرة الحاضر المهيمن، فالمستقبل له خصوصيته لأنه مستقبل موعود عقائديا ولا مجال لتأويله لتزييف حقيقته، لاشك أن هذه العلاقة بين حاضر الأمة والدولة ومستقبلها تقتضي التنظير والاستراتيجية والفعل لا مجرد الانتظار التواكلي، فالتنظير يتمتع بأرضية عقائدية يمكن وصفها من بعض الوجوه بالأرضية الابستيمولوجية على اعتبار أن المصير معلوم وليس مجهولا فما على الأمة والدولة إلا أن تضعه نصب عينها وتتجه نحوه فتفجر الثورة وتؤسس الدولة وترسم الاستراتيجية على المدى القريب والمتوسط والبعيد.

 

فالنظام المعرفي الذي تقوم على أساسه فلسفات التاريخ الغربية غير قادر على تنظير وفهم واستيعاب علاقة السياسة بفلسفة التاريخ وعلاقة الدولة الممهدة بالزمان وبحركة التاريخ. فهل هذا التنظير يقتضي اللجوء إلى ما يتجاوز العقل؟ أي العرفان؟

 

إذا أخذنا العرفان بمفهومه الغربي: التعالي على المكان والزمان والتأسيس لإيديولوجيا الخروج من التاريخ فإن هذا المعنى للعرفان لا يمكن أن يساعد على فهم حقيقة السياسة وحقيقة الدولة في الأفق المهدوي الإسلامي لأن هذه الرؤية إلى العرفان تقوم على ثنائية تشكل عائقا إبستيمولوجيا في المجال المعرفي حيث تفصل بين العقل وما يتجاوز العقل وتقوم كعائق أمام الممارسة حيث تفصل بين المادي والروحي. هذه الرؤية إلى العرفان ولا تتماشى مع الرؤية الإسلامية إلى علاقة المادي بالروحي والسياسة بالدين والدنيا بالآخرة والعقلي بالروحي، فالإسلام يتجاوز الثنائيات ويفتح المجال للتجاوز أي للحركة والتغيير وتوجيه حركة التاريخ، في هذا السياق التجاوزي أكد الإمام الخميني (قدس سره) على العلاقة بين السياسة والعرفان، وبين السياسة والعبادة، وفي هذا السياق يمكن للباحثين أن يطرحوا علاقة السياسة بفلسفة التاريخ وعلاقة الدولة الممهدة بالزمان وبحركة التاريخ.

 

على هذا الأساس نظرت ولاية الفقيه ومارست علاقة الدولة الممهدة بالظهور كعلاقة تنطلق من الواقع بكل مفرداته من موقع تجاوز هذا الواقع، فالانتظار هنا ليس انتظارا طوباويا على اعتبار أن الأفق الموعود هو أفق موعود بصورة عقائدية أي يقينية لا احتمالية أو افتراضية، إن الأفق الموعود يحول التجربة السياسية للدولة إلى تجربة سياسية لدولة (ممهدة) أي يحولها من تجربة ذات فضاء محدود إلى تجربة ذات فضاء واسع. أي التجربة من موقع تصور إمكانيات وآفاق جديدة لتجاوز ثقل الواقع وهيمنة القوة، أي لتجاوز الانسداد الابستمولوجي والسياسي الذي يضعه الغرب باستمرار في طريق الدولة االممهدة.

 

فالدولة الممهدة لا تصطدم بالعوائق (الحرب المفروضة وكل أنواع الحصار، والحصار الإعلامي...) إلا لتتجاوزها، لأن الممارسة السياسة للدولة الممهدة هي ممارسة في أفق مستقبل مضمون عقائديا، فلا يأس ولا رعب من المستقبل، بل فعل وجهاد واجتهاد، أي ممارسة ثورية وتنظير مستمر لتوجيه هذه الممارسة (دور وحقيقة ولاية الفقيه).

 

هناك علاقة عقائدية وتاريخية وسياسية بين مفهوم الدولة الممهدة ومفهوم الأمة الإسلامية.

 

الأمة الإسلامية مفهوم مهدوي يقوم على رؤية إلى التاريخ: الأمة الإسلامية أمة شاهدة لذلك لا وجود لنموذجية أخرى غير الأمة الإسلامية. هذه الشهودية أو النموذحية تقتضي التفاعل مع حركة التاريخ أي مع (الشروط).

 

فمن جهة هناك شهودية أو كونية مضمونة عقائديا ومن جهة أخرى هناك العوامل الاجتماعية والتاريخية والدولية التي تعيشها الأمة كغيرها من الأمم. على غرار هذه الرؤية للعلاقة التفاعلية بين (الشروط) و)العلامات) بين كونية الأمة وحركة التاريخ تأخذ الدولة الممهدة موقعها في سياق الكونية وسياق التاريخية. فلا أمة شاهدة غير الأمة الإسلامية إلا أن هذه الأمة لا تنفي الخصوصيات بل تتفاعل معها وتضعها في سياق الكونية القائمة على الحوار بين الثقافات.

 

وهكذا فالكونية الإسلامية ليست كونية استعلائية وقاتلة كالكونية الغربية (الاستعمار وإبادة الشعوب تحت قناع التحديث والتقدم).

 

وجود الدولة الممهدة في عصر الغيبة يعني وجودها في التاريخ. فالانتظار من خلال الدولة وعن طريقها يعني أن هذا الأخير يقوم على مقولة التجربة، أي على أساس التفاعل مع العوامل التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ومتطلبات كل عصر وكل مرحلة، فالعلامات لا توجد في الفراغ وفي المجرد بل توجد في التاريخ. فالعلامات (أحداث) تاريخية لها خصوصياتها من حيث العلاقة بين التاريخ والغيب. لذلك فهي تقتضي التفاعل مع (الشروط) أي مع العلاقة بين الظهور وحركة التاريخ وعوامل النهضة والسقوط.

 

وهكذا فعلاقة الدولة الممهدة بالأفق الموعود تقوم على نوعين من العلاقة:

 

1. علاقة تاريخية (الشروط) وما تتضمن من سببية وشروط وعوامل وتجربة.

 

2. وعلاقة علامات.

 

فعلاقة حاضر الدولة الممهدة بالأفق الموعود هي علاقة مسار طويل وحركة تنتقل من مرحلة إلى مرحلة من خلال الزمان التاريخي، غير أن الزمان التاريخي هنا ليس زمانا تطغى عليه الحتمية ومنطق التقدم الخطي لأن زمان الدولة الممهدة هو زمان يقوم على أساس التفاعل بين الزمان التاريخي والزمان المهدوي. فإذا كان التاريخ هو الخط الذي يوصل إلى عصر الظهور فإن هذا التاريخ له خصوصيته لأنه تاريخ مرتبط بما يتجاوزه، مرتبط بالتعالي عن طريق علاقته بالافق المهدوي الموعود (أي مرتبط بالزمان المهدوي) ويمكن أن نشير في هذا السياق للعلاقة الجوهرية بين مفهوم الأمة ومفهوم الدولة الممهدة: فالأمة الإسلامية في تحقق مستمر، وكذلك الدولة الممهدة فإنها في تحقق مستمر.

 

مما تقدم نستنتج بأن (العلامات) من حيث هي جانب من جوانب علاقة التاريخ بالغيب (أي التعالي) لا تعني نفي الحقيقة التاريخية للمهدوية والتأكيد على حقيقتها الفوق - تاريخية وحدها. وعلى العكس من هذه الرؤية هناك طرح آخر يكاد يرى في المهدوية مجرد حركة تاريخية، أي مجرد عوامل تاريخية تنتج بصورة ضرورية ومنطقية مستقبلا معينا هو لمستقبل المهدوي.

 

إن ولاية الفقيه المفجرة للثورة والمؤسسة للدولة الممهدة قد تجاوزت هذا الطرح القائم على ثنائية (العلامات) و)الشروط) ثنائية المحايثة والتعالي، لقد رفعت ولاية الفقيه الفكر الإسلامي إلى مستوى أعلى من هذا التبسيط لما هو معقد، وذلك بدمجها للعلامات في الشروط والاستمرارية في القطيعة. فهناك شروط للظهور لكن هناك علامات: فوجود الثورة الإسلامية والدولة الممهدة يستقطب معاني العلامات والشروط معاني العوامل التاريخية المؤدية إلى الظهور ويستقطب كذلك معاني (الانبثاق).

 

فالثورة الإسلامية تعبر بكل دقة عن هذه الرؤية الكلية والتفاعلية بين العلامات والشروط. لقد أحدثت الثورة قطيعة جذرية مع منطق التاريخ (فصل الدين عن السياسة واستحالة قيام ثورة على أساس ديني) ونفس الأمر بالنسبة لدولة الثورة أو الدولة الممهدة إنها دولة العقلانية والتعامل مع الأحداث والعوامل التاريخية والجيو سياسة، لكن على أساس أنها دولة ممهدة وليست مجرد دولة عادية.

 

فالأفق الموعود هو إمداد غيبي لا ينفي التاريخ ولا ينفي مسؤولية الإنسان، ومن هنا (وجوب) قيام الثورة وتأسيس الدولة لتوجيه حركة التاريخ نحو الأفق الموعود.

 

إن وجود (النيابة) أي ولاية الفقيه في عصر الغيبة دليل على أن الانتظار ليس مجرد أمل أو رجاء بل معركة مستمرة تجسد رغبة في التغيير، فكأن الظهور يأخذ كل معانيه وأبعاده بوجود الرغبة أي التطلع أو الطموح التاريخي، فالرغبة هنا هي ظاهرة روحية وعاطفية ذات أبعاد سياسية وحضارية لأن الرغبة هي القدرة على التعالي على الحاضر كحاضر مهيمن والتعالي على التاريخ المهيمن:

 

تاريخ الأقوياء. فمادامت الرغبة موجودة فإمكانية التغيير موجودة. وهكذا فالرغبة تحول الانتظار إلى مسؤولية وفعل، أي إلى تطلع إبداعي ينتج الثورة ويؤسس الدولة. فإذا لم تكن الرغبة منتجة للتطلع والفعل فإنها تبقى مجرد أمل أو تمني لا يتجاوز حدود التأملات المجردة. في هذا السياق يبرز دور ولاية الفقيه وكيف حولت الانتظار من انتظار سلبي ومنفعل يعيد إنتاج الحاضر وتحيط به الإحداث ويهيمن عليه التاريخ كأمر واقع إلى انتظار تحركه رغبة التطلع إلى المستقبل الموعود. أي النموذج الحضاري والسياسي الذي أسس له كل الأنبياء (عليهم السلام).

 

إن هذا النمط من العلاقة مع المستقبل لا يمكن أن يستوعبه عقل الأنوار ولا يمكن أن تستوعبه فلسفة تسير في خط الفلسفة اليونانية وخط عقل الأنوار، فالرغبة وعلاقتها بالتطلع والفعل، أي بالثورة والدولة تقتضي عقلا منفتحا على ما يتجاوزه، أي تقتضي التفاعل بين العقل والعرفان على أساس مرجعية الفقه المفعلة والموجهة لهذه العلاقة. فالتجربة بينت أن الفلسفة عندما تسير في مسار ما يتجاوز العقل تتيه وتحول (ما يتجاوز العقل) إلى (اللامعقول) أي إلى العبث والعدمية كما وقع لنيتشه، في حين أن الفقه المنفتح على العرفان يقود الرغبة ويوجهها إلى آفاق تتجاوز الفلسفة: يقودها في مسار التأسيس لتاريخ جديد، لتاريخ معاكس للتاريخ المهيمن. أي التاريخ الغربي الذي ميز منذ أثينة بين اليوناني والبربري وبين المتحضر والهمجي وبين الشمال والجنوب. فولاية الفقيه تحول الرغبة عن طريق الدولة، إلى أداة تكسر التاريخ الراهن المبني على القوة وتؤسس لتاريخ أكثر إنسانية لأنه تاريخ يتجه نحو المستقبل الموعود.

 

إن نموذجية الجمهورية الإسلامية: الدولة الممهدة قد فرضت نفسها ورغم كل الحروب وأنواع الحصار والمواقف العدائية الجنونية للغرب ولبعض الأنظمة الحاكمة المجاورة فإن إيران أصبحت دولة إقليمية بل دولة عظمى إقليمية تؤثر في العلاقات الدولية وتمتلك القدرة على حل الأزمات السياسية والاقتصادية والثقافية في العالم، لأن الدولة الإيرانية كدولة ممهدة هي دولة تفكر بالبديل.

 

إستراتيجية الثقافة السياسية:

 

وقد أسست الثورة عن طريق هذه الدولة لثقافة جديدة ثقافة التفاعل مع حركة التاريخ بفضل الهدف المهدوي الذي تتطلع إليه هذه الثقافة. فحقيقة هذه الثقافة هي حقيقة اجتهادية جهادية تتميز بالنقد والتطلع وعدم الاستسلام (لروح العصر) في عصر زوال البدائل وانسداد الأفق. فالأمة الإسلامية أصبحت بفضل الزمان الإيراني في لحظة تاريخية مفصلية وحاسمة، غير أن الأنظمة الحاكمة التابعة للغرب لم تدرك هذه الحقيقة فهي دول خارج التاريخ ولازمان لها لأنه لا مستقبل لها، هي دول عدمية لا يعرف أصحابها حتى مصالحهم، فسلوكهم السياسي ومواقفهم هي مواقف انتحارية، لذلك تتميز الدولة الممهدة بالطابع النقدي الجذري فهي تضع كل شيء موضوع سؤال ونقد وإعادة نظر وتصل أحيانا إذا اقتضى الأمر إلى الرفض الثوري، فالدولة الممهدة (ليست شرقية وليست غربية) هي دولة تؤسس لتاريخ آخر يسير نحو المستقبل الموعود، فالعمل الثقافي والسياسي هنا هو عمل غير عادي، هو عمل يكسر البديهيات. (موقف الجمهورية الإسلامية من ثقافة الاستهلاك والتغريب لاستغلال الشعوب، موقفها من العولمة والعلاقات الدولية، الملف النووي الإيراني، موقفها من الحرب الاستعمارية الوحيدة في العالم اليوم في غزة والعراق وأفغانستان ولبنان). . .

 

فالزمان الإيراني ليس زمانا قوميا بل هو زمان كوني يسير في طريق تحقق الدولة الكونية. إن إعادة صياغة نظرية ولاية الفقيه وتحويلها إلى حقيقة اجتهادية مجابهة لتحديات العصر أرجع الولاية إلى حقيقتها (النيابية) وهذا ما جعل ولاية الفقيه تبعد المجتمع عن ضعف ثقافة الاستهلاك والعدمية وعن ضعف الثقافة المستغرقة في المادي، حيث حولت الولاية الرجوع إلى الماضي إلى رجوع اجتهادي أي نقدي وبناء، فالماضي كأصل وكمرجعية يقتضي العلاقة بين الثابت والمتغير أي يقتضي العلاقة مع حركة التاريخ، لقد أصبحت ثقافة ولاية الفقيه فلسفة للثورة والحركة والتغيير وتأسيس دولة التغيير والآفاق التي تستقطب ممارستها الثقافية والسياسية الجديد والتاريخ والمستقبل وتجابه التحديات في مجال التقدم الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي. فولاية الفقيه حولت الثقافة من محدودية العادات وعدمية ثقافة الاستهلاك إلى ثقافة تفجير الثورة وتأسيس الدولة، فالثقافة الإسلامية أصبحت في إيران ثقافة (وجود) وثقافة)قيمة) أي ثقافة الواقع وثقافة التطلع أي ثقافة التمهيد للظهور.

 

فالثورة الإسلامية ليست الثورة الثانية أو الثالثة بعد الثورة الفرنسية والثورة البلشفية وغيرهما، بل هي الثورة الأولى لأنها أتت برؤية جديدة إلى الثقافة والسياسة والديمقراطية والحرية والعلاقات الدولية والعولمة: فالثورة الإسلامية هي ثورة الثورة، ثورة الأسئلة الكبيرة للاستراتيجية المتجهة نحو المشروع الكوني، وهذا عكس الثورات الأخرى، حيث أنه بمجرد الانتقال من الثورة إلى مرحلة الدولة حولت الأنظمة العربية الثقافة الإسلامية التي فجرت الثورة إلى (تراث) ولجأت إلى وهم الثقافة الغربية دون استيعاب لحقيقة هذه الثقافة وعلاقتها بتاريخ الغرب، أي دون ربط الثقافة الغربية بحقلها النظري الذي أنتجها، فخصوصية علاقة السياسة بالثقافة في إيران أن الثورة الإسلامية هي الثورة الوحيدة في العالم الإسلامي أسست دولة تسير في خط القيم والمفاهيم الإسلامية التي فجرت الثورة. فمشروع الثورة الإسلامية طرح كل قضايا ومشاكل الأمة على مائدة البحث: الثقافة، التعليم، العلاقة مع الغرب ومع كل شعوب العالم، السياسة والروحانية، الدولة والمجتمع، القومية والأمة الإسلامية، والأمة والرجوع إلى الماضي،الأمة والمستقبل، التقدم العلمي والتكنولوجي. فدولة الثورة أسست لاستراتيجية ذات أفق كوني.

 

قوة السياسة في إيران تكمن في تمحورها حول العقيدة والثقافة والشعب، فالسياسة تفكر بالتاريخ أي بالأمة الإسلامية وبالمستقبل أي تفكر على أساس الهوية الثقافية التي تتجاوز الأعراق والقوميات.  لذلك لا يمكن تصور ثقافة وسياسة بالمعنى المبتذل أي سياسة الحفاظ على الحكم وثقافة الفلكلور والاستهلاك في نظام ولاية الفقيه، هناك فرق كبير وجذري بين السياسة التي تعتمد على مرجعية ثقافية لا تتجاوز المعنى السوسيولوجي للإسلام وتعتمد على توقع افتراضي للمستقبل إن لم يكن طوباويا وحالما وبين سياسة تعتمد على مرجعية ثقافة ذات مصدر غيبي (النبوءة الإمامة وذات رؤية عقائدية إلى المستقبل تتميز بالوضوح وبالقوة الإلزامية) وبمعالم و(علامات) ترشد عملية الانتظار كعملية ثقافية وسياسية واقتصادية وعلمية وتكنولوجية. فالثقافة وما تتضمنه من علامات لا تؤسس لانتظار توكلي مريح بل تؤسس لتفاعل الأمة مع العوامل والأسباب: عوامل النهضة والسقوط، تفاعل ترشده إستراتيجية مرتبطة بالمعنى لا بالعبث وعدمية المستقبل المجهول والمرعب. القيم الثقافية تحولت في إيران إلى مؤسسات وإلى دولة المؤسسات، فالرؤية الثقافية والسياسية الإسلامية ليست محصورة في إطار حزب بل هذه الرؤية تجسدت في دولة أصبحت بفضل الثقافة السياسية ذات عمق شعبي وكوني (العالم الإسلامي. ) فالثقافة الإسلامية أسست دولة ذات خيارات إستراتيجية تسير في مسار مشروع كوني، هذه الثقافة هي ثقافة الانتظار أي ثقافة التطلع مقابل ثقافة الإحباط واليأس.

 

إن الطابع المعنوي والسياسي لثقافة الانتظار يطوق، استراتيجيا، القوى الكبرى، فالمعنى والمقاومة متلازمان: المقاومة كمعنى تتجاوز الموت وتتجاوز الخوف، هذا المعنى الذي تتمتع به إيران ودولتها هو الذي يطوق ويحاصر الغرب وإسرائيل استراتيجيا، فالإستراتيجية التي تقوم على أساس ثقافة المستقبل الموعود تكسر كل الاستراتيجيات لأن هذه الأخيرة يتم تنظيرها وتتم ممارستها من خلال رؤية عبثية وعدمية للتاريخ وللمصير.

 

إن الدولة الإيرانية هي الدولة الوحيدة في العالم الإسلامي اليوم التي تتناسب مع حجم الثقافة الإسلامية ومع حجم تطلع الشعوب الإسلامية إلى المشروع الحضاري والسياسي الإسلامي، وهذا ما جعل من إيران مدخلا للأمة الإسلامية ومصيرا لها فعلاقة الإستراتيجية الإيرانية مع شعوب العالم الإسلامي هي علاقة تعبر عن العقيدة، الإستراتيجية في خدمة العقيدة وليست محدودة بمصالح إيران في حدودها القومية. فإيران. تعاني ما تعانيه بسبب هذه الإستراتيجية المفتوحة على العالم الإسلامي ولصالحه.

 

إن إستراتيجية الدولة الممهدة هي إستراتيجية إعادة بناء الأخوة العقائدية والسياسة على الثقافة وإعادة بناء الثقافة على الأخوة العقائدية، إعادة البناء تقتضي حتما القطيعة لا كمجرد رفض لثقافة الآخر بل كنقد وإعادة النظر لثقافة الآخر وللثقافة الإسلامية في جوانبها المتحجرة بسبب الانحرافات السياسية التي لازمت ظهور الملك.

 

خصوصية الثقافة الإسلامية تكمن في مرجعية ومحورية الإسلام: إلى درجة أن الإسلام يشكل نواة هوية شعوب العالم الإسلامي. فإلى جانب خصوصية كل شعب من الشعوب الإسلامية هناك الوحدة العقائدية (الرجوع إلى عصر الرسول (صلى الله عليه وآله)) التي تستوعب التنوع وتتفاعل معه، في هذا السياق تتجلى الإستراتيجية الثقافية للجمهورية الإسلامية الدولة الممهدة وهي استراتيجية تتجاوز الاستراتيجية القائمة على مرجعية عقل الأنوار، أي نتجاوز الثقافة الهيجيلية والسياسة الهيجيلية. فزمان الجمهورية الإسلامية (الزمان السياسي) هو زمان مهدوي يرفض التاريخ المهيمن، أي يرفض الزمان الأمريكي ويؤسس لزمان آخر أي لتاريخ آخر. فليس (كل واقعي معقول وكل معقول واقعي) بل الواقع يجب تغييره. ولاية الفقيه أعادت صياغة الثقافة الإسلامية في إيران على مرجعية فوق- تاريخية تؤسس لإستراتيجية سياسية تسعى إلى تحرير وتوحيد الشعوب الإسلامية والانفتاح على الثقافات عكس ثقافة الإلغاء وسياسة الصدام القائميين على فلسفة القوة.

 

الثورة الثقافية التي فجرت الثورة وأسست الدولة لم تؤسس الثقافة والسياسة على الإيديولوجيا بل على العقيدة. وهذا ما يميز الاستراتيجية الثقافية للجمهورية إسلامية عن غيرها من الدول الأخرى، لأن الاستراتيجية التي تقوم على أساس الإيديولوجيا هي إستراتيجية تخضع للتاريخ أكثر مما توجه التاريخ في حين أن الاستراتيجية الثقافية والسياسية للجمهورية الإسلامية تسعى بفضل مرجعيتها العقائدية، إلى تصحيح مسار التاريخ، فالثقافة التي أعادت صياغتها ولاية الفقيه تستبق حركة التاريخ وتقدم إطارا فكريا وقيميا للتنظير لحركة تاريخية بديلة ولرؤية سياسية جديدة تربط علاقة المجتمع بالدولة وعلاقة الحاضر بالمستقبل بقيم ملزمة. كما قدمت هذه الثقافة رؤية إلى الآخر تقوم على أساس تكامل الخصوصية مع الكونية أي على أساس (التعارف) فالاستراتيجية الثقافية الإيرانية تفتح المجال لتوحيد الشعوب الإسلامية ولعولمة بديلة عن العولمة المستغلة للشعوب والمحتقرة للثقافات غير الغربية. فبدلا من الكونية الغربية القاتلة تقدم الجمهورية الإسلامية كونية التكامل بين الشعوب والثقافات أي استراتيجية التنوع داخل الوحدة. وهذا ما جعل الدولة الممهدة في إيران دولة الأسئلة الكبرى والمتواصلة لأن دولة الثورة هي دولة التأسيس لمجتمع ما بعد بعد الحداثة ولما بعد بعد الميتافيزيقيا أي لما بعد عقل الأنوار، هذه الإستراتيجية هي إستراتيجية طويلة النفس تؤسس للكونية جديدة رافضة لكونية الغربية المستغلة والقاتلة.

 

الثقافة المؤسسة للدولة الممهدة تبنت قيم الحداثة على أساس نقد جذري يؤسس لما بعد بعد الحداثة كما أسست هذه الثقافة لإستراتيجية الاستفهام المتواصل الملازم لولاية الفقيه كعقل اجتهادي يقرأ علاقة الفكر بالواقع بزمان الغيبة أي بمفهوم الزمان كزمان الآفاق، فإيران انتصرت ثقافيا قبل أن تنتصر عسكريا، فجرت الثورة على أساس قيم ومفاهيم دينية في عصر أصبح الفصل بين الدين والسياسة بديهية من البديهيات، وأعطت إيران لثقافة المعنى المرجعية والأولوية في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

 

ثقافة المعنى التي تتمحور حول العقيدة (أي حول معنى الوجود والإنسان والتاريخ) طرحت إستراتيجية جعلت إيران في مجابهة مع التاريخ. فالحقيقة الإيرانية حقيقة عقائدية تؤسس لثقافة إسلامية ذات طاقة استيعابية لكل شعوب العالم الإسلامي بل لكل شعوب العالم، في حين أن مواقف الغرب تجاه إيران تعبر عن فراغ الفكر الإستراتيجي وعن مأزق إستراتيجي ملازم لثقافة العدمية، فالثقافة في الغرب تمر بأزمة معنى ونتيجة لذلك تمر السياسة هي الأخرى بأزمة قاتلة.

 

وهكذا انتهت ثقافة العبث والعدم والسياسة بالمعنى المبتذل إلى غياب الإستراتيجية فهناك تخبط في فهم ومواجهة الثورة والدولة الإيرانية، وهناك ردود فعل فوضوية كالحروب وإثارة الفتن الطائفية والعرقية، فكل التحالفات في العالم الإسلامي والتحالفات مع دول الغرب هي تحالفات شاذة باستثناء التحالف الإيراني مع بعض الدول العربية ومع المقاومة في فلسطين ولبنان لأن هذا التحالف يقوم على مرجعية عقائدية وثقافية وتاريخية تتجاوز حدود التحالف السياسي. فالتبعية الثقافية هي المدخل لكل التبعيات الأخرى كما يؤكد القائد اليوم، فالإستراتيجية الثقافية للجمهورية الإسلامية هي استراتيجية مصيرية لأنها تحدد الوجهة الحقيقية للدولة وللشعب الإيراني بل ولكل المسلمين، فولاية الفقيه نظرت للشعب المقاوم ثقافيا وسياسيا، وإن اقتضى الأمر عسكريا. الاستراتيجية الثقافية وسياسيا وإن اقتضى الأمر عسكريا، الاستراتيجية الثقافية في وضعية مواجهة للفتنة الطائفية والانطلاق من التكامل والتفاعل، تكامل وتفاعل الخصوصيات الثقافية داخل الوحدة، المسلمون موحدون ذهنيا وعاطفيا وعقائديا لمواجهة المشروع الإسرائيلي - الغربي الذي يسعى إلى تفتيت الأمة للقضاء عليها نهائيا.

 

الإستراتيجية الثقافية هي إستراتيجية التحقق: تحقق الأمة الإسلامية، الثورة الإسلامية أحدثت قطيعة ثقافية وسياسية لذلك فإن إستراتيجيتها الثقافية والسياسة هي إستراتيجية (إعادة البناء) التي تتجاوز الحدود القومية والوطنية. فإيران هي القلب الجيوسياسي للأمة الإسلامية، فثقافة الانتظار الكوني تقتضي الاستراتيجية في أفق رؤية مستقبلية بعيدة المدى أي استراتيجية ثقافية في أفق مشروع نهضة الأمة الإسلامية.

 

إن الجمهورية الإسلامية الدولة الممهدة، لا تضع استراتيجيتها الثقافية والسياسية في طريق الآمال والتمنيات بل في مسار الممارسة والتجربة المؤطرة عقائديا ومعرفيا بالقيم والمفاهيم الإسلامية المستنيرة بالعلامات (علامات الظهور. ) فثقافة الدولة الممهدة هي ثقافة العلاقة بين المادي والروحي بين العلم والإيمان واستراتيجية لعالم جديد ينهض ويكسر التاريخ المهيمن، إن الغرب يراهن ويتوقع بأن الثورة الإسلامية ستنحرف وتتلاشى، ولكن هذا التوقع خاطئ ولا أساس له لأن أصحابه لا يدركون حقيقة القيادة والثقافة والسياسية والرؤية المستقبلية الملازمة للثورة والدولة إيران، كل ثورة تنتج خلافات على غرار الثورة الفرنسية والثورة البلشفية لكن الثورة الإسلامية لا تخضع لتجربة المحاولة والخطأ:

 

الأساس العقائدي، حقيقة الثقافة وحقيقة السياسة: كل ذلك يؤسس لاستراتيجية ثقافية وسياسية تحمي الثورة والدولة من الانحراف وتحميها من الأخطاء الكبرى التي قضت على كل الثورات في مرحلة الدولة.

 

إن الثورة الإسلامية هي مشروع ثقافي وسياسي كوني وليست مجرد مرحلة تبدأ وتنتهي، فالثورة الإسلامية كحصيلة عقائدية وثقافية ليست مجرد حادثة تاريخية قد انقضت، وهذا يعني أن الثقافة تؤسس للسياسة وأنها تؤسس لحركة التاريخ ولا يمكن لثقافة تؤسس للسياسة، خاصة لسياسة بمعنى جديد، وتؤسس لحركة التاريخ أن تكون مجرد ثقافة اليوم لليوم وأن تقوم على المحاولة والخطأ، فإذا كانت التجربة حاضرة في الثقافة والسياسة في إيران، فإنها تجربة تقوم على قيم ورؤية مستقبلية تؤطرها وتفعلها استراتيجية على المدى القريب وعلى المدى البعيد.

 

كل استراتيجية تقوم على فكر افتراضي وخصوصية استراتيجية الدولة الممهدة أنها تقوم على فكر يتجاوز حدود الافتراض دون أن ينفي صفات الافتراض لأن الهدف الذي تسعى هذه الاستراتيجية إلى تحقيقه هو هدف موعود عقائديا. فاستراتيجية الدولة الممهدة تتم خارج الإفلاس التاريخي والعقائدي والجغرافي (الدول التابعة للغرب والمطبعة

 

مع إسرائيل) في حين أن منطق (العلامات) يسير في مسار الصراع التصاعدي لصالح المسلمين وهو تنازلي بالنسبة لأعداء الأمة. ليس هناك قفز في المجهول أو رعب المستقبل بالنسبة لإيران بل هناك (علامات) أي ثقافة ومعالم للمسار، لكن العلامات لا تلغى (شروط) التغيير أي مسؤولية الإنسان في إعادة الحياة للعلامات، إن الربط بين العلامات والشروط يتم عن طريق ولاية الفقيه كعلاقة نيابية (الولي نائب عن الإمام) واجتهادية بين (النص) الموحى وحركة التاريخ.

 

لقد طالت مدة الانتظار الصامت (انتظار العلامات) والأمة دخلت عن طريق الثورة الإسلامية ودولتها في مرحلة (انتظار الشروط) أي مرحلة تفاعل الأمة مع العوامل التاريخية: تفاعلها مع حركة التاريخ.

 

إن استراتيجية الدولة الممهدة لا تصطدم بالمفارقة والتناقض الذي تصطدم بهما فلسفات التاريخ الغربية التي تؤكد من جهة، على الحتمية التاريخية وتؤكد من جهة أخرى على مسؤولية الإنسان في صنع حركة التاريخ، في هذا السياق يرى بعض نقاد فلسفة التاريخ خاصة الفلسفة الماركسية، بأن هذه الأخيرة تحتاج إلى الطوباوية لأن القول بمسؤولية الإنسان وحريته يقتضي نظرة أخرى إلى حقيقة الإنسان وحقيقة المجتمع وحقيقة العلاقة بين الإنسان والمستقبل وبين الإنسان والتاريخ.

 

إن هذا العائق أو هذا التناقض لا تصطدم به عملية التنظير لاستراتيجية الدولة الممهدة. فالمهدوية تقتضي الانتظار المبني على التطلع وعدم الذوبان والاستغراق في الواقع المهيمن والتاريخ المهيمن، فكأن العلامات تحرر الإنسان المسلم من إطلاقية التاريخ وإطلاقية القوى الكبرى وتهيؤه عقائديا وثقافيا وسياسيا ونفسيا للتفاعل مع حركة التاريخ من موقع علاقة الأمة بالمستقبل الموعود عن طريق العلامات.

 

وهكذا فالعلامات معادلة جديدة في التنظير لفلسفة التاريخ وللسياسة وللدولة وللإستراتيجية، فهي تتجاوز الحتمية التاريخية وتتجاوز النزعة التاريخية، فالعلامات تقتضي فكرا جديدا أي فكرا يتجاوز فلسفة هيجل وماركس وفوكوياما، تقتضي العقل المنفتح على العرفان.

 

إن الحتمية التاريخية يلازمها المنطق المسدود والمستقبل المسدود والمرعب، أما العلامات فتعني أن المستقبل مفتوح وأن القوى الكبرى ليست قدرا محتوما وليست حتمية قاهرة. فالأمة تمتلك عن طريق العلامات القدرة على أن (تكسر) التاريخ عندما تقيم علاقة تفاعلية وتكاملية بين العلامات والشروط بقيادة ولاية الف قيه، فالأمة لا يحكمها المجهول ولا تحكمها معادلة المجهول، فغياب العلامات يعني غياب الوعي وأمل وسيطرة اليأس والإحباط وغياب إمكانية التغيير. فالعلامات تؤسس لاستراتيجية تفادي الانحراف والأخطاء في المستقبل، العلامات ظاهرة ملازمة لتاريخ الأمة (أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله)) حول الفتنة، حول عمار بن ياسر والفئة الباغية وحول سلمان الفارسي (والآفاق البعيدة للأمة. . . ) فالعلامات تعني اتخاذ موقف من الأحداث ومن التاريخ والوصول إلى مستوى التوقع الاستراتيجي. غير أن العلامات كما أشرنا في ما سبق قد تدفع بالأمة في طريق الارتخاء والتواكل وعدم التفاعل مع حركة التاريخ. في هذا السياق يتجلى الدور المرجعي والوجودي والمصيري لولاية الفقيه التي نظرت لرؤية جديدة إلى الانتظار ووضعته في أفق استراتيجية الفعل والتبصر بالأحداث أي أسست ولاية الفقيه للتفاعل والتكامل بين العلامات (علامات الظهور) والشروط (شروط الظهور). فالتفاعل بين العلامات والشروط أسس الاستراتيجية ثقافية وسياسية تتجاوز الواقع المهيمن.

 

إن مرجعية العقل الإيراني في تعامله مع الواقع والتاريخ هي مرجعية فوق تاريخية وهذا ما يعطي للواقعية خصوصياتها التي تضعها في مسار غير مسار الواقعية التبريرية. فإذا كانت إيران تفكر بالعقل الواقعي فإن مرجعية هذا العقل جعلته عقلا (جبارا) لا طاقة للواقع على تحمله (العصر الأمريكي) لأن هذا الواقع هو واقع المهيمنة على الشعوب باسم التاريخ في حين أن العقل الإيراني هو عقل ذو مرجعية فوق تاريخية فلا يمكن أن يخضع للواقع المهيمن. وبعبارة أدق إن تعامل الدولة الممهدة مع الواقع ليس من قبيل الحماس وردود الفعل الظرفية والتمرد والرفض بل هو تعامل (اجتهادي) يتفاعل مع الواقع لتغييره لا لتبريره لأن عقلا يستمد مرجعيته من خارج التاريخ (القرآن الكريم وعصمة النبوءة والإمامة) لا يمكن أن يكون عقلا تبريريا، فإذا كانت هناك واقعية فهي واقعية لا يمكن فهمها عن طريق أدوات الفلسفة الغربية من فلسفة كانطية وهيجيلية وماركسية وغيرها لأن واقعية الدولة الممهدة هي واقعية ثقافة وسياسة تتخذ موقعها في زمان آخر غير الزمان التاريخي المهيمن وتتخذ موقعها خارج رؤية الغرب إلى التقدم كتقدم خطي يجب أن تمر به كل الشعوب في حركتها عبر التاريخ، وهذا ما جعل الدولة الإيرانية دولة الاستراتيجية رغم القوة المهيمنة والعدائية بصورة جنونية من الحرب المفروضة إلى التهديدات المستمرة. لو كانت الدولة الإيرانية واقعية لكانت استجابتها استجابة خوف أي مجرد رد فعل واقعي على الهيمنة المهددة لكن استجابة الدولة الإيرانية هي دائما استجابة استراتيجية تتجاوز العقل الأداتي الذي تحاصره روح العصر (العصر الأمريكي). وهكذا لا يمكن تصور استراتيجية مع الخوف ومع استجابة ردود الفعل في إطار الراهن المخيف والمرعب: إن استراتيجية الغرب وإسرائيل في حالة قوة عسكرية وحالة جبروت وفرض واقع على المسلمين لكن العقل الاجتهادي وهو عقل منفتح على ما يتجاوزه (منفتح على العرفان) حول الزمان الإيراني إلى زمان إسلامي: زمان عودة الأمة للشهودية.

 

هذه هي حقيقة إيران اليوم وحقيقة دولتها وحقيقة التاريخ المعاكس الذي أسست له الثورة، هذه الحقيقة تسقط أمامها كل الحقائق المزيفة كإدعاء نشر الديمقراطية في العراق وأفغانستان وفلسطين، فالعقل الغربي بنى هذه الأوهام، وهي أوهام تجسد منطق لا إنساني وتتخذ موقعها في تاريخ تحركه القوة كواقع لا علاقة له بالقيم أي بالإنسان.

 

هذا التاريخ بدأ يدخل في مرحلة الانهيار. لقد مات الشرق الأوسط الأمريكي وبدأ ظهور شرق أوسط جديد: الشرق الأوسط الذي تحركه السياسة المهدوية التي تضع الشعوب الإسلامية في خط زمان جديد زمان التفاعل بين الزمان السياسي والزمان التاريخي والزمان المهدوي أي زمان التفاعل بين قم وشعوب العالم الإسلامي.

 

الخاتمة:

 

لا يمكن لأي أحد، سواء كان فقيها أو رئيسا أو نظاما سياسيا أو نخبة أو قوة عظمى أن يقص الحبل الذي يربط (قم) بمكة المكرمة وبالمدينة المنورة وبالكوفة وكربلاء وبالأمة الإسلامية، أي لا يمكن الفصل بين (قم) ومستقبل الأمة الإسلامية، فقم توصل الشعوب بمكة المكرمة وبالمدينة المنورة وبالقدس وبالمستقبل الموعود. هذا هو الأساس العقائدي لاستراتيجية الجمهورية الإسلامية الدولة الممهدة، فقم لا تخضع لخط أثينة يينا IENA واشنطن لأن فكر (قم) لا تستوعبه فلسفة هيجل التي أعادت صياغة هذا الخط، فقم هي ما بعد كانط Kant وما بعد هيجل أي ما بعد أمريكا، فقم هي ولاية الفقيه والدولة الممهدة أي الجمهورية الإسلامية دولة المسافات البعيدة والآفاق لا دولة نهاية التاريخ التي قضت على نفسها عن طريق أساسها النظري: فلسفة المتقطعة عن الغيب. أي فلسفة هيجل.  ففكر (قم) أي فكر ولاية الفقيه، هو فكر لا تستوعبه الفلسفة الغربية، فالدولة الممهدة تقوم على حجم معرفي وثقافي وتاريخي يفوق ويتجاوز كل فلسفات التاريخ وكل المذاهب السياسية: القضايا الكبرى تقتضي المفاهيم الكبرى، المفاهيم المنفتحة على ما يتجاوزها. فالظهور يقتضي (الدولة الممهدة) والدولة الممهدة تقتضي فكرا وقيادة كبرى هي (النيابة) أي (ولاية الفقيه) التي صاغت الفكر الذي قضى على النزعة الاجتماعية وعلى النزعة التاريخية.

 

ففي (قم) انهارت وزالت فلسفة كانط وهيجل أمام العقل الاجتهادي المنفتح على العرفان، أي في أفق غير الأفق المسدود لعقل الأنوار.

 

ــــــــــــــــ

 

* استاذ الفلسفة في جامعة الجزائر